كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

«الأمير الأخضر» يفتتح مسابقة المهرجان للفيلم التسجيلي بحكاية عن ابن أحد مؤسسي «حماس»

«صندانس» أكثر بكثير من مجرد عرض أفلام.. إنه صانع نجوم

بارك سيتي (ولاية يوتا): محمد رُضا 

 

مع إعلان ترشيحات الأوسكار في الـ16 من هذا الشهر، ساد الشعور بأن مهرجان «صندانس» هو أكثر بكثير من مجرد عرض أفلام وإجراء المؤتمرات الصحافية. إنه صانع نجوم. كثير من الأسماء المرشّحة لأوسكار أفضل مخرج انطلقوا من ربوع مهرجان «صندانس» أساسا، حين حطوا الرحال هنا بأفلامهم الأولى.

ديفيد أوراسل، مخرج «أميركان هاسل» بدأ مهنته هنا، إذ عرض سنة 1994 فيلمه الروائي الأول «ضرب السعدان» Spanking the Monkey، ثم عاد سنة 1996 إلى المهرجان ذاته ليقدّم «مغازلة الكارثة». ألفونسو كوارون الذي تم ترشيح فيلمه لحفنة من الأوسكارات كان خطا خطوته الأولى في «صندانس» عندما عرض أفلامه القصيرة في منتصف الثمانينات هنا. كذلك فعل سبايك جونز الذي يتنافس فيلمه «Her» في سباق أوسكار أفضل فيلم، إذ حضر «صندانس» كممثل في التسعينات ثم تحوّل إلى مخرج في مطلع القرن الحالي.

والباقون جميعا مثل ألكسندر باين صاحب فيلم «نبراسكا»، وديفيد هايمان منتج «دالاس بايرز كلوب» لجانب العشرات من الممثلين الذين تحوّل بعضهم إلى الإخراج أو الإنتاج أو بقوا مخلصين لمهنتهم الأولى مرّوا من هنا في مطلع سنواتهم المهنية. 30 سنة، يقول رئيس المهرجان روبرت ردفورد، مضت في صياغة هامش للمخرجين المستقلين. يضيف: «ليس ردّا على هوليوود ولا على صناعة السينما، بل إتاحة لفرص عمل لم تكن هوليوود مهتمة بتوفيرها».

* الأستاذ والطالب هذه الرسالة لا زالت في قلب المهرجان إلى اليوم، ولو أن الحجم تضاعف عبر العقود الماضية، حيث هناك 15 مختبرا وورشة عمل توزّع مهامها بين الإنتاج والإخراج والكتابة والتصوير وسواها من جوانب العمل. عدد الأفلام التي ساهمت مؤسسة «صندانس» بتمويلها أو - على الأقل - بإعدادها إنتاجيا لكي تقف على قدميها وتتحرّك قدما بلغ 400 فيلم.

الذي يدعو إلى الغبطة أن الشعور بالاكتشاف لا يزال دافع الموجودين جميعا، والإحساس بالانتماء إلى عالم يجري تكوينه في تلك الورش أو على شاشات المهرجان المتعددة لا يزال متوفّرا، ولوحظ هذا العام من حرارة الاستقبال الذي ووجه به فيلم الافتتاح «سوط» لداميان شازيل.

«سوط» دراما حول لاعب طبل شاب (مايلز تَلر) طموح لتحقيق ذاته عبر الموسيقى، لولا أن مدرّسه (ج. ك. سيمونز) يجد من الصعوبة في فهم تلك الذات لدرجة محوها عوض تحقيق الغاية المرجوة من التدريبات، وهي تأهيل العازف ليصبح موسيقارا.

الموضوع صعب، لكنه يضرب على أوتار المشاهدين المتعاطفين بطبيعة الحال مع العازف الشاب. وكان المخرج قد أنجزه أولا كفيلم قصير وعرضه هنا في العام الماضي، قبل أن يصوره خلال السنة الماضية كفيلم روائي طويل. في الوقت الذي تحرك فيه شخصية العازف التعاطف الإيجابي نحوه تستعدي شخصية الأستاذ السادي رد فعل لا يقل قسوة من قِبل المشاهدين، كونه يمارس دوره على نحو فاشي وبقدر كبير من الإهانات والتعنيف والقسوة. خلال هذا كله، وما ينجح به الفيلم أكثر من سواه، نتعرّف على الوجه الداكن لعملية إعداد الطالب ليمارس العنف ذاته على سواه. فالشاب بعد ساعات طويلة من التعرض للأذى والإهانات يخرج بعد كل مرة إلى العالم بشعور إيجابي أقل تجاهه وتجاه من يعرفهم. هو بدوره يتحول إلى فاشي صغير، مما يجعل الفيلم يتحدّث بإطار أكبر عن القيادة والتبعية التي تماثلها في شؤون الحياة الكثيرة. إنه كما لو أنك تشاهد نازيا يعلـم تعاليم النازية لفتى بريء ليحوّله إلى نازي مثالي، وقس على ذلك حالات ومناهج أخرى يعيشها العالم اليوم.

* حكاية مصعب وهناك علاقة أخرى بين أستاذ مختلف (هو مسؤول في الموساد اسمه جينون بن إسحاق) وطالب فلسطيني اسمه مصعب في ظرف بعيد آخر ولو أنه يلتقي مع المفهوم الذي ينجزه «سوط». هذا وارد في الفيلم الإسرائيلي «الأمير الأخضر» الذي عرض كفيلم افتتاح المسابقة التسجيلية العالمية، وضمن إقبال كبير ناتج عما استقاه الحاضرون من الملخص المنشور. فالفيلم كناية عن حكاية مصعب حسن يوسف، ابن أحد مؤسسي حماس وكيف جرى تطويعه وتدجينه وتحويله إلى جاسوس يعمل لصالح الموساد. الفيلم من إخراج ناداف شيرمان، وسريعا ما يدلف موضوعه محيطا بتاريخ وجغرافيا المكان ولو من دون عمق سياسي. بالنسبة إليه تشخيص الحالة ومنح مصعب حضورا إنسانيا لا بد أنه يفتقده تحت أي معيار آخر خارج نطاق هذا الفيلم. هو ابن رجل سياسي وقيادي استجاب لإغراء المادة، فتحول إلى مخبر يعمل قريبا من هرم القيادة لدى حماس، حسب فيلم لديه الوقت والرغبة أيضا في تقديم وجه إنساني آخر للإسرائيليين الذين استخدموه.

الفيلم مأخوذ عن كتاب وضعه مصعب يوسف بنفسه بعنوان «ابن حماس» لذلك لا يمكن تفنيد ما يعرضه لنا على أساس أنه غير جدير بالثقة. ها هو مصعب نفسه، الذي لقب بالأمير الأخضر، يتولى الحديث إلى الكاميرا وفتح الصفحات الأولى من كتاب علاقته مع المخابرات الإسرائيلية. ففي منتصف التسعينات، جرى اعتقاله من قبل مخابرات «شن بيت» وأودع السجن، ومع إدراك الإسرائيليين مدى أهميته كابن أحد مؤسسي حماس، طلبوا منه العمل مخبرا. لا يدخل المتحدث في تفاصيل كثيرة حول أسباب قبوله، وهو الذي بدأ الحوار بالتأكيد على أنه كان يكره إسرائيل بسبب سجنها لوالده سنوات طويلة. كيف تحول الأمر من كره إلى تعاون، هو لب الموضوع الذي يتحول إلى واقع وجوهر الفيلم، لكن العبارة الأكثر تعبيرا عن سر هذا التحول، كما عن السبب الذي من أجله وافق على المهمة، ما يقوله خلال حديثه: «حماس ليست حركة دينية فقط بل (بزنس) عائلي».

