حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

حوار مع الناقد السينمائي اللبناني محمد رُضا

أجرى الحوار صلاح سرميني

 

·     في مدونتكَ "ظلال، وأشباح" (أفضل مدونة سينمائية عربية) قرأتُ بأنك سوف تكتب موضوعاً تتطرّق فيه للمشهد السينمائي النقدي العربي، وبالتحديد، من هو الناقد الحقيقي، ومن هو المُزيف، هل هناك حقيقيّ، ومزيفٌ في النقد السينمائي؟

ـ في الحقيقة، بدأتُ، وترددت، ثم داهمتني ظروفٌ خاصّـة، وحين فكرت في العودة وجدت نفسي لست مكترثاً، لأنني لست شجاعاً إلى حدّ تجنـب المشاكل، إلا إذا طرقت بابي، كانت هناك مشكلة قبل سنوات مع الزميل "....." لم أبدأها أنا، لكنها انتهت بالصلح، و"..." ناقدٌ بلا جدال، قد يصيب، وقد يخطئ كما نفعل جميعاً، لكنه ناقدٌ يعرف ماهية النقد، ويمارسه، لكن هناك آخرون ليست بينك، وبينهم معارك، وإذا وضعت لائحة بأسماء النقاد الفعليين دون ذكرهم سيأخذون موقفاً منك، وإذا بك تدخل في صراع لا جدوى منه، لأنّ أحداً لا يتغير، على كلّ حال لا زال الموضوع وارداً عندي، لكني متريّث لدراسته.

·     بصراحة، أنا أتودد لكَ منذ فترة، وكتبتُ عن "دليل السينما العربية، والعالمية"، وأجري معكَ حواراتٍ، وأنا لا أحب الحوارات، أملاً في أن تضعني في القائمة المناسبة.

ـ كي ترتاح، أنتَ خارج أيّ قائمة، ولستَ أكثر من مدّعي، وتحرس الأنترنت كي تلاحق لصوص المقالات،...أمزح طبعاً.

·        بالمناسبة، ماهو حال المُدونات السينمائية الشخصية، وإلى أين وصلت؟

ـ معظمها توقّـف، لأنّ غالبية أصحابها يعملون في الموضة، وليس في السينما.

·        هذه الإجابة سوف تسبب لك المشاكل، لكن تلك المدوّنات أدّت، وتؤدي دورها ؟

ـ معظمها- مرّة أخرى- دار حول نفسه أكثر مما أدّى دوراً.

·     بشكلٍ عام، أجد هناك إزدواجية في شخصية الناقد السينمائي العربي، كيف يمكن أن يكون ناقداً، ولا يتقبل النقد ؟

·     لأنه إنسان في الأساس، وكلّ إنسان لديه حساسية معيّنة، إذا أردت التحديد، متى تتقبّـل النقد ؟ 

في الحالات التالية :  

أولاً : لا تكترث تماماً.  

ثانياً : حين تضمر في قلبك عكس ابتسامتك، وتخبيء لمن انتقدك إنتقاماً.

ثالثاً : عندما يكون الناقدة إمرأة حسناء، فتغفر لها مقابل التقرّب إليها.

عدا هذه الأحوال ليس هناك قبولاً للنقد للأسف.

·     عندما بادرتَ مع ناقديّن آخريّن إلى تأسيس "إتحاد دوليّ لنقاد السينما العرب"، فجأةً ظهرت عوائق، وإشكالياتٍ من بعض الأشخاص في مصر، وكانت لديهم إعتراضاتٍ على التسمية نفسها "دولي"، ولماذا يتأسّس من طرف نقاد المهجر، والأهمّ بأنكم تؤسّسون هذا الإتحاد لأغراضٍ شخصية، ومصالح، ومنفعة، ومن ثمّ توقف المشروع تماماً ؟

ـ أولاً، صحيح، هناك أشخاص في مصر قاموا بالإعتراض، وهناك نقاد من لبنان، ومصر، والإمارات رفضوا الإشتراك لأنهم كانوا يفكرون من سيكون الرئيس، وهل هذا يعني أن الرئيس هو أفهم مني، أم لا، وإذا لم يكن، فلماذا هو الرئيس، وليس أنا. نحن العرب طينة غريبة من البشر … أكثر الناس جهلاً بالحسنات، لكن، أنتَ، وأنا والدكتور "طاهر علوان" مسؤولون عن فشله، في البداية كنتُ صاحب وجهة نظر تقول أن الإتحاد الوحيد الناجح هو ذلك الذي يشبه النادي الخاص، مسؤوله، أو مسؤوليه يضمّون الأعضاء بالدعوة فقط، ويكون قادراً على دفع تكاليف، وإنشاء جوائز، وإرسال أعضاء إلى المهرجانات، وكنتُ أعلم أن هذا ليس ممكناً، فنحن والفقر جانبان لعملةٍ واحدة، لكن هذه هي الطريقة المثلى في نظري ليس لأنها أفضل الأفكار، بل لأنّ النقاد العرب لا يعرفوا كيف يعملون معاً، وكل واحد يريد العيش فوق جزيرته الخاصّة به، كذلك ساهمتَ أنتَ بإحباطه عندما بدأتَ ترسل الدعوات لكلّ الناس، أصابني اليأس، وتخليت عنه.

·        ماهو تقيّيمك الصريح للمهرجانات السينمائية في الخليج ؟

ـ إنها أفضل ما حدث للسينما في الخليج في تاريخ المنطقة، لأنها أتاحت وعياً بالسينما لم يكن منتشراً، وحققت للسينمائيين فرص عمل، وعرض، وأنت تعلم أن فرص العمل وحدها لا تكفي، إذاً على صعيد العمل المهرجاني نجحت، وكان لا بد من وجودها جميعاً، شعاري : وجود مهرجان- مهما يكن- أفضل من عدم وجوده، لكن كل ذلك لا يمنع من القول أن هناك تحييداً بالغ الخطورة لدور النقد، والناقد في عملية التأسيس، وفي عملية المتابعة، وهناك شيء من السرية في العمل،... المبرمجون يختارون، صحيح ؟ المبرمج ليس ناقداً ـ إلا إذا كان ناقداً أساساً كما الحال معكَ مثلاً ـ وكان من الواجب أن يحتوي كلّ مهرجان على نخبةٍ من النقاد تصطفي الأعمال، لقد شاهدت أفلاماً هزيلة كثيرة في كلّ مهرجان، ولا يوجد من يتحمّل مسؤولية ذلك إلاّ المهرجان نفسه.

·     إذا كنتَ في لجنة تحكيم، وأردتَ أن تمنح جائزةَ لناقدٍ سينمائيّ عربيّ، من هو هذا الناقد، وماهي مبرراتكَ، طبعاً لا يمكن أن تمنح الجائزة لنفسكَ، أو لمن يُحاورك الآن.

ـ لا أدري.

·        كيف لا تدري، ام تريد الجائزة لنفسك ؟

ـ تعجبني كتابات أمل الجمل، وبشار إبراهيم، أنا لا أمتنع عن الجواب هنا رغبة في تسييس الجواب،... لكن، فعلاً لا أدري، لقد استثنيت إثنين يستحقانها،...ما يزيد من صعوبة الأمر ـ أكاد أسمع الشتائم تنهال عليّ ـ المشكلة هي أن مفهوم النقد يختلف من شخصٍ لآخر، سأعطيها لناقد يكتب في السينما ذاتها، يفهم في تاريخها، وتقنياتها ويشاهد الفيلم، ويستخدم كلمات فيلمية، وليس سياسية، أو إنشائية، أو أدبية في النقد.

·        يعني ...، و....، و....، و...خرجوا من المولد بلا حمص ؟

ـ ولا حتى فول،..

·     طيب، سوف أصيغ السؤال بطريقةٍ أخرى : بإفتراض أنّ أحد المهرجانات العربية إعتمد جائزةً سنويةً لناقدٍ عربي، ماهي المواصفات التي يجب على إدارة المهرجان، أو لجنة التحكيم أن تأخذها بعين الإعتبار لمنح هذه الجائزة إلى هذا الناقد، أو غيره ؟

ــ أجبتُ على هذا السؤال قبل أوانه في السطر الأخير من الجواب السابق.

·     لقد إتفقنا بأن تكون صريحاً....حسناً سوف أنتقل إلى سؤال آخر، هناك خلافٌ حول الصحفي، والناقد السينمائي، لماذا هذا الخلاف أصلاً، وهل يتميّز أحدهما عن الآخر؟

ـ أحترم الصحافي الذي لا يُسمّي نفسه ناقداً، ولعله - إذا ما كان جيّداً في عمله - أفضل من الناقد، لأن جودته ناتجة عن سعة إطلاعه، ونجاحه، وكبر حجم قرائه أيضاً، الصحافي لا يجب أن يكون متخصصاً كما الناقد، الصحافي قد يكتب ريبورتاجاً عن عارضات الأزياء يوم الإثنين، ويوم الثلاثاء يجرى مقابلة مع لاعب كرة، إذا ما كان جيّداً في الإثنين لِمَ لا ؟ الناقد متخصص في عالم الوهم الذي هو السينما، ويقلبه إلى العالم الحقيقي، ويستغني عن العالم الذي نعرفه، فيصبح هو الوهم وهو إنسان عليه أن يكون متخصصاً حتى يكون ناقداً، ولا يصلح أن يكتب في البطاطا، والسينما، ولا أن تكون كتابته في السينما من نوع "ولا ريب أنّ السينما الأميركية تعادي العرب"،... أو حتى "تناصر العرب". 

هذا كلام لا يقدّم، ولا يؤخر، وأنا على فكرة لست ناقداً سينمائياً، أنا ناقد أفلام.

·     بعد هذا الجهد الطويل، والجاد، والمفيد، ألا تستحق دكتوراة شرفية من قبل إحدى الجامعات، أو المعاهد العربية، وهكذا نقول لك "د.محمد رضا".

ـ ذاتَ يوم منحني مهرجان "السينما العربية المُستقلة" شهادة أفضل ناقد، هل يذكر ذلك أحد ؟ هل رفعت أجري في الصحف؟ هل فتحت قنوات التلفزيون أثيرها لبرنامج سينمائي أقوم بكتابته ؟ .

وصلتني من الجامعة الإنجيلية في بيروت كلمة تقدير حول موضوع كنت كتبته ونشرته في "النهار" حول الإقتباس في السينما، وهذا كان جيّداً... لكن مهنة النقد السينمائي في وضع ملتبس، والقائمون على الثقافة آخر من يكترث، وإن فعلوا، فإنهم سيختارون أمثال ذلك الزميل الذي ينشر سلسلة مقالات مادحة بالمسؤولين، الحمد لله أنني لست كذلك، طبعاً يستحقون المدح على ما يصنعونه للبلاد لكن في مقالة واحدة، الشخص المذكور انتقل مادحاً كل مدينة على حدة... لكن هذا هو إختيارهم - ماذا تفعل ؟ أنا لا أفعل شيئاً، قابل على أن أموت من دون "تكريم" لأنني أنا من أكرم نفسي بعملي، ومثابرتي ثم القرّاء، حين يلتقي بي أحد لا أعرفه فيحييني بصدق، أو حين تخبرني مخرجة بأنها لم تكن تعرفني، وحين قرأت مقالتي عن فيملها سألت أبيها فقال لها : "إذا كان محمد رُضا هو الكاتب صدّقيه بصرف النظر عن إعجابه، أو عدم إعجابه"، هذا هو التقدير الأهم.

·     اليوم، هل تعضّ أصابعك ندماً لأنك قبلتَ أن نتحاور عن النقد، والمهرجانات، ..إلخ، ألا يستحق الأمر بأن نُعلن الحرب بيننا، ونُشرك معنا أطرافاً مثل : مصطفى المسناوي، هوفيك حبشيان، نديم جرجورة، بشار إبراهيم، رامي عبد الرازق، أمل الجمل،..؟

ـ لقد صرفتُ ساعتين للإجابة على أسئلتك، كنت أستطيع مشاهدة فيلم لا يسبب رفع الضغط.

·     يبدو من خلال متابعتي للمشهد السينمائيّ النقدي العربي، بأنّ هناك صراعاتٍ صغيرة، وتافهة بين النقاد العرب، أحياناً مُعلنة، وفي أغلب الحالات مُضمرة، ماهو تفسيرك لهذه الأجواء العدائية، وهل هناك مبرراتٍ شخصية، أو إحترافية لها ؟

 ـ سؤالٌ مهمّ، خصوصاً، وأنّ السائل مُتـهمٌ بإثارة المشاكل على نحوٍّ ملحوظ، وهو بالتأكيد عضوّ فاعلٌ في عملية الكشف عن عصابة سرقة المقالات، وانتحال المواد التي ينكبّ على تأليفها النقاد الحقيقيين.

هناك صراعاتٍ صغيرة ؟ نعم

تافهة ؟ لا أدري، لأنّ المسألة لا علاقة لها بكيف ينظر المرء إلى تلك الصراعات، في الأساس، لا يجب أن يكون هناك أيّ صراع، لكن بعضنا ليس لديه ما يكفي من الثقة بالنفس، والنظرة البعيدة المدى، وحتى نكون واقعيين، المضمور من النزاعات ليس إختصاصاً عربياً فقط، هناك مثيل له في أنحاء الدنيا، وهو من نصيب من لا يملك ما سبق ذكره.

·        هل لكَ أن تتحدث بوضوح، وتفاصيل، نحن لا نتحاور بالألغاز.

ـ حسناً، خذني أنا، مبرري الشخصي هو أن أواصل إعجابي بمن سبقني في درب الكتابة، حين يحرمني ذاك من هذه الميزة، أنقلب ضدّه، هذا يحدث من حينٍ لآخر مع الزميل "...."، نشأنا جميعاً على قراءته، والإعجاب به، لكنه لم يعدّ يكتب المادة السينمائية الخالية من الإعجاب، أو عدم الإعجاب، يصطف مع مخرجين، وسينمائيين، ونقاد، ومسؤولين أصابوا، أو أخطأوا، بالنسبة لي، ولأني أحترمه، وتجربته، فإن ذلك يؤذيني، ورُبما آن الأوان أن لا أسأل، البعض مثل "....." يكتب جيّداً، وعلى نحوٍ متخصص، لكن، من كثرة ما كتب، لم يعدّ واضحاً أيّ فيلم شاهده، وأيّ فيلم نقل معلوماته ثم صاغها على طريقته، أنت تعرف بالمعركة ـ إذا صحّ تسميتها بذلك ـ التي نشأت بيني، وبين "....." في هذا المجال، هذا الزميل، وكالعادة، تصرّف كما لو أنه لا يقرأ ما يُكتب ضدّه، بينما أعرف عكس ذلك، لكنه هو من يملك ضغينة دائمة، ولو أردت أن أذكر لك الأمثلة - التي تعود إلى أواخر الستينيّات- لتطلب الأمر كتاباً، كيف تعالج هذه الضغينة ؟ الجواب، أن لا تعالجها، بل على صاحبها أن يعالجها.

·        من خلال علاقتكَ مع النقاد الأجانب، هل شعرتَ يوماً بصراعاتٍ مُماثلة؟

ـ هناك نزاعات، ولكنها ضمن الرأيّ، من نوع أن يقرأ كلّ واحد للآخر، ويعارضه، أو يوافقه، وقد يعارضه دائماً، قد يرى في كتابته ما لا يرضى عنه، لكن من النادر أن تجده مهتمّ لأن ينقل هذه المعارضة على صفحات مطبوعة، أو مرئية، عندنا زميل "...." يتربّص بالآخرين، ويشنّ عليهم هجوماً.

·     طيب، في يوم ضبابيّ، أنشأ أحد المُدعين مدونةً بعنوان "سرقات سينمائية"، وكنتَ متعاطفاً معها، وساهمتَ بطريقةٍ وأخرى بالتصدي للسارقين، هل أثمرت تلك الجهود في التقليل من السرقات السينمائية ؟

ـ الشخص الذي تقصده لم يكن مدّعياً بل كانت لديه مُسبباتٍ نفسية، وعاطفية دفعته لمحاولة صدّ الإعتداء الحاصل على مهنة النقد السينمائي.

·        هل أنتَ متأكدٌ بأنها مهنة ؟

ـ أظنّ بأن الحملة واتت أكلها، لكن مرحلياً، ما كان على هذا الشخص أن يفعله هو أن يُمطر رؤساء التحرير بها، وليس توجيه إكتشافاته إلى الزملاء فقط،....

·        أعتقد بأنه أقدم فعلاً على ما ذكرته.

ـ هناك مشكلة السرقات، وهناك مشكلة عدم المعرفة ـ أو الجهل ـ وبين الإثنين الناقد الصحيح في الوسط يحاول ردّ الإعتداء، لأنه يشعر بأن هذا من ضمن وظائفه،..

·        البعض من النقاد كتبوا بأنها ليست من وظيفته، وأنها مجرد تصفية حسابات.

ـ كان عليه أن لا يأخذ الأمور بهذا القدر من الجدية، هنا المعضلة : كي تشتري منزلك الخاص عليك أن تكون ثرياً، فتستغني عن الإيجار، وكناقدٍ كي تمارس عملك بنجاح عليك أن تمتلك عناصر مؤثرة، أن تفكـر كيف يمكن لك أن تنجح في حملتك، إذا لم تكن لديك تلك العناصر، فإنك تضيع وقتك بعد حين.

·     ولكنك قلت في بداية الإجابة، بأنّ الحملة واتت أكلها، هل تريد من هذا الشخص أن يتفرغ تماماً لملاحقة اللصوص، ألا يكفيه بأنّ أحد النقاد الثوار وصفه بأنه (.......)، وتبنى آخرون ذاك التوصيف. على فكرة، لماذا توقفت المدونة، وماهو مصير مؤسّسها الناقد المُدعي، قرأتُ بأن البعض قدم شكاوى ضده، وقضايا في المحاكم العربية، والأوروبية ؟

أعتقد بأنه شاهد واحداً من تلك البرامج التسجيلية عن عالم الحيوان، تلك اللبوة المنفردة التي اصطادت غزالاً، لكنّ الضباع أحاطت بها فلم تتمكن لا من مواجهتهم، ولا من تناول الوجبة، فقررت ترك المكان لتلك الضباع.

·     في يومٍ عاصفٍ، كتب أحدهم بأنّ "ذاكرتك مثقوبة، وتاريخك مزيف"، أعرف بأنكَ تنسى أحياناً، وخاصةً عندما تكون في صالةٍ أمام جمهور تُقدم فيلماً، وتنسى إسم مخرج، أو عنوان فيلم، وهذا أمرٌ يحدث لنا جميعاً، بالنسبة لي، لو كنتُ مكانك، سوف أنسى كل شيئ، ولكن، أن يكتب أحدهم بأنّ "ذاكرتك مثقوبة، وتاريخكَ مزيف"، معقول ؟ و"محمد رضا" الناقد العربي الأنشط؟

هل صحيحٌ كتب عني أحدهم هذا ؟ ذاكرتي مثقوبة، كيف لي أن أتذكر؟

·        هل تتهرّب من الجواب ؟

ـ أنا؟ فشر(يعني أبداً)، إسمع، ذاكرتي غير مثقوبة، وإلا لما تذكرت أدقّ صورة في فيلم شاهدته مرّة واحدة قبل أربعين، أو خمسين سنة، وبصراحة، لا يهمّ عندي إذا كانت مثقوبة، أم لا، القراء لا يعتقدون أنها مثقوبة، وإذا نسيت شيئاً أنا من الشجاعة بحيث أعتذر، إلا إذا بودر بالهجوم عليّ بإعتبار أنني لم أنسى بل تجاهلت، في تلك الواقعة، أقسم بأني لم أكن أتجاهل، أو أقلل من شأن... فقط هذا ما تذكرته، وأرشيفي ليس معي، إلى اليوم لديّ أرشيف في لوس أنجيليس، وآخر في بيروت، وثالث – الآن- في دبي.

·     عن أيّ واقعةٍ تتحدث، لا يهمّ، الطريف في الأمر، بأنّ نفس الكاتب، وفي مناسبة لاحقة كتب غزلاً واضحاً عن "دليل السينما العربية، والعالمية" .

ـ لم أكن أعلم أنه كتب عن كتابي هذا، لذلك لا أستطيع الردّ على سؤالك، لكن العلاقة جيّدة بيننا، وقائمة على إحترام كل لرأي الآخر، والإبتعاد عن الباقي.

·     هل ندمتَ على إهدائي نسخةً من "دليل السينما العربية، والعالمية" لأنني كتبتُ بعض الملاحظات التي لم ترضيكَ ؟

ـ بالأحرى، ندمتُ بأنني عرفتكَ يوماً.

·        ألا تعتقد بأنّ هذا الحوار ثرثرةً لا معنى لها نستحق عليه العقاب بدل المكافأة ؟

ـ هل هناك مكافأة أساساً ؟ لا شيء بديل لها حين إجراء المقابلات، العقاب هو عدم وجود مكافأة، وهناك محطات تلفزيونية كثيرة تستضيف الناقد إما مجاناً، أو لقاء مبلغ رمزي، لقد اتصلت بي إحدى القنوات، وأخبرتني أنها تريدني لمقابلة، وحين طلبت أجراً قيل لي : طبعاً هذا من حقك، ولقد خصصنا لك "أجراً رمزياً"، قلت له : لا أريد أجراً رمزياً بل فعلياً، وحين تسمح ميزانيتكم بذلك اتصل بي مرّة أخرى.

·        حاولتُ أن أستفزك بقدر الإمكان، ولكن يبدو بأنني فشلت، ماهو السؤال الذي يمكن أن يستفزكَ ؟

ـ المسألة يا زميلي نسبية، البعض تستفزه ذبابة، البعض الآخر يحتاج إلى جرار. البعض يستفزه وجود آخر، مجرد وجود، يختلف الناس، بالنسبة لي يستفزني الجاهل، وأنتَ مهما حاولت لن تنجحَ معي، لأنك لستَ جاهلاً.

الجزيرة الوثائقية في

08/08/2013

 

"لورنس العرب": الرجل والأسطورة

أمير العمري 

سنركز في هذا المقال على جانب واحد هو كيفية تناول شخصية لورنس- سينمائيا- في فيلم "لورنس العرب" Lawrence of Arabia للمخرج ديفيد لين الذي أصبح احد أهم الكلاسيكيات في تاريخ السينما.

جوهر الفيلم هو شخصية لورنس التي تأتي من المشاهد الأولى في الفيلم محاطة بالكثير من الغموض والسحر. لورنس الذي يرسل من قبل رؤسائه في القاهرة إلى الأمير فيصل في مكة لكي يقنعه بدعم بريطانيا في حربها ضد تركيا، ثم يقع في غرام الصحراء ويعيش دور البطل الذي يوحد العرب ويقودهم إلى العقبة ودمشق، وخلال ذلك تتحول شخصية لورنس وتكتسب ملامح جديدة- كما سنرى- تجعله يتجاوز كثيرا دوره كضابط بريطاني موفد في مهمة محددة

يبدأ الفيلم بمشهد مصرع لورنس في حادث طريق أثناء سيره بدراجته النارية في طريق ريفي في بريطانيا في 19 مايو 1939. وفي المشهد التالي مباشرة نرى مخبرا صحفيا يوقف عددا من الشخصيات البريطانية المرموقة من بينها الجنرال أللنبي، وهم يهبطون على سلالم كاتدرائية سان بول في لندن بعد تأبين لورنس، ويطلب رأيهم في شخصية لورنس. إجابات هؤلاء، ما بين الإعجاب الشديد أو الرفض التام، أو إنكار العلم به أصلا، لا تلقي أي ضوء على الشخصية بقدر ما تثير التساؤل حولها وتجعلها أكثر غموضا وسحرا وتناقضا.

من هذا المدخل يعود الفيلم إلى رواية قصة لورنس.. إرساله أولا من قبل "دريدن" المسؤول السياسي البريطاني عما يسمى بـ"المكتب العربي" في القاهرة، إلى الجزيرة العربية لجس نبض الأمير فيصل ومدى استعداده لمساعدة الإنجليز في حربهم ضد الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى، ثم كيف ينجح في إقناع فيصل بحشد قوة عربية للهجوم على العقبة والاستيلاء عليها برا، ومن ثم الزحف فيما بعد على دمشق، مقابل وعود بالاستقلال بعد نهاية الحرب.

هذا هو موجز قصة الفيلم. لكن المدخل الأساسي إلى الشخصية ليس المدخل التاريخي بل شخصية لورنس: البطل.. القادم من الخارج، الذي ينتمي للجنس الأوروبي ويتناقض في ثقافته تماما مع ثقافة العرب، لورنس إبن مجتمعات الوفرة وكيف يمكنه أن يقهر كل المصاعب والفروق ويصبح واحدا من "العرب"، يرتدي ملابسهم ويأكل طعام البدو ويركب الجمال، لورنس المثالي الذي يندفع نحو تحقيق مهمته بل ويتجاوز رؤسائه في رؤيته "العبقرية" لمسار الأحداث، فهو هنا صاحب رسالة، أقرب إلى الأنبياء والرسل، الوصلة الإنسانية بين الغرب والشرق، والداعية الذي يدعو العرب إلى التوحد ونبذ خلافاتهم القبلية، من أجل تحقيق الهدف المشترك، أي أنه يحاول أيضا أن يصبح، على نحو ما، زعيما عربيا. لكن العرب لا يستطيعون الثقة به. يتعين على لورنس، الشاحب البشرة، الذي يمكن أن يموت عطشا وهو يعبر صحراء "النفود" أن يثبت لهم أنه "بدوي" مثلهم، وأنه يستطيع أن يصمد للحرارة والقيظ والعواصف الرملية والرمال المتحركة، وأن شجاعته تفوق شجاعتهم حتى يكسب احترامهم بل وتقديسهم له على نحو ما

من المشاهد الأولى في الفيلم تقدم لنا شخصية لورنس كصاحب رسالة. إنه يقول للشريف علي عند لقائهما الأول بعد ان يقتل علي رجلا من قبيلة أخرى بسبب اعتدائه على بئر مملوكة لقبيلة بني حارث: سيظل العرب أمة صغيرة، سخيفة، همجية، لا قيمة لها طالما ظلوا يقاتلون بعضهم البعض بدلا من أن يتوحدوا!

النبوءة

اللقاء الأول بين لورنس والأمير فيصل يتم  في خيمة فيصل في الصحراء بصحبة رئيسه الكولونيل بريتون (أنطوني كويل). يحذره الكولونيل من الإفراط في الحديث بل ويطالبه بالتزام الصمت وعدم مخالفة التعليمات لكن لورنس لا يعجبه مسار الحديث بين فيصل وبريتون، فالأول يطالب الإنجليز بتزويده بالمدافع لمواجهة الأتراك، لكن الانجليز لا يريدون أن يمنحوا العرب سلاحا قويا قد يستخدمونه ضدهم فيما بعد للحصول على الاستقلال. أما بريتون فهو يعتذر لفيصل بدعوى أنهم لا يستطيعون نقل المدافع إليه في أقاصي الصحراء قرب مكة، فيطلب منه فيصل نقله إلى العقبة أي عن طريق البحرية البريطانية. يقول له بريتون إن البحرية مشغولة بمهمة أخرى. لكن فيصل لا يستسلم بل يقول إن حماية قناة السويس أمر يهم الإنجليز (ولا يهمنا) فيعود بريتون لكي يؤكد له أن الأتراك يحتلون العقبة ويوجهون مدافع ضخمة نحو البحر.. ولكنه يستدرك قائلا "إلا إذا تمكنت أنت من الاستيلاء على العقبة". عند نهاية الحديث يغادر بريتون خيمة فيصل الذي يستبقي لورنس ويسأله رأيه فيقول له إنه لا يوافق على موقف العسكريين من بلاده مما يجعل فيصل يندهش: هل أنت وطني؟ نعم؟ كيف؟ هل يمكن أن تكون إلى جانب العرب وإلى جانب بلادك في وقت واحد

في نهاية الحديث بين فيصل ولورنس يقول فيصل: "إن العرب في حاجة إلى أمر من إثنين: إلى الإنجليز... (ويتوقف قليلا) أو إلى معجزة!

تلمع عينا لورنس. يغادر الخيمة وفي المشهد الثاني وهو أحد أهم مشاهد الفيلم وأكثرها قوة من الناحية الفنية، يسير لورنس في الرمال، يبتعد، ويبتعد، ويتطلع إلى الأفق، وهو غارق تماما في التفكير. المشهد يدور في المساء ثم في الليل.. عاصفة صحراوية خفيفة تجعل الرمال تتطاير من حوله وهو يغوص أكثر وأكثر في الصحراء. زرقة السماء تتناقض مع بياض الصحراء. صوت خافت لعاصفة تتجمع في الأفق. الخادمان يتبعانه في صمت. يهبط الليل عليه فيجلس أسفل تلة من الرمال بينما خادماه الصغيران يراقبانه من أعلى التلة. إنه مستغرق تماما في التأمل.. في الصمت.. أحد الخادمين يرمي حجرا صغيرا في اتجاهه لعله يوقظه من تلك الحالة من الصمت. في اللقطة التالية نراه يجلس قبالة الخادمين.. الجميع صامتون. لورنس لايزال مستغرق في التأمل وكأنه يستوحي. وجهه متجمد.. عيناه تبرقان.. فجأة يرتجف وتتشنج يده وكأنه قد اصابه مس أو هبط عليه وحي من السماء. وعندما يفيق أخيرا من تأمله الطويل، يردد: العقبة.. العقبة.. العقبة عن طريق البر. في اللقطة التالية نراه قبالة الشريف علي يقول له إنه عثر على المعجزة: الاستيلاء على العقبة بطريق البر. إعطني خمسين رجلا وسأستولي على العقبة.. أنظر.. العقبة هناك علينا فقط أن نتحرك ونأخذها". الشريف علي يتطلع إليه في عدم تصديق ويقول له: أنت مجنون!

لكن فيصل يتجاوب مع تلك الرغبة- النبوءة- المعجزة القادمة ويوافق على منحه ما يريد، وعلى مسايرة ذلك الإنجليزي الممسوس. وينجح لورنس ورجاله في مفاجئة الأتراك والتغلب عليهم والاستيلاء على المدينة. لقد تحققت المعجزة التي لا يصدقها حتى أكبر القيادات العسكرية البريطانية في القاهرة. الآن ولدت "أسطورة" لورنس.

الألم والعنف

في بداية الفيلم، في مقر الجيش البريطاني بالقاهرة يقرب لورنس عود ثقاب مشتعل من إصبعه إلى أن تلسعه النار لكنه لا يبدي أي شعور بالألم بل بالتلذذ والمتعة. يعلق زميله في دهشة: إنه مؤلم. فيرد لورنس: نعم إنه كذلك. يعلق الضابط: ما هو السر إذن؟ فيكون جواب لورنس: السر هو ألا تمانع في كونه مؤلما

إنه ليس رجلا (عاديا) إذن.. فلديه قدرات خاصة تبهر زملائه. وفيما بعد سيقرأ الجنرال أللنبي، قائد القوت البريطانية في الشرق الأوسط، تقريرا يصفه بأنه رومانسي، مثقف أي أنه ليس محاربا. لكن لورنس سيفتن أللنبي بحنكته السياسية وتقديراته العسكرية وقدرته على القيادة، كما سيدهش فيصل بعزيمته وقوة شكيمته وبعد نظره رغم أن فيصل يبدي تشككه فيه في البداية عندما يخبرونه عن قدومه فيعلق بقوله: آه.. "إنجليزي آخر من هؤلاء الذي يعشقون الصحراء"! 

لورنس (المصاب بنزعة تميل إلى إيذاء النفس) لا يصبح ضحية ضعيفة، بل يستخدم هذه الحالة- الميزة- العيب- الخاصية النفسية، لكي يتحول إلى رجل يستعذب الألم، يتحمل المشاق، يضع أمامه هدفا يسير نحوه مهما تعرض للمصاعب.  

وعندما يكلفه دريدن بالتوجه إلى الجزيرة العربية والعثور على الأمير فيصل "في مكان ما على بعد 300 كيلومتر من المدينة" يكون تعليق لورنس: شكرا يادريدن.. سيكون هذا أمرا ممتعا

دريدن يبدي استغرابه ويعلق قائلا له: "لورنس..هناك نوعان فقط من المخلوقات يجدان متعة في الصحراء: البدو والآلهة. وأنت لست أيا منهما. خذها مني نصيحة: بالنسبة للرجل العادي الصحراء تحرق وتشوي". 

لكن رد لورنس يأتي بكل بساطة: سيكون الأمر ممتعا

لورنس "مازوكي" يجد متعة في الألم والتألم، لكن مازوخيته ستتحول على المدى البعيد مع اندماجه في القيام بدوره، إلى "سادية"، حينما سيجد متعة في القتل وسفك الدماء وسيكتشف في نفسه تلك الوحشية الكامنة التي يجدها أيضا أمرا مبررا، فهو سيصل إلى القناعة بأنه قد أصبح "صاحب رسالة إنسانية كبرى" وبالتالي مغفور له أن يستخدم أي وسيلة من أجل تحقيق العدالة، وقهر العدو

وبعد النصر في العقبة يأتي مشهد مخفر درعا. يصور الفيلم كيف يقع لورنس في أيدي الأتراك عندما يقوم بكل ثقة، بإظهار نفسه وهو يرتدي الملابس العربية أمام دورية من الجنود الأتراك في مدينة درعا التي يذهب إليها مع الشريف علي، لكي يتفقدا الوجود العسكري التركي فيها. يرفض لورنس التخفي، ويمتنع عن الهرب رافضا النصيحة، ويبدو وكأنه قد أصبح بالفعل محصنا ضد القوى الأرضية. لا أحد يستطيع أن يمسه بسوء. وعندما يقبضون عليه يدركون أنه ليس عربيا لكنه لا يكشف أبدا عن هويته الحقيقية. يتعرض للجلد على أيدي الجنود، في حين يراقبه عن بعد باستمتاع خفي البك، قائد المخفر التركي، ويرى كيف يتحمل بجلده الأبيض الناعم الضرب بالسياط من دون أن يبدر منه أي شعور بالألم.  

إن قوة التحمل بل والاستمتاع الخفي بالألم، مرادف لما سيحدث له فيما بعد عندما يبدأ في الشعور بالاستمتاع بممارسة العنف. وهذه الصورة تندرج في إطار إضفاء الطابع الأسطوري على شخصية لورنس. لكن انكساره أمام البك التركي سيترك ابلغ الأثر في نفسه، سيتحول إلى مزيد من السادية والعنف.

أثناء عبور لورنس ورفاقه من العرب صحراء النفود الوعرة في طريقهم نحو العقبة يضل "جاسم"، فيوقف لورنس القافلة ويصر على أن يعود بنفسه للبحث عن جاسم وإنقاذه رغم معارضة الشريف "علي" له بشدة: "ستقتل نفسك.. إتركه.. جاسم ميت لا محالة.. لقد حانت ساعته.. هذا مكتوب". 

يقول له لورنس: لا يوجد شيء مكتوب.. إفسح الطريق

يرد علي قائلا: إذهب إذن أيها الإنجليزي الكافر.. إذهب.. أنت لن تصل أبدا إلى العقبة

إنه يعتبره "كافرا" لأنه يرفض أن يؤمن بالمكتوب أي بالقضاء والقدر.إلا أن لورنس يجيبه بثقة: سأصل إلى العقبة.. إنه مكتوب هنا (مشيرا إلى رأسه أي إلى عقله)! 

هذا تجسيد بليغ للتناقض بين عقليتين، بين العربي والغربي، بين المؤمن بالقضاء والقدر، والمؤمن بأن عزيمته "البشرية" يمكن أن تهزم القدر، بين إنسان (عادي) وآخر يعتقد أنه مبارك من السماء

المشهد التالي هو أحد أهم المشاهد في الفيلم. إنه مشهد محوري في فهم الشخصية بل وفي معرفة خصائص أسلوب ديفيد لين السينمائي الذي يعتمد على التصوير والمونتاج والحركة والتكوين والموسيقى، ويمزج كل تلك العناصر معا لتحقيق أكبر قدر ممكن من المتعة البصرية والسمعية. إنها تلك "السينما الخالصة".

المشهد ينقسم إلى ثلاثة أحداث تدور في وقت واحد. أولا هناك "جاسم" الذي نراه يسير في الصحراء ليلا قبيل الفجر، يسير ويسير ويتوغل وحده في فضاء متسع خال. السماء زرقاء قاتمة، والأرض بيضاء صخرية جافة. موسيقى تعكس نوعا من التوتر والقلق تعتمد أساسا على إيقاع دقات الطبول المتواترة.. تدريجيا ينبثق الفجر، وتسطع الشمس في الصحراء ثم تقوى وتشتد. يستخدم لين لقطات للسماء، ولقطات عامة من زاوية مرتفعة لجاسم وقد بدأت قوته تخور. لقد بدأ يتخلص من أحزمته ومن سيفه لكي يصبح اكثر قدرة على مواصلة السير. لكن الألم والضعف الذي نلمحه على وجه الممثل ثم ميله بجسده للامام، يشي بأن طاقته قد أوشكت على أن تفرغ. في الوقت نفسه نرى لورنس فوق جمله على مرمى الأفق.. من بعيد في لقطة عامة جدا.. الجمل يتحرك فوق الرمال، ثم نرى لقطة للخادم الأول للورنس أي "داود" وهو يركب جملا واقف في الصحراء يرقب في قلق منتظرا. نعود إلى لورنس لكي نراه وهو يقترب من جاسم ويتمكن من انتشاله. ونعود إلى قافلة المحاربين البدو بقيادة علي. نرى مجموعة من الجمال تشرب من مياه بئر فنعرف أنهم قد وصلوا إلى منطقة الآبار بعد أن عبروا المنطقة الأخطر في صحراء النفود. ونرى الخادم الثاني للورنس أي "فراج" وهو يتطلع في قلق وتوتر عودة زميله "داود" أو رؤية لورنس في حين يبدو الشريف علي غاضبا حانقا يضرب بعصى في الأرض فتنكسر. إنه غاضب على ذلك "الإنجليزي الأحمق" الذي أصر على ذلك الفعل الانتحاري، أو على تحدي المستحيل!

نعود إلى دواد وهو يرقب ثم يبدأ في التحرك ببطء بالجمل نحو الاتجاه الذي اختفى فيه لورنس عن الأنظار. موسيقى لترقب والقلق تتصاعد تدريجيا. تتحول زاوية الكاميرا إلى أعلى الجمل أي تتخذ رؤية داود وتتحرك إلى الامام كما لو كانت من عيني داود وهو يعتلي الجمل. الحركة تسرع أكثر فأكثر والموسيقى تتصاعد إلى أن يرى داود لورنس فوق جمله وقد نجح في إنقاذ جاسم وأتى به معه. وفي لقطة من بعيد نرى داود يجري بالجمل في اتجاه لورنس ثم يدور حوله ويلتف ويسير أمامه. هنا تتصاعد الموسيقى وتتخذ نغمة أخرى تعكس الفرح وحالة النشوة التي يشعر بها داود الذي نراه ياخذ في إطلاق صيحات الفرح ويرفع عصاه ومن الناحية الأخرى يلوح له لورنس بعصاه في زهو. ويبلغ المشهد هنا قمته في الإثارة والمتعة والغنائية. إنه مشهد كلاسيكي في القدرة على استخدام المونتاج وكيفية خلق إيقاع من خلال استخدام الأحجام المختلفة للقطات، وزوايا التصوير وتحريك الكتل في الفضاء.

في اللقطة التالية نرى الخادم الآخر "فراج" يتطلع في قلق ويلمح جمل لورنس ومعه فراج ثم داود. فينطلق فرحا بينما يهب الشريف علي ورفاقه واقفين مذهولين.

هذه الشجاعة والقدرة الخارقة التي راهن الجميع على أنها ستهزم، تجعل لورنس يرتفع في أنظار العرب. إنهم قوم يعرفون كيف يقدرون الشجاعة. ومنذ تلك اللحظة، يتغير موقف الشريف علي الذي كان متشككا فيه بل ورافضا له من البداية، ليبدي له الود والاحترام، وينظر إليه برهبة، ويطلق عليه "الأورانس" باستخدام أداة التعريف التي يجد أنها تضفي نوعا من المهابة والأصل الكريم على أصحابها. أما التعليق الأكثر دلالة الذي يبدر من علي عندما يرى لورنس وقد نجح في العودة بجاسم فهو يأتي على النحو التالي: "حقا بالنسبة لبعض الرجال لا يوجد شيء مكتوب إلا ما يكتبونه هم بأيديهم". لقد أصبح علي "مؤمنا" بـ"نبوة" لورنس أو بقدراته الخارقة. ومنذ تلك اللحظة سيظل يتبعه بكل طاعة وخضوع. إنه يقوم بحرق ملابسه العسكرية ويمنحه الملابس العربية البيضاء.. ذلك الثوب الذي سيجعل لورنس يبدو مثل كائن هبط إلى الصحراء من السماء، أي مثل ملاك أبيض في الصحراء بعينين زرقاوين!

الجزيرة الوثائقية في

08/08/2013

 

"أزول" سلام من القربي إلى الأمازيغ

حاورته ضاوية خليفة 

بعد نجاحه في أول تجربة له كمخرج من بوابة الفيلم القصير ب"أزهار تويليت" التي اختارت الصحراء الموريتانية لتستقر بها وتجمع شمل المغرب والعرب انفتحت شهية المخرج التونسي "وسيم القربي" الذي يواصل رحلة الوفاء لهويته المغاربية العربية والتأريخ لثقافته الأمازيغية بأعمال تعتمد على البحث والتنقيب في جدران الماضي، وهو الذي تعود أن يكون نضاله بإمكانياته الخاصة وآلات التصوير التي ترافقه أينما استقر فكره على موطن الإبداع، فبعد التتويج والتشريف هاهو يتهيأ هذه الأيام وبالضبط خلال الفترة الممتدة من 10 إلى 15 أغسطس لتقديم العرض الأول لفيلمه الوثائقي "أزول" بلوس أنجلس ونيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية في إطار مهرجان الفيلم الأمازيغي، والدور القادم على فيلم "كيخوت".

·     باعتبار أن الفيلم القصير هو المخبر التجريبي للعديد من المخرجين إلى أي مدى خدمتك هذه التجربة لتنتقل اليوم وفي ظرف قياسي إلى جنس إبداعي أخر أكثر صعوبة وبموضوع على قدر كبير من الحساسية ؟

أول تجربة لي كمخرج كانت بفيلم قصير بعنوان "أزهار تويليت" وفي الحقيقة نجاح هذا الأخير أعطاني دفعا كبيرا للاستمرار ولخوض تجارب أخرى، فلم أكن أتوقع أن يحظى العمل بهذا القبول منذ مشاركاته الأولى في كبرى المهرجانات الدولية، فكان أول تجربة احترافية أتت ثمارها رغم قلة الإمكانيات التي ولحسن الحظ لم تؤثر على العمل بل كانت دافعا للاستمرار حبا في السينما ورغبة مني في تقديم أفلام وفرجة سينمائية تعبر عن آراءه وأوضاعه الاجتماعية، أردت بعدها التعمق والإبحار في تجربة أخرى، فكانت الوجهة الفيلم الوثائقي واختياري لهذا الموضوع أي الأمازيغ نابع من مجموعة التساؤلات التي كنت أطرحها باستمرار وبناءا على اهتمامي الكبير بالتاريخ كون والدي أستاذ مادة التاريخ والجغرافيا، فاحتكاكي به وبالمادة زادا من رغبتي في تحصيل أكبر قدر ممكن من المعارف التي تتعلق بماضي الأمة وأحد القواسم المشتركة بين شعوب المغرب العربي، فقد تربيت في كنف الكتب والمراجع التاريخية واعتدت زيارة قرى ومدن المناطق الداخلية لتونس، ومن الأماكن التي ترددت عليها كثيرا قرية "تمزرط" الواقعة بالجنوب التونسي وهي منطقة مهمشة لكن لها خصوصية وجمالية تنفرد بها عن باقي المناطق، حينها كنت أتساءل كلما زرتها عن اللغة الغريبة التي يستعملها الأهالي والتي لا أفهم منها شيئا، مع الوقت تحول ذاك الاهتمام إلى إصرار لمعرفة المزيد عن التاريخ، اللغة والموروث الأمازيغي، كما أن زياراتي وترددي الدائم على المغرب كان لها تأثير خاص وكلما ذهبت لزيارة صديقي الناقد المغربي "حميد تباتو" الذي يدرّس بقرية "تيغسالين" الواقعة بمنطقة جبال الأطلس كنت أُسأل عن أمازيغ تونس ولم أكن أملك حينها الجواب الكافي للرد عليهم، لأن فكرتي عن أمازيغ تونس لم تتعدى حدودها الفلكلوية والتسييحية إن صح القول، فبعد أصبحت أتردد كثيرا على تلك المناطق الأمازيغية اكتشفت بعض التقاليد والعادات التي يتميز بها الأمازيغ، وفي سنة 2009 قررت مواصلة البحث لتجسيد الفكرة التي تعتبر جزء من هويتنا كموضوع فيلم وثائقي، غير أن حساسية الموضوع والقمع الثقافي الطاغي في زمن الديكتاتورية حال دون ذلك وتأخر التصوير إلى أن منحتنا الثورة التونسية نسيم الحرية والإبداع وباشرنا حينها مرحلة التصوير الذي دام قرابة سنة ونصف.

·     أكيد أن أبجديات العمل على الوثائقي تختلف عن الفيلم الروائي وفلسفة التصوير تختلف في بعض التفاصيل أيضا ؟

بالفعل آليات تصوير الفيلم الروائي تختلف عن تصوير الفيلم الوثائقي فلهذا الأخير ميزة ومتعة خاصة حيث يقتنص المخرج وهو يصغي بتمعن وابنتاه كبيرين لمن يحاوره اللقطات العفوية والتي تكون في غالب الأحيان قيّمة وهامة، وباعتقادي أن العفوية والاستفزاز الذي يخلقه المخرج بين الفينة والأخرى من خلال بعض الأسئلة يكون سيد الموقف، كما أن بعض اللقطات والشهادات لا تحتمل الإعادة عكس الروائي، وعلى فريق العمل أن يكون على استعداد دائم لافتكاك تلك اللحظات التي لا يمكن أن تعاد بنفس المصداقية والعفوية، وعليه يجب أن يكون المخرج على قدر كبير من الذكاء ليكسب ثقة الناس والعمل على راحتهم حتى يأخذ منهم كل ما يريد من معلومات، في الحقيقة العمل هذا جعلني أشعر بأني جزء منهم و فرد من أفراد تلك القرى المهمشة التي تنتظر اليوم بشوق عرض الفيلم الذي كانوا أبطاله وصناعه الحقيقيين، على صعيد أخر يعتبر الفيلم الوثائقي أقل تكلفة إلا في حال اعتمد المخرج على مشاهد تمثلية أو خيالية لوضع المشاهد في الصورة أكثر وإقناعه بالقضية والموضوع  المتناول، فارتفاع التكلفة مرهونة بما يريده المخرج وكذلك مدة التصوير التي قد تمتد إلى أيام أخرى غير المسطرة قبلا، مثلا أنا في فيلم "أزول" كنت ملزما بأن أتابع الشخصيات لفترة طويلة نسبيا، أشير هنا فقط أن الفيلم هو إنتاج مستقبل ثمرة جهدي الشخصي وزميلي "محمد بن رمضان" حيث عملنا على توفير الميزانية اللازمة حتى نختار منهجا مستقلا خاصة ونحن نعلم مدى حساسية الموضوع.

·     حملت بعض اللقطات الكثير من الرمزية والدلالات التي تترجم مدى حساسية الموضوع وواقع الأمازيغ وقد كان ذلك واضحا من اللقطة الأولى في مشهد السلاسل التي تحول دون إمكانية فتح الباب ؟

صحيح رمزية القفل والسلاسل الموضوعة على الباب في الواقع هي الرغبة في اختراق المواضيع المسكوت عنها في مجتمعاتنا، فهذا الأخير في تونس يعتبر من المواضيع المحرمة والممنوعة سياسيا، كما أنه صورة رمزية للبحث عن الهوية الأمازيغية وعن ثقافتنا الغنية والمهمشة، فالتطرق إلى الثقافة الأمازيغية فيه خوف من إثارة الفتن والحياد عن الوحدة الوطنية التي نجح بورقيبة في محو العروشية بطرق مختلفة، وبالتالي فعلا استفتحت العمل بلقطة كما ذكرتي ترصد المشكل بواقعيته لكن حمل الأطفال رجال الغد وصناع المستقبل للعلم الأمازيغي المتعارف عليه والموحد لهم أينما كانوا كان دليلا على أن الأمور ستسير نحو الأحسن مادامت الأجيال متمسكة بتاريخ أسلافها، كما بدا جليا في أخر مشهد.

·     هل اقتصر التصوير على بعض القرى التونسية أم شمل قرى من دول المغرب العربي وشمال إفريقيا أين يتواجد الأمازيغ بكثرة كالجزائر والمغرب ؟

لا في الحقيقة اخترت أن يكون التصوير بالولايات التي كنت أزورها باستمرار الواقعة بالجنوب الشرقي لتونس كمدينة قابس، تطاوين ومدنين، وبشكل أدق ببعض القرى التي يتواجد بها أمازيغ تونس كفرية تمزرط، زراوة، الدويرات/ شنني، تكاوين وغيرها من الأماكن التي يقنطها أكثرية من الأمازيغ مع العلم أنهم موجودون بكل التراب التونسي، واخترت أن تكون مرحلة التصوير مع الأمازيغ الناطقين بالبربرية، أما بالنسبة للأرشيف فأجد أن كل ما تم تصويره فلكلوي وتسييحي لا يخدم كثيرا العمل، بينما اعتمدت على أرشيف بعض الجمعيات وما تملكه بعض الأهالي من صور، حتى نحتفي السينما بالثقافة التونسية الأمازيغية.

·     ما هو الجديد الذي أضافه هذا العمل "أزول" إلى ما هو متداول في المكتبة السينمائية أو باقي الآداب والفنون الأخرى فضلا على ما هو معروف ومتعارف عليه ؟

"أزول" هو أول فيلم وثائقي تونسي يحتفي بالثقافة الأمازيغية المحلية ويهتم بالهوية بعيدا عن كل الإنزلاقات والإسقاطات المعروفة ويرصد لمعالهم وحضارتها التي تتجلى في اللغة، الملبس والعمران، هدفي كان التعريف بالثقافة الأمازيغية التونسية والدعوة إلى ضرورة الحفاظ عليها أو انقاضها من الاندثار والزوال بالرغم من كل الحساسيات التي تحوم حول الموضوع والتي لا تزال قائمة إلى غاية يومنا هذا، فالأمازيغية مثلها مثال باقي لغات العالم والحضارات والثقافات التي مرت على تونس و ساهمت في بناء تاريخها ولا تزال تشكل حيزا كبيرا في المجتمع إلى غاية يومنا هذا، وهذا الفيلم بالدرجة الأولى هو تعمق في الهوية المطموسة وبحث عن حقيقة التاريخ المزيف سينمائيا.

·     هل اخترت كلمة "أزول" والتي تعنى التحية والسلام عنوانا لفيلمك كدلالة على حاجتنا كأمازيغ وعرب للسلام بعيدا عن كل الفوارق ؟

ما أحوجنا اليوم إلى السلام ... كلمة "أزول" الكثيرة التداول في مجتمعاتنا معناها موحد عند كل الأمازيغ وبالضبط عند أمازيغ شمال إفريقيا وتعني الترحاب والسلام هذا المعنى الأمازيغي للكلمة، بينما معناها العربي فيقصد به الزوال والاندثار، ولعله من أهم المشاكل التي عانت منها الثقافة الأمازيغية بالرغم من أن العديد من العادات والكلمات وكذا المناطق هي من أصول أمازيغية إلا أن المسؤولين عن قطاعي السياسة والثقافة يخشونها ويزيفون الحقائق بدافع الخوف حسب اعتقادي، هذا الخوف الذي يحاول فيلمي تجاوزه بحثا عن الأصول والهوية، حيث تسعى فيه الصورة لإبراز التعدد والهروب من بعض المزالق المسيسة.

·        لو نتحدث عن المشروع السينمائي الجديد الذي انتهيت مؤخرا من تصويره ؟

بالفعل أوشك الآن على الانتهاء من مرحلة المونتاج لفيلم قصير أخر، انتهيت من تصويره مؤخرا بموريتانيا ليكون ثاني عمل لي يصور هناك بعد فيلمي القصير الأول "أزهار تويليت" فموريتانيا بلد يمتلك مناظر طبيعية رائعة للتصوير تخدم كثيرا العمل، أما بالنسبة لموضوع الفيلم الذي أشتغل عليه حاليا والموسوم ب "كيخوت" يتناول بصورة رمزية ديكتاتورية الربيع العربي، اشتغلت فيه مع طاقم متعدد الجنسيات يضم خيرة الممثلين كصديقي الفنان الموريتاني الذي سبق وأن تعاملت معه "سالم داندو" والممثلة المغربية "أمال ستة" وبعض الشباب الموريتاني الموهوب.

·        تبدو متمسكا كثيرا بالوحدة المغاربية في أفلامك ؟

صحيح في أفلامي أحاول دوما الحفاظ على التوجه المغاربي بتركيبة فنية متعددة الجنسيات تحقق الوحدة المغاربية بكل تجلياته بعيدا عن كل تلك الشكليات والرسميات، ورغم صعوبة التجربة إلا أن نتائجها تنسينا ذلك التعب وتبقى راسخة في ذاكرتنا تؤججها النجاحات الأولى والقادمة سواء لفيلم أزول أو لباقي المشاريع المستقبلية التي سوف لن تنسلخ عن البعد المغاربي في موضوعه وفريق عمله، لخلق وتجسيد وحدة فنية متكاملة البنى والرؤى بامتياز، وبالنسبة لفيلم "أزول" أتوقع أن يكون له صدى عالي وكبير، على أمل أن تكون كل أفلامي المقبلة خطوة ملتزمة نحو إرساء موقع خاص بي في الخارطة السينمائية الجدية والفعالة.

الجزيرة الوثائقية في

08/08/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)