بعد أن حمي وطيس موسم توزيع الجوائز على كبار نجوم هوليوود،
بانتهاء توزيع جوائز جولدن جلوب واتحاد ممثلي هوليود ونقاد السينما
الأمريكان، ومع استعداد الكل لقدوم جوائز الأوسكار هذا الشهر،
سينتظر المغامير الذين يقومون بصناعة النجوم طويلًا، حتى يحل أوان
تكريمهم في شهر سبتمبر القادم بعد انتهاء موسم الجوائز بتوزيع
جوائز إيمي للأعمال التلفزيونية، ليحصلوا هم أيضًا على جوائز تعترف
بفضلهم وتقدره، وهي جوائز لن ينقص من قدرها أنها معنوية أو رمزية،
فأن تحصل على فتات التكريم خير من أن يتواصل تجاهلك الأليم.
غالبًا يكون أقصى ما يحصل عليه الذين يقومون بصناعة النجوم من
مدربي تمثيل وإلقاء ورقص وغناء من تكريم، هو تلك الكلمات اللطيفة
العابرة التي ربما يلقيها بعض النجوم عند حصولهم على الجوائز مثنين
على ما قدمه لهم مدربوهم من مساعدة، أو متذكرين أول شخص فتح لهم
أبواب الفرصة ليخطوا أولى خطواتهم نحو النجومية، وفيما عدا ذلك لم
يكن هناك سعي حقيقي لتكريم صناع النجوم ولو من خلال منافسة
يخوضونها على جوائز كالتي ينالها النجوم.
كان يمكن أن يستمر ذلك الوضع المجحف إلى الأبد، لولا تلك المبادرة
الطيبة التي اتخذتها مجلة (باك ستيج) الفنية المتخصصة، والتي قامت
قبل سنوات بالإعلان عن جوائز تقدم لصناع النجوم في كل من مدينتي
نيويورك ولوس أنجلوس قطبي الفن في الولايات المتحدة، يقوم باختيار
الفائزين فيها جمهور المجلة وأغلبه من الباحثين عن فرصة في السينما
والمسرح والتلفزيون والغناء، حيث تقدم لهم المجلة في أعدادها
موضوعات متخصصة لمساعدتهم في اتخاذ خطواتهم الفنية الأولى،
بالإضافة إلى تقديمها أبوابًا إعلانية تمثل حلقة وصل بينهم وبين
الباحثين عن المواهب الجديدة، وهو ما يجعل من جمهورها الحكم الأهم
والأصدق في جائزة كهذه.
الغريب أن حظ هذه الجائزة لم يكن جيدًا، حيث توقفت مراسمها في
العام قبل الماضي؛ لأنها لم تجد الاهتمام الكافي في عالم يخطف فيه
الأضواء من يتصدرون المشهد وليس من يساعدهم على تصدره، لكن الجائزة
عادت في العام الماضي وشارك فيها عدد كبير من جمهور المجلة بحماس،
ولاقت اهتمامًا إعلاميًا أفضل على الأقل، وبدأت تراود القائمين على
الجائزة آمال في أن تحظى بدعم كبار النجوم، ليصبح في مقدورهم في
يوم من الأيام أن يقدموها في حفل تغطيه وسائل الإعلام الرئيسة،
لإلقاء الضوء على آليات صناعة النجوم التي تغذي هذا الكم الضخم من
الأعمال الفنية المتنوعة التي يشاهدها الملايين حول العالم.
توقفت من بين تجارب الفائزين في العام الماضي، عند تجربة تشامبرز
ستيفنز الذي فاز بترشيحات قراء المجلة له في خمسة فروع من أفرع
الجائزة، وهو ما يكشف غزارة نشاطه حيث يقوم بالتدريب على تقنيات
تجارب الأداء التي يتقدم لها الممثلون قبل حصولهم على الأدوار،
ويقوم أيضًا بتدريب الأطفال على التمثيل، ويكتب في تقنيات التمثيل،
والجديد بالنسبة لي أنه يقوم بتدريب الممثلين على أداء
المونولوجات، وهو مصطلح يرتبط لدينا دائمًا بكلمة المونولوجوست
الذي يقدم الغناء الفكاهي والنكت، لكنه طبقًا للتعريف الحرفي يعني
(الخطاب الأحادي) حيث يقف الممثل على المسرح أو أمام الكاميرا
متحدثًا بمفرده كأنه يتحدث مع نفسه، فيتمكن من خلال ما يقوله من
التعبير عن حالات شعورية مختلفة تبرز إمكانياته وموهبته.