في أحد المشاهد يمكن فهم سبب آخر، فالرجل يبدو أنه اقتنع بأنه لا شيء ذا قيمة في صرح الحركة الإسلامية، وهو يشهد قيام سجّانها تعذيب سجناء مسلمين مثلهم. وهذا يتضح أكثر في النصف الثاني من الفيلم. فبعدما ذكر الرجل في حديثه أنه يشعر بالعار حيال ما قام به لصالح الموساد، نراه يكشف لاحقا عن أنه ترك قطاع غزة وإسرائيل معا وهاجر (بترتيب ومساعدة إسرائيلية على الغالب) إلى أميركا ليعيش فيها بعيدا عن بؤرة الصراع بأسرها. شعوره بالعار لم يمنعه، كما يبدو أيضا، من تخليه عن الإسلام واعتناق المسيحية مبتعدا أكثر وأكثر عن أصوله وتاريخه ومواقف الفلسطيني المبدئية من القضية برمتها.

وفي حين قد يجد هذا الموقف تقديرا لدى البعض، فإن البعض الآخر من المشاهدين لن يشعر بأن التعاطف حيال مصعب وموقفه، وهو ما يبغيه الفيلم، ضروري.

النصف الثاني من الفيلم، ومن ناحية سينمائية بحتة، هو أفضل من نصف الفيلم الأول الذي يتعامل وتقديم الشخصيات وذكر ثوابت التاريخ. يعمد «الأمير الأخضر» إلى منهج التناوب بين تلك اللقاءات والوثائقيات التي أريد لها شرح ما يُقال أو تأكيده.

* لحظات تاريخية

* وبقدر ما يشعر ردفورد وفريقه بفخر حيال تاريخ المهرجان، بقدر ما يؤكد هذا التاريخ تلك اللحظات، التي تبعث على الفخر، وهي كثيرة لكن بالإمكان اختيار سبع لحظات تاريخية عنت الكثير للمهرجان، كما للأفلام المشتركة ولصانعيها:

1988: العرض الأميركي الأول لفيلم ستيفن سودربيزغ «جنس، أكاذيب وأشرطة فيديو»، الفيلم الذي تكلف بضعة ألوف الدولارات لتحقيقه وحصد 25 مليون دولار من الإيرادات.

1992: قدم المخرج كونتين تارانتينو أول عمل رئيس له، وهو «كلاب المخزن» الذي بلغت ميزانيته مليونا و200 ألف دولار، لكنه جلب (لجانب الشهرة وحفنة الجوائز) 22 مليون دولار.

1994: في ذلك العام، وخلال دورة غزيرة العروض والاكتشافات، قام المخرج البريطاني مايك نيووَل بعرض «أربع زيجات ومأتم». نيووَل كان حقق أفلاما غير مستقلة، لكن هذا الفيلم كان مختلفا وأسس لنجاح أبطاله كرستين سكوت توماس وهيو غرانت وجون هانا.

1996: عرض المهرجان فيلم «أحلام كرة السلة»: تسجيلي في ثلاث ساعات عن تلك الرياضة وطموح لاعبيها وهو الفيلم الذي تسلل بعد ذلك للأوسكار وجمع تسعة ملايين دولار في وقت سابق لانتشار الفيلم التسجيلي في العروض التجارية، كما هو الحال اليوم. المخرج هو ستيف جيمس صاحب «الحياة ذاتها» حول روجر إيبرت المعروض في هذه الدورة.

1999: «مشروع ساحرة بلير» هو نموذج لكل ما تمثله السينما المستقلة: فيلم استدان مخرجاه دانيال ميريك وإدواردو سانشيز (الثاني لا يزال أكثر نشاطا من الأول) لتأمين ميزانيته التي بلغت 60 ألف دولار، فإذا به يحقق 240 مليون دولار حول العالم. فيلم رعب فتح الباب واسعا لكل تلك الأفلام التي ما زلنا نراها حتى اليوم، المعتمدة على أسلوب الكاميرا التي تصور فيلما داخل الفيلم، وتلاحق مجموعة من الشخصيات التي تكتشف ما لم يكن من الأجدر بها اكتشافه من أسرار.

2002: وقوف الناقد روجر إيبرت مدافعا عن فيلم أميركي صغير عنوانه «حظ أفضل في الغد» الذي أخرجه جوستين لين. أيامها كان جوستين مبتدئا بكل معنى الكلمة، وشركات هوليوود لم ترد أن تصرف وقتا ومالا على فيلم أبطاله من الصينيين الأميركيين. اليوم جوستين لين مخرج ناجح يقف وراء سلسلة «سريع وهائج» المعروفة.

2006: «ليتل مس سنشاين» لم يكن فيلما قليل الكلفة حين انتهى المخرج جوناثان دايتون (الذي حقق فيلما واحدا بعد ذلك وإلى اليوم) من تنفيذه. كلف ثمانية ملايين دولار، لكنه حصد 92 مليون دولار عالميا. إلى اليوم ما زال المبلغ الذي دفعته هوليوود لشراء حقوقه من الأرقام القياسية في تاريخ عمليات المهرجان (أكثر من عشرة ملايين دولار).

هذه سبعة ولا بد أن هناك 77 أخرى مثل المشادة التي وقعت بين ناقد مجلة «فاراياتي» الشهيرة جون أندرسون والمنتج جف داود بسبب خلاف في الرأي حول فيلم أنتجه الثاني بعنوان «وسخ، الفيلم». الأول (الذي كان ملاكما في شبابه) هو الذي وجّه الضربة الأولى. الثاني (ومارس المصارعة لبضع سنوات قبل أن يتحوّل إلى إنتاج الأفلام)، وجّه الثانية، وكل ذلك في مقهى يقع في وسط المدينة. أو مثل قيام المنتج جاي أندريوزي سنة 2010 بركوب جمل جاء به من الصحراء ليسير في شوارع المدينة المثلجة كجزء من الدعاية لفيلمه «مصر من خلال دكان زجاج»، وهو الفيلم الذي لا يزال قيد الإعداد حتى الآن.

المشهد:

أعلى تقدير يمكن لناقد سينمائي الحصول عليه هو فيلم عن حياته

فيلم عن الناقد الذي لم يرحل 

* قد يجمع الناقد من حوله معجبين، وقد يكتب فيؤثر في القارئ أو حتى في صانعي العمل السينمائي، أو ربما ينال وساما من الدولة أو تقديرا من مهرجان، لكن أن يجري تحقيق فيلم عنه، فإن ذلك هو أجمل ما يمكن مكافأة الناقد به وأعلى ما يمكن إسداؤه إلى تاريخه ودوره من تقدير.

أن يجري إنتاج فيلم عن ناقد سينمائي، فهذه تحية لكيان سينمائي ملتصق بالصناعة السينمائية بقدر ما هو منفصل عنها. قريب منها بقدر ما هو متباعد. شغوف بها بقدر ما هو منتقد لها.

في مهرجان «صندانس» الذي انطلق، أول من أمس، ويستمر حتى الـ26 من هذا الشهر، فيلم تسجيلي عن حياة الناقد المعروف عالميا روجر إيبرت بعنوان «الحياة ذاتها» أخرجه ستيف جيمس ليجول في تاريخ إيبرت والإرث الذي تركه وراءه عندما رحل في الرابع من أبريل (نيسان) العام الماضي.

