حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

فيلم "شجرة الحياة": فلسفة السينما!

أمين صالح

 

تيرنس ماليك من المخرجين الذين، إزاء أعمالهم الفنية، ينقسم النقاد بين معجب ومناصر يرى إلى أفلامه بوصفها نتاجات راقية، تحفاً فنية، إبداعاً أصيلاً، شعراً بصرياً صرفاً، وناقد آخر يرى في ماليك شخصاً مغروراً، فارغاً، كثير الادعاء، ويرى في  أفلامه أعمالاً مثيرة للسخط والضجر، وفقيرة في المضمون.. وفي مهرجان كان (الذي منح فيلمه "شجرة الحياة" جائزته الكبرى كأفضل فيلم) انقسم الحضور أثناء عرضه الأول بين من يهتف له استحساناً ومن يطلق صيحات الاستهجان.

تجدر الإشارة هنا إلى طبيعة تيرنس ماليك الخجولة، المتكتمة، المتحفظة، المتواضعة. يقال أنه مجهول حتى في المدينة التي يسكنها، بسبب عدم تداول الميديا لصوره الشخصية. أخباره الشخصية لا أحد يعرف شيئاً عنها، أو يعرفون  القليل منها، والتي لا تصلح كمادة إعلامية.

هو يحيط نفسه بدائرة صغيرة من الأصدقاء المقربين. ولا يحب حضور المناسبات (منتج فيلمه "شجرة الحياة" قام باستلام جائزته في المهرجان نيابة عنه) ولا يميل إلى إجراء مقابلات صحفية أو تلفزيونية، بل أن صوره الفوتوغرافية نادرة جداً. ولقد سبق لماليك أن فاز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان  العام 1979 عن فيلمه "أيام الجنة".

تشير بعض المصادر إلى أن ماليك كان متواجداً في مدينة كان إثناء انعقاد المهرجان، وأنه تناول العشاء مع براد بيت والمنتجين عدة مرات، لكنه رفض حضور عرض فيلمه أو المشاركة في المؤتمر الصحفي الذي يعقب عرض الفيلم.. ويقال أنه دخل خفيةً الصالة التي تعرض فيلمه قبل نهايته.

الذين يعرفون تيرنس ماليك، ممن عملوا وتعاونوا معه، يقدمون صورة أو بورتريه لشخص متناقض: خجول إلى أبعد حد في الحياة العامة، لكنه مفعم بالمرح والجذل أثناء التصوير في المواقع. مهذب ووديع، لكن يمكن أن ينقلب إلى شخص عنيف وحازم. يؤمن بما هو خارق وملغز، وفي الوقت نفسه يؤمن بقوةٍ بالعلم. صارم ودقيق جداً إلى حد الهوس والوسوسة (يقال أنه أنهى تصوير فيلمه "شجرة الحياة" قبل ثلاث سنوات من عرضه، لكنه ظل يعمل في مونتاجه طوال هذه الفترة، مستعيناً بخمسة من فناني المونتاج عملوا معه على انفراد وبالتناوب، بل حتى قبل إرسال الفيلم إلى مهرجان كان بفترة قصيرة، طلب المزيد من الوقت للعمل فيه، غير أن الممولين والمنتجين وبعض الأصدقاء ألحوا عليه لكي يرسل الفيلم في موعده)، مع ذلك لديه احساس طفولي بالدهشة والفضول إلى حد أنه في غمرة تصوير مشهد ما يمكن أن يحدّق بإمعان في فراشة أو طائر هاجع في الجوار، فيغفل عن المشهد. في الموقع يشاهدونه يكتب ويعيد كتابة السيناريو كل يوم تقريباً، بلا كلل أو ضجر. وبينما أفلامه تتعلق بأفكار هامة ومعقدة مثل معنى الحياة وطبيعة الهوية، إلا أن أحاديثه غالباً ما  تكون مشحونة بكلام عن الكلاب وموضوعات عادية.

