مثّلت الوضعية العربية الحالية موضع اهتمام وأرضية ثرية للإنتاج
السينمائي إلا أن الإنتاج مازال يقتصر على الأفلام الوثائقية أو
الوثائقية الخيالية مثل الفيلم التونسي للمخرج محمد زرن "الشعب
يريد"
"Dégage"والذي
استنسقه من واقع الثورة التونسية، أو الأفلام القصيرة كفيلم
"جليلة"
الوثائقي الذي يروي دور المرأة السورية
في مساهمتها لإنقاذ سوريا، كما نضيف بعض الأفلام الطويلة كـفيلم
"باب شرقي" الذي يؤرخ فيه المخرج أحمد عاطف للثورة السورية، كما
طرح المخرج التونسي "شوقي الماجري" في مسلسل "حلاوة الروح" قضية
الآثار المنهوبة من قبل العصابات وتدميرها من قبل المتشددين في خضم
المعركة السورية. على إثر هذا التنوع من الإنتاج السينمائي الذي
يحاكي أحداث الثورات العربية يطلّ علينا مخمالباف بعد إخراجه
للفيلم الوثائقي "ربيع طهران"، الموثق للاحتجاجات التي اندلعت ضد
النظام في إيران، تزامنا لإعادة انتخاب الرئيس السابق محمود أحمدي
نجاد، يطلّ برؤية سينمائية للثورات وللوضع الحالي ليُمشهد لنا
الواقع العربي بعين إيرانية.
محسن مخمالباف:
مخرج إيراني من مواليد طهران من عائلة فقيرة، ترك الدراسة في سنّ
الثانية عشر وامتهن العديد من الأعمال.
في سن الخامسة عشر أصبح من المناهضين للنظام والحكومة الإيرانية
واعتقل وأصيب بطلق ناري وعُذّب أشد التعذيب، سجن لمدة خمس سنوات،
قرأ خلالها العديد من الكتب. لعلّ طفولته هذه كانت حافزا له
لمساعدة الأطفال الفقراء في إيران وأفغانستان.
واضعا قصصهم في صلب سيناريوهات أفلامه... ترك مخملباف السياسة عند
خروجه من السجن وانخرط في مجال الفن مقتنعا بأنه لا يكفي أن تُغير
الحكومة لإصلاح البلاد وإنما الإصلاح يبدأ من أفراد المجتمع. غادر
إيران سنة 2004 احتجاجا على الرقابة والضّغوطات الذي اعتبرها عودة
الفاشية في إيران ..
أخرج مخملباف العديد من الأفلام من أهمها "سلام سينما" ، "بای سيکل
ران"، "
Le
Cycliste"
و"قندهار" ... فاز بالعديد من الجوائز في أكبر المهرجانات
السينمائية وترأس لجنة التّحكيم لمهرجان موسكو السينمائي الدولي
سنة 2013.
في أواخر 2014، اخرج فيلم "الرّئيس" وكان ضمن برمجيات أيام قرطاج
السينمائية والذي سيتم إعادة عرضه في الأيام القليلة القادمة في
القاعات. ويتمثل سيناريو الفيلم في هروب الرئيس المستبد، الذي كان
يحكم بمنظومة دكتاتورية، متنكرا كراع أغنام وموسيقي متجوّل ما جعله
يلمس ما كان يعانيه شعبه من جرائم وانتهاكات على يد جيشه ورجاله...
على اثر زيارته لتونس قمت كمخرج وباحث في المجال السينمائي
الإيراني بحوار مع المخرج مخملباف حول رؤيته السينمائية والواقع
العربي من خلال فلمه "الرئيس":
·
من هو محسن مخمالباف على لسانه؟
محسن مخمالباف .. مخرج إيراني مصور ومنتج أفلام. حدوده العالم
ويمكن لأعماله أن تنجز بأبسط الوسائل والمعدات ... ولدت وترعرعت
بإحدى الأحياء الفقيرة بطهران، في عائلة متعددة الأفراد وفقيرة
جدا. تركت الدراسة في سن الثانية عشر وامتهنت العديد من المهن وفي
سن الخامسة عشر أصبحت من المناهضين للنظام الإيراني والحكومة
الإيرانية واعتقلت وأصبت حينها بطلق ناري وعُذّبت أشد تعذيب، مما
جعلني ألازم المستشفى العسكري ونظرا لصغر سني سجنت لمدة خمس سنوات
فقط، قرأت فيها الكثير من الكتب بمختلف أنواعها. عند خروجي من
السجن تركت السياسة وانخرطت في الفن وكلي قناعة بأنه لا يكفي أن
نغير الحكومة لإصلاح أمرنا إنما علينا أن نصلح أنفسنا وعقليتنا
وطريقة تفكيرنا.