حقيقة أن الفيلم استقبل عروض شراء حتى من قبل أن يبدأ المهرجان أعماله تبقى مبعث دهشة، وترفع من شأن الموضوع الذي يثيره. ما المحطة التلفزيونية التي تتوخى أن يثير الفيلم قاعدة عريضة من المشاهدين؟ كيف ستنجح ساعة ونصف ساعة عن حياة ناقد سينمائي تستعين بوثائقيات وتواريخ وأفلام صورتها زوجته عنه من زاوية علاقة أسروية بحتة في جلب جمهور كاف لشراء الفيلم، على أمل توزيعه في صالات السينما؟ لماذا هذا الاهتمام بأسره في حياة واحد كانت هوليوود كثيرا ما تأخذ حذرها منه. تهابه وتنزعج إذا ما أعطى أحد أفلامها إشارة الإبهام إلى الأسفل التي اشتهر بها؟

هل الإجابات بأهمية الأسئلة المطروحة؟ ربما، لكنها تبقى مثيرة بحد ذاتها. مدعاة لفخر شخصي، كون روجر إيبرت وهذا الناقد ومئات النقاد المحترفين الآخرين يشتركون في المهنة ذاتها. هنا قابلت روجر إيبرت أكثر من مرة. في هذا المطعم جلسنا نأكل الهمبرغر، وفي ذلك المطعم رأيته جالسا مع مجموعة من طلاب السينما وهواتها يتحدث لهم ويرد على أسئلتهم. أمور لا تقع كثيرا بيننا في عالمنا العربي، ولا يوجد من يحركها من سباتها. الفارق هو أن روجر إيبرت وشلة أخرى من نقاد السينما في الغرب يعرفون وجوه قرائهم، بيننا نشأنا نحن نكتب وبيننا وبين تلك الوجوه ستارة لا يسعى معظمنا إلى إزاحتها، ليكون التواصل أكثر فاعلية.

الشرق الأوسط في

18.01.2014

 
 

باراجانوف:

"أنا فنان ﮔرافيك ومخرج سينمائي يبحث في تشكيل الصور"

علي كامل

 (الحلقة الأخيرة

أجرى هذا اللقاء (المُصَّور على شريط سينمائي) الصحفي والناقد والمؤرخ السينمائي والمخرج الوثائقي الألماني رون هولواي (١٩٣٣ ـ ٢٠٠٩) في برلين عام ١٩٨٨ حين ذهب سيرغي باراجانوف (١٩٢٤ ـ ١٩٩٠) لحضور عرض فيلمه الأخير (عاشق غريب) في مهرجان الفيلم في ميونيخ ثم نيله جائزة المهرجان، وكذلك لافتتاح معرضه الغرافيكي هناك. وقد وظف رون هولواي مادة هذا اللقاء ليصنع منها بعد ست سنوات فيلماً وثائقياً رائعاً حمل عنوان (باراجانوف: ترتيلة لراحة نفوس الموتى).

نص المقابلة

س: سيرغي، كيف أصبحت مخرجاً؟

ج: أعتقد أنه ينبغي على المخرج أن يولد مخرجاً. الأمر مثل مغامرة طفل، أن تأخذ روح المبادرة وسط أطفال آخرين وتصبح مخرجاً، مبتكراً بذلك لغزاً. عليك أن تصوغ الأشياء في شكل ما وتعيد خلقها من جديد. أن تعذب الناس بموهبتك الفطرية ("artistismus"): أن ترعب والدتك وجدتك في منتصف الليالي. أن ترتدي ثياباً أشبه بثياب عمنا شابلن أو مثل هنس كريستيان أحد بطال أندرسون. أن تستخدم الريش المخبأ في صندوق الثياب، أن تحّول نفسك إلى ديك أو طائر النار. هذا هو ما كان يشغلني ويستحوذ علي دائماً، وهذا هو الإخراج. المخرج لن يصبح مخرجاً عبر التدريب ولا حتى في التحاقه بمعاهد سينما كمعهد "فغيك" (معهد السينما وفن الفيلم لعموم الإتحاد السوفييتي). 

الإخراج أمر لا يمكن تعّلمه. ينبغي أن يولد معك. أن تمتلكه وأنت في رحم أمك. يجب أن تكون أمك ممثلة لكي ترث ذلك. أمي وأبي كانا معاً موهوبان فنياً.

س: ما هو فيلم التخرج الذي أخرجته في معهد فغيك السينمائي؟

ج: كان فيلماً قصيراً للأطفال: حكاية جن مولدافية. كان ذلك في عام ١٩٥١. حين شاهده الكساندر دوفجينكو قال: "دعني أراه ثانية".

إنها المرة الأولى في تأريخ معهد فغيك السينمائي تطلب لجنة الامتحان مشاهدة فيلم تخرّج مرتين. روستوسلاف يورينيف، وهو الآن ناقد فني وسينمائي ناجح قال التالي:"باراجانوف قد نسخ دوفجنكو. إنه مذهل وملحمي. لقد شاهد باراجانوف فيلم دوفجنكو (زفينيغورا) ١٩٢٨.".أما دوفجنكو فقد رد عليه قائلاً:"أنت متشدق في الكلام. اجلس واسمعني. باراجانوف لم يشاهد فيلمي هذا".. مضيفاً:"أين أنت أيها الشاب؟" مشيراً إليّ. نهضتْ. سألني:"قل لي بصدق، هل شاهدت فيلم (زفينيغورا)؟" قلت له:" لا". قال: "أرأيت هذا مجرد هُراء". 

لم يكن يورينيف معروفاً في ذلك الوقت. كان شخصاً هزيلاً، شاب يتأسس تواً، يعدو من مخرج لآخر. على أي حال، يحتمل إن فيلم تخرجي ذاك كان قريباً جداً مما أعددته حقاً للتعبير عن نفسي كمخرج سينمائي.

س: لكن فيلمك مفقود...

ج: كلا، إنه في البيت.

س: إذاً لماذا لم يعرض هنا في برلين في المعرض الاستعادي لأعمالك؟

ج: الجواب ببساطة.. لقد نسيته. لقد تم عرض فيلم "أنريش" فقط، النسخة الأطول. لكن ليس للأطفال، لسوء الحظ، بل للبالغين.

س: كيف كانت الدروس التي تلقيتها من دوفجنكو وإيغور سافشينكو؟

ج: دوفجنكو وسافشنكو كانا خصمين. يتشاجران دائماً، ولم ينسجما أبداً. كلاهما كان موهوباً، بارزاً، مهماً واستثنائياً. أحدهم يعمل بطريقة الرسام البولوني جان ماتيجكو، يجرب نماذج عصر النهضة. أما الثاني، فقد كان يصّور تفاحةً، موت رجل عجوز، لقلق يحط ويحّلق. بتعبير آخر، كان فنه يرتكز على طفولته الملحمية.

هذا التباين الجمالي بطرازه المهجور بين هذين المعّلمين أثار حينها صراعاً محتدماً في ستوديو دوفجنكو. سافشينكو توفي شاباً: كان عمره ٤٣ عاماً فقط. لكن حين وضعوه في النعش بدا عجوزاً. تلاميذه كانوا أكبر سناً منه: فلاديمير نائوماف كان عمره ستون عاماً وأنا أربعون

إن فقدانه أحزن دوفجنكو من أعماق روحه. لقد أخذ دوفجنكو على عاتقه مسؤولية امتحاناتنا ووّقع على دبلومات التخرج بدلاً عنه. كان شخصاً شهماً. كان متحمساً، بشأن الكساندر ألوف ونائوموف، على وجه الخصوص، ومؤخراً فليكس ميرونار.

س: كان معهد (فغيك) آنذاك كما يبدو محتشداً بالمواهب.

ج: كان بيننا أناس رائعون بضمنهم دوفجنكو بالطبع،. أنا حزين من أجل زملائي الذين فارقوا الحياة. أربعة منهم لم يعودوا بيننا. لقد تجمع شملنا مؤخراً، ووضعنا على مائدتنا أربع صحون فارغة أشبه بأربع شموع، وفكرنا بأصدقائنا الذين غادرونا: أولوف، الذي أمضى
حياته يصور مع نائوموف، وميرونار الذي عمل مع مارلين خوتسيّيف فيلم "ربيع في شارع زاريتشنايا" ١٩٥٦. غريشا (غريغوري أرونوف) وسيفا (فسيفولود فارونين). آه، أربعة أصدقاء غادرونا، ولا أحد يعرف من سيكون اللاحق.