يقول براد بيت في إحدى مقابلاته: "النظر إلى ماليك بوصفه مفكراً متغطرساً، يتعارض مع حقيقة ما يكونه في حياته اليومية".

وتقول الممثلة جيسيكا شاستين: "حين التقيت به للمرة الأولى، ظننت أننا سنتحدث عن الفيلم، لكنه كان مهتماً بشخصي ومن أين اتيت، أكثر من التحدث بإسهاب عن أفكاره".

ويتحدث عنه جاك فيسك، مصمم مناظر أفلامه، فيقول: "بوسعه أن يتحدث إلى أي شخص عن أي شيء، من أصل الإسفلت إلى سلالات الطيور إلى الحياة في شمال أفريقيا. هو يعرف الكثير لكنه دائماً يجعلك تشعر بأنك تعرف أكثر منه".

وتقول عنه المنتجة ساره جرين أنه كثير الضحك في الموقع، وكل شخص يشعر بالارتياح حين يتحدث إليه، وهو لا يحاول أن يبدو غامضاً، محفوفاً بالألغاز، بل يرغب أن يعيش حياة خاصة بعيداً عن الأجواء العامة الصاخبة.

وشرحت مصممة الملابس جاكلين ويست سبب حاجة ماليك للمزيد من الوقت لإكمال فيلمه أنه يوجه عناية فائقة إلى أصغر وأدق التفاصيل، وتذكر أنها عندما عملت معه في فيلم "العالم الجديد" تناقشا لمدة ساعة حول لباس البطلة في أحد المشاهد وما إذا كان عليها أن ترتدي ثوباً باللون الأزرق أم بلون آخر. وتضيف أن من يعمل مع ماليك ينبغي أن يكون رائياً، مستبصراً.

ولد تيرنس ماليك في إيلينويس، العام 1943. عاش طفولته ونشأ موزعاً بين تكساس وأوكلاهوما، قبل أن يتوجه إلى هارفارد حيث تخصص في مادة الفلسفة. بدأ مسيرته الفنية ككاتب سيناريو قبل أن يتحول إلى الإخراج.

فيلمه الأول Badlands   (1974) عن شاب أميّ تقريباً، يعمل في جمع القمامة، وفتاة تعيش مع والدها الصارم المتزمت، الذي يرفض العلاقة الناشئة بينهما، فيضطر الشاب إلى قتله، بالتواطؤ مع ابنته، ثم يهربان لتلاحقهما الشرطة من مكان إلى آخر, ولا تنتهي الملاحقة إلا باعتقالهما. الأحداث تدور في الخمسينيات من القرن الماضي، والفيلم قائم على سردين، أحدهما بصوت الفتاة وهي تقرأ من يومياتها معبّرة عن كيفية رؤيتها للأحداث، والسرد المناقض من وجهة نظر موضوعية للمخرج. من خلال هذه القصة التي تبدو كحكاية شعبية، يتناول ماليك إفساد البراءة، والنزوع إلى العنف.       

بعد أربع سنوات عرض فيلمه الثاني "أيام الجنة" Days of Heaven(1978). أما فيلمه الثالث "الحد الأحمر الرفيع"The Thin Red Line1998 فقد حققه بعد غياب عشرين سنة عن الشاشة (حتى المقربين منه رفضوا اعطاء تفسير عن سبب هذا الغياب)، خلالها أقام في باريس، وكتب عدة سيناريوهات لم يتشجع لها أحد من المنتجين) وقد رشح الفيلم لجائزتي أوسكار كأفضل سيناريو وأفضل إخراج.

بعد سبع سنوات قدم فيلمه الرابع "العالم الجديد" The New World(2005 وبعد سبع سنوات أخرى عرض فيلمه الخامس  "شجرة الحياة" The Tree of Life 2011

هكذا، في مسيرة المخرج تيرنس ماليك السينمائية، نلاحظ أن ثمة مسافة زمنية طويلة تفصل بين الفيلم والآخر، في ما يتصل بالتنفيذ. من بين الأسباب الرئيسية لهذه الانقطاعات يمكن الإشارة إلى اعتناء تيرنس ماليك بأدق التفاصيل في مختلف عناصر ومظاهر الفيلم، اصراره على تفادي النواقص الفنية، إيمانه بالفيلم كعمل فني جاد وذي قيمة أكثر من اهتمامه بالنواحي الأخرى.