·
تحديدا كيف كانت بداية انخراطك في الفن؟
بالكتابة... بالكتابة كانت بداية مسيرة الفنيّة كنت أكتب العديد من
المقالات والنصوص المسرحية وبعض السيناريوهات القصيرة حتى وجدت
نفسي اكتب فلمي الخاص.
قرأت خمس مائة كتاب وهي الكتب المتوفرة وقتها في إيران وفي
مكتباتها وقد قمت باستعارة البعض واقتناء البعض الآخر وهي كتب
مترجمة طبعا، ومنها قمت بتسجيل الأفكار وتدوينها بمفكرتي حتى اصبحت
عندي في النهاية مدونة قواعدي الخاصة في السينما.
كما أنني لم أكن من رواد دور السينما رغم أن القاعات كانت تعج
بالأفلام من هوليود و... وكانت جدتي وهي سيدة متشددة دينيا تقول لي
"اذهب للسينما فإنك ستذهب إلى النار" ونصيحتها كانت في صالحي فهذه
الكلمات لم تفارقني.
كنت دوما أطالع وأسعى وراء الأفلام الجيدة كالسينما الايطالية
والسينما الفرنسية ...، ففكرتي عن السينما كانت نقية وخالية من
الشوائب وهذا ما ساهم في إنجاح أعمالي بان تكون بحرفية تامة وذات
أفكار جيّدة.
عندما شاهدت أول فلم كنت كالأعمى الذي فتح عينيه على صورة لم ولن
تفارقه فعل المفاجئة والانبهار.
·
أنت مخرج له تاريخ في السينما وتحديدا السينما الإيرانية. فهل يمكن
أن تعطينا لمحة عن هذا التاريخ؟
إذا أردت أن أُلخّص لك تاريخ السينما الإيرانية سأقول بأنها نسج من
الواقع واقتباس من أشعارنا. السينما الإيرانية تعود إلى حوالي
ثمانين عاما و هي تتجذّر من حياتنا اليوميّة.
ذلك من خلال فيلمين: الفيلم الأول "حاجی آقا آکتور سینما" للمخرج
"آوانس أوگانیانس" وهو الذي أنشأ مدرسة السينما الأولى في تاريخ
إيران والفيلم الثاني
"دخترِ
لُر"
للمخرج "أردشیر إیرانی"، كما أن
هناك العديد من المخرجين المهمّين في تاريخ السينما الإيرانيّة.
قبل الثورة الإيرانية كانت هناك فتاة من أشهر
الشاعرات الإيرانيات
في الثلاثين من عمرها اسمها "فروغ فرخزاد"
للأسف توفيت في حادث، لكن قبل وفاتها أنتجت فيلما من أبرز عشرات
الأفلام يحمل عنوان
"خانه
سیاه آست" ("البيت الأسود")
و هو فيلم شاعري بكل ما تحمل الكلمة من معاني. يعلمنا هذا الفيلم
بأن الظلام أو الظلمة هو فن ويجب مجابهته و النظر إليه والكشف عن
مواقع الجمال فيه.
هناك أيضا فيلم صدر قبل الثورة الإيرانية بكثير اسمه
"یک
پذیرایی ساده" ("حدث بسيط") للمخرج "سهراب شهید ثالث" سنة
1973
وهو أول فيلم واقعي أثر في تاريخ السينما الإيرانية، عمل بسيط و في
نفس الوقت واقعي. هو فيلم واقعي وسياسي .
هذا ما تتميز به السينما الإيرانية، فكتابات السينما الإيرانية
تتميز ببساطتها وواقعيتها، إذ تحكي في اغلبها عن الحياة اليومية
الإيرانية وهي نقل لشعاراتنا وحضاراتنا.
·
الدين، السياسة والسينما، ما رؤيتك عن هذا "الثالوث"؟
الكثير من الناس قبل الثورة عارضوا السينما، واعتبروها محرمة، ولكي
اربط بين السينما والدّين قمت بإخراج فيلم يجسّد الفن بعلاقته مع
الدّين وتقديمه بصورة جيدة لعقد الصلح بين الدّين والفن، وحتى
نتجنّب الكثير من المشاكل وحتى نتجنّب أن يكون مصير إيران مثل
أفغانستان أو طالبان.
بعد الثورة الإيرانيّة بثلاث سنوات كانت هناك موجة جديدة من
السّينما الفنية وكانت بداية هذا الفن مع ثلاث أفلام مهمة:
أولا:"
دونده" "العدّاء" للمخرج أمیر نادری: يحكي عن صبي صغير فقد منزله
خلال الحرب اشتغل حتى يحقق أحلامه ويتعلم رغم كل العراقيل.