يقول تشامبرز إن ما دفعه للتخصص في هذا المجال هو تجربته في العمل
في مهنة مدير الكاستنج (اختيار الممثلين للأدوار)، وهي مهنة لا
يقوم بها المخرج أو مساعدوه كما يحدث لدينا في السينما العربية
غالبًا، بل يوجد لها مخرج متخصص يوضع اسمه على التيتر منفردًا
تأكيدًا على أهميته، وأنه لاحظ أن أغلب الممثلين الشباب عندما
يقفون في جلسات اختيار الأدوار يلجئون لتمثيل مشاهد شهيرة سواء
كانت مسرحية أو سينمائية، ولذلك لا يوفقون في التعبير عن أنفسهم
وإبراز مواهبهم.
ومن هنا قرر أن يدرب هؤلاء على إجادة فن التعبير عن أنفسهم من
خلال مونولوجات يكتبونها بأنفسهم لتصل إمكانياتهم الحقيقية بشكل
كامل لمن يفكر في اختيار الأدوار، وهو ما يؤكد عليه أيضًا ديفيد
نيوار الذي فاز بالجائزة أيضًا بسبب تميزه في التدريب على
المونولوج في نيويورك، حيث يصف المونولوج بأنه أصعب ما يمكن على
الفنان عمله؛ لأنك يجب أن تشعر من يشاهدك بأنك لم تبدأ من نقطة
محددة بل إنك تحدثت بشكل تلقائي للتعريف عن نفسك، مؤكدًا أن دوره
كمدرب لا يعني أبدًا أنه يختار للفنان شخصيته، بل يساعده فقط على
إظهارها للناس دون تشويش.
لفت انتباهي أن من بين الفائزين أيضًا مركز متخصص له فرعان في
نيويورك ولوس أنجلوس أيضًا، يقوم بمساعدة الممثلين الذين بدأوا
طريقهم الفني بالفعل على تطوير أدائهم خصوصًا عندما تأتيهم أدوار
تتطلب مجهودات خاصة إضافية، ولأن الممثل في المجتمعات المتقدمة
فنيًا لا يتعامل مع نفسه بوصفه ملهمًا يهبط عليه الفن من السماء
مباشرة دون مجهود، لن تستغرب كيف يلتحق بهذا المركز فنانون مشهورون
حصلوا على جوائز الأوسكار أشهر جوائز فن التمثيل، في نفس الوقت
الذي يدرس في نفس المركز فنانون لم يحصلوا إلا على أدوار صغيرة
ويرغبون في تحسين أدائهم ليحصلوا على أدوار أفضل.
أسعدني أيضًا أن يكون من بين الفائزين مكتبة، هي مكتبة الدراما
التي يعرفها كل المهتمين بالدراما وفنونها في نيويورك، والتي تقع
غرب الشارع 40 في قلب منطقة مانهاتن، كنت قد قرأت كثيرًا عنها قبل
أن أزور نيويورك، وتصورت أنها مكتبة شديدة الضخامة، واندهشت عندما
زرتها ولم أجدها ضخمة المساحة، لكنني انبهرت بتنظيمها وموسوعية
العاملين فيها، وقدرتهم على توفير كل ما ترغب فيه إن لم يكن
موجودًا لديهم وقت زيارتك، بالإضافة إلى أنها تحولت إلى مركز إشعاع
ثقافي فيما يخص فنون الدراما، حيث تنظم من حين لآخر لقاءات مع أبرز
الفنانين الناجحين في مجالات المسرح والسينما والتلفزيون، وتبيع
تذاكر مخفضة للراغبين في حضور أهم عروض مسارح برودواي.
المؤسف أنك لا تستطيع أن تحلم بوجود جوائز كهذه في بلادنا العربية؛
لأنه لا توجد لدينا مؤسسات لصناعة النجوم، فالأمر كله معتمد على
تجارب شخصية، إما يتحمل مسؤوليتها الفنان الذي يظل يطارد حلمه حتى
يصل إلى النجومية بعد أن ينجح في عمل فني، أو منتج ما اقتنع به
وقرر دعمه، أو مخرج رأى أنه الأنسب لتقديم عمله، ويندر أن تجد من
يصل إلى النجومية خارج هذه الدوائر حتى لو كان خريجًا من المعاهد
الفنية المتخصصة التي كان يفترض أن تكون هي المنفذ الأهم والأبرز
لتصدير نجوم جدد في كافة المجالات الفنية، وأقول كان لأن الأمر لم
يعد كذلك في الغالب الأعم.
صحيح أن هناك تجارب فردية شهدها الوسط الفني في مصر مثلًا خلال
السنوات الأخيرة، حاول من أقاموها المساهمة في صناعة نجوم المستقبل
عبر مناهج إعداد أكاديمية وعملية، ربما كان أشهرها تجربة مدرب
التمثيل محمد عبد الهادي التي لمعت لفترة ثم خفت بريقها، وتجربة
المخرج الكبير رأفت الميهي في عمل أكاديمية فنية في استديو جلال،
لكن هذه التجارب وغيرها ينطبق عليها مثل “الشاطرة تغزل برجل حمار”،
وهو ما لا ينفي عنها الشطارة، لكنه أيضًا لا ينفي أن وجود رجل
الحمار في الصورة لا يجعلها براقة إطلاقًا.
“السينمائيون
المستقلون”.. أول مكاسب “المواطن الصحفي” بعد ثورة 2011
عادل القاضي – التقرير
تعوض فساد السينما وأبطالها شبان وأفلامها 15 دقيقة بتكلفة زهيدة
تجربة جديدة، بدأها عدد من الشباب السينمائيين، تمثلت في عرض أفلام
منتجة بإمكانيات بسيطة وعبر التصوير الديجيتال، بدأت تنتشر في مصر
عقب ثورة 2011، مع تنامي ظاهرة قيام الشباب بتصوير الأحداث
المختلفة للثورة وما تبعها من تعاظم التصوير الخاص، الذي انتقل
لإنتاج أفلام قصيرة تعرض مجانًا؛ وتلقت استحسان العديد من رواد
العروض الجديدة، وأغلبهم من الشباب.
التجربة بدأها كيان جديد يدعى “جمعية السينمائيين المستقلين”، وهي
كيان ناشئ لا يتجاوز عمره عامًا واحدًا، لكنه استطاع جذب الانتباه
لأعمال شبان لا تتجاوز أعمارهم 25 عامًا والترويج لها داخل مصر
وخارجها. وهي جمعية انطلقت 16 نوفمبر الماضي، كأول جمعية تضم
السينمائيين المستقلين، وبدأت عروضها في فبراير الجاري وسط استحسان
للأفلام المعروضة.
ويرى نقاد وخبراء سياسيون أن تجربة السينمائيين المستقلين بمثابة
أول مكاسب تنامي ظاهرة “المواطن الصحفي”، التي ظهرت قبل ثورة 25
يناير 2011، ولعبت دورًا في توثيق أحداث الثورة؛ عبر الصورة
والأفلام القصيرة، ثم تطورت لقيام شبان بإنتاج أفلام قصيرة
بإمكانيات ضعيفة وعرضها بأفكار جديدة، ساعدت على إقبال الشباب
عليها.
حيث تأسست الجمعية غير الهادفة للربح، في مارس 2014، بغرض جمع
السينمائيين المستقلين والعاملين في الأفلام القصيرة، سواء
التسجيلية أو الروائية؛ تحت مظلة واحدة، وتعريف بعضهم ببعض، والبحث
عن فرص لعرض الأفلام وتسويقها جماهيريًا.
ودعت جمعية السينمائيين المستقلين لحضور عروض الأسبوع الأول لشهر
فبراير، بقصر ثقافة السينما بجاردن سيتي، والذي يعرض من خلاله
ثلاثة أفلام قصيرة: “شيرذاد، زيارة، فلوماستر أحمر”، منذ أمس
الاثنين 2 فبراير؛ والدخول بدون تذاكر.
وجذب العرض، الذي جرى أمس، لأفلام مستقلة قصيرة، من صنع شبان في
بداية مشوارهم الفني؛ جمهورًا كبيرًا في القاهرة، في إشارة إلى مدى
تقبل المشاهدين لهذا التوجه السينمائي الآخذ في التصاعد في مصر
خلال السنوات القليلة الماضية.
حيث ساهم توثيق كثير من الشبان للأحداث المختلفة التي شهدتها مصر
منذ سقوط نظام حسني مبارك، في 2011، إضافة لتعثر الإنتاج السينمائي
الكبير، بسبب الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية؛ في تنامي
الشغف بالتصوير الرقمي “الديجيتال”.
ويطلق مصطلح “السينما المستقلة” على الأفلام المنتجة بميزانيات
قليلة وأبسط الإمكانيات، بعيدًا عن شركات الإنتاج الكبيرة العاملة
بالمجال الفني.
وفتح قصر السينما، التابع لوزارة الثقافة، أبوابه لعرض أفلام مثل:
“شيرزاد”، و”فلوماستر أحمر”، و”الزيارة”، و”آخر النهار”، و”حصالة”،
و”الحرامي”، و”وطن لكن مرسوم”.
ونال فيلم “شيرزاد”، للمخرج أحمد نجم وبطولة الممثلة بتول الحداد؛
استحسان المشاهدين، الذين تراوحت أعمارهم بين 10 أعوام وأكثر من 60
عامًا، وصفقوا طويلًا بعد عرضه. وهو فيلم مدته 15 دقيقة، وتكلف 15
ألف جنية فقط، ويدور حول فتاة فقدت أمها لحظة ميلادها وتعاني أشكال
ضغط مختلفة وسط أسرة ذكورية تضم أربعة أشقاء إضافة للأب، وعرض
الفيلم من قبل في مهرجان فيلنج في اسكتلندا ومهرجان بورسعيد
السينمائي.
وقال المخرج هيثم عبد الحميد، رئيس الجمعية، إن: “الفكرة بدأت من
بعض الأعضاء المؤسسين، الذين كانوا يبحثون عن أماكن لعرض أفلامهم
ومن بينها قصور الثقافة، لكن واجهتهم عقبة أن القانون ينص على أن
الجهات الحكومية لا تتعامل مع أفراد بل جمعيات أهلية أو مؤسسات
رسمية؛ ومن هنا قررنا تأسيس الجمعية“.
ويقول: “إنه لا يشترط أن يكون صناع الفيلم من أعضاء الجمعية حتى
نتبنى البحث عن أماكن عرض لهم أو إشراكهم في مهرجانات سينمائية.
الجمعية تقوم بذلك مجانًا“.
السينما القديمة والجديدة
وركزت السينما المصرية التقليدية، ما قبل ثورة 2011، على التعبير
عن أنظمة الحكم المتعاقبة، ولكنها اهتمت أيضًا برصد قضاياه الحيوية
المتمثلة في: الفقر ومشكلات المهمشين في المجتمع ومشكلات المرأة
وقضايا الشباب ومشكلات الإسكان وقضايا المخدرات وقضايا الشرف وقضية
الإنجاب ومشكلات الأسرة وقضايا الإقطاع وفساد القطاع العام والتطرف
الديني.
أيضًا تناولت السينما المصرية التقليدية العديد من قضايا المجتمع
المصري الاجتماعية، وأيضاً العديد من القضايا السياسية التي شهدها
المجتمع على طول تاريخه المعاصر، منذ فترة ما قبل ثورة يوليو عام
1952 وحتى ثورة يناير 2011؛ مثل قضايا: الاحتلال الأجنبي
والاستعمار، الأحزاب السياسية وقضية الديمقراطية، البوليس السياسي
والمباحث العامة وأمن الدولة، التعبير عن الرأي وحرية الإبداع،
مراكز القوى، الجاسوسية والتخابر مع الجهات الأجنبية، النقابات
العمالية والمهنية، ممارسة الحقوق السياسية، قضية حق المواطنة
وحرية العقيدة، وغيرها من القضايا التي تتصدى لها السلطة الحاكمة؛
إما بالحل أو بالمواجهة مع خصومها، وفق أيديولوجيتها ومصالحها، بغض
النظر عن نتائج الصدام بينها وبين الجماهير التي تدافع عن حقوقها
ومطالبها المشروعة، ما أنتج العديد من الظواهر السينمائية،
الإيجابية والسلبية، خلال حقب حكم عبد الناصر والسادات ومبارك.
إلا أن السينما التقليدية شهدت عشوائية وتخبطًا عقب ثورة يناير،
ولجأ القليل من المنتجين لإنتاج أفلام عن الثورة، تبين قمع الشرطة
وما جرى في ميدان التحرير؛ أبرزها فيلم “حظ سعيد”، الذي قام
ببطولته الممثل أحمد عيد الذي شارك في ثورة 25 يناير ونزل في
مظاهراتها، ولكنه رفض انقلاب الثالث من يوليو ضمنًا؛ ما دفع صحفًا
لاتهامه بأنه مقرب من الإخوان.
ودارت أحداث الفيلم حول شخصية “سعيد”، أحمد عيد، الذي يسعى جاهدًا
لإتمام زواجه من فتاة أحلامه، ويقدم طلبًا للحصول على شقة ضمن أحد
مشروعات الشاب قبل الثورة، ولكن وبعد الحصول على الموافقة؛ يفاجأ
بأحداث ثورة 25 يناير وانخراطه فيها من حيث لا يدري، وهو ما يمنعه
من استلامها.
ويبدأ معاناته في محاولة إنقاذ شقيقته وفاء من الاستمرار ضمن صفوف
الثوار بميدان التحرير، إلا أنه يفاجأ بنفسه وسط تلك الصفوف ويتعرض
للضرب من الشرطة، التي تعتقد أنه من الثوار، وتتوالى الأحداث مع
نزول الجيش للشوارع ومحاكمة مبارك ونجليه ونظامه السابق؛ حتى يتمكن
سعيد من الزواج وإنجاب ثلاثة أولاد، أفكارهم مختلفة ما بين
الليبرالي “حمزاوي”، والسلفي “بكار”، والإخواني “بديع”، إشارة إلى
تقسيم مصر.
ولكن منتجي السينما المصرية لم يهتموا بإنتاج أفلام عن الثورة،
وركزوا على أفلام المقاولات الضعيفة، التي تركز على الغرائز؛ بسبب
العزوف عن السينما لأسباب سياسية وغلق الكثير من السينمات أبوابها.
واستمر هذا التوجه، ما دفع كثيرًا من الشباب، الذين ظهروا مع
الثورة وأبدعوا في تصوير كل شيء عنها، يتجهون للأفلام القصيرة التي
لا تحتاج لتكاليف كبيرة؛ حتى تطور الأمر لإنتاج أفلام اجتماعية.
ويرجع د.أحمد عبد الله، الخبير الاجتماعي والنفسي، هذه الظاهرة؛
إلى فكرة “المواطن الصحفي”، الذي ظهر قبل وبعد الثورة ليوثق
بكاميراته أو بكاميرا الموبيل أحداث الثورة، ثم انتقل ليوثق ويصور
أشياءً أخرى.