تيرنس ماليك ليس من صنف المخرجين الذين يتبنون مناهج مباشرة تقليدية في رواية القصص، وليس من النوع الذي يحرص على عرض موضوعاته بلغة تبسيطية بحيث يستوعبها كل متفرج، فأعماله تقتضي من المتفرج انتباها وعناية وتركيزا.

فيلمه "شجرة الحياة" استكشاف فلسفي، مثير للمشاعر، للحب الأسري، الفقد، الحزن، الندم أو الإحساس بالذنب. ها هنا سبر للمشاعر الأعمق، للأسئلة الأصعب، تلك التي لم تعد تستوقف الكثيرين، بل يحاذونها دونما التفاتة، تلك التي صارت تؤخذ كمسلمات وثوابت ويقين في حين أنها ليست كذلك.. مركزاً بؤرته على عائلة واحدة: الأب، الأم، ثلاثة أبناء.

إنه تأمل في الحياة، العائلة، البراءة، الأسى، وأصل الكون. استجواب أو استنطاق لمعنى الحياة على مدى 138 دقيقة (هي مدة الفيلم المعروض في الصالات التجارية، لأن البعض – من بينهم مصور الفيلم إيمانويل لوبيزكي – يلمّح إلى أن نسخة العمل الأصلية بلغت ست ساعات).

التجريدي والذاتي

الفيلم يبدأ وينتهي بهالة من الضوء السماوي البرتقالي، والتي تحوم في مركز الشاشة. "قصة" الفيلم (إن كان يصح الحديث عن قصة هنا) ليست مبنية على أساس صلب ومتين، لا على حدث تاريخي أو مصدر أدبي. تيرنس ماليك هنا ينحاز إلى التجريدي والذاتي، إلى طرح الأسئلة الكونية عن الوجود والحياة والموت، ينحاز إلى نقاوة اللحظات ضمن العلاقات الإنسانية، إلى النزوع التأملي في الطبيعة والأشياء المحيطة، إلى إظهار التناغم أو التوازن بين الإنسان والطبيعة (هذه العلاقة القائمة غالباً على النزاع والعنف)، بين المادي (الفيزيائي) والماورائي (الميتافيزيقي)، مفضلاً تقديم حكاية ملغزة عن الحياة، عن دروس الحياة، عن نشوء الحياة وحركتها وامتدادها في هذا الكوكب منذ فجر التاريخ أو الزمن، إلى واقعنا وزمننا المعاصر، بطريقة ربما تبدو مربكة ومحيرة بالنسبة للمتفرج الذي اعتاد على الحبكات الواضحة والسرد المباشر المألوف، بثيمات تكشف بيسر وسهولة معنى كل شيء.

هذا المتفرج الذي يرغب في متابعة حكاية ما، وليس تكوينات بصرية، حتى وإن كانت مدهشة وأخاذة، تستغرق وقتاً طويلاً من الزمن السينمائي، باحثاً – هذا المتفرج – عن تجربة حياتية يومية وليس تجربة فلسفية أو وجودية أو ميتافيزيقية. إنه يريد أن ينفعل ويتفاعل على المستوى الفيسيولوجي (سواء عبر الأكشن أو الميلودراما أو الكوميديا أو الرعب) لا أن يتأمل في هدوء معجزات الحياة التي نصادفها في حياتنا اليومية من دون أن نلقي بالاً لها، أو نخفق في تمييزها واكتشافها.