ثانيا: فيلم "خانه دوست کجاست"
"أين
بيت صديقي
"
للمخرج
عباس كياروستامي.
وثالثا: فيلم "بايسيكل ران"
الدّراج"
للمخرج
محسن مخملباف.
ومنذ ذلك الحين إلى هذا اليوم أصبح هناك المئات من الأفلام
الإيرانية الجيدة وبرز أحسن المخرجين، كما ظهرت الأفلام التجارية
وأفلام البروبڤندا.
هناك أيضا قرابة العشرين مخرجا محترفا في سينما الفن أو في "فن
السينما".
·
عن أي رئيس تتحدث في فيلم "الرئيس" ؟
هذا
الفيلم مستوحى من مصير الرؤساء العرب جميعا وفي الدول التي تشهد
ثورات (الربيع العربي). الفيلم تميّز بنقل مصير كل رئيس بطريقة أو
بأخرى وأنا متأكد انه قريبا سيتم إنتاج أفلام مشابهة لهذا الفيلم.
هذا العمل فيه نقل لواقع الشعوب العربيّة من تهميش ومعاناة، فنحن
شعوب دائمة الاستعجال وينقصنا التّفكير السّليم، فإثر محاولة قتل
الرئيس (في الفيلم) هناك نقل لصورة "ديكتاتورية الشعب" في حد ذاته:
"نقل ثلاثي الأبعاد".
·
خلال تقديمك لفيلم "الرئيس" قلت أن هذا الفيلم يحتوي على جانبين؛
جانب مرئي وجانب لامرئي .كيف تَمشهَد لنا اللامرئي في هذا الفيلم ؟
نعم
هذا ما كنت سأحدثّك عنه: هناك موضوعان في آخر الفيلم واحد ظاهر
والثاني خفي؛ اثر محاولة المواطنين لقتل الرئيس، وكلّهم بتعلّة
رفضهم للتعذيب والدكتاتورية، وهو الشيء المرئي. غير أن هذه الصورة
هي نقل لواقع ثاني غير مرئي ألا وهو دكتاتورية الشعب نفسه، هذه
الأمة صارت تطبق الدكتاتورية والتعذيب بصفة غير مباشرة.
هناك تضاد في هذه الصورة فنحن لا يجب علينا تغيير الرئيس فقط بل
علينا تغيير منظومة كاملة، بالتالي يجب علينا أن نسال أسئلة جيدة
لأنفسنا لكي نحصل على أجوبة واضحة وجيدة وهذا ما يفتقده العرب.
هذا الفيلم ينقل واقع الثورات العربية ودكتارتوية الشعب مثلا :
مصير ليبيا بعد قتل القذافي...
مصير سوريا بعد ظهور داعش...
مصر وعودة شبح الدكتاتورية السابق...
حتى في إيران وإلى يومنا هذا تم القبض على خمسين ألف شخص من طلاب
وصحافيين وفنانين. ناهيك عن عمليات الشنق لهذا الشعب التي تحصل
يوميا، إذ يتم شنق ما بين شخص وشخصين يوميا.
هذا هو الشيء اللامرئي والذي يجب رؤيته بوضوح، عملي ينصّ على هذا
الشيء ولكن حتى يصلح حال هذه البلدان عليها بالعمل وبجعل هذه
الدكتاتورية تنهج منهج ديمقراطي، علينا أن نتعلم ونتثقّف، علينا
بتنمية أنفسنا بالعلم الجيد والصحافة الجيدة ويكون لنا حقوق
الإنسان والعمل بها، علينا بتكوين فنانين جيّدين وتكـن
أحزاب وهكذا نكون قدوة للمجتمعات والشعوب.
أعمالي هي نقل لحقائق ووقائع ظاهرة وأخرى غير ظاهرة ولفهمها هناك
صعوبة.
وهذا ما تميزت به أعمالي:
إظهار الظاهر والخفي.
·
كيف كان حضور المرأة في السينما الإيرانية وفي سينماتك
عامة وفي فيلم الرّئيس خاصة؟
بالنسبة لفلمي "الرئيس" فقد صوّرته في جورجيا وليس في إيران
فالوضع بالنسبة للنساء في هذا البلد مختلف تماما عن حال الذي
تعانيه المرأة بإيران.
مغزى وجود المرأة في هذا الفيلم أن الرّئيس كان في مكان قوّة
وكانت هذه المرأة صديقته (وهي مومس) توفيت أختها في أحدى سجونه،
إلا أن الرّئيس لم يكن على علم بهذا الأمر. بعد الانقلاب الذي حصل
في بلده هاهو يلتقي بصديقته من جديد وهو في حاجة ماسة لمساعدتها...
هذه الصورة هي محاولتي لوضع السلطة في مقام متدنٍ ولا يزال هذا
التدني متواصلا إلى حد اليوم وهذه الصورة عكس للصورة الأولى للفيلم
لما كان الرئيس وحفيده يلهوان بإطفاء وإشعال نور البلاد من داخل
القصر، تغييري لهذا الوضع كان كما يلي:
من داخل القصر إلى الأرض ومن القوة إلى الذل، لا يمكننا الوثوق في
السلطة فهي هشّة وستظهر مدى ضعفها، لا يجب الوثوق بهذه السّلطة
فيمكن خسارة هذه السلطة في لمح البصر.
لم أرد أن يكون فيلمي "الرئيس" فيلم في شكل عادي وإنما أردت أن
أظهر فيه الجوانب الإنسانية المختلفة، فنحن جميعا أناس ونخطئ مهما
كان مقامنا وهو جانب ايجابي، والجانب الايجابي هذا أبرزته في
الفيلم اثر محاولة الرئيس الحفاظ على حفيده بإخفائه وإطعامه
وإبعاده عن أي خطر ممكن.
هذه رؤيتي للبشر وللإنسانية من مختلف زواياها، وظهور الطفل في
الفيلم هو أولا تمثيل للجيل القادم من الشعب و هو الحفاظ على
الجانب الايجابي لصورة الرئيس الإنسانية والجديّة من خلاله. هذا
الطفل كذلك هو أمل للإنسانية.
·
بعد فيلم "الرئيس" الأخير هل مازال
فيلم
"سلام سينما" في صدارة أعمالك؟
قمت بإخراج الكثير من الأفلام وجميعها غير متشابهة فكلّ منها تحمل
قصة مختلفة عن الأخرى، نعم فيلم "سلام سينما " وكل عمل سينمائي
هادف هو عمل جيّد...
"سلام سينما " عمل ضخم يحكي عن تجارب الأداء لانجاز فيلم وإثر
الإعلان عن تجارب أداء تواجد الآلاف من الناس أمام الأستوديو في
وقت قصير وكان هناك تدافع وإصرار كبيران، الكل يتسابق لإجراء تجربة
الأداء والتمثيل، هذا الأمر أذهلني مما جعلني أُلغي الفكرة
الأساسية للفيلم وأنجز فيلما عن تجربة الأداء عن إقبال الناس على
السينما ورغبتهم في تجارب الأداء، هذا الفيلم لم يكن عن السينما
وإنما حول تأثير السلطة وانعكاسها على الحياة الاجتماعية وعلى
المجتمع.
·
بالنسبة لك من هو عباس كياروستامي وماذا يعني لك فيلم
Close up؟
إن السينما الإيرانية تتمتع بمخرجين جيّدين مثلا عائلتي كلها تعمل
في مجال السينما كما هو الحال لدى كيارستامي.
عباس كياروستامي كان يعد فيلما عني وظهرتُ في فيلمه هذا مرّة
واحدة. حصلت بيننا قصة كانت هي سبب تعرفي عليه. فأثناء إخراجه لأحد
أفلامه تقمّص شخصيتي حتى يتمكن من تصوير عائلة، إلا أن هذه العائلة
تفطنت إليه فكان مآله السجن. على اثر هذا جاءتني والدته وحكت لي كل
ما جرى وطلبت مني أن أساعد ابنها حتى يخرج من السجن وكان الأمر
كذلك،
وهذا هو فيلم
"Close
up
".
·
ما هي نصيحتك ليكون هناك مخرجين ناجحين ؟
لكي
تكون مخرجا ناجحا يجب أن تكون لديك فكرة جيدة عن السينما، وبالنسبة
للتصوير ليس بالضرورة أن يكون بمعدات ضخمة، كاميرا صغيرة مع فكرة
عبقرية تكفي لإنجاح أي عمل في السينما.
مثلا، أنا وابني قمنا بإخراج فيلم بتكلفة صغيرة وبكاميرا صغيرة،
وهو فيلم تعليمي حسب ما أراه.
كذلك هو الحال عن فيلم بعنوان "پنج عصر آخرين" باللغة الفارسية
وبالعربية "الساعة الخامسة بعد الظهر"، أخرجته ابنتي سميرة سنة
2003 يحكي عن سقوط نظام طالبان في أفغانستان بعد الساعة الخامسة
بعد الظهر، فتحاول فتاة شابة الاستفادة من هذه الحرية الجديدة
لتزدهر اجتماعيا ولتصبح رئيسة للجمهورية وقد عرف نسبة مشاهدة كبيرة
جدا...
·
بماذا تريد أن تختم الحوار ؟
مهما كان المكان بالعالم فانا أنجز ما عليّ إنجازه من أفلام...
*أستاذ وباحث سينمائي تونسي |