ويقول إنه: “كان هناك اهتمام كبير من قبل جماعات وهيئات ومؤسسات
اجتماعية وبحثية غربية برصد وتفسير هذه “المساحات الإعلامية
الجديدة”، أو الظاهرة الشبابية الخاصة بالإبداع الشبابي واستخدامات
الهاتف الخلوي والمدونات بين الشباب؛ بغرض التواصل الحضاري بين
الشرق والغرب، واستشراف أشكال المستقبل العربي في ظل هذه المساحات
الجديدة”.
ويشير “عبد الله” إلى أن هذه الثورة المعلوماتية جعلت كل مواطن
يحمل كاميرا محمول عادية، بمثابة مواطن أو مخبر صحفي، كانت لديه
القدرة على فضح أي تجاوزات أمنية أو سياسية أو اجتماعية، بل وبثها
عبر الإنترنت بالصوت والصورة، وأن الصورة هنا هي معيار المصداقية
الجديد الذي يصعب تكذيبه، وأن هذا الأمر تطور مستقبلًا، مع توالي
كشف تكنولوجيا اتصالات حديثة، وأنه أشبه ما يكون بثورة صناعية
جديدة؛ مع ما يترتب على هذه الثورة الثانية مثل الثورة الأولى من
تداعيات اجتماعية وسياسية، وسينمائية أيضًا.
في ذكراها الأربعين.. كوكب الشرق لا تغيب
أفنان فهيد – التقرير
وكانت صيحة الملايين.. الوداع يا ست! “الوداع يا ثومة”
هكذا كتبت الصحف الرسمية في الثالث من فبراير عام 1975. عندما
فارقت “أم كلثوم” الحياة، وفي الثالث من فبراير لهذا العام تكون قد
غابت عنّا كوكب الشرق مدة أربعين عامًا. وإن كانت فارقتها بشكل
جزئي، فـ”أم كلثوم” التي نعرفها بقيت كما هي في آذان وعيون محبيها،
تغني وتشدو “غلبت أصالح“، “أنت عمري“، “فات الميعاد” وغيرها. فقط،
لم تعد سيدة الغناء قادرة على تقديم المزيد، هذا هو الموت الجزئي.
حفرت “أم كلثوم” اسمها على حجر صلب، حفر غائر لم تستطع السنوات أن
تمحيه. ظلت يعرفها الصغير قبل الكبير، ونشأ على صوتها أجيال ولدوا
بعد وفاتها.
“أم كلثوم” الأسطورة الكاملة، فنشأتها التي لم تكن سهلة وصوتها
القوي البديع حقق لها تلك الأسطورة. وحدها “أم كلثوم” تستطيع
الغناء في مسرح ضخم ويسمعها الجمهور بأكلمه دون الحاجة لميكروفون!
فتلك الميكروفونات التي نراها في حفلاتها كانت للتسجيل الإذاعي
فقط. وحدها “أم كلثوم” التي كانت تغني من الحجاب الحاجز لا من
الرئتين.
لم يجار أحد قوة صوت “أم كلثوم” أو قاربها إلا “أسمهان“، والتي
توفت في مقتبل عمرها، ولم يسمح لها الزمن برسم نفس الأسطورة
لنفسها.
كتب الصحفي والمؤرخ الفني “محمد عوض” كتابًا عن “أم كلثوم” أسماه
“أم كلثوم التي لا يعرفها أحد“. نصف الكتاب الأول تحكي “أم كلثوم”
عن نفسها، وطفولتها ونشأتها، وكيف أنها لم تحب يومًا الأحاديث
الصحفية، ولكن “محمد عوض” أقنعها بضرورة مثل هذا الكتاب ليفسر
شخصية الأسطورة التي نقف أمامها. أما نصف الكتاب الثاني فتعقيب من
الكاتب نفسه، وصدر الكتاب عن مؤسسة أخبار اليوم.
مرت حياة “أم كلثوم” بأكثر من مرحلة قبل أن تصل إلينا بصورتها التي
نعرفها الآن.
مرحلة ترديد الأغاني
بعد تقديم الكاتب، تبدأ “أم كلثوم” في الحديث عن نفسها في فصل
بعنوان “قرار من أبي لن نعود إلى القاهرة“. تقول: كنت أغنى بلا
إحساس ولا شعور! كانت تردد الأغاني التي تسمعها من أبيها كما يردد
التلميذ جدول الضرب. إلى أن سمعت الشيخ “أبو العلا” وعلمها أن تفهم
الكلام الذي تغنيه، وتشعر به، وعلى هذا الأساس تغني.
ومن وقتها خرجت علينا “أم كلثوم” التي تغني بكل جوارحها، ويتمايل
معها المستمعون.
مرحلة الخروج من القرية إلى القاهرة
سنة 1926، عندما كانت “أم كلثوم” تغني في فرح من أفراح القاهرة،
كانت تغني للفقراء في الليلة السابقة لليلة الفرح، في حين أن “صالح
أفندي عبد الحي” هو الذي يغني في الليلة الرئيسة؛ ففي القاهرة غناء
للأغنياء، وغناء للفقراء.
ما لبثت “أم كلثوم” أن بدأ يذيع صيتها في أنحاء العاصمة، مما ولّد
العداء بينها وبين السيدة “منيرة المهدية“، والآخيرة استعملت كل
الطرق التي تليق والتي لا تليق لتدمير أسطورة “أم كلثوم” قبل أن
تبدأ؛ فبدأت بنشر الشائعات عنها وعن الشيخ “أبو العلا” في مجلات
الفن، مما أدى إلى وقوع خلاف بينها وبين أبيها، الذي كان يريد
العودة فورًا إلى القرية، إلى أن ثبتت براءة “أم كلثوم” من تلك
الشائعات المغرضة.
ظهرت “أم كلثوم” في القاهرة في وقت سادت فيه الأغاني البذيئة
والمسفّة التي كانت ترضي الجمهور، ولكن “أم كلثوم” حاولت أن تبتعد
عن هذا النوع من الأغاني الرديئة ونجحت.
مرحلة الأسطوانات والحفلات
بعد أن صُنفت “أم كلثوم” على أنها مطربة من الدرجة الثالثة في مدة
قصيرة من بدء مشوارها في القاهرة -مما يعني أن هذا نجاح كبير
لمغنية في سنها وفي المدة التي ظهرت فيها- سعدت “أم كلثوم” سعادة
بالغة بهذه النتيجة “ليس مهمًا أن أكون مطربة من الدرجة الثالثة،
المهم ألا أبقى في الدرجة الثالثة“. بدأت شركات التسجيل في التهافت
على الصوت الجديد، وبالفعل بدأت في تسجيل الأغاني الصغيرة أو
الطقاطيق كما كانت تسمى في ذلك الوقت.
هنا أول
اسطوانة مسجلة لأم
كلثوم.
وذاع صيت “أم كلثوم” أكثر وأكثر؛ إلا أن الربح المادي العائد
عليها كان ضئيلًا جدًا، ولكن الربح المعنوي كان كبيرًا، فعُرض
عليها أدور في السينما، وبالفعل قبلت بعضها ومنها فيلم “فاطمة”
المُنتج عام 1946؛ إلا أن أم كلثوم لم تكمل في مجال التمثيل وفضلت
التركيز في الغناء.
مرحلة الرسوخ والوصول للقمة
صارت “أم كلثوم” في صورتها التي نعرفها الآن. الهرم الرابع في مصر
والوطن العربي وفي الغرب. نالت العديد من النياشين والأوسمة من مصر
ومن باقي الدول العربية، ليس فقط لبلوغها الدرجة الأسطورية في
الغناء؛ بل ولجهودها الوطنية، فبعد نكسة 67 قامت أم كلثوم بحفلات
في مصر وخارجها وكان عائدها المادي (كله) لإعادة بناء الجيش،
وأقامت العديد من المزادات تحت إشرافها والعائد المادي كان للجيش
أيضًا، وفي أحد المزادات مسكت حفنة من تراب المنصورة وقالت هذا
تراب وطننا ولا يوجد أغلى منه فتهافت عليه المشترون!
العاشق اللي حب واتلوّع ولا طالش
“أحمد رامي“، كيف نتحدث عن “أم كلثوم” ولا نتحدث عن العشق
الأسطوري الذي عانى منه “أحمد رامي“. فأحمد رامي كاتب معظم أغانيها
-وخصوصًا المدوّية منها- كان يهيم عشقًا بـ”أم كلثوم“، وسئل أكثر
من مرة لماذا لم يطلبها للزواج وكانت إجاباته متنوعة، فمرة يقول:
“أنا رجل شرقي وإن تزوجت أم كلثوم فلن أدعها تكمل في الغناء“، ومرة
يقول: “إن تزوجت أم كلثوم فلن أكتب لها الأغاني التي أكتبها الآن
فكيف أكتب هجرتك لأجل ما أنسى هواك، ونحن نعيش تحت سقف بيت واحد!“.
رغم أنه لم يصارحها يومًا إلا أن الجميع كان يعرف بالحب من طرف
واحد الذي غرق فيه “رامي“، ومنهم زوجته التي إذا حضرت حفلة لأم
كلثوم تذهب مع صديقاتها لا مع زوجها وإن قابلته هناك لا تتحدث معه
ولا كأنها تعرفه! كما أن “رامي” كان لا يغير مكانه أبدًا الكرسي
رقم 8 في كل حفلاتها والذي يتيح له أفضل رؤية وسماع للست.
ومن القصص الطريفة أن خصامًا وقع بين “أم كلثوم” و”رامي” فابتعد
عنها شهرًا و”أم كلثوم” لم تلق بالًا بالأمر، فكتب إليها: “غلبت
أصالح في روحي عشان ما ترضى عليك.. وأنسى سهدي ونوحي ولوعتي بين
إيديك” وأرسلها مع أحدهم، وعندما وصلت لأم كلثوم تأثرت من الكلمات
ودرجة الحزن التي وصل إليها “رامي” فذهبت إليه وقالت له: “أنت
زعلان يا رامي.. طب ما تزعلش حقك عليّا“، فتبخر حزن “رامي” في لحظة
واحدة.
الصوت الماسي والوداع الآخير
حافظت “أم كلثوم” على قوة صوتها حتى الرمق الأخير من حياتها وكانت
تغني بلا ميكروفونات حتى في حفلاتها الأخيرة، وكانت تجيب طلبات
الجماهير في الإعادة عندما يهتفوا: “تاني.. تاني” وتعيد الأغاني
مرارًا وتكرارًا، ورغم أن الأغاني نفسها قصيرة إلا أنها كانت
تعيدها على آذان السامعين لأكثر من ساعتين للأغنية الواحدة!
ولم تشهد مصر جنازة أكبر ولا أعظم من تلك التي أقيمت لـ”أم كلثوم“.
شارك فيها الأغنياء والفقراء، الوزير والغفير، وكل طبقات المجتمع،
وجاء من الخارج بعض جمهورها ليُشيعوها في الخامس من فبراير عام
1975، وإن دل ذلك على شيء فيدل على عظمة الشخصية ومحبتها في قلوب
جمهورها العظيم.
وُلدت بعد وفاة “أم كلثوم” بعشرين عامًا، إلا أنني لا أستطيع تمالك
مشاعري عند مشاهدة جنازتها، ولا فساتينها التي ارتدتها أثناء
إقامتها للحفلات في متحفها في قصر المانسترلي بالمنيل في القاهرة،
ولا المفكرات التي كتبت فيها الملحوظات بخط يدها. لم أحضر يومًا
واحدًا في حياتها، إلا أنني إن سنحت لي الفرصة بركوب آلة الزمن
سأعود لسنة من السنوات قبل وفاتها في الخميس الأول من أي شهر لأحضر
حفلة من حفلاتها فقط، وأعود لزمني أو أبقى هناك. |