ولأن الفيلم لا يلتزم البناء السردي التقليدي، بل يعتمد على سلسلة من الصور الانطباعية التي تستحضرها الذاكرة وتداعيات الذهن (الذاكرة عادةً لا تقدم لنا قصة بل سلسلة من الصور، شرائح لا يربطها تسلسل زمني)، فإنه – الفيلم - يستدعي تركيزاً في المشاهدة، ومتابعة واعية، وسبراً للمرئي وما وراء المرئي للكشف عن المجازات والرموز. كما يحتاج الفيلم من متفرجه إلى قدرة على الاحتمال. وبسبب صوره الغامرة وألغازه أو أسراره المتضمنة، الفيلم يقتضي أكثر من مشاهدة واحدة.

من أجل تكثيف الحالات النفسية، وإبراز التداعيات الذاتية، وإعطاء الصورة بعدها الجمالي والفلسفي، يوظف ماليك الوسائل التي استخدمها سابقاً لكن بطريقة مختلفة نوعاً ما: هنا نجد تشكيلة من خيوط السرد، والتي تعالج الوضع نفسه لكن من وجهات نظر متعددة. المونولوجات الداخلية الهامسة، التي تطرح تساؤلات فلسفية ودينية، ذات النفس الشعري والحس الموسيقيّ، بأصواتها المتعددة والتي تتواءم مع الطبيعة المتحولة للمادة. التوظيف الرائع للصوت والمؤثرات السمعية والبصرية. الإيقاعات البطيئة. اندماج الرؤى الغرائبية مع الصور الواقعية. تداخل اللقطات. حركة كاميرا متدفقة، مرافقة للشخصيات أو مقتربة ومبتعدة من خلال الزوم، تحت إدارة المصور الرائع إيمانويل لوبيزكي (الذي حاز على جائزة نقاد نيويورك كأفضل تصوير عن هذا الفيلم، وسبق أن عمل مع ماليك في فيلم "العالم الجديد").

ليس من المجدي تأطير الفيلم ضمن نوعية معينة، كما ليس من السهل تلخيص الفيلم.        

الأم (جيسيكا شاستين) في البيت، ثم الأب (براد بيت) في موقع عمله، يتلقيان في ذهول، وفي صدمة شديدة، نبأ موت ابنهما الأوسط (انتحاراً، على الأرجح.. فالفيلم لا يقدم معلومات عن السبب أو تفسيراً عما حدث له أو حتى تلميحات بشأن وفاته) وهو في التاسعة عشرة من عمره. في لقطات منفصلة، وجيزة، متداخلة برشاقة، نرصد في تعاطف موجع آلام وأحزان الأب والأم نتيجة هذا الفقد المريع الذي زلزل كيانهما وهزّ حتى إيمانهما.

ثم ننتقل إلى الأخ الأكبر جاك (شون بن) وهو يشعر بالاختناق في بيئته الحالية، في موقع عمله كمهندس معماري ناجح، وفي بيته الزجاجي مع زوجته (أو صديقته). من الواضح أنه يمر بأزمة عاطفية، انهيار عصبي لسبب ما. يعتريه حزن وأسى ووهن وحنين إلى الماضي، إلى سنوات تكوّنه ونشوئه. جاك يعي تماماً مأزقه الوجودي، انشطاره بين ذكريات طفولته بكل ما فيها من تعارضات، وإدراكه بأنه لا يستطيع أن يعود إلى ذلك الزمن إلا عبر الذاكرة.

تلك الحادثة المؤلمة، حالة الفقد المأساوية، لأخ كان يحبه كثيراً، لا تزال تسبب لجاك وجعاً شديداً كأن جرحاً عميقاً محفوراً بداخله ولا يريد أن يندمل.

بعد هذه المشاهد، يأخذ الفيلم جمهوره، بشكل مفاجئ وغير متوقع، لكن بسلاسة وعلى نحو أخّاذ، إلى بدايات الخليقة وتكوّن الأرض، عبر مؤثرات بصرية آسرة، وبلا تعليق أو سرد، باستثناء الموسيقى والمؤثرات الصوتية. هنا نرى، خلال 16 دقيقة تقريباً، سلسلة من الصور الرائعة: غيوم سديمية تتمدد في عمق الفضاء، براكين تتفجر، خلايا تتعدد وتتلاحم، كائنات مائية، صحارى، جبال، حقول، ديناصورات تظهر ثم تنقرض، تمدد الحياة على الأرض واستمراريتها.

