لا أعرف من هو أحمد الكيالى، لكن، بفضل رسالة وثائقية، لا تتجاوز
الثلاث دقائق، أرسلها إلى قناة «بى بى سى»، بدت أمامى شخصيته
واضحة: إحساس يقظ، إنسانى فى جوهره. نفاذ فى البصر والبصيرة، قدرة
على قراءة الوجوه، الحوارى، جدران البيوت. اختيار موفق للنماذج
البشرية التى يقدمها، بنزاهة. يترك لها فرصة التعبير عن انفعالاتها
وأفكارها، ثم تأتى تعليقاته الموجزة، المكثفة، لتستكمل تفاصيل
الصورة، وتبين، بجلاء، الفارق الواسع، العميق، بين التحضر
والهمجية، نور القلب وظلامية الروح.
الرسالة تبدأ بداية نموذجية. التعريف بالمكان، اسما وحالة، فمع
مسيرة مجاميع فى ممر ضيق، لتقديم واجب العزاء، يعلن المذيع عن اسم
القرية المبهم، المنسى، الذى لم يأت له ذكر من قبل «العور»، التى
غيب «١٣» من أبنائها غدرا.. طوابير طويلة تصافح أصحاب المحنة
معزية، وفورا، ترصد الكاميرا نساء متشحات بالسواد، من أعلى الرءوس
إلى أخمص الأقدام، أهالينا. إذا دققت فى ملامحهن ستكتشف تطابق
أشكال بعضهن بإحدى قريباتك. لا يمكنك ان تفرق أو تميز بين مسلمة أو
قبطية، كلهن، من سلالة موغلة فى القدم، آتية من جوف التاريخ،
حضورهن قوى وراسخ.. ولا يفوت آلة التصوير، فى لقطة واحدة، أن تبين
وهن جدران البيوت، قبل تقديم بطلة الرسالة، والدة «تواضروس يوسف»،
أحد المذبوحين على شاطئ «سرت».
المراسل، يجلس على الأرض، قبالة السيدة المكلومة التى تفاجئه
وتفاجئنا بتماسكها، وكلامها. وجهها بالغ الطيبة، بعينين غائرتين،
كليلتين، بسبب كثرة البكاء فيما يبدو، حفر الزمن والحزن تجاعيد على
جفونها، قسماته شديدة الوضوح.. بصوت صادق، تباغتنا بموقف لا يخطر
على بال، يمتزج فيه التسامح بالوعى، فهى، تعلن، بلا تردد، أنها لن
«تدعو» ضد القتلة، لكن تصلى من أجل أن يزيح الله، عنهم، ظلام
عقولهم، وعتمة قلوب أمثالهم، قبل انتشار مرضهم بين البلاد. الدعاء
عليهم، حسب قولها، لن يفيد شيئا.
قبل استكمال ما جاء فى كلامها النورانى، يليق بها، وبنا، الاعتراف
بأنها أعظم «أم» ظهرت على شاشة السينما التسجيلية، إلى جانب والدة
الشهيد «فتحى عبادة»، فى «أبطال من مصر» لأحمد راشد.. تلك المرأة
النحيلة، المؤمنة بقضاء الله، التى هزت الأفئدة، بحديثها عن نجم
الأسرة، وأملها، الذى دفع حياته ثمنا لحرية وطنه، إبان حرب
أكتوبر.. إنهما أجمل الأمهات.
فيما يشبه «المنولوج» الداخلى، تواصل والدة المغدور كلامها، كأنها
تتحدث مع نفسها. تطرح سؤالا، تجيب عنه فورا.. السؤال هو «لماذا
سافر؟.. هل من أجل العودة لشراء أرض».. تنفى، وتؤكد أن أمله كان
يتمثل فى بناء بيت له، ولأبنائه الثلاثة، ذلك أنه كان يعيش، معهم،
فى حجرة واحدة.
تنتقل الرسالة الوثائقية إلى زوجة المغدور. سيدة نحيلة، آثار
العناء بادية بوضوح على وجهه الصعيدى، الذى يبدو، بوضوح قسماته،
كأنه محفور من الصخر.. تتساند على إحدى قريباتها أو جاراتها،
وبصحبة المراسل، تصعد سلالم بلا إفريز. جدران متآكلة، تصل إلى حجرة
ضيقة، متزاحمة بالأشياء، تنبض بالحياة: منضدة متآكلة الخشب، عليها
كمية من العيش، خبز «البتاو» الرقيق، الذى لا نعرفه نحن، سكان
المدينة.. تحت المنضدة، طبلية، وأوعية طعام.. وثمة سرير، هو القطعة
الوحيدة، الجذابة، الثمينة، فى المكان.
تستكمل الزوجة حديثها عن آمال زوجها: لم يكن يتمنى إلا أمرا واحدا،
أن يستكمل أولاده تعليمهم، وتؤكد أنه كان يردد، باستمرار،
استعداده، أن يبيع «هدومه» من أجل تعليمهم.. هكذا، من خلال كلام
الزوجة، والأم، تتراءى لنا صورة الضحية، شفافة وواضحة.
لا يفوت المراسل، أحمد الكيلانى، مع مصوره المرهف، الذى لم يكتب
اسمه، أن يرصد ضيق أزقة القرية التى لم يكتب اسمها على الخرائط،
بما تنوء به من فقر، تنطق به بيوت صغيرة، متداعية، ذات أسقف من خشب
وجريد نخيل وخيش.. إنها، من عوامل رحيل أحد الذين فجعنا بذبحهم على
يد أوغاد، سيأتى حسابهم حتما، ولو بعد حين، برغم دعاء الأم،
للغفران لهم.
رسالة الدم
كمال رمزي
السبت 21 فبراير 2015 - 11:45 ص
لا يحتاج الأمر للعناء كى يدرك المتابع أن الفيلم المشين، الساقط
إنسانيا «رسالة موقعة بالدم..»، وصناعه، لا علاقة له، ولهم،
بالسينما التسجيلية فى بلادنا العربية، بشبابها، وشيوخها، ذلك أن
هذا العمل، الوصمة، لا ينتمى إلا للسفلة، المجهولين مؤقتا، الذين
قاموا بتصويره، وإخراجه، وكتابته كسيناريو، يرصد، بطريقته، كيفية
ذبح عشرين مصريا، بالإضافة لأفريقى، ساقه حظه البائس إلى الانخراط
ضمن شبابنا المغدور.
يثير الفيلم أكثر من قضية مهنية، أخلاقية، ربما أهمها، يتعلق بدور
المحترف، وقبوله، للقيام بعمل بالغ الخسة، يتابع فيه، باستمتاع،
مسيرة موت، من دون أن يرمش له جفن، بل يضفى، برصانة كريهة، ومهارة
شريرة، نوعا من «الجمالية المقيتة» ـ إن صح التعبير ـ على وقائع
جبانة، سيدفع ثمنها مرتكبوها، إن عاجلا أو آجلا، ومن بينهم، الذين
باعوا مهاراتهم، من أجل «تخليد» لحظات زهق أرواح.
بعيدا عن عفوية التصوير، المعتمد على كاميرا واحدة، فى الأفلام
التسجيلية العربية، يأتى سرد الفيلم الداعشى، منذ اللقطة الأولى،
حتى الأخيرة، وفق خطة مرسومة بعناية، مكتوبة على الورق كسيناريو،
يستفيد من معطيات السينما الروائية، ويستخدم أحدث تقنيات البرمجيات
والمعامل.. فى المشهد الافتتاحى، يأتى، من عمق المكان الرملى،
الصخرى، على شاطئ البحر، طابور طويل، يلفه الظلام، يتبين منه،
بصعوبة، شباب يرتدون بذلات الإعدام البرتقالية، خلف كل واحد منهم،
رجل بالغ الضخامة، يقود ضحيته فى صمت.. يتعمد مخرج الفيلم عدم
تقديم نهاية الطابور، كما لو أنه يمتد لمسافات طويلة إلى الخلف،
ولا يفوت الكاميرا، المرتفعة، تصوير مياه البحر، بأمواجها الموحشة،
مما يزيد من قتامة المشهد.
تهبط الكاميرا، وربما يكون ثمة آلة تصوير أخرى، لتتابع، من موقع
جانبى، مسيرة الطابور. الملاحظ أن المقبوض عليهم يسيرون، فى
استسلام سيلازمهم طوال الوقت، بالإضافة لعدم تعثرهم، مما أثار دهشة
كل من شاهد الفيلم.. الأرجح، أنه تم إجراء عدة بروفات، قبل
المذبحة، وهذا ما يسفر حالة الطمأنينة الخادعة التى لم يفيقوا منها
إلا لحظة الغدر.
تعمد المخرج إضفاء طابع أسطورى على القتلة، فإلى جانب ضخامة
أجسامهم، واتدائهم ملابس سوداء، أحاطهم بإعتام جعلهم أقرب للأشباح،
مجرد كتل داكنة، مهيمنة على المشهد، بينما بدت وجوه الضحايا، شديدة
الوضوح، كأنه يؤكد أن القتلة، قوة غامضة، واثقة، راسخة، لا فكاك
منها.. وعقب إركاع المختطفين، بانتظام يؤكد إجراء بروفات سابقة
ينتقل المونتاج، من اللقطات العامة، إلى لقطة كبيرة لرئيس الجناة،
الملثم، المميز بقميص عسكرى، لا يظهر منه سوى الذراعين، ذلك أنه
يرتدى، مثل البقية، أفرولا أسود.. خلفه، الأفق الواسع للبحر
والسماء، وفى حركة مسرحية، يخطو خطوتين إلى اليسار يلتفت ناحية
كاميرا ترصد وجهه الخفى فى بروفيل جانبى.. وبنزعة استعراضية واضحة،
يرفع يده اليسرى، ويشير بالخنجر الطويل ـ حيث يمسك بمقبضه ـ نحو
الشرق، ليواصل خلطة كلامه العجيب، الموجه لنا، ولأولادنا، الذين
على عتبات الموت، قائلا «إنكم تقاتلوننا كافة، فسنقاتلكم كافة»..
لم يقل الوغد، المعتوه، متى كيف قاتله هؤلاء الأبرياء، الغلابة،
الذين سيذبحون حالا.
ينتهى «رسالة الدم» باللون الأحمر، يصبغ مياه البحر، غالبا، بواحدة
من الحيل التى توفرها التقنيات الحديثة، ذلك أن الاغتيالات جرت على
الرمال من ناحية، وأمواج البحر تبدو لون الدم من ناحية أخرى.. لكن
هكذا شاء صناع الفيلم.
أمران يثيرهما هذا العمل، أولهما يتعلق بأثره المتناقض لهدفه.. كان
المقصود به، بث الرعب فى نفوس مشاهديه، لكن الواضح أنه سبب فى
مضاعفة النقمة على جلادين، بلا ضمائر أو قلوب، وجعل الناس مهيأة
نفسيا، لغض النظر عما سيلقاه، حتما، هؤلاء القتلة من عقاب.
أما ثانيهما فإنه يتعلق بطاقم العمل، فلأول مرة ـ فى حدود علمى ـ
يظهر مثل هذا «الفيلم التسجيلى»، الذى يرصد، بنشوة، مثل هذه
العملية الوحشية.. من المصور، أو المصورين، ومن المخرج، وما هى
الشركة؟ الإجابات متضاربة، يقال إنها شركة هندية، وأحيانا
برتغالية، وربما كورية، وزعمت إحدى المذيعات، عندنا، أن شقيقها
المختطف فى ليبيا، العامل أصلا فى قناة «برقة» هو مخرج الفيلم،
وأنا لا أصدقها، لأن مستوى الفلم المنحط، حرفيا، يتفوق على إنتاجنا..
تصوير «رسالة الدم» تواطؤ فى جريمة.
أسوار القمر
كمال رمزي
الثلاثاء 17 فبراير 2015 - 1:15 م
المخرج، طارق العريان، صاحب أسلوب سينمائى لا تخطئه العين والأذن،
يعشق أفلام العنف والمطاردة، والمواجهة، والرعب، يعرف أسرارها
ومكوناتها، يصهر عناصرها فى بوتقته الخاصة ليبلور منها هذا الفيلم
المعتمد على الصورة البصرية والمؤثرات الصوتية.. هنا، فى المشهد
الافتتاحى، نرى القمر مختنقا بالسحب الكثيفة، يصارع العتمة لينفذ
بأشعته، ينجح تارة، ويفشل مرارا.. مع هذه اللقطات، نسمع ضوضاء
غامضة، مغلفة بهزيز الرياح، وهزيم الرعد، بالإضافة لصرير مزاليج
الأبواب، وتهشم زجاج، وصرخات مكتومة.
فى هذه الأجواء القاتمة، نتعرف على الأبطال: زينة «منى زكى»، التى
تستيقظ من نومها مذعورة، وهى ضريرة، تتلمس طريقها، من غرفة نومها
إلى خارج فيلتها التى تطل على البحر.. فى المياه، معركة حياة أو
موت، بين أحمد «آسر ياسين»، ورشيد «عمرو سعد». يتبادلان اللكمات،
ومع كل لكمة قرعة طبلة، يحاول كل منهما إغراق الآخر، الذى ينهض من
تحت الماء، متثاقلا، كى يقهر غريمه.. أخيرا، يستقر «عمرو سعد» فى
القاع.. يخرج آسر ياسين، المنهك من البحر، يسحب منى زكى، متعجلا،
للانطلاق بسيارته، مبتعدا عن المكان.. زينة ـ أو منى زكى ـ فاقدة
لذاكرتها، يجعلها تتلمس وجهه لعلها تتعرف عليه، بلا فائدة. يطلب
طبيبها، من خلال تليفونها، كى يخطره بحالتها.. الطبيب يطمئنه،
ويطلب منه الحضور.. فجأة تظهر عربة عمرو سعد، تطارد سيارة آسر
ياسين، تصطدم بها، ينزلان، يتبادلان العراك الشرس. مرة ثانية، يبدو
عمرو سعد، الممدد، داميا، على الأرض، كمن لقى حتفه.هذه المقدمات
الطويلة، الساخنة، المنفذة بمهارة عالية، تمهد لمعرفة الحكاية،
نطلع عليها خلال «فلاش باك» صوتى، ذلك أن «زينة»، سجلت مسيرة
حياتها، على تليفونها.. وبعد ترك «رشيد»، داميا، فوق أسفلت الطريق،
يحاول «أحمد» إنعاش ذاكرتها، بأن تستمع، بنفسها، لقصتها، كما روتها
هى.. سريعا يتحول السرد الصوتى، إلى سرد بالصورة.
«زينة»،
تعيش حياة ميسورة مع والدتها «سلوى محمد على»، فى فيلا لطيفة
أنيقة، تكتب مقالات ضعيفة ـ حسب وصفها ـ والملاحظ أن الفيلا تخلو
من مكتبة أو كتب أو مكتب.. المهم أنها شبه مخطوبة لشاب لطيف، مهذب،
عاقل، جاد، يحبها، يحترمها، هو «آسر ياسين»، لكنها لا تتحمس، أو
تقتنع بفكرة أن تعيش معه بقية حياتها، لذا فإنها تتهرب من تحديد
موعد الزواج.
فجأة، فى إحدى الحفلات، يظهر «عمرو سعد»، المنطلق من غير ضوابط،
المتهور، المستهتر.. يلفت نظرها، يخفق قلبها بحبه. بدوره، يهيم
بها، تتزوجه، مما يوغر صدر «آسر ياسين»، المتابع للعلاقة بين
حبيبته وزوجها المتسيب، الذى ينتقل من تدهور لتدهور أشد، فبعد
تدخينه المخدرات، ومشاركتها له، ولا يفوت طارق العريان، مع مصوره
القدير، أحمد المرسى، رصد أنف «منى زكى» الرقيق، فى لقطة كبيرة،
إبان انطلاق الدخان الأزرق من منخريها.
بعد الحشيش، يأتى دور البودرة، ومنه إلى الحقن ـ والعياذ بالله ـ
وينزلق إلى التعامل معها، بقدر غير قليل من العنف، يزداد مع إيغاله
فى الإدمان، وتتوالى محاولاتها لفض حياتهما معا، لكن، فى كل مرة،
يتوسل لها، باكيا، كى لا تتركه.. وبعد أن يتسبب فى فقدان بصرها،
تدخله مصحة للعلاج، وترفع عليه قضية «خلع»، تكسبها من أول جلسة.
تعود إلى والدتها ويظهر «آسر ياسين» من جديد.
بمونتاج متقن، قام به ياسر النجار، يتقاطع الحاضر، مع «الفلاش
باك».. «آسر ياسين»، الذى تزوجها، بعد طلاقها من المدمن، وتركه
لـ«عمرو سعد» نازفا فى الطريق، يتجه بها نحو اليخت الذى يملكه، وما
إن يظهر «عمرو سعد» من جديد، ينطلق اليخت فى مياه البحر الأحمر..
طبعا، لا أحد يصدق قوة وطاقة الزوج القديم ــ الهارب من المصحة،
بعد أن رأيناه يلفظ أنفاسه الأخيرة ــ على السباحة، خلف اليخت،
ويتمكن من الإمساك بحافته، كى يقدم لنا طارق العريان، فاصلا جديدا،
من صراع فوق اليخت، وفى أروقته، مدعوما بصراخ منى زكى، الضرير،
التى تكاد تقع على السلالم، قبل أن تتمكن من ضرب «عمرو سعد»
بأنبوبة إطفاء، وإغلاق باب إحدى الحجرات عليه.
«أسوار
القمر»، من الممكن أن يستمر عدة ساعات، فى معارك دامية، بحرا،
ويابسة، ويختا، من دون أن يكون له هدفا أو قضية.. فالمسألة لا تزيد
على كونها صراعا، بالغ العنف، بين رجلين، من أجل امرأة.. الفيلم
الساخن، المعزول تماما عن دفء الحياة، يستعرض مهارات صناعه،
وتبديدها، فيما لا يفيد.. خسارة.
إلهام.. وسط البلد
كمال رمزي
السبت 14 فبراير 2015 - 8:40 ص
فى مسابقة المهرجان القومى للأفلام المصرية، عام ١٩٩٧ ـ إذا لم
تخنى الذاكرة ـ اندلع خلاف حاد بينى وبين رئيس لجنة التحكيم،
الكاتب الكبير سعد الدين وهبة، المتحمس ـ وعنده الأسباب ـ لدور
ليلى علوى فى «يا دنيا يا غرامى» لمجدى أحمد على، بينما تمسكت بمنح
جائزة التمثيل لإلهام شاهين، برغم الأداء الجميل، المتفهم، للصديقة
الغالية، الجدعة، ليلى علوى، ذلك أنى رأيت فى أداء إلهام شاهين، فى
موقفين، ما يصل بمستوى فن التمثيل إلى قمة جديرة بالاعتراف
والإشادة.
أحدهما، حين تنتظر خطيبها المتوقع، حسن العدل، الذى ذهب للحمام فى
الكازينو، بعد أن أخطرته أنها ليست عذراء.. «العدل»، بعد قضاء
حاجته، يخرج من الباب بدون علمها.. ولدقائق قليلة، ترصد الكاميرا،
وجه إلهام شاهين، الصامت، الذى يعبر، بصدق وعمق، عن انفعالات
متوالية، متغيرة، تبدأ بدرجة ما من الارتياح، كما لو أن عبئا تخلصت
منه بالمصارحة.. ثم، مع تأخره، يمتزج فى عينيها القلق مع نوع من
الأمل، يخبو شيئا فشيئا، ليحل مكانه اليأس.. قبل أن تهم بالمغادرة،
يتلاشى ؟؟؟ ملامحها وتتوغل التعاسة فى عينيها.
الموقف الآخر، عندما تصحبها صديقتاها ـ ليلى علوى، هالة صدقى ـ إلى
طبيب كى يجرى لها اللازم. داخل المترو، حين يصل للمحطة، تتجمد، لا
تستطيع القيام، ولأننا نعرف طبيعتها، ندرك ما الذى جعلها تحس أنها
مقدمة على عملية خداع، وبالتالى، ترفضها، بروحها، وجسدها.
هكذا، بلا صخب، ومن دون كلام، عبرت إلهام، بملامح وجه شفاف، عن أدق
خلجات الشخصية التى تعايشها، بروحها، وجسدها.
قبل أن أنتقل إلى الفقرة التالية، أحيطك علما بأن الخلاف داخل لجنة
التحكيم، تصاعد واحتدم، إلى أن توصلنا لنتيجة مرضية: إلهام تفوز
بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، وليلى تفوز بجائزة التمثيل.
هذه الحكاية بمناسبة أداء إلهام شاهين فى «هز وسط البلد» الذى
أنتجته، فى خطوة شجاعة، تحسب لها، أيا كانت النتائج.
«هز
وسط البلد»، كتبه وأخرجه محمد أبوسيف، ملتزما بوحدتى الزمان
والمكان، فالأحداث كلها، تستغرق أقل من نهار واحد، وتقع فى شارع
بوسط البلد.. فكرة الفيلم، نظريا، على قدر كبير من الأهمية، تتضمن
موقفا نقديا، تحذيريا، لمجتمع فاسد، أعضاؤه لا ينتبهون إلى أنهم
يعيشون، يتحركون، يرتكبون آثامهم، وتحتهم، وبجوارهم، قنابل قد
تنفجر فى أى لحظة.
لكن هذا الفيلم، وأى فيلم آخر، ليس مجرد الفكرة فقط، بل عديد من
العناصر التى تتكاتف، إما لإبراز الفكرة والارتقاء بالعمل، أو تؤدى
لطمس الفكرة وتصدع الفيلم.
لم يكترث صناع الفيلم بشكل الشارع، ولا مكوناته، فالمفترض أن ثمة
دار عرض، مقهى، كشك سجائر، محال، عمارات، عربة تبيع المقانق، مما
يعنى أن الشارع بالغ الطول، لكن هنا، مجرد بلاتوه صغير، ضيق، مما
أدى إلى تكدس تلك المكونات، على نحو لا يمكن تصديقه، فالفيلم يبدأ
بمنتج سينمائى رقيع «تامر عبدالمنعم»، يسير فى الشارع مترنحا،
ممسكا بكوب به بقايا منكر.. ثم ممثلة فاقدة لتوازنها، من شدة
السكر، تدخل عمارتها المتواجدة فى الشارع، تتكاد تتهالك على نفسها،
يسندها شاب ملتح، فى طريقه لصلاة الفجر، وهو الذى سنراه لاحقا،
يصنع القنابل لرجل غامض. دار العرض، مجرد باب ضيق، يؤدى إلى ممر،
لا علاقة له بشكل أى دار عرض، والفيلم الذى سيعرض عنوانه «صدر
وورك»! ومن إنتاج المترنح وربما ستنزعج ـ مثلى ـ من هذا التصور
العابث لصناعة السينما، التى تقدم أفلاما جادة، إلى جانب الردىء،
الذى لا يصل فى عناوينه إلى درجة «صدر وورك».
يتوالى ظهور الشخصيات، عددها كبير، وبالضرورة، بدت حمولتها أضخم من
طاقة الفيلم، وكلها فاسدة، فيما عدا شاب طيب، مخلص ووديع «أمير
رمسيس»، سنكتشف فى النهاية، أنه الأكثر خبثا وانحرافا، ذلك أنه
سيسرق أموال الجميع ويهرب.
من بين جحافل الشخصيات، تبرز «حورية»، إلهام شاهين، لتشغل المساحة
الأوسع. عملها «التسول»، لم يكتف الفيلم أن يجعل لها ابنا أو
اثنين، لكن حملها بأربعة أطفال دفعة واحدة، تفقدهم الواحد تلو
الآخر، خلال السويعات الزمنية للفيلم، بطريقة تقترب للميلودراما.
أحدهم يتوه، الثانى تبيعه، بناء على نصيحة الشرير جدا، مدير
السينما «فتحى عبدالوهاب»، الثالث تدهسه عربة فيموت فى الحال، وفى
نوبة من الهستيريا تلقى بالرابع فى صندوق قمامة، وتهيل عليه
الشخائم.
ما يعنينى هنا هو طريقة أداء إلهام شاهين، الأعمق والأطول خبرة،
تفاجئنا بأسلوب ينتمى إلى الثلاثينيات، حيث المغالاة، والتورم
الانفعالى، والتزيد فى الحركة، فبعد بيعها لفلذة كبدها، ينتابها
الشعور بالذنب. تجلس على الرصيف، تخلع شبشبها، تضرب به رأسها. ليس
ثلاث أو أربع مرات، بل ما يزيد على دستة. تولول وتصرخ، وقبلها،
وبعدها، لابأس من العويل ولطم الخدود.
ثم، حين يأتيها الجنون فجأة، تعبر عنه بطريقة خارجية، غليظة، فيها
من الافتعال الشىء الكثير.
الأداء التمثيلى، إجمالا، يتعثر فى المباشرة، لا يهتم بلغة العيون،
يعتمد على أنواع من شعوذة الأصوات، والكليشيهات المحفوظة عن المرأة
الخليعة، والقوادة، والفتاة المسترجلة.. وهى أمور واردة بالنسبة
لممثلين فى بداية الطريق.. لكن أن تتأتى من فنانة كبيرة، فإنه
الأمر المزعج تماما. ميزة إلهام شاهين هنا، أنها جعلتنا نتذكرها،
بتقدير رفيع، فى «يا دنيا يا غرامى».
كوميديا.. بطعم الكآبة
كمال رمزي
الثلاثاء 10 فبراير 2015 - 8:15 ص
محمد هيندى تمتع بحضور محبب منذ بداياته فى أدوار صغيرة مع يوسف
شاهين فى «إسكندرية ليه» 1979 وخيرى بشارة فى «يوم مر يوم حلو»
1988 .. توالت أدواره .. زادت مساحاته.. انتقل اسمه من الهامش إلى
المتن ثم بجدارة إلى الصدارة فأصبح الفيلم لا ينسب إلا له، لا
للمخرج ولا للبطلة.. يرجع النجاح إلى موهبة بساطة وصدق فى الأداء،
درجة عالية من عفوية تتحاشى المغالاة يمثل وكأنه لا يمثل، صاحب صوت
متميز معبر تنطلق عقيرته أحيانا بأغنيات أقرب للمونولوجات بعضها
يحقق شعبية هائلة مثل «كمننا» التى رددها مع محمد فؤاد فى
«إسماعيلية رايح جاى» 1997.
انتقل هنيدى بشخصياته القادمة من قلب الحياة الطبقة المتوسطة فى
الحوارى ومن الصعيد من فيلم لآخر ساخرا من الأوضاع الاجتماعية
والأخلاقية معبرا عن موقف احتجاجى خفيف لا يخلو من دفاع عن نماذج
تحلم بعدالة غائبة يضع جاكتة البيجاما داخل بنطالها ليلعب الكرة
الشراب، يسافر إلى بلاد بعيدة بحثا عن رزق عزيز المنال فى وطنه،
يستخدم عجلة الذهاب إلى المدرسة حين يعمل فى تدريس اللغة العربية
ولاستكمال ملامحه الريفية يطلق شاربا كثا وصغيرا فضلا عن نظارة
سميكة الزجاج.
دخل هنيدى القلوب.. غدا قادرا على إثارة البهجة قادرا على الاضحاك
فى وقت يفتقر إلى أسباب الطمأنينة تهيمن عليه أجواء القلق.
أخيرا يقدم «يوم مالوش لازمة» لأحمد الجندى الذى أقبل عليه جمهور
واسع، علامات البشر واضحة على وجوه يتوقع أصحابها قضاء ساعتين من
المواقف الطريفة الضاحكة التى توفرها غالبا أفلام هنيدى.
هذه المرة تستغرق الأحداث يوما واحدا، بطلنا أصبح ميسور الحال بعد
عمله فى إحدى دول الخليج.. ينجح بعد عناء فى تحديد موعد زفافه على
شقيقة صديقه الرافض لهذه الزيجة لأسباب لا يعلنها بعد فاصل للعروس
ريهام حجاج فى عيادة تجميل يديرها طبيب غشيم يجعل وجهها منتفخا
بالإضافة لفاصل آخر من النقار بين والدته هالة فاخر ووالدة العروس
ليلى عز العرب ينتقل الفيلم إلى الفندق ولا يغادره إلا لماما.
الملاحظة الأولى على مدخل الفيلم ذلك الخمول الأدائى عند معظم
الممثلين بما فى ذلك نجمنا اللامع الذى بدا كسولا، الكلام لا يخرج
من فمه كما لو أنه يردد شذرات محفوظات، ربما لم يجد فى الحوارات
المنطفئة ما يستحق الجهد فثمة مهاترات سقيمة تندلع بينه وعروسه فهى
ترفض أن يرتدى البذلة الغالية التى اشتراها من الخليج ويصر على
اراتدائها ثم فى موقف طويل مترهل مع بداية عقد القران تتوالى
مكالمات زوجة المأذون تسأله وتطلب منه ما يجعله يتشتت ويتوتر،
هنيدى المنزعج يغضب، يصطدم بالمأذون الذى يغادر قبل عقد القران
مدير الفندق المبتسم دائما يطمئن هنيدى ويؤكد له أن مأذونا آخر
سيأتى خلال ساعتين خلالهما تتراكم مواقف أقرب لـ«الفارص» وهو النوع
الأدنى من الكوميديا يعتمد على مبالغات سقيمة ومواقف مفتعلة كأن
يتورم وجه العروس بين الحين والحين وأن يلتهب النصف السفلى من جسم
العريس بسبب مياه ساخنة طالته مما يدفعه إلى نزع بنطاله والبقاء
لفترة طويلة لا يستره إلا فوطة، وثمة «اسكتشات» منفصلة لا يؤدى
بعضها إلى بعضها من الممكن حذفها أو الإضافة لها مثل مشروع الخناقة
بين فريق كرة أفريقى ومجموعة من مشجعى الزمالك.
فيما يبدو أن كاتب السيناريو عمر طاهر أدرك أن الفيلم يتورم ولا
يتقدم للأمام فأدخل شخصية جديدة تمثلها روبى المفترض أنها حبيبة
قديمة وعدها بالزواج وها هى تطارده «روبى» المتألقة فى «سجن
النساء» يباغتنا هذه المرة بحضور روبى ترتدى معطفا كالح الاصفرار
يذكرنا بمعاطف قدامى للمخبرين وبأداء سقيم كما تعرضت لقسوة لا مبرر
لها من صناع الفيلم فمرة تقع خارج عربة تسير بسرعة مما يسبب لها
كدمات تكاد تحيلها إلى إرعابية من فصيلة «الزمبيين» ومرة تسقط من
أحد الأدوار العلوية فى الفندق لتسقط غريقة فى قاع حمام السباحة
وبعد نهاية الفيلم يظهر على الشاشة كلمات تقول «بعد ثمانية أعوام»
وتفاجئنا أنها هلى التى تزوجت بطلنا وها هى تعامله بقدر غير قليل
من القسوة.
«يوم
مالوش لازمة» مصنوع بمزاج سيئ أبعد ما يكون عن روح المرح المتوفرة
فى أعمال طاهر والمخرج أحمد الجندى والمحبوب محمد هنيدى علامات
الاحباط كانت واضحة على وجوه رواد السينما وكأن الواحد منهم يقول
لنفسه إنه «فيلم مالوش لازمة».
القناص.. الأمريكى
كمال رمزي
السبت 7 فبراير 2015 - 8:25 ص
بدلا من الموسيقى المصاحبة دائما، لعلامة شركة «وارنر برازر»، وضع
صناع هذا الفيلم صوت الأذان، يأتى مثيرا للدهشة والانتباه.. وقبل
ظهور أى صورة، نسمع صوت جنازير دبابة، تعلو وتطغى على صوت الأذان..
المعنى الإيحائى لا يحتاج لتوضيح. وفى اللقطة الافتتاحية تتقدم
الدبابة، فوق ركام حجارة متخلفة من بيوت مدمرة، فى أحد شوارع مدينة
أشباح عراقية، يبدو كأنها بلا بشر.
فى اللقطة الثانية، فوق أحد الأسطح يتمدد القناص الأمريكى، كريس
كايل «برادلى كوبر»، مراقبا، خلال تليسكوب بندقيته، اقتحام عساكر
المارينز لأبواب بقايا البيوت، بحثا عن المقاتلين العراقيين.
بجانبه، زميل له، يقول «رائحة الغبار هنا محملة برائحة الغائط»..
هكذا، يخاطب الفيلم الأذن والأنف.
بعد عرض الحال المختزل، يأتى أول مواقفه: سيدة تخرج من أحد البيوت
مع صبى صغير، ابنها فيما يبدو، يراقبها القناص، الذكى، اللماح،
الذى ينبه زميله إلى أنها تحمل شيئا فى عباءتها، لأنها لا تحرك
ذراعيها، فورا يصدق توقعه، تخرج من طيات ملابسها قنبلة يدوية
«سوفيتيية الصنع». تعطيها للصبى الذى يندفع نحو دبابة. القناص
بطلقة واحدة، يرديه قتيلا.. الأم، ذات القلب المتحجر، الملىء
بالكراهية ــ حسب رؤية الفيلم ــ تترك الصبى. تلتقط القنبلة من
الأرض، تعدو نحو الدبابة، بغباء، لتسقط صريعة برصاصة القناص.
عن طريق العودة للماضى أو «الفلاش باكات» يقدم الفيلم تاريخ بطله
من ناحية، وأسباب الحرب من ناحية ثانية.
اختار الفيلم لحظة نموذجية لأول «فلاش باك»، فقبل أن يضغط القناص
على زناد بندقية، كى يقتل الصبى، يتذكر طفولته، أيام كان والده
يدربه على الرماية، طالبا منه حماية شقيقه الأصغر، ويلقنه درسا فى
طبيعة البشر التى تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الذئاب المفترسة،
والأغنام، وكلاب الحراسة، المدافعة عن الأغنام.. ولا يفوت الأب، أن
يأمر ابنه، بصرامة، أن يكون من النوع الثالث.. وهذا ما سيلتزم به
الصبى.
لاحقا، عن طريق «فلاشات»، تطالعنا، عبر شاشة تلفاز، فى بيت القناص،
تفجيرات السفارات الأمريكية، فى أفريقيا.. ثم تدمير البرجين، فى
«١١ سبتمبر ٢٠٠١»، وبينما زوجته تجهش بالكباء، يقرر القناص أن يصبح
بالنسبة لأمريكا، وناسها الطيبين، مثل «كلب الحراسة» يدافع عنهم
بالانخراط فى جيشها، الذى سيحارب الشر، فى بلاد بعيدة.
يتحاشى الفيلم، المأخوذ عن مذكرات كتبها الجندى كريس كيلى، أى ذكر
للأسباب الحقيقية للغزو، ويتحاشى ذكر أسماء وأدوار الرئيس المولع
بالانتقام، بوش الصغير، ووزير دفاعه الدموى، رامسفيلد، ووزير
الخارجية الكذاب، كولن باول.. كل ما فى الأمر أن الحرب اندلعت بهدف
إيقاف نشاطات قوى الشر التى فجرت سفارات أمريكية ودمرت البرجين.
برادلى كوبر، يؤدى دور القناص، وإذا كان البعض أعجب بأدائه، إلى
درجة ترشيحه لجائزة الأوسكار، فإن كوبر، بالمعايير النقدية الجادة،
لم يقدم ما يستحق الإشادة، فالشخصية التي يجسدها أصلا، تتسم
بالبرود، انفعالاتها تقترب من البلادة، يمارس القتل دون أن يرمش له
جفن. يطلق رصاصاته على أناس كأنه يصطاد طيورا أو حيوانات، هو وريث
الكاوبوى، يذكرنا بجون واين، وسيلفر ستالونى، حين كان أولهما
محاربا فى كوريا ثم فيتنام، وثانيهما مقاتلا فى أفغانستان.
القناص، سياسيا، حسب رؤية الفيلم، ليس مع قوات تغزو دولة وتحارب
شعبا، ولكنه يحمى جنودا يقومون بعمل نبيل، ضد بعض الأشرار.. أولهم
«الجزار» ذلك العراقى السفاح، الذى يتخذ من مطعم مهجور مكمنا له،
ينكل فيه بضحاياه، ويمزقهم إربا.. وحين يقتحم القناص المكان، يتعمد
المخرج، كلينت استوود، استعارة مشاهد من أفلام الإرعاب التجارية،
فترصد الكاميرا رؤوسا بشرية، وأطراف أجساد، موضوعة على أرفف،
ومستنقعات دم على الأرض.
بعد القضاء على «الجزار»، يأتى دور «مصطفى» وهو قناص عراقى محنك،
يصطاد العديد من الجنود الأبرياء.. وتتوالى المطاردات، ويكاد
الفيلم المترهل أن يصبح مملا، سقيما، قبل انتصار القناص الأمريكى،
الأسطورة، الفخور بقتل «١٦٠» شريرا.
«القناص
الأمريكى» بالنسبة لنا، مضلل سياسيا، عنصرى النزعة، لا يرى فى
العراقيين إلا خونة، لا يؤمن جانبهم، تسببوا فى إصابة الجنود
الأمريكيين الطيبين، جسمانيا ونفسيا، لدرجة أن أحدهم، قتل القناص
لأسباب غامضة.. إنه فيلم شديد التجنى، ضعيف فنيا.
صلاح أبوسيف.. والنقاد
كمال رمزي
نشر فى : الأربعاء 4 فبراير 2015 - 8:20 ص
فى هذا العام نحتفل بعيد ميلاده المئوى 1915 ــ 1996.. ترك لنا
ثروة هائلة، ليست سينمائية وحسب بل نقدية أيضا، فأفلامه التى
يتلألأ بها عالم الأطياف المصرى، دفعت، إلى جانب النقاد، بأدباء
وسياسيين، نحو الاقتراب منها، والكتابة عنها، من عشرات الزوايا
المختلفة، تجد بعض حصادها فى كتاب ثمين، ضخم، مكون من 620 صفحة من
القطع الكبير، يتضمن أكثر من 150 مقالة فضلا عن ثلاث دراسات مطولة.
صحيح صدر عن مخرجنا الكبير أكثر من خمسة كتب لكن هذا المرجع الثمين
يكتسب قيمة خاصة، أخلاقية وفكرية. ذلك أنه طبع على نفقة صلاح
أبوسيف وتم توزيعه بالمجان، لذا لا يتوافر فى أى مكتبة والمقالات
المثبتة فيه، من حافظة أبوسيف المهتم بكل ما مكتب عن أفلامه سواء
بالسلب أو الإيجاب وجدير بالذكر أن الناقد المرهف، المتفانى فى
عمله أحمد يوسف، بحماس، استجاب لدعوة أبوسيف كى يعود الكتاب ويصنف
مادته ويراجعه.
المقالات تتعرض لمجمل أفلام صلاح أبوسيف منذ «دايما فى قلبى» 1945
حتى «المواطن مصرى» 1991 مرورا بـ38 فيلما.. مقالات تلخص بإيجاز
تطور النقد السينمائى فى بلادنا حين كان النقد الذى لايزال وليدا
يعتمد على تلخيص الحكاية وانطباعات عفوية، سريعة على مستوى الفيلم
إجمالا.. إلى أن غدا مبنيا على الخبرة والدراسة، يتعرض بالتفصيل
لعناصر اللغة السينمائية، من سيناريو إلى تصوير إلى تمثيل إلى
مونتاج، والإخراج طبعا.. الفارق واسع بين ضياء الدين بيبرس
وعبدالشافى القشاش وعثمان العنتبلى من ناحية وسمير فريد وسامى
السلامونى ثم طارق الشناوى وخيرية البشلاوى من ناحية أخرى وهذا على
سبيل المثال لا الحصر.
جدية أفلام صلاح أبوسيف وارتفاع مستواها جذبت نقاد الأدب والأدباء
والسياسيين إلى الكتابة عنها.. هذه المقالات تعد من الروافد المهمة
للنقد السينمائى ذلك أن الملاحظات الثاقبة الأدبية والسياسية أصبحت
من المعايير التى يستفيد منها النقاد السينمائيون الجدد.. الدكتور
محمد مندور المهتم بالشعر والمسرح، كتب بمنهجه الاجتماعى،
الأيديولجى عن «هذا هو الحب» واضعا أبطاله فى خانة الطبقة المتوسطة
ويحلل قيم وعادات هذه الطبقة ويقارنها بما جاء فى الفيلم مبينا
الغيرة والروح المحافظة من سمائها التى غالى فى تجسيدها الفيلم
لدرجة أن الشكوك تعصف بالبطل لأنه رأى عروسته تصافح صديق شقيقها فى
لقاء عابر.
عدة مقالات كتبها الناقد الأدبى رجاء النقاش تأتى فى ثناياها
ملاحظات جديرة بالالتفات.
يقول فى معرض حديثه عن «القاهرة 30» إن فضيلة صلاح أبوسيف الأساسية
بقيت كما هى.. إنه ينقلك بسرعة وبساطة إلى جو الفيلم الذى يقدمه.
إنه يستطيع أن ينتزعك من نفسك لتعيش فى العالم الذى يصنعه لك على
الشاشة وهذه فضيلة فنية رائعة.. فهناك مخرجون متخصصون فى تهريب
المشاهدين.. لكن صلاح أبوسيف فى فنه جذاب شديد اللباقة والبساطة
والسحر.
الى جانب الشاعر صلاح عبدالصبور الذى كتب مقالا رقيقا عن «لا
أنام»، ثمة الكاتب المسرحى ألفريد فرج الذى يباغتنا بمقال مختلف
شديد الأهمية عن شباب امرأة حيث يدافع بقوة وبصيرة عن شفاعات ــ
تحية كاريوكا ــ التى تجنى عليها أبوسيف فهى عند ألفريد المرأة
العصامية العاملة المتطلعة للمساواة فى المسئولية والتبعية/ مع
الرجال بينما أظهرها أبوسيف ذات نزوات داعرة وقسوة ووحشية وحس
بليد.. وجهة نظر، فى تقديرى صحيحة، وكان من النزاهة والشجاعة أن
يضع صلاح هذا المقال فى الكتاب.
لطفى الخولى، أنور عبدالملك، احمد حمروش، سامى داود، من كتاب
السياسة الذين جذبهم عالم أبوسيف الرحب وعندما حقق «المواطن مصرى»
وجد محمد عودة فيه ومن خلاله ما يردد قوله فى التغيرات الكارثية
التى اعقبت حرب 73 وسبقتها فكتب مقالة ساخنة بعنوان فيلم لكل
المواطنين يشيد بالفيلم والرواية التى كتبها يوسف القعيد الفلاح
الذى تعلم الكتابة ونذر نفسه لرد اعتبار أهله.
صلاح أبوسيف من أهم ملامحنا الفكرية والوجدانية خلال ثلاثة أرباع
قرن من الزمان وهذا الكتاب يستكمل الكثير من ملامحنا الثقافية
أتمنى إعادة نشرة مع المزيد من المقالات اللاحقة والمفقودة التى لم
يتضمنها الكتاب إنه دور الدكتور أحمد مجاهد فى هيئة الكتاب أو
مسئولية الدكتور محمد عفيفى فى المجلس الاعلى للثقافة وربما تحظى
به هيئة قصور الثقافة ــ لا اعرف رئيسها ــ وقبلهم وبعدهم الدكتور
جابر عصفور. |