لقد تم اختيارنا من قبل سافشينكو الموهوب. كان يحبنا ويؤّلهنا. كان ملهماً لنا. كان ينتظر اليوم الذي نقدم فيه المعجزة. كان سعيداً جداً حين وقّع خوتسييف وميرونار عقداً مع (وكالة الفيلم السوفييتي الحكومي للتوزيع) على أول سيناريو لهما وهو "ربيع في شارع زاريتشنايا". 

لقد اصطحبهما بسيارته المرسيديس في شارع غوركي وجعلهم يخلعون جواربهم الخشنة العتيقة في داخل السيارة ثم يلقونها من نافذة السيارة مرتدين بدلها جوارب جديدة. لم يكونوا طلاباً فحسب، إنما مخرجين سينمائيين بدون أساس مالي أيضاً. أولوف ونائوموف أخرجا أفلاماً مشتركة: "شباب قلق" ١٩٥٨ و "بافل كورتشاكن" عام ١٩٥٧، وفيلم "الريح" ١٩٥٨. لقد كانا رواداً للأفانغارد (الطليعة).

س: ماذا يعني الإخراج السينمائي لك؟ هل هو الواقع، الحلم، أم هو لُغز؟

ج: الإخراج في الأساس هو، الحقيقة وهي تتحول إلى صور: حزن، أمل، حب، جمال. إنه شكل فني يعالج موضوعات كالحقيقة، الله، الحب والمأساة.

في سيناريوهاتي أحكي أحياناً قصصاً للآخرين، وأسأل: ترى، هل أنا من اختلقها، أو هل هي الحقيقة؟" الجميع يقول:"انها مختلقة". وهذا غير صحيح. إنها ببساطة، الحقيقة مثلما أدركتها أنا.

س: أفلامك الأولى عملتها بمزاج واقعي، ما الذي جعلك تغيّر أسلوبك؟

ج: كنت أعمل كثيراً جداً في تلك الأيام إشباعاً لرغباتي الخاصة. كانت الحقبة واقعية آنذاك: الجيل، الخلفية، الكنفاس الذي كنت أشتغل عليه. كنت أعمل وأعاني تحت ظل ثلاث مستبدين. وهؤلاء المستبدون كانوا في الكرملين. واليوم تسعى البيريستريوكا أن تصبح مخطط قلب الحقبة. ربما، سيظهر كتاباً في يوم من الأيام يتحدث عن تلك الأيام، شيء ما يشبه مخطط قلب.

كان ستالين وهو في طريقه إلى الصعود يخفض سعر الجوارب والناس كانوا قانعين. الجوارب كانت تباع بكوبيكين أرخص من السابق. أما هو فقد كان يقوم بإنزال سعر الجوارب والقمصان التحتانية كل ستة شهور. لكن سعر الخبز لم يتغير. مخطط قلب.!!! كانت الأفلام السوفييتية لتلك الفترة، وليس أفلامي فقط، أشبه بمخطط للرعب. مخطط للخوف. الخوف من أن تفقد فيلمك، الخوف من الفقر. الخوف على عملك.

س: هل أنت مخرج سينمائي أم فنان ﮔرافيك؟

ج: أنا فنان ﮔرافيك ومخرج يبحث في تشكيل الصور. كان معلمنا سافتشينكو يحثنا على تخطيط ورسم أفكارنا وإعطائها شكلاً مطواعاً. كان يجب علينا جميعاً رسم أفكارنا على الورق في معهد السينما. لأجل الدخول إلى امتحان القبول أدخلونا في غرفة وقالوا لنا:"ارسموا ما تشاؤون"...

س: هل أنت مسرور بالطريقة التي أستقبل فيها عملك الغرافيكي هنا في مهرجان ميونيخ السينمائي؟

ج: أنا سعيد جداً أنهم عرضوا بعض أعمالي هنا في مشغل المعرض: بعض الوحاتي الجدارية. لقد جلبت ما يقارب العشرين عملاً، ليست كثيرة لكنها كافية لتشكيل وجهة نظر. من بين تلك الأعمال عمل مع باقة من الورد، وهو عبارة عن كولاج مهدى لأمهات ميونيخ اللواتي فقدن أبنائهن في الحرب. باقة من الورد وضعت على مرآة. موضوع رائع وغير مألوف. مكرّس لأمهات ميونيخ، مثلما للأمهات السوفيتيات، اللواتي عانين الأمرّين في الحرب الأخيرة.

سأعيد بعض اللوحات الجديرة بالملاحظة والانتباه إلى الوطن معي. لقد دعيت إلى الكنيسة الأرثدوكسية اليونانية (البابوية الأوكرانية) هنا في ميونيخ فشهدت الطقوس الدينية وتحدثت مع القس. وفي غرفة اجتماع النادي عرضوا على الحائط رسوماً للأطفال. كان الأطفال قد رسموا الأمير فلاديمير والأميرة أولغا. كانت تلك الرسومات تعالج هذه الثيمة: رسوم بدائية مدهشة منجزة على الفطرة. لقد كسروا قواعد الواقعية الاشتراكية. حتى أن الأمير فلاديمير ظهر بالطريقة التي كان بها، أعني بساق عرجاء وقصيرة. كانت رسومات مبهجة حقاً، بل هي كانت أفضل هداياي من ألمانيا.

س: وماذا بشأن معرضك الذي أقمته في يريفان؟

ج: بسبب كبر سني أشعر بحنين أكثر إلى الوطن، هناك حيث لم أستطع العيش بعد للأسف الشديد. أرمينيا بالنسبة لي هي الفن والتأريخ. إنها بمثابة اصدقائي، مباهجي، وخساراتنا الإبداعية.
أنا لست رساماً محترفاً ولست تواقاً لذلك. رسوماتي ليست هواية، إنما هي شيء ضروري لمهنتي كمخرج. أنا مخرج سينمائي. لقد تعلمت على أيدي أساتذة عظام، سافتيشنكو ودوفجنكو، والإثنان كما قلت كانا يرسمان. أيزنشتين نفسه كان يرسم. لذا بدأت برسم بورتريت لنفسي متردداً، مستخدماً فن التلصيق (كولاج). ألصق الأقمشة، أبحث عن نوع من المكونات المطواعة.
أريد أن يزور الأطفال هذا المعرض لأن الوقت الآن جاء للبحث والعثور على الجميل الذي يحيط بنا ـ جبالنا وسماءنا. يجدر بنا أن نعبر عن العواطف، لنراها، لنحبها، ولنجّلها.

ليس كافياً أن نحب!

على المرء أن يُبّجل.

لهذا السبب أقمت هذه الغرفة الخاصة للأطفال هناك حيث أظهرت التشكيل بصيغة الدمى ـ أظهرت مأساة الحرب، وأظهرت كارمن وجوزيه بشكل هزلي، بل وحتى التركي الذي خان كاريه. كل ذلك من أجل تعليم الأطفال: حقائبي تتحول إلى فيلة والفيلة يتحولون إلى حقائبي.

لذا فإن هذا العالم الصغير سيفتح بشكل مشوق أمام أطفال أرمينيا الذين هم يستحقون عناية كبيرة منا لأننا بحاجة إلى ترميم وتجديد أشياء كثيرة جداً في أرمينيا وفي الثقافة نفسها، لنوازن بين مخيلة المستهلكين، لنعادل الذائقة المشتركة في البلاد.

لقد خصصت إحدى الغرف لذكرى تاركوفسكي وأفردت لها دمى اسمها "بييتا" وعملت كولاج بشكل خاص حول طائر المساء. أما في غرفة الإشراق" فتوجد ثياب "الشيطان" باقات زهور، تفان وتقديس وإعحاب بالحياة.

إحدى الغرف اسمها "غرفة مصيري". إنه مصيري، مصير أصدقائي، مواقفهم مني. فيها عرضت بتركيب هارموني أعمال الفنانين الجورجيين والأرمن وأيضاً اللوحة التي رسمت فيها بورتريت لي. عبرّت في تلك الغرفة أيضاً عن الموقف الموّقر إزاء أمي، الأرمنية التي كرسّت جل حياتها لإنجاب الأطفال. لكن لسوء الحظ إنها لم تعد لأرمينيا أبداً، لم يكن لديها وقت لذلك: فهي إما كانت تجري هنا وهناك سعياً لإنقاذ والدي من السجن أو كانت مشغولة بإنجاب الأطفال.

وفي هذه الغرفة توجد أيضا شهادة تخرّجي من معهد السينما موقعّة من قبل دوفجنكو. جدي يبيع نبيذ، عمي، معهدنا: ميليك ألفاكايان، خوتسسيف وأنا. ثلاثة أرمنيين دخلوا معهد السينما في موسكو (فغيك) في نفس العام. كل ذلك يثير فيّ الأشجان.

س: ماذا تعني بمصطلح artistsmus (الموهبة الفنية الفطرية)؟ 

ج: لا أستطيع ان أتجنب هذا المصطلح: أنا معجب بلينين مثلاً بشكل مفرط. كمخرج، ينبغي عليّ أن أعجب بحماسته: نبضاته الفنية، قدراته كخطيب. كان لينين يمتلك ذكاءً استثنائياً وجباراً مثل ذكاء الرُسل. العالم غير واسع بما فيه الكفاية بالنسبة له ولموهبته الفنية الفطرية artistsmus !!.

أرغموه مرة على صعود عربة مدرعة، كما لو أنها خشبة مسرح. وقف هناك مثل حجر المنليث الضخم، لقد كان ممثلاً بالفطرة. أنا معجب بموهبته الآرتيستموسية. وكمخرج سينمائي أثمن عالياً الموهبة الفنية الفطرية. مثل هذه الموهبة يمكن أن يمتلكها الساسة، الأصدقاء، أي واحد.

ببساطة، أنا لا أحب الناس الخاملين. بريجنيف سعى في أحد قراراته مشكوراً أن يحررني من السجن، لكنه كان شخصاً خاملاً. نحن بحاجة إلى خطباء موهوبين. نحن نحب الآرتيتستموس. نحب الساسة الذين يرتجلون خطاباتهم وليس أولئك الذين يستخدمون الخطاب المدوّن على الورق. نحبهم حين تكون زوجاتهم إلى جانبهم. إلا إن بعض الأوساط لا يروق لها أن تقف المرأة إلى جانب السياسي. المرأة الذكية والموهوبة.

قادتنا لم يتعودوا بعد على هذا. لقد تعودوا أن يخفوا زوجاتهم بعيداً. هذه النسوة كانت مسوخ، مسوخ مرضّية. إنني أعرف تماماً عن أي شيء أتحدث.

أنظر كم هي فاتنة وجذابة زوجة وزير الخارجية أدوارد شيفرنادزة مثلاً، رغم أنها تظهر معه دون أن تنطق بكلمة. إنها قادمة من القفقاس. هذه المرأة تعرف كيف ترتدي القبعة. أنا كمخرج تشد انتباهي كثيراً مثل هذه الأشياء. القبعة هي رمز للنوعية، رمز للآرتيستموسية، إشارة للنزعات الفنية. وفوق كل شيء، هي رمز للذوق واللياقة وآداب السلوك.

س: ماذا تعني الواقعية الأشتراكية بالنسبة لك؟

ج: الواقعية الأشتراكية لا يمكن أن تجد توضيحاً أو تعريفاً لها حقاً. إنها ليست مفهوماً موسوعياً. إنها موجودة في كتبنا فقط. كيف يمكن استخدامها كبطاقة لتعريف أفلام عظيمة مثل تشاباييف (للمخرجين سيرجي وجيورجي فاسيليف) ١٩٣٤ أو فيلم طفولة مكسيم (لجيورجي كوزينتيسيف وليونيد تراوبيرغ) ١٩٣٥ أو فيلم مارك دونسكوي (قوس قزح) ١٩٤٤ أو فيلم (هي دافعت عن وطنها) ١٩٤٥؟

وماذا بشأن أفلامنا الوثائقية المدهشة؟ هل كانت تلك واقعية اشتراكية؟

أفلامنا تلك هزت العالم حينها.! لكن عبادة الشخصية وضعت حّد لها. ينبغي علينا أن نمجّد بإفراط نِعَمْ الإمبرياليين، نظام الطغاة الأشرار.

المخرجون الموهوبون الذين باعوا أرواحهم عملوا أفلاماً مثل: (القسَمْ) ١٩٤٦، و فيلم (سقوط برلين) لميخائيل تشياوريلي ١٩٤٩. كانت أعمالاً مذعنة ومتذللة من قبل فناني البلاط. لقد جاء الوقت لشجبها بشكل قاطع.

س: ميخائيل تشياوريلي، الذي كان معترفاً به كمخرج سينمائي استثنائي أوكراني، لماذا أصبح شاعر الشاشة البطولي لستالين؟

ج: بعض الفنانين يمكن أن يبيعوا أنفسهم مثلما فعل تشياوريلي وفلاديمير بيترروف. آخرون سواهم احتلوا مواقع رسمية، وكانوا بمثابة "عقل السلطة" أمثال ميخائيل بليمان وجيورجي جيلدوفيتش وسواهم. على الرغم من أنهم كانوا موهوبين لكنهم بالتالي عرضّوا سينمانا وكذلك الشخصيات الرائدة لها إلى الخطر.

لذا توفي سيرجي أيزنشتين العظيم ولم يحقق إلا النزر الضئيل فقط من إنجازاته الممكنة. ميخائيل روم العظيم مات مرعوباً ومهدداً ومحطماً. حتى دونسكوي، المؤسس لمدرسة الواقعية السوفييتية الجديدة، الذي عمل أفلام مثل (قوس قزح) و (اللامهزمون)، لم يستطع أن يظهر قدراته. هذه مأساة مرعبة.

س: الواقعية الأشتراكية كمصطلح أو تعبير معروفة جداً، لكن الواقعية السوفييتية الجديدة...؟

ج: لا توجد كتب أو مجلات أو مؤتمرات كانت تتعامل مع تلك الحقبة. كان الجميع صامتون. ومن الممكن أن كل شيء قد طواه النسيان من قبل الجيل اللاحق. أو ربما سيكتب المتحمسين والغيورين عن ذلك مستعينين بأراشيف الفترة هذه. لو تفتح أرشيفي الخاص بي يوماً ما ستجد أن هناك ثلاث عقوبات سجن تنتزع مني حريتي. المحكمة وجهت لي تهمة بأنني سوريالي يرى البنية الاجتماعية وهم أو خرافة كما لو أنني كائن خرافي يحط على قمة كاتدرائية نوتردام بخطم ضخم وحوافر كبيرة ويتطلع إلى مدينة باريس من الأعلى. نعم، كنت شبيهاً بهذا الكائن الذي يتطلع إلى الخارج متمنياً قدوم يوم جديد.

س: كم فيلماً عملت في أوكراينيا؟

ج: عملت ثمانية أفلام في أوكرايينيا، أما التاسع فقد كان فيلم (ظلال أجدادنا المنسيين) ١٩٦٤. لقد ركزت فيه على الجانب الأثنوغرافي: على الله، على الحب وعلى المأساة. وهذا هو ما يعنيه الأدب والسينما بالنسبة لي. وبعد أن عملت هذا الفيلم حدثت المأساة.

س: هل أن الطابع القومي الإثنوغرافي لفيلمك (ظلال اسلافنا المنسيين) هو الذي قادك إلى مشاكل مع السلطات؟

ج: الطبيعة هي التي أنجبتنا وهي من سيعيدنا ثانية إلى حضنها. ينبغي أن نبجّل الطبيعة: حقيقتها، مثلها العليا، أمومتها، ومنشأها. الطبيعة تضع الوطنية والفانتازيا في قفص واحد من أجل الدفاع عن مبادىء سيطرتها، ومن أجل أن حب الوطن بعطف وحنان.

س: ماذا حدث في مكتب وزارة السينما حين شاهدوا فيلمك (ظلال اسلافنا المنسيين)؟

ج: حين شاهد الرسميون في الوزارة الفيلم فهموا أنه بمثابة تقويض لقواعد الواقعية الأشتراكية والقذارات الاجتماعية التي أدارت وتحكمت في سينمانا في ذلك الوقت. لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء لأن الوقت تأخر جداً. فبعد يومين، حصل ميخائيل كوتسيوبنسكي (كاتب الرواية التي اعتمد عليها سيناريو الفيلم) على يوبيله بمناسبة ذكراه المئوية. لذا قالوا:"دعوه يذهب ويعرض فيلمه". عرض الفيلم. ثم منعه لاحقاً بالطبع. وعندئذ و بهذه الطريقة أو تلك بوسعهم إنهاء هذه القضية برمتها.

حين شاهد المثقفون الفيلم أثار فيهم شيء ما غير عادي وسّبب لديهم ردة فعل مضطربة، لذا طلبت الوزارة مني عمل نسخة بالروسية. لم يكن الفيلم مصوراً باللغة الأوكرانية فقط إنما باللهجة الهوتسللية (لهجة القبائل السلافية كالرومانية) ايضاً. ولذلك طلبوا مني عمل نسخة باللغة الروسية. لكنني امتنعت بشكل مطلق في ذلك الحين.

أنا أرمني من أوكرانيا. أتعامل مع القضايا الأوكرانية. منحت ثلاثة وعشرين مدالية ذهبية عن فيلمي (ظلال اسلافنا المنسيين).الأولى في مهرجان مار ديل بلاتا السينمائي في الأرجنتين والأخيرة في مهرجان كادز في إسبانيا. أنا معروف ومعترف بي في أوكرانيا. الأوكرانيون أحبوني. زوجتي أوكرانية، ولدي أوكراني. إلا إن ذلك لم يكن يعجب بعض الدوائر، لذا فقد تم اعتقالي وسجني خمس سنوات وكان ذلك حكم قاس للغاية.

س: ماذا حدث في السجن؟ وكيف استطعت أن تبقى على قيد الحياة؟

ج: إن العزل والإبعاد في معسكرات الاعتقال في السجون السوفييتية هو أمر لايطاق. لكن المأساة الحقيقية هي أنني كنت سأتشظى وأنهار وأفقد مهنتي كفنان. كان من الممكن أن أصبح مجرماً في هذا الوسط. كان ثمة سجناء ذو سجلات جنائية طويلة الأمد. أناس ساقطون وخطرون. لقد وقعت وسط تلك البيئة، ولم ينقذني سوى فني. لقد بدأت أرسم. بعد أربعة سنوات وأحد عشر يوماً تم اطلاق سراحي، بفضل لويس أراغون وزوجته إلسا تريرليت، وكذلك بفضل صديقي الطيب هيريرت مارشال وجون أبدايك نلت حريتي. لقد أعفيت أحد عشر شهراً وثمانية عشر يوماً قبل انتهاء العقوبة الكاملة.

إلى جانب ذلك، أحبني السجناء. لقد اتخذت على عاتقي مهمة سماع اعترافاتهم. كل الاعترافات الجرمية وكل المآسي والجرائم همسوها في أذني. كان أشبه بسيناريو عظيم أو رواية رائعة. كان أولئك السجناء بمثابة هدايا قدمت لي. لقد حصلت على مائة قصة قصيرة وستة سيناريوهات... أربعة منها سيتم تصويرها في المستقبل القريب، أما الباقي فسيبقى أحد أسراري الخاصة. من الممكن أن تنشر يوماً من الأيام وممكن أن تظهر على الشاشة، أو ربما ستدفن معي إلى الأبد.

كان الوقت في السجن قاسياً. لكن بدلاً من أن أتشظى وأنهار غادرت السجن وأنا أكثر ثراءاً. فقد خرجت بحصيلة كتابة أربعة سيناريوهات. أحدهم سيتم انتاجه للسينما. المخرج يوري إيلينكو سيقوم باخراج فيلم بحيرة البجع... المنطقة المعزولة ( ١٩٩٠) وهو السيناريو الذي كتبته عن البيئة الإجرامية في السجن وعلم أمراضها، العزلة التي تجعل من الناس مرضى. السجن كارثة حقيقية. إنهم يحتجزونك لمدة عشرة أيام لتصبح مريضاً عقلياً وجنسياً لمجرد البقاء على قيد الحياة. العزلة مرعبة ورهيبة. إذا وضعت ألفين شخص في معسكر اعتقال في "منطقة معزولة" تحدث أمور مأساوية.

س: وماذا فعلت؟

ج: بدأت الرسم. لقد اتجهت صوب فن الغرافيك. لقد ابتكرت أعمالاً خلقت وجلبت معي بعض المواد مثيرة للاهتمام حقاً. لوحات تم خلقها في تلك العزلة. ويعتقد أصدقائي أنني في خضم كل تلك القذارة قد أنجزت النقاء المذهل في عملي وفي روحيتي.

عندما وقعت في أسوأ ظروف سجن أدركت أن لدي خيار بين أمرين، إما أن أهلك وأموت، أو أن أصبح فناناً. لذا فقد ابتدأت أرسم. لقد أحضرت معي ثمانمائة عمل فني حين خرجت من السجن.

س: بعدها غادرت أوكرايينا لعمل فيلم (سيات نوفا، أو لون الرمان) في أرمينيا..

ج: أنا أعشق جداً هذا الفيلم، بل أفتخر به. أفتخر به في المقام الأول لأنه لم يفز بجائزة الأسد الذهبي أو الطاووس الفضي. هذا الأمر الأول. الأمر الآخر هو أنني إضطررت أن أعمل هذا الفيلم تحت ظروف غاية في الصعوبة، فلم تكن لدي المتطلبات التقنية اللازمة ولا أفلام خام كوداك ولا أفلام خام مصنوعة في موسكو، وليس هناك إضاءة كافية ولاماكنة لإثارة الريح، ولا مكانيات لاستخدام المؤثرات الخاصة، ولا ولا ولا.. لا شيء على الإطلاق. ومع ذلك فإن جودة الفيلم كانت شيء غير قابل للجدل

كانت النتائج كما لو أننا وسط بيئة واقعية بدائية أو قرية نموذجية أو سهب عادي. حكاية جن مصاغة بمفردات واقعية... طرق متباينة لإعطاء انطباع أننا أمام "ما فوق واقعية". فإذا احتجتُ إلى نمر مثلاً فسأصنع نمراً أشبه بلعبة.. وسيكون ذلك أكثر وقعاً وتأثيراً من نمر حقيقي. إن تأثير صورة نمر مرسوم على خرقة لإثارة خوف البطل سيكون لها أهمية أكبر مما نظن. لقد خاطت لنا والدة البطل خمسة عشر تنورة كردية. إنها إمرأة كردية ومدبرة منزل. كانت تلك التنانير المزركشة تسحب فوق الرؤوس والأسلحة وكان تأثير ذلك يكاد يتماهي وتأثير سينما بازوليني وهذا ما لا أريد إخفاءه بل بالعكس أريد أن أشدد عليه.

س: هل توافق أن فيلم سايات نوفا، أو لون الرمان (١٩٦٦) هو فيلم عن القفقاس؟

ج: أعتقد أن فيلم سايات نوفا شبيه إلى حد ما بالمجوهرات الفارسية. فجمال منمنماتها البلورية الجميلة يملأ العينين من الخارج، وحين تفتحها سترى أنه لا زال في الداخل الكثير من الزينة الفارسية.

س: يبدو أن فيلمك هذا كان قد تأثر ببازوليني.

ج: العديد يحبون تقليد ما هو جديد، لكن بمجرد ما يبدأون بتقليد شيء، يتحولون إلى مخلوقات بائسة فقيرة حد التسول. ومع ذلك، على المرء أن يتبع خطى الآخر. إذا قال أحدهم:" أفلامك تشبه أفلام بازوليني"، حينها سينتابني شعور أنني أكبر من الحياة ذاتها. ويمكنني أن أتنفس بشكل أكثر يسراً.

بازوليني بالنسبة لي هو أشبه بإله، إله الجمال، سيد الأسلوب، الشخص الذي خلق علمنا أمراض العصر. لقد تخطى نفسه في الأزياء، تجاوز نفسه في الإيماءات. أنظر إلى فيلمه (أوديب) ١٩٦٧. أعتقد أنه عمل بارع بشكل مطلق. ممثليه، مشاعره إزاء الأنوثة، الرجولة..

بازوليني ليس إله فحسب، إنه الأقرب إلى الله. وهو أيضاً الأقرب إلى علم أمراض وجودنا على الأرض، الأقرب إلى جيلنا. لقد شاهدت تواً فيلمه (ألف ليلة وليلة) ١٩٧٤. هذا الفيلم بالنسبة لي تفسير جبار ومؤثر للإنجيل. إنه مجبول من التكوين نفسه، مصاغ من الشكل البلاستيكي نفسه كما هو موجود في الكتاب المقدس.

س: هل أنت معجب بأفلام فيليني؟

ج: السحر في أفلام فيليني شيء مدهش. موهبته التخييلية أمر مذهل، لكنها تذهب في اتجاه واحد فقط... صوب التعمية والغموض. فيليني يمتلك شغف عنيد لجعل شخصياته أكبر من الحياة ذاتها. أنظر إلى فيلمه (والسفينة تبحر) ١٩٨٤ وهو فيلم مذهل يتحدث عن مأساة الزمن... عن مغنية الأوبيرا (Edmea Tetua) عن الحرب (الحرب العالمية الأولى).

كل شيء يحدث على ظهر سفينة: نثر رماد مغنية مشهورة من لاسكالا - عبقري!. كيف يمكن للناس القول أنه أحرق نفسه بعمله هذا؟ على العكس، إنه أحد أفضل أفلامه. أنظر إلى فيلمه (كازانوفا) ١٩٧٦!.

س: فيلمك الأخير (عاشق غريب) هو فيلم أطفال.. مثل فيلمك الأول (أندريش). أليس كذلك؟

ج: نعم، أندريش قريب جداً من فيلم (عاشق غريب) لكنهما مختلفان بالطبع. إنها قضية خبرة ودراية. قضية لها شأن بنوع الحقبة. لو عدت إلى الوراء، ستجد أن هناك براءة وشعلة الشباب اللاهبة. لقد كنت مضطراً لعمل فيلم (أندريش) بعجالة.

س: كيف تم إنجاز فيلم (عاشق غريب)؟ (*)

ج: حين كنت في سن السابعة من عمري كنت مريضاً بالذبحة الصدرية وكانت والدتي تقرأ لي قصة عاشق غريب، وهي حكاية خرافية كتبها الشاعر الروسي العظيم ميخائيل ليرمنتوف وهي ليست معروفة جداً ولم يعد التعامل معها في المدارس السوفييتية قائماً. امرأة تركية في القفقاس حكت هذه الخرافة لميخائيل ليرمنتوف الذي كان شاعراً عظيماً مثل الكسندر بوشكين

لقد أثر ليرمنتوف فيّ كثيراً عندما كنت طفلاً. وأذكر أنني بكيت. بكيت لأن البطل ماغول ميجيري كان بانتظار حبيبته. لقد أرغموها أن تتزوج من شخص آخر فأرادت أن تقتل نفسها.

حينها بدأت أبحث عن عاشق غريب خاص بي، هذا المنشد المسلم الذي كان يجول العالم للحصول على المال الكافي ليشتري حرية حبيبته ماغول ميجيري، يومها عثرت على الشخص الذي سيلعب هذا الدور وهو شخص كردي يسكن في البيت المجاور لبيتي. كان هذا الشخص في سن الثانية والعشرين وكان متوحشاً وغليظاً وقد ضرب شرطياً ومن بعده وكيل المنزل بسبب تسرب مياه المطر من السقف. سرق سيارات ودخل في شجارات، ثم التقيت به وسألته: "هل يمكنك أن تكون متوحشاً لمدة عام؟." أجاب: "بإمكاني أن أكون كذلك إلى الأبد. وهذا يتوقف على ما تعرضه عليّ". إنه مسيحي بالطبع لكنه لعب دور شخص مسلم في الفيلم.

س: أظن أنني سمعت موسيقى كنائسية في الفيلم. أليس كذلك؟

ج: نعم موسيقى آلة الأورغن. إنها موسيقى الكنيسة. لقد استخدمتها في مشهد "الله واحد". في جورجيا تسمع الآلات الوترية المتعددة للموسيقى الكنسية، أما البقية فهي موسيقى مورام الإسلامية. أما ما يتعلق بما إذا فهم الناس الفيلم أو لا، فهذا شيء آخر. ثمة أطفال من ملجأ الأيتام يغنون في الفيلم. أطفال جاءوا إلى المدرسة قادمين من الأقاليم ومن الجبال ومن السهوب، فقط ليتعلموا غناء مورام. وغناء الأطفال يمكن أن يضيف عمقاً عاطفياً هائل للفيلم.

أفلام قليلة جداً فقط بمقدورها تخطي الحدود بين عالمين، وبضعة مخرجين فقط يمكنهم فعل ذلك. يلماز غوني أحدهم. إنه لشيء مدهش كيف أن شخصاً من الشرق يمكنه عمل أفلام لأوربا. هذه الثقافة تقع على الحدود بين شرق العالم وغربه.

س: هل أن أفلامك الثلاث السابقة (سايات نوفا أو "لون الرمان"، ظلال أسلافنا المنسيين، وعاشق غريب) تشكل ثلاثية، موضوعاً وأسلوباً؟

ج: أن تربط ثلاثة أفلام وتعمل منهم ثلاثية لكي تفوز بجائزة لينين وتستمتع بهتاف الجمهور! فهذا هو بالضبط ما حدث للمخرج تنجيز أبولادزة وأفلامه الثلاث: الصلاة (١٩٦٩)، شجرة الرغبة (١٩٧٧)، و التوبة (١٩٨٦). 

ليس ثمة أي رابط بين هذه الأفلام الثلاث على الإطلاق وليس هناك أي شيء مشترك بينهم ومع ذلك تم ربطهم كذريعة للحصول على جائزة لينين

أنا لست بحاجة إلى إشادة سطحية من هذا النوع. أفلامي لا تملك سوى شيء واحد مشترك وهو التشابه في الأسلوب، حياتي هي شهادة كافية. لم أكن أريد أن أؤسس مدرسة أو تعليم أي شيء لأي أحد. وأي شخص يحاول تقليدي سيضل طريقه.

لدينا جيش من المخرجين الشباب الموهوبين، أنواع من الشباب من محدثي النعمة الذين يأتون للسينما وينتظرون أن يصبحوا مخرجين. ينبغي عليهم بدلاً من ذلك أن يفكروا بالكيفية التي يمكنهم بها أن يصبحوا مخرجين مدى الحياة.

س: أنت تخطط لفيلمك الجديد (الاعتراف) منذ مدة طويلة. أليس كذلك؟ (**)

ج: أنا مدين باعتراف للسينما الأرمينية بنوع من الإنجيل الشخصي. هذا الفيلم يتحدث عن أمي وأبي وطفولتي وعزلتي في السجن ورؤية أحلامي ومأساة المقبرة التي قوضت لكي يبنى بدلها متنزه لتكريم الشيوعي سيرغيه كيروف. المقبرة عليها أن تتنحى عن الطريق تكريماً لكيروف. البطل الشيوعي جاء وعلى الأشباح مغادرة المكان.

س: ماهي خططك بشأن فيلمك القادم؟ هل هو فيلم عن فاوست كما سمعت؟

ج: نعم، لكن قبل أن أعمل فيلماً عن فاوست ينبغي أن أذهب إلى أميركا لعمل فيلم عن القصيدة الملحمية (أغنية هياواثا) للشاعر الأمريكي هنري وادسورث لونغفيلو. إنه عمل شعري رائع وهو لا يزال معروف على نطاق واسع لجيلنا في روسيا. لكن لسوء الحظ من الصعب العثور على نسخة مترجمة له. لم يأخذ أحداً على عاتقه عناء إعادة طبعه ثانية، وأنا مصمم على تصويره في أميركا مقابل المناظر الطبيعية التي وجدت في لونغفيلو. أحتاج إلى طبيعة وهنود وريش وعوانس ذات بشرة سمراء، وأبطال وسيمون.

في أميركا يمكن تصوير هذا الفيلم بسرعة وبميزانية قليلة. منتج ذكي من شأنه معرفة أين تكمن الإمكانات، وكيف ممكن عمل اتصالات جيدة، والبقية ستكون على عاتق الطبيعة. الطبيعة قد خلقت بالفعل مواقع تصوير مذهلة، وأزياء هياواثا موجودة بالفعل. فيلمي سيكون أشبه بحكاية من حكايات الإنجيل. أغنية هياواثا هي تنويع على الثيمة الإنجيلية. فيلم (عاشق غريب) هو الآخر تنويع على القرآن الكريم مع الأخذ بنظر الاعتبار موقف البطل إزاء الطبيعة وإزاء حس الدعابة والنساء والشر والجمال.

س: وفاوست؟ 

ج: فاوست؟ فاوست هو فيلم للألمان في المقام الأول. لحكومات ألمانيا الغربية أو ألمانيا الشرقية، هذا أمر غير مهم. المهم هو أن الألمان شعب عظيم. وعلى الرغم من الجدار الذي يفصل بينهم، إلا أنهم يشتركون بتأريخ واحد وبمستقبل مشترك. آمل أن يكون الفيلم مدروساً. لا ينبغي أن ينظر له على أنه مشروع تجاري. الفيلم يجب أن يعمل من أجل قيمته الفنية. فاوست مهم جداً للجيل المقبل. الجيل الحالي لا يمكن إعادة تثقيفه. التلفزيون هو من يتحكم بحياتهم، يحبون مضغ العلكة وارتداء ملابس معينة وسواها. لكن الجيل القادم سوف يكون مختلفاً تماماً. نحن الفنانون، المخرجون، السياسيون، ينبغي علينا ضمان تنشئة الأجيال القادمة. وألمان الغد لا يزالون في الرحم. الألمان هم بحاجة إلى فاوست إذا أريد لهم أن ينضجوا ليصبحوا ألماناً عظام.

***

هوامش:

   (*)  فيلم (عاشق غريب) في الواقع يعد واحداً من أبرز وأجمل أفلام باراجانوف، فهو يشرع من خلاله في رحلة إلى داخل أحد العوالم السرية للشرق بثقافته وتقاليده، طقوسه وموسيقاه الخلابة وشعره، حيث تتحول الشاشة إلى لوحة من المنمنمات الشرقية تجمع بين التأثير الفذ للألوان والغناء والرقص والأصوات الموسيقية

سمح لباراجانوف في عام ١٩٨٨وللمرة الأولى بالسفر إلى الخارج تلبية لدعوة وجهت له من مهرجان ميونيخ السينمائي لعرض فيلمه (عاشق غريب). وفي كلمة افتتاح الفيلم قال سيرغي باراجانوف:

"لدي شيء أود قوله بشأن فيلمي هذا. إنني أحب هذا الفيلم. ينبغي على كل فنان أن يعرف متى سيموت. أحب أن أموت بعد هذا الفيلم لأنني شغوف به. وهذا الفيلم مهدى إلى ذكرى صديقي الراحل أندريه تاركوفسكي. لذا ألتمس منكم جميعاً أن نقف لحظة صمت لذكرى هذا المخرج العظيم.(...........) آمين". (ع.ك)

 (**) تدهورت صحة باراجانوف في عام ١٩٨٩ وتم تشخيص إصابته بمرض سرطان الرئة (المرض ذاته الذي أصيب به تاركوفسكي)، إلا إنه مع ذلك بدأ التحضير لفيلمه الجديد الذي هو بمثابة السيرة الذاتية له وهو بعنوان (الاعتراف)، الفيلم الذي (ليس بوسع أحد القيام بإخراجه سوى مخرج وحيد ولد في عام ١٩٢٤ في تبليسي. التوقيع: مؤلف توفي في طفولته... ١٩٦٩) وهي الكلمات المدونة في الصفحة الأولى من سيناريو الفيلم

كان لدى باراجانوف حلم مخبىء منذ عام ١٩٦٩ ألا وهو تحقيق فيلم يعتبره هو نفسه "أكثر الأفلام قداسة". كان يقول: "لدى كل مخرج فيلم اعترافي واحد، هو الأهم من بين كل أفلامه مثل فيلم (المرآة) لتاركوفسكي". ويضيف: من بين كل سيناريوهاتي غير المدّونة وغير المنجزة بعد أود أولاً وقبل كل شيء أن أخرج مثل هذا الفيلم. ينبغي أن أعود إلى طفولتي لأموت فيها... أريد العودة إلى جذوري، لأعيد صياغة الماضي، لأوقظ ظلال أجدادي من كِسَرْ وشظايا وقصاصات ذلك الماضي، من ابتسامات الأشياء والوجوه، أن أحاول لصق صور طفولتي بعضها ببعض، لأنقذها من النسيان والموت..".

هذه المقاطع مجتزئة من مقدمة نص سيناريو (الاعتراف) الذي هو بمثابة فيلم ـ ذاكرة، ارتقت إلى صورة!.

بدأ باراجانوف تصوير الفيلم في في منتصف عام ١٩٨٩ في (ستوديو يريفان) وكان العمل على الفيلم متقطعاً بسبب سوء وضعه الصحي. فقد أمضى يومين فقط في موقع التصوير استطاع أن يصور مشهداً واحداً فقط من مذكرات طفولته وهو جنازة إبنة الجيران فيرا.

كان يتوسل الطبيب وهو في حالة احتضار أن يمدد حياته "ولو لستة أيام فقط" كي يستطيع أن يوظف الوقت المتبقي لكتابة سيناريو عن طفولته. إلا أن العملية التي أجراها في موسكو لم تسعفه فنقل إلى باريس بناءاً على دعوة من الحكومة الفرنسية للعلاج لكن مرضه لم يكن قابلاً للشفاء.

توفي سيرغي باراجانوف في ٢١ يوليو ١٩٩٠ ودفن في يريفان وسط أبهة عظيمة في (مقبرة العظماء الأرمن) بجانب الملحن الكبير آرام خاتشوتريان والكاتب وليم سارويان. (ع.ك)

إيلاف في

18.01.2014

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)