من المطلق واللامتناهي نعود إلى الأرض، إلى جاك الذي يتجوّل عبر مواقع مختلفة ومتداخلة، ويستحضر – وهذا ما نراه من خلال الفلاش باك الذي يستمر حتى نهاية الفيلم – ولادته في بيت دافئ بين أحضان أم حنونة وأب عطوف لكن صارم، في إحدى بلدات تكساس في الخمسينيات من القرن العشرين.

إننا نتابع نشوء الطفل منذ الخطوات الأولى وما بعدها.  ثم ولادة شقيقيه، الحياة اليومية في حيّ سكني في مدينة واكو  بتكساس، الدراسة، اللعب مع الرفاق. أيضاً نرصد الاندفاعات السريعة نحو الطيش والتهور، نحو التجارب والاكتشافات، الرعشات الأولى التي تبعثها المغازلات الخجولة داخل العروق الطرية، المجابهات الأولى مع الواقع، ومع البواعث النفسية والجنسية. صدمة الوعي بحضور الموت للمرة الأولى وادراك عجز الكبار عن حماية الصغار من النهاية المحتومة، الاستجابات المتباينة وردود الأفعال الانعكاسية تجاه ما يحدث وما يرونه ويشعرون به.

حركة الأيدي والأصابع، في ملامسات مستمرة، متواصلة، لأطراف وأعضاء بعضهم البعض، والتي تعبّر عن حالة حميمية عميقة، وعن علاقة عاطفية قوامها الحب والفهم والتطمين والثقة، من السمات التي يوجّه لها الفيلم عناية قصوى، ويؤكدها في العديد من المشاهد في لقطات قريبة. الكاميرا تتابع بحب حركة الأيدي وهي تتلامس في رقة ووداعة، مؤكدة على قوة أو طاقة اللمس كتعبير عن عمق الروابط القائمة على الحب والحماية والحميمية، الباعثة على الدفء والأمان، المعبرة عن الاتصال بين الأفراد في أقوى تجلياته ومستوياته. ملامسات ناعمة، حنونة، مطمئنة، مؤكدة للعاطفة الأسمى. ملامسات تتبادلها الأم والأب مع أبنائهما، الزوج والزوجة أو الأم والأب، الأشقاء في ما بينهم.

جاك يكبر ليصبح مراهقاً (هنتر ماكراكن) ممزق الشخصية، منكسر النفس، مشوش الذهن، مثقلاً بالضيق والانزعاج والأسى بسبب سلوك وأفكار والده الذي يريد أن يفرض على أولاده انضباطاً قاسياً وحازماً تمليه تربيته وتجاربه العملية، وقبل كل شيء، إخفاقه في أن يكون موسيقياً أو مخترعاً، وإخفاقه في الحصول على عمل براتب أعلى من الراتب الحالي. إن احباطاته وخيبات أمله، نتيجة هذه الاخفاقات، تنعكس سلباً على تصرفاته وتعامله مع أبنائه.

هو يريد اجبارهم جميعاً على الإصغاء إلى قصصه ومواعظه وحكاياته الرمزية، وهم يصغون تجنباً لما يمكن أن يمارسه من عنف جسماني أو لفظي أو عاطفي، لكن مع مرور الوقت والتكرار لا تعود هذه الحكايات تثير اهتمامهم، مع إنها – بالنسبة له – ضرورية لفهم الحياة، وعندما يلاحظ لا مبالاتهم وتجاهلهم ينفعل ويثور لأن أحداً لا يريد أن يصغي إليه، وأن يفهمه. إن إحساسه الهش بذاته يجعله باستمرار يلتمس الحب والاحترام من عائلته طوال الوقت. لذلك يؤذيه ويجرحه إحساسه بأنه لم يعد موضع حب واحترام، بأنه لم يعد المركز الذي يستقطب الاهتمام والتقدير. لكنه إزاء موقف كهذا، لا يحاول أن يستوعب حاجيات الأطراف الأخرى، ويفهم التحولات التي تطرأ عليهم فيما يكبرون – مرحلة انتقالهم من البراءة إلى التجربة، من تلقي المعلومات والمبادئ إلى اكتشاف الواقع المحيط بأنفسهم - بل يلجأ إلى العنف والعقاب.   

