السينما الفلسطينية..
رحلة الهروب من الملحمة والقداسة
(ملف خاص)
كتب: محمد المصري
في عمله الأدبي المهم «رأيتُ رام الله»، الذي يقفُ بين كونه رواية
أو سيرة ذاتية، يشكو الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي من أن
الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أخذ، ضمن الكثير مما أخذه، العلاقة
«العادية» بين كل فلسطيني ووطنه، حيث صارت «القدس وفلسطين» رمزاً
وقضية، ذو هم وقداسة، أكثر من كونها «وطناً» يألفه أهله أو يسأموه،
فـ«أسوأ ما في المُدن المُحتلة»، تبعاً لمُريد، «أن أبناءها لا
يستطيعون السخرية منها، من يستطيع أن يسخر من مدينة القدس؟!».
«العالم معني بوضعِ القدس، بفكرتها وأسطورتها، أما حياتنا في
القدس، وقدس حياتنا، فلا تعنيه»، من هُنا تحديداً، من وصفِ «مريد»،
تتشكل الصورة الذهنية التي يحملها العالم عن كل ما هو «فلسطيني»،
وبناءً على ذلك تتشكل الصورة الذهنية للفلسطيني عن نفسي، وعن كل ما
يحمل اسمه، لا يوجد «شيئاً» فلسطينياً عن أمورٍ عادية أو يومية أو
مُضْجِرة أو يمكن لها الحدوث في أيٍّ مكان آخر، فالـ«شيء
الفلسطيني» صار مُحَمَّلاً، بمجرَّد الهويَّة، بأنه حتماً عن
فلسطين القضية والاحتلال والمُقاومة.
ومن هنا، وبمجرد الوصف، يتشكل النمط، «الشعر الفلسطيني»، أو
«الرواية الفلسطينية»، حتى الطَّعام أو المَلْبس أو فريق الكرة،
كلها ترتبط بالقضية، ولا مَهرب من «قضيةٍ» بهذا الحجم، تخص وجوداً،
بكل معنى الكلمة، لوطنٍ، حتى لو كان المُقابل هو نَزع «العاديَّة»
بينه وبين مواطنيه.
«السينما الفلسطينية» لا تبتعد أبداً عن كلامِ «مُريد»، أو الحِمْل
الذي يَقَع على كَتفِ كل ما هو (فلسطيني)، بل أنه في حالةِ السينما
تحديداً ربما يكون الوضع أكثر حِدَّة، حيث كانت الوسيلة التي يفترض
بها، لعدة عقود، ولدواعِ الانتشار والشعبية، إيصال «صوت القضية
الفلسطينية» إلى العالم، بأكثر الصور الدعائية مباشرة، وهو شيء لم
يَفِد القضية، ولم يقدم (سينما فلسطينية) بشكل جيد، وربما كانت
البداية الحقيقية في وقتٍ متأخر، حين حاولت الأفلام أن تهرب من
«قداسة» القضية والمقاومة، والاقتراب أكثر من الناس، وعاديتهم، حتى
لو في سياقِ لا ينفصل أبداً عن أنها أرض مُحتلة.
في هذا الملف، ووصلاً، بشكلٍ زمني على الأقل، بالاعتداءِ والحرب
على غزّة، وتجاوز الشهداء لألف شهيد، سيكون هُناك مُحاولة لتأريخ
السينما الفلسطينية، تحديداً في موجتها الحقيقية التي تشكلت منذ
منتصف الثمانينيات، وهو ملف لا يهرب من «فلسطين القضية»، كما لم
يهرب «مُريد» في روايته أو مخرجو السينما الفلسطينية في أفلامهم،
وإن ظل الجميع ينتظر أوضاعاً تكون «فلسطين» فيها أكثر عاديَّة.
المرحلة الأولى: «لقد أخذوا من فلسطين السينما.. كما أخذوا كل شيء
آخر»
على الأغلب فإن مرحلة تشكل السينما في أغلب دول العالم ارتبطت
بالعشرينيات والثلاثينيات من القرنِ الماضي، وتطورت بصورة ملحوظة
خلال الأربعينيات.
قبل الاحتلال والحرب، لم تكن هناك «سينما فلسطينية» بالمعنى
الحقيقي للكلمة، ولكن كان هُناك مُحاولات جادة نحو نشأة تلك
السينما.
ومن المُصادفات الغريبة أن الأخوين بدر وإبراهيم لاما،
الفلسطينيان، اللذان يرجع لهما الفضل في بدايات السينما المصرية مع
فيلمهم الطويل «قبلة في الصحراء»، عام 1927، كانا في الحقيقة قد
تحركا من «تشيلي»، حيث هاجر أبويهما في مَطلع القرن، نحو فلسطين
وطنهم الأم، حاملين مُعدات تصوير وتحميض متقدمة لإنشاء سينما
وطنية، ولكن الصدفة وحدها أدت لتوتر الأوضاع السياسية في فلسطين
أثناء عودتهم، وتوقف الباخرة التي تحملهما في الإسكندرية، حيث
«شجعتهم الظروف والنشاط الثقافي المكثف في المدينة على البقاء
وممارسة مشاريعهم السينمائية المنتظرة»، وذلك تبعاً للمؤرخ سعد
الدين توفيق، في كتابه «قصة السينما في مصر».
تلك الصُّدفة حوَّلت دفَّة الصناعة العربية للسينما من فلسطين إلى
مصر، وتأخرت أي خطوات جادة نحو صناعة «فيلم» هناك، حتى قام إبراهيم
حسن سرحان، الذي يعتبر الرائد الأول لأي تأريخ لسينما فلسطين،
بصناعة معدات سينمائية بدائية بنفسه مطلع الثلاثينيات، وظل يطورها
حتى استطاع في النهاية تصوير «أول فيلم فلسطيني» عام 1935، وهو
فيلم وثائقي قصير عن زيارة الملك سعود بن عبدالعزيز إلى القدس
ويافا.
في السنوات التالية بدأت حركة سينمائية بطيئة في فلسطين، على يد
أسماء مثل أحمد حلمي الكيلاني ومحمد صالح الكيالي، و«الشركة
العربية لإنتاج الأفلام السينمائية» التي انتجت بجهودٍ فردية
مشتركة، ومن السيء أن الاحتلال طَمسَ كل معالم تلك الحركة الوليدة،
لدرجة الاختلاف في مخرج أول فيلم روائي فلسطيني، والذي حمل اسم
«أحلام تحققت»، حيث ينسبه البعض لإبراهيم سرحان بينما بعض المراجع
الأخرى، مثل الناقد والمؤرخ حسان أبو غنيمة، في كتابه «فلسطين
والعين السينمائية»، تنسبه لمخرج يحمل اسم خميس شبلاق، لا تتوفر
عنه أيضاً أي معلومات.
الشيء المُهم في تلك الفترة أن هناك أسماء وتجارب ومحاولات، كأي
سينما وَليدة، ولكن احتلال 1948 أخذ من فلسطين السينما مثلما أخذ
منها كل شيء آخر، والشُّتات الذي أصاب الناس حينها كنتاجٍ للعنف
والتهجير، أصاب كذلك سينمائيو الحركة الأولى: هاجر إبراهيم سرحان
إلى الأردن وأخرج أول فيلم روائي هناك بعنوان «صراع في جرش»، قبل
أن يهجرها إلى لبنان، وقيلَ أنه عَمل في «السَّمْكرة» في مُخيمِ
شاتيلا، «الكيلاني» هاجر إلى الأردن أيضاً، بينما ذهب «محمد
الكيالي» إلى القاهرة، ومات كل شيء يخص تلك المرحلة كاملة.
المرحلة الثانية: «السينما تعنى المُقاومة»
لم يَكُن هُناك أي حركة أو سياق يخص السينما الفلسطينية في الفترة
من 1948 بعد الاحتلال وحتى 1968، انشغلت المُقاومة بالمُقاومة،
والناس بمحاولة تجنُّب القتل المحتمل يومياً، لم يكن هُناكَ فائضاً
للاهتمام بصناعة صعبة ومُكلفة كالسينما.
الأمر تغيُّر في 1968، لعدة أسباب، على رأسها كان الوعي المتزايد
بأهمية السينما وقدرتها على التأثير العالمي بسبب انتشارها، وكان
هناك وضوحاً أن الأفلام الدعائية التي قدَّمها الكيان الصهيوني قد
أدت لصورة عالمية مُنحازة ومغلوطة نحو القضية، وذلك بحسب إشارة
حسان أبو غنيمة في المَرجعِ السابق ذكره.
الشيء الآخر المُهم والفاصل جداً هو وجود فتاة فلسطينية، صارت
لاحقاً رمزاً مُهماً، هي سلافة جاد الله، التي درست التصوير
السينمائي في المعهد العالي للسينما بالقاهرة، وعادت إلى فلسطين
بطموحٍ بسيط وهو صُنع ذاكرة مُصوَّرة للقضية، وإبقاء صور الشهداء
حيَّة عن طريق الفوتغرافيا، وبعد وقت قصير كانت «سلافة» هي نواة
إنشاء «وحدة أفلام فلسطين»، لتدريب وأرشفة المواد المُصوَّرة لأي
عمل سينمائي قادم،
التعامُل مع تلك «الوحدة» باهتمامٍ أكبر من قِبل منظمة التحرير
الفلسطينية جاء بعد «معركة الكرامة»، التي اشتبكت فيها المقاومة
والجيش الأردني مع الجيش الإسرائيلي أثناء محاولة احتلال الضفة
الشرقية لنهر الأردن، وكانت هزيمة كبرى للمحتلين الذين انسحبوا
بالكامل، وتسجيل تفاصيل المعركة عن طريق سلافة ورفاقها، والمعرض
الذي أقيم بعد ذلك للصور، والانتصار الذي بدا واقعاً مَلموساً
وموثقاً يجعل الأمل في النصرِ أمراً مشروعاً، كلها عوامل دفعت
بمحاولة خلق «سينما فلسطينية وثائقية» تكون ذراعاً بصرياً ودعائياً
للمقاومة.
سلافة جاد الله، التي يصفها أحد أعضاء منظمة التحرير بأنها «كانت
جريئة جدا، لم أقابل من يماثلها في جرأتها وحبها لعملها وإخلاصها
له، وكانت وطنيتها صافية لا يعلو عليها شيء»، بصحبة هاني جوهرية
–الذي صار شهيداً في وقتٍ لاحق-، ومصطفى أبو علي، وسمير نَمِر،
قاموا بتصوير أغلب المعارك والعمليات الفدائية ضد جيش الاحتلال في
تلك الفترة، وكانوا جناحاً مُقاوماً بالسينما في حركة التحرير.
ورغم أن الأفلام كانت بالفعل عبارة عن مُقاومة مُباشرة بالوسيط
السينمائي، وافتقدت لأي قيمة أخرى خلاف ذلك، ويظهر انحيازها
وموقفها السياسي الكامل من جملة للمخرج الفلسطيني غالب شعب بأن:
«كانت المهمات في البداية واضحة، فبدلاً من ملصق فليكن فيلما»، وهو
أمر واضح من مجرد أسماء تلك الأعمال: «بالروح والدم، لا للحل
السلمي، عدوان صهيوني» للمخرج مصطفى أبو علي، «الإرهاب الصهيوني،
ليلة فلسطينية» للمخرج سمير نمر، على الرغمِ من كل ذلك.. إلا أن
السينما الوثائقية التي نشأت خلال تلك الفترة كجناحٍ للمقاومة هي
النواة الأولى لأي تعريف لاحق للـ«سينما الفلسطينية»، وبصورة
مُباشرة وغير مُباشرة ساهَمَت في خلق المرحلة الثالثة في
الثمانينيات.
المرحلة الثالثة: «السينما تعني الناس»
يمكن التأريخ للمرحلة الثالثة من السينما الفلسطينية في الفترة بين
1980 و1994، أو وصفاً منذ عودة المخرج ميشيل خليفي من بلجيكا إلى
فلسطين وتقديم فيلمه الوثائقي الأول داخلها، وحتى مُعطيات السينما
الجديدة في وطنِ ما بعد اتفاقية أوسلو.
ويُحاول الناقد والكاتب الفلسطيني «بشار إبراهيم»، في كتابة «ثلاث
علامات في السينما الفلسطينية الجديدة»، الصادر عام 2005، وضع سمات
مُعيّنة لكونها «سينما جديدة» بمرحلة أخرى مختلفة، ومن أهم تلك
السمات:
1- الانفصال الإنتاجي عن المنظمات الفلسطينية، وإنتاج الأفلام
بجهودٍ ذاتية واعتماداً على مؤسساتٍ غير رسمية.
2- هذا الانفصال أدى لتحرر من الصورة النمطية المعتادة التي رسختها
تلك الأفلام عن الشخص الفلسطيني باعتباره «مناضل وفدائي» فقط دون
أي جوانب أخرى، ولم تعد السينما بهذا القدر المباشر من الدعايا
والتحريض والتعامل مع «ملحمية القضية وقداستها»، وفي هذا السياق
يمكن الرَّبط بعنوانِ الملف كاملاً، حيث بدأت الموجة الأهم في
السينما الفلسطينية حين تحرَّكت الأفلام نحو الإنسان الفلسطيني في
صوره المختلفة حتى لو ظل مربوطاً بالقضية.
3- يربط «بشار» أيضاً تلك المرحلة الجديدة بأسماءِ المخرجين الذين
وُلدوا في فلسطين، ثم عاشوا ودرسوا حياتهم خارجها، قبل أن يعودوا
لإخراج أفلام بالداخل، وهو ربط وتصنيف مهم بسبب امتلاكهم لغة وشكل
مختلف في التعبير، يظهر فيه هذا الامتزاج.
ورغم أن «الحراك» في السينما الفلسطينية في هذا الوقت كان مرتبطاً
بجهودٍ فردية، إلا أن التزامن جعلها تخلق سياقاً مُشتركاً، كما
يُشير الكتاب، وكما يبدو واضحاً عند محاولة تأريخ المراحل.
ترتبط بداية تلك المرحلة بفيلم وثائقي قصير للمخرج ميشيل خليفي
يحمل اسم «الذاكرة الخصبة»، يتناول فيه جزء من علاقته الذاتية مع
فلسطين التي تركها لسنواتٍ قبل أن يعود إليها، وكيف تتأسس العلاقة
البصرية مع الوطن، ثم يعاد تشكيلها في الذهنِ بصورة أكثر ملحمية،
أثر الذاكرة فيما يربطنا بالأرضِ، وهو هم مُشترك لأي شخص فلسطيني
لم تتطرق له الأفلام قبلاً، مما جعله «فيلماً مؤسساً»، شارك في
أسبوع النقاد بمهرجان كان، وخلق بداية تعارف حقيقية بين السينما
الفلسطينية والعالم.
«خليفي» أتبع فيلمه بعددٍ من الأفلام الوثائقية المهمة، ولكن
الخطوة اللاحقة الحقيقية كانت إنتاج فيلم «عرس الجليل»، حيث اعتبر
أول فيلم روائي فلسطيني طويل يتحقق على يد مخرج فلسطيني.
يتناول الفيلم، خلال يوم واحد، قصة أبو عادل الفلسطيني، الذي يرغب
في تزويج ابنه وإقامة عُرس، ولأن السلطات الإسرائيلية تمنع التجمع
صار على «أبو عادل» قبول وجود الحاكم العسكري الإسرائيلي بالتواجد
في الفرح، ويعمل الفيلم على تناول ردود الأفعال المختلفة في القرية
نحو هذا الحدث، وفي الخلفية هناك أول محاولة روائية أيضاً لتناول
فلسطين كناس وتقاليد وطعام ورغبات وصورة إنسانية غير مُمَجَّدَة
على الدوام.
عُرِضَ الفيلم في مهرجان «كان السينمائي»، ونال ذهبية مهرجان «سان
سباستيان»، ومَثَّل حَجراً مُهماً يحرك الفن الفلسطيني كاملاً،
سواء بالبناءِ أو مساءلة تفاصيل غير معتادة.
لاحقاً، ارتبط الحراك، إلى جانب أفلام «خليفي»، بأعمال المخرجرشيد
مشهراوى، الذي عاد من هولندا عام 1987، وصنع عدة أفلام وثائقية
مهمة، إلى جانب فيلميه الروائيين «حتى إشعارٍ آخر» و«حيفا»، أما
ثالث العلامات فكان المخرج إيليا سُليمان، العائد من أمريكا، والذي
أخذ السينما الفلسطينية لأفقٍ آخر، سواء في التناول، أو في المدى
العالمي الذي وصلت إليه.
المرحلة الرابعة: «فلسطين التي نسير غافلين عن قداستها.. لأننا
فيها»
على الرغمِ من كل التنازلات التي قامت بها السلطة الفلسطينية في
اتفاقية أوسلو عام 1993، والحرية المنقوصة، والتي تزداد تناقصاً
كلما مر الوقت، إلا أن الأثر الذي تركته، بصورةٍ غير مُباشرة، في
مسارِ السينما الفلسطينية يبدو واضحاً.
كانت المرة الأولى ربما التي يتعامل فيها الفلسطينيين مع القضية
بالتساؤل، والنقد، أين نحن؟ والأسوأ: من نحن؟ ما هي حدود المقاومة
من توازنات السياسة؟ أثر ذلك على حياة الناس العادية داخل الأراضي؟
قدر من التجريد لم يَكن موجود مسبقاً بسبب حدة القضية في أغلبِ
الوقت.
فيلم «سجل اختفاء»، الذي أخرجه إيليا سليمان عام 1996، وصار جزءً
من ثلاثية سينمائية لاحقاً، هو النموذج لأفلامِ وطن ما بعد أوسلو،
يوميَّات مُصورة لمخرجٍ –هو «سليمان» نفسه.. كشخصية وتمثيل- عائد
إلى فلسطين ما بعد السلام من أجلِ إنجاز فيلماً عنها، ويرصد
«سليمان» رَتابة الحياة العادية في عكَّا والناصرة، والفراغ غير
المنطوق الذي يعيش فيه الناس خلال تلك المرحلة، بين الآمال السابقة
بالمقاومة والتحرير، وبين الواقع الحالي الذي يفرض نفسه عليهم.
مَثَّل الفيلم نَقْلَة للسينما العربية، في السَّرد والأسلوب
واللغة السينمائية، وهو ما تطوَّر أكثر مع فيلم «سليمان» التالي
«يد إلهيَّة»، الذي قدّم فيه تتابعات تخص الحياة اليومية في
فلسطين، على إطار قصة حب بين شاب من القدس، يقوم بدوره «سليمان» في
شخصيته الآتية من «سجل اختفاء»، وفتاة من رام الله، بسخريةٍ شديدة
لم تعرفها فلسطين من قبل، وحين تمَّ تكريم الفيلم بجائزة من لجنة
التخكيم في مهرجان «كان» السينمائي.. بدأ العالم يتعرَّف، للمرة
الأولى، على السينما الفلسطينية لأنها تقدم فناً مختلفاً، وليس فقط
لأنها قادمة من أرضٍ مُحتلة.
هذا التقبُّل والرغبة العالمية في استقبالِ المزيد من السينما
الفلسطينية جاء متماشياً مع صعود المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد،
الذي أخرج فيلمه الأول عام 1998، في وطنِ ما بعد أوسلو، وفيلمه
الثاني «عُرس رنا» كان استمراراً لنهجِ الأفلام التي تحاول النزوح
نحو العادية في قصصِ الناس، عن فتاةٍ ترفض الزواج من عرسانٍ أحضرهم
والدها، وتبحث عن حبيبها خليل بين القدس ورام الله من أجل أن تتزوج
منه، في ظلِ الحياة وسط حالة الحصار التي يعاني منها الفلسطينيين،
وحين عرض الفيلم عام 2002، كان مؤشراً لوجود مخرج مهم قادم في
السينما العربية.
ومع تجدد الانتفاضة الفلسطينية، وشيوع العمليات الاستشهادية مَطلع
الألفية، قدَّم «أبو أسعد» فيلمه الروائي الثالث «الجنة الآن» عام
2005، الذي يتناول فيه قصة اثنين من منفذي العمليات الاستشهادية،
بمحاولة «أنسنة» الحكاية والاقتراب من شخوص على وشكِ فقدِ حياتهم
اختيارياً، بكل التناقضات والأفكار التي تحملها اللحظة، عن أنفسهم
وعن القضية الفلسطينية ذاتها، دون تمجيد مُسبق، بل بالكثير من
الذاتية والخصوصية، ليكون النتاج عملاً فنياً عالي القيمة، كُرّم
مبكراً بجائزتين في مهرجان برلين، قبل أن يفوز بجائزة الكرة
الذهبية لأفضل فيلم أجنبي، وينال ترشيحاً تاريخياً لأوسكار أفضل
فيلم أجنبي، كأول فيلم فلسطيني يرشح للجائزة، بل وأول فيلم عربي
–مع استثناء فيلم
Z
الذي قدم باسم الجزائر عام 1969 رغم إنتاجه الفرنسي ومخرجه
اليوناني-.
منذ تلك اللحظة اكتسبت السينما الفلسطينية ثقلاً عالمياً كبيراً،
ارتبط، روائياً، بأسماءِ «إيليا سلميان» و«هاني أبو أسعد» تحديداً،
بعد أن أكمل «سليمان» ثلاثيته الذاتية بفيلم «الزمن الباقي» عام
2009، الذي اعتبر حينها واحداً من أفضل أفلام العام، حيث دار في
ثلاثة أزمنة: 1948.. نهاية الستينات.. ثم الوقت الحالي،متناولاً
حياة مخرجه وأهله وذكرياته، قبل الانتقال لواقعه الحالي المتماس مع
القضية، والممتلئ بالأسئلة غير المُجاب عنها، بينما كانت عودة هاني
أبو أسعد في فيلمه الفلسطيني التالي –بعد تجربتين غير ناجحتين
خارجها- في «عمر» عام 2013 لا تقل نجاحاً عن «الجنة الآن»، حيث نال
من جديدِ ترشيحاً للأوسكار، وحقق جدلاً بقصته التي تتناول تجنيد
الشباب الفلسطيني من قبل كيان الاحتلال.
وفي نفس الوقت، كانت الأفلام الوثائقية الفلسطينية تتخذ شكلاً
مختلفاً، ويتم تنفيذها بمجهودٍ ضخم وسنوات من التحضير والتصوير من
أجل التقاط فلسطين البّشَر، تلك التي يغفلون عن قداستها لأنهم فيها
أو يعانون الشتات بسببها، ليتطور الأمر كثيراً عن الصورة الأولى
للسينما الفلسطينية التي تسجل عمليات المقاومة وتمجدها، ففي أفلامٍ
مثل «عالم ليس لنا»، الذي صدر عام 2012 للمخرج مهدي فليفل، يتم
تناول الحياة اليومية للفلسطينيين في مخيم عين الحُلوة بلبنان، حيث
استغرق صاحبه 12 عاماً من التصوير لكي يخرج بصورة ختامية دقيقة عن
إيقاعات ورتابة الوضع العادي، الذي يَفْتُر فيه الأمل طوال الوقت
ومع ذلك يحاول الناس العَيش.
وفي ذروة الإنتاج الوثائقي الفلسطيني «5 كاميرات محطمة»، للمخرج
عماد برناط، يكون واضحاً هذا التطور في السينما التي تقدمها
فلسطين، حيث يحكي «عماد»، بصورة وثائقية يبدو أثر الزَّمن فيها
طوال الوقت، عن شراءه لكاميرا عام 2005 من أجلِ تصوير ابنه الرابع،
ولأنه الوحيد في قرية بلعين الذي يملك كاميرا فقد أصبح المُوثّق
الرسمي لكل ما يخص أهالي القرية، ليتطور الأمر مع الوقت لاهتمامٍ
بالمواجهات بينهم وبين جيش الاحتلال، وحين قاموا بتكسير الكاميرا
لأولِ مرة، لمنعه من التصوير، قام بشراءِ أخرى، ليستمر في متابعة
ابنه الذي يكبر، ووطنه الذي يَصغر، قبل أن يقترح عليه «جاي دافيدي»،
المخرج وناشط السلام الإسرائيلي، عام 2009 أن يصنع فيلماً عن
الكاميرات الخمسة التي تحطَّمت على يد جيش الاحتلال، ليؤرخ ويوثق
سنوات من حياةِ قرية فلسطينية، ويَقوم معه بإخراج ومونتاج الفيلم
من المادة المصورة العملاقة خلال 5 سنوات أو يزيد، ورغم صدور العمل
عام 2011، إلا أن الاحتفاء الحقيقي كان عام 2013، بعد ترشيحه
لأوسكار أفضل فيلم وثائقي، بالتزامن مع ترشيح «عُمر» لأفضل فيلم
أجنبي، ليكون عاماً استثنائياً في تاريخ السينما الفلسطينية التي
تَخلق هويتها الخاصة كلما تقترب من الناس وتبتعد عن قدسية القضية
الكبرى.
وفي مرحلةٍ لاحقة، غير مَنظورة، ربما يكون من حق الفلسطينيين أن
يقدموا أفلاماً منفصلة الصلة تماماً عن الصراع السياسي، وتتناول
تفاصيلاً أكثر عادية في حياتهم، دون أن ينتظر منهم العالم شيئاً
ويضعهم في صورة مُسبقة، أو كما يَقول مُريد: «عندما تختفي فلسطين
كسلسال على ثوب السهرة ، كحليةٍ أو كذكرى أو كمصحف ذهبي، عندما
نمشي بأحذيتنا على ترابها، و نمح غبارها عن ياقات قمصاننا وعن
خطانا المستعجلة إلى قضاء شؤوننا اليومية العابرة العادية و
المضجرة، عندما نتذمر من حرها و من بردها ومن رتابة البقاء فيها
طويلا، عندئذ نكون قد اقتربنا منها حقا». |