فيلم "ريجاتا" من الأعمال الخشنة التي تتناول واقعا يقطر قسوة
وخشونة الإنسان مغلوب علي أمره يرزح تحت أحمال ثقيلة لا يملك أن
يزيحها بالأسلوب السلمي ولا تحتاج إلي خنجر باتر أو رصاصة نافذة
وإنما طوفان من العنف والتمرد والغضب.
المخرج من المشاهد الأولي يدفع بمفردات من هذا الواقع في شكل سرعة
عبثية بلا هدف في مجموعة من الصبيان راكبي الدراجات النارية ينهبون
طريقا سريعا تحف به بنايات تاريخية في إشارة لزمن ربما كان أفضل أو
أقل عشوائية. أو في صورة امرأة تتاجر بجسدها وأنوثتها ولاحقا تتجسد
في سورة شيطان رجيم أو فتنة يقظة تشعل نارا في الجميع. أو صورة
امرأة عجوز ساقطة قررت التوبة ولكن بقي لها من زمن السقوط ابن حرام
لا يعرف من أين جاء وظل مطاردا لنسبه المجهول وابن آخر مدمن يسقط
فريسة لمجرم أكبر يتاجر في الممنوع رجل بلا دين. بلا ضمير. بلا
خلق. بلا رادع. واقع يتوه فيه الحرام والحلال. الحرام هنا بين
ولكنه حتمي في ظل بيئة مشبعة بأسباب الشر والحلال مجرد لافتات أو
آيات قرآنية معلقة علي جدران بداخلها أناس يمارسون الرذيلة بسهولة
كما يتنفسون وحين تضيع أسباب الحياة الكريمة ويصبح الجو برمته
ملوثا في الداخل وفي الخارج لا توجد خطوط فاصلة بين ما هو حلال وما
هو حرام.
"ريجاتا"
شاب مظلوم مطارد يتوق إلي الحلال ولكن الحلال هارب. يتوق إلي
الهروب والسفر إلي حيث لا يوجد من يعرف أصله أو نسبه. ولكن دون ذلك
جرائم حتي يتوفر المال اللازم للهجرة.
انه يسعي إلي العيش يجتهد ولكنه يدفع دفعا إلي طريق يخاصم
القانون.. وأمه سيدة مريضة تعاني من داء عضال وتحتاج إلي مال
للعلاج وهو كتلة من الشفاء تقاوم واقعا أقوي منها تعيش وسط أناس
تجاهد بدورها من أجل الحياة بغض النظر عن الوسيلة.
الابن الثاني عبده مدمن يتوق بدوره إلي الهروب يغرق في جسد الزوجة
اللعوب التي تخونه ومن الكيف الذي يغيب عقله.
الشخصيات في الفيلم مزيج من الشرور وليدة بيئة محرومة من أي شكل من
أشكال الإنسانية أو الجمال أو الأمل في المستقبل أو في الحياة
الهادئة الخالية من العنف والصراخ والدم والقتل.
"ريجاتا"
وأسرته المكونة من الأم والشقيق وزوجة الأخ نماذج لها ما يضاهيها
في العشوائيات التي حرص المخرج أن يرصدها من مشاهد بانورامية
وزوايا مرتفعة بحيث يبرز التكدس الذي يطبق علي الأنفاس ويسلط الضوء
علي البنايات تتلاصق والبشر يتلاحقون والحرمان يحكم حصاره.. في هذه
الأجواء لا توجد حرية اختيار بطبيعة الحال.
عنصر التشخيص في مجموعة يقدم نماذج إنسانية معذبة تعيسة والممثلون
يتقدمهم عمرو سعد يجسدون كتلة من الشحم واللحم والانفعالات الكاشفة
عن أعماق مشحونة بالهموم والرغبات المحيطة والحصار الذي لا فكاك
منه.
عمرو سعد من الممثلين المبدعين المقنعين بدرجة كبيرة لا تملك إلا
أن تصدقه وتتعاطف مع محنته حتي وهو أثيم لأنه في نهاية المطاف حبيس
واقع ليس من صنعه.. قدرته التعبيرية بملامحه المكدودة ولغة عيونه
المعبرة وتغبيراته مقنعة ما عدا بعض الألفاظ الخشنة جدا في لغة
الحوار كان من الممكن وبسهولة الاستغناء عنها لولا غرام السينما
المصرية بالابتذال وأحيانا الإغراق فيه باعتباره لغة شباك لترضي
الجماهير الشعبية.
إلهام شاهين لم توفر طاقة ولم تراع أي شيء خارج متطلبات الدور حتي
لو بدت طاعنة وقبيحة وحليقة الشعر جسدت العذاب في شكل امرأة
والضياع والانحلال وكأنه قدرها ومن ثم فالنهاية التعيسة محتومة ولا
فرار منها.
الشخصيات في الأسرة هذه مصائرها محتومة مأساوية شقية بلا حدود ولم
يفلح الانحراف في تحقيق النجاة ولم تفلح المخدرات في توفير الهروب
ولا المال الحرام.. حتي أفسد الفاسدين "حميدة" رغم إمعانه في
التعبير عن الانحرافات الخلقية واستخدامه لغة حوار متدنية جدا
وأساليب ملاغاة سوقية واحتمائه باللا مبالاة والتحرر من الخوف
والانسياق وراء شهوة المال والجنس إلا أنه لم يصل إلي النجاة هو
أيضا.
حبكة الفيلم صممت علي نحو يجعلها مجموعة من الفخاخ لكل شخصية
مسارها الذي يصل بها في النهاية إلي الموت وحتي أكثرهم اتساقا مع
القانون مثل شخصية الضابط "فتحي عبدالوهاب" يبدو بدوره وكأنه
محاصرا بأسباب فنائه أو حرمانه من الطمأنينة رغم انه رجل منوط به
تنفيذ القانون ورغم ما يبديه من رقة أحيانا واختلاف في الذوق.
الخيوط العديدة المتداخلة للشخصيات التي ارتبطت إما بأواصر الصداقة
أو صلة الرحم أو التجارة الحرام أو بأمل الهروب مثل شخصية عبده
سفريات "أمين شاهين" التاجر الوغد الذي باع حلم السفر للجميع ولم
يتحقق لأحدهم أي من هذه الأحلام.. الجميع انتهي دون أن يصل إلي بر
أمان أو يحقق أدني احتياجاته كإنسان.
سوف تبقي العشوائيات وغياب الحرية الفعلية المرتبط بوجودها مصدرا
لكثير من المأسي الواقعية.
والسبكي كمنتج ذكي وجد فيها مرتعا خصبا لعمل وجبة ترفيهية لا تخلو
من رؤية ودسم فكري فالفيلم مع انتمائه الواضح للسينما التجارية
المعتمدة علي قدر من السوقية والابتذال والحركة والعنف الممسرح علي
نحو مشوق والصراع الواقعي بين الحيتان والبساريا في محيط يعوم فيه
"النسوان" الرايقة الفايقة والرجال المحكومين بالغريزة الحيوانية.
مع هذا الانتماء فإنه يقدم صورة كلية وإن بدت قبيحة لعلاقات القوي
في مجتمع ينبذ القانون ولا يتيح للإنسان أن يمارس إنسانيته.
ان تجسيد قيم الحرمان والتشوهات الخلقية والإنسانية في بيئة
عشوائية أهملها النظام الحاكم وسياساته الجائرة يحتاج إلي سيناريست
قادر علي إعادة إنتاج "القبح" في صورة كيان وبناء إنساني ومادي
متكامل والمخرج محمد سامي بدا واعيا جدا في اختياراته للأمكنة وفي
خلق حالة من التقابل والتضاد وهو يبحر بالكاميرا وسط واقع يجمع بين
تناقضات هائلة بين تاريخ مجيد يسكن وراءه أناس أصبحوا يعانون من
غياب المياه والكهرباء وسبل الحياة ويتاجرون في كل شيء وأي شيء.
وبين طرق حديثة مرصوفة وبنايات مرصوصة علي جانبي شارع عشوائي يبدو
من أعلي وكأنه جب عميق وهذا "الجب" العميق طال أيضا العلاقات التي
كانت حميمة وأعني علاقة الأخ بشقيقه أو الأم بابنها الصديق بصديقه
هناك "متاريس" حتمية رهيبة تعوق العلعاقات الطبيعية رغم توفر
النوايا وحضور المشاعر في لحظات دافئة ورغبة في التعاطف لا يسمح
الواقع بتحققها.
الممثلون أجادوا بالفعل أدوارهم حتي أحمد مالك الذي أراه ممثلا
موهوبا بالفعل أدرك بأدائه المطلوب من الشخصية والمضمون الذي يفترض
أنها تمثله وكذلك وليد فواز في دوره القصير أما رانيا يوسف فقد
جسدت بقوة دور المرأة الإبليس اللعوب الجهنمية التي لا يوقف شرورها
إلا قوة الرصاص.. وللموضوعية فإن الدور مكتوب بفهم وتم تنفيذه
بتوجيه وإحساس سليم من قبل المخرج.
"الريجاتا"
إفراز واقع لا ننكره وابن شرعي لسينما تعامل "الفيلم" كوسيط ترفيهي
في المقام الأول وتوفر شروط التجارة وإن جارت علي الفن ولجأت إلي
الخشونة اللفظية والغلظة في الأداء وتراعي الصنعة والحرفية ومزاج
المتفرج قبل أي شيء.
ولكن ورغم هذا الجنوح نحو "التجارة" فالفيلم معبأ بروح الواقع
وأزمة الإنسان المحاصر بشح هذا الواقع وأوجاعه اللعينة.. و"ريجاتا"
الإنسان المصري سمكري السيارات ابن الحرام. الذليل والمطعون في
كبريائه مازال يحمل رغم أي شيء مبررات الحلم وأسباب الهروب ويتوق
إلي الحنان ولا يتخلي عن أمه. وأمه المتعوسة و"الموكوسة" مثل أمهات
كثيرات ضافت بهن الطرق ووجدن الخلاص في الموت.
والمأساة علي الجانب الآخر أن السينما وأصحاب رءوس الأموال
المترفين يجدون في هذا الدرك الأسفل في بناية المجتمع ملعبا
للاستثمار ومصنعا لتعبئة الهموم في أفلام وأتمني ألا يطول الأمر
كثيرا ونخلص من العشوائيات في الواقع والسينما.
سينما 2015 تقدمها: خيرية البشلاوى
"الصبية
المقتولة" حكاية من ألف ليلة تضع الأساس لفيلم "الجريمة"!
حكاية من حكايات "ألف ليلة وليلة" تعتبر أو جريمة غامضة مثيرة
ومشوقة. وضعت الأساس في أسلوب معالجة "فيلم الجريمة" الذي يعتبر
نوعية جذابة جدا في الإنتاج السينمائي العالمي.. الحكاية حققت شهرة
وأصبحت معروفة باسم "التفاحات الثلاثة".. وقد روتها شهر زاد في
واحدة من لياليها لإلهاء الملك شهريار.
تقول الحكاية: في ليلة من الليالي عثر صياد فقير علي صندوق مغلق
ثقيل في نهر دجلة بالعراق.. باع الصياد الصندوق للخليفة العباسي
هارون الرشيد الذي أمر بكسره لمعرفة ما فيه فاتضح أن الصندوق يضم
جثة لامرأة شابة قطع جسدها أجزاء صغيرة.. وفي الحال أمر الخليفة
هارون وزيره جعفر ابن يحيي أن يقوم بحل لغز الجريمة. ويبحث عن
القاتل ويأتي به. وحدد وقتا لتنفيذ الأمر إذا لم يلتزم به سوف يقطع
رأسه.
"من
فعلها"؟؟ أو بالانجليزية
"Who do it?)
هذا هو السؤال الذي تنطلق حركة البحث عن المجرم في الأفلام
البوليسية الحديثة أو ما يطلق عليها
"Thriller)
أو
"Detective).
حاول الوزير جعفر الوصول إلي الفاعل ولكنه فشل فأمر الخليفة بقتله
وقبل أن يتم تنفيذ الحكم حدث ما يغير مسار الحبكة حيث ظهر رجلان
أحدهما شاب وسيم والثاني رجل عجوز وكلاهما يدعي أمام الخليفة أنه
القاتل. وكلاهما يحاول أن يقنع الخليفة بأنه بالفعل القاتل واستمر
الجدل إلي أن استطاع الشاب الوسيم أن يسوق البراهين التي تؤكد أنه
الفاعل حيث قام بوصف الصندوق والقتيلة التي عثروا عليها بداخله.
وكشف الشاب عن كونه زوج المرأة المقتولة وأن الرجل العجوز والدها
وأنه حاول بادعائه أن ينقذ زوج ابنته.
وبدافع الفضول سأل الخليفة هارون الزوج القاتل عن دوافع قتله
لزوجته فحكي الزوج الأسباب في مشاهد "فلاش باك" تصور ما جري من
أحداث قبل اكتشاف الصندوق المغلق. وراح يعدد مزايا المرأة كزوجة.
كأم لأطفاله الثلاثة. وكيف أنها في ذات يوم طلبت منه ثلاث تفاحات
من النوع النادر وصفوها علاجا لمرضها الذي طال.. وراح الزوج الشاب
يصف الرحلة المضنية التي استغرقت أسبوعين بحثا عن شجرة التفاح
النادر إلي أن وجدها في حديقة قصر الخليفة.
وعاد الزوج إلي بغداد وبعد فترة لم يجد الزوجة قد أكلت التفاح
أثناء مرضها فعاد إلي دكانه للعمل. وفي هذه الأثناء اكتشف "عبدا"
يمر إلي جواره وفي يده تفاحة من نفس نوع التفاح النادر الذي عثر
عليه بعد رحلة طويلة وجهد كبير فسأله عن كيفية حصوله علي التفاح
فقال إنه أخذ التفاحة من حبيبته التي كان معها ثلاث تفاحات أحضرها
زوجها من شجرة في حديقة الخليفة بعد رحلة استغرقت أسبوعين.
فارتاب الشاب في إخلاص زوجته واندفع عائدا إلي المنزل وسألها كم
تبقي معها من التفاح الذي أحضره لها فاتضح أن التفاح ينقصه واحدة
فاهتاج وسحب سكينه وقتلها ثم قطع جسدها إلي أجزاء. ثم استرسل في
وصفه لكيفية الخلاص من جثتها وأيضا من الأدلة التي تشير إلي فعلته
فراح يلف كل قطعة من جسد الزوجة في ملاءة. أو شال. أو قطعة من
القماش حتي أخفي جسدها كله ثم وضعه داخل الصندوق وأحكم إغلاقه
وحمله وألقاه في نهر دجلة ومضي.
وعند هذه النقطة من حكاية الزوج حدث ما يغير مسار الأحداث مرة
ثالثة فبعد أن عاد الزوج إلي منزله اعترف ابنه الصغير بأنه سرق
واحدة من التفاح ولكن "العبد" خطفها من يده وفر هاربا واعترف الابن
أيضا بأنه حكي للعبد كيف أن والده بذل جهدا وأمضي أسبوعين في
الرحلة بحثا عن الثلاث تفاحات.
وبدافع الشعور بالذنب علي ما اقترفه في حق زوجته توسل الزوج
للخليفة أن يقطع رأسه عقابا علي جريمته.
وتعاطفا مع الزوج الشاب رفض الخليفة عقابه ولكنه بدلا من ذلك كلف
وزيره جعفر بمهمة جديدة ألا وهي العثور علي هذا العبد الخسيس الذي
تسبب في هذه المأساة وعليه أن يحضره في غضون ثلاثة أيام وإلا قطع
الخليفة رأسه.
ومرة أخري يفشل الوزير جعفر في العثور علي العبد قبل المدة المحددة
فاستدعاه الخليفة حتي يتم إعدامه بسبب هذا الفشل وبينما يقوم جعفر
بوداع أفراد أسرته قبل إعدامه وأثناء عناقه الأخير لابنته الصغري
حدث بمحض الصدفة أن شعر بشيء في جيبها اتضح انه تفاحة مكتوب عليها
اسم الخليفة. وهنا في هذه النقطة تتحول الحبكة في اتجاه آخر حيث
حكت الصبية الصغيرة ابنة الوزير أن هذه التفاحة أعطاها لها العبد
"ريحان" الذي يعمل في قصرهم.. وهنا أدرك جعفر أن عبده "ريحان" الذي
يعمل عنده هو شخصيا الجاني المطلوب وثم تنتهي القضية. ويذهب الوزير
إلي الخليفة هارون ويتوسل إليه أن يغفر لعبده وأنه في مقابل ذلك
سوف يقص عليه حكاية "نور الدين علي وابنه بدرالدين حسن".
هذه الحكاية التي جاءت ضمن حكايات ألف ليلة وليلة منذ قرون مثلت
إلهاما لكثير من الروائيين الغربيين إذ اقتبسها المؤلف الألماني
هوجو فون هوفمستاهل عام "1897" في قصة بعنوان "التفاحة الذهبية"
ويشار أيضا إلي أن حكاية الزوج الشاب الذي رواها للخليفة مستعينا
بطريقة العودة للوراء "فلاش باك" قد تم اقتباسها في حكاية مشابهة
بالإيطالية عام "1565" وانها تتشابه مع حكاية "عطيل" التي ألفها
ويليام شكسبير "1603" ولم يتوقف تأثير "ألف ليلة وليلة" علي الأدب
والسينما عند نوعية واحدة وإنما امتد إلي جانب فيلم "الجريمة" إلي
نوعية أفلام "الرعب" و"الخيال العلمي" فقد احتوت الحكايات علي
عناصر ملهمة ومؤثرة تناولتها العديد من الدراسات استثمرها الأفلام
السينمائية حيث استعانت بها في أعمال شهيرة نتذكر حكايات "علاء
الدين والمصباح السحري" و"السندباد" و"علي بابا" وأفلام الفانتازيا
وقصص القصور والسلاطين الخ.. الخ. |