الأب يحب أولاده ويريد لهم أن يعيشوا في وضع أفضل وحياة سعيدة بلا منغصات، يتمنى أن يصبحوا رجالاً ناجحين في أعمالهم وحياتهم الأسرية، لكنه يذهب في الاتجاه الخاطئ.. إذ يعتقد أنه من خلال الانضباط الصارم، من خلال تدريبهم على العنف كوسيلة للدفاع عن النفس، من خلال إقناعهم بأن العالم قائم على الحيلة والخداع، وأن النجاح لا يتواءم مع الطيبة الزائدة، فإنه سوف يهيئهم لما سيواجهونه في العالم الحقيقي خارج البيت، الحياة القائمة على الصراع والتنافس وانتهاز الفرص.

في تأديته لدور الأب، كان براد بيت واعياً لإشكالية الرجل وتناقضاته، فلم يظهره في صورة أحادية الجانب، بل تعامل مع الدور بحساسية عالية، فجعلنا ننفر من الأب في بعض الحالات ونتفهم سلوكه، بل ونتعاطف معه في محنته كشخص لم تتوفر له الفرصة لتحقيق طموحاته.

الأب يمثّل الطبيعة التي تتمثّل في النشوء. مسار القسوة والخشونة. التجربة والريبة. هو في حالة حرب دائمة مع نفسه. ملئ بالشك، بالمرارة، بكراهية النفس. هو يعمل مهندساً ولا يجد متنفساً للتعبير عن ولعه بالموسيقى (الموهبة التي تخلى عنها لتحقيق طموح أكبر في الحياة) إلا عبر عزفه على الأرغن في الكنيسة، والإشراف على تعلم أولاده العزف.

أنوار كاشفة

في حديثه عن الفيلم ومخرجه، يقول براد بيت (وهو أحد المساهمين في إنتاج الفيلم، والذي حاز على جائزة أفضل ممثل من جمعية نقاد نيويورك عن دوره في هذا الفيلم بالإضافة إلى دوره في فيلم (Moneyball:

"العمل مع ماليك لا يشبه أي عمل قمنا به من قبل. عادةً هناك، في موقع التصوير، تجد الكثير من الأنوار الكاشفة، الكثير من الشاحنات وعربات النقل، وضجيج المولّدات الكهربائية، وسيناريو تحاول أن تقرأه بتركيز ملتزماً بما هو مكتوب في المشهد. أما مع ماليك، فإنه يذهب في الاتجاه المعاكس. عدد الفنيين قليل جداً، لا أنوار كاشفة، لا معدات ضخمة. ليس لدينا غير كاميرا محمولة باليد، وإضاءة طبيعية، وإعادات قليلة للقطات المصورة، ومخرج غير مهتم أو غير حريص على تنفيذ المشهد كما هو مكتوب في النص، بل يفضّل أن يجد النواقص والشوائب، لذلك هو باستمرار يحاول أن يلخبط المشهد ويفسده، بطريقة ما، ليرى ما سوف يحصل عليه من هذا الفعل. أظن أن ماليك يحاول أن يقول بأن هناك ألغازاً في الحياة ونحن  نحاول أن نفهمها ونفسرها من خلال الدين، ونحاول أن نجد بعض العون والمؤاساة والراحة في تلك الألغاز أو الحالة الزائلة. كما أعتقد أنه يجاهد من أجل قبول المجهول، وما يتضمنه من سلام وجمال. الأطفال، الذين هم البؤرة الأساسية في الفيلم، هؤلاء الصغار، لم يكن مسموحاً لهم أن يقرأوا السيناريو. لهذا لم يعرفوا حقيقة ما يفعلونه. أحياناً كانوا يحصلون سلفاً على ملخص مختزل للمشهد". 

بينما الأم البالغة الرهافة تريد أن ترى أولادها سعداء ومطمئنين، فتتقاسم معهم اللعب، وتحيطهم بالعناية والأمان والحب والحنان، وتساعدهم على الإحساس بالجمال المحيط بهم.

الأم تمثل النعمة، أو الفضيلة النابعة من الإيمان الروحي. مسار المحبة والغفران، البراءة والثقة. إنها تسعى إلى إظهار أن العالم يمكن أيضا أن يمتلئ بالجمال والسلام لأولئك الذين يرغبون،  القادرين على الانفتاح على الآخرين والتسامح والمغفرة والمرونة والتضحية والعطاء. الحب هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى السعادة.

الفيلم يظهرها في صورة مثالية، كأنها كائن سماوي. هي تقول: "هناك طريق الطبيعة وطريق النعمة، وعلينا أن نختار أي طريق نتبع". النعمة تصون كرامتها ونبلها وسموها وتواضعها على الرغم من الظلم والأذى والعدوانية المستمرة، بينما الطبيعة أنانية تطالب بالرعاية والاعتناء والإشباع وتهيمن على ما يوجد في محيطها. طريقان غير منفصلين بل متشابكان ومتداخلان، ولا يمكن لأحدهما أن يوجد من دون الآخر.

جيسيكا شاستين، الممثلة الجديدة، الصاعدة، التي شاهدناها في عدد من الأفلام الهامة، أدت دور الأم برهافة وإقناع. دورها صامت في أغلب الأحيان، وهو يشكّل عادةً تحدياً للممثل، غير أنها أثارت تعاطفنا منذ اللحظة الأولى، وجعلتنا نتفاعل مع مشاعرها وهي تجسد الحب الأمومي في كل تجلياته وتعبيراته. لها في هذا الفيلم حضور جميل، هادئ، رشيق ومتناغم مع الإيقاع البصري. وقد حازت على جائزة نقاد نيويورك كأفضل ممثلة مساعدة عن أدوارها في هذا الفيلم وفيلمين آخرين هما:The Helpو Take Shelter.. 

تقول جيسيكا شاستين: "أجريت العديد من المحادثات مع تيرنس ماليك قبل أن أحصل على الدور.. كان يقول لي: هذه امرأة تبدو كما لو أنها من زمن آخر. لديها الكثير من الحب الذي يخلو من الأنانية. إنها تحب للآخرين ما تحبه لنفسها. إنها تنحاز للنعمة والجمال والفضيلة والحب في هذا العالم. هذا ما كان ماليك يصفه لي باستمرار حتى قبل أن أستلم النص، وعندما وصلني السيناريو وقرأته، أدهشني حقاً.. هي فعلاً تمثّل العالم الروحي. وقد اقترح عليّ ماليك أن أتأمل اللوحات التي تظهر فيها مريم العذراء.. هكذا أمضيت ساعات في متحف الفن الحديث أشاهد صور العذراء في اللوحات. نعم، بطريقة ما هو هداني إلى الطريق الذي يفضي إلى دراسة وتأمل النسوة اللواتي حملن بداخلهن الكثير من النعمة والسموّ".

الأب أحياناً يلوم الأم لأنها تفرط في تدليل الأولاد، وقد يؤدي هذا إلى إفسادهم وتخريب علاقتهم بالواقع والمحيط، بالتالي ينبغي أن تكون حازمة في تربيتهم. بل أنه، في مشهد المواجهة الحادة وقت تناول الطعام، يتهمها بتحريض الأبناء عليه وحثّهم على عدم احترامه. أحياناً نشعر بأن الأب يدرك أن طريقته في التربية، وفي التعامل مع أبنائه، ليست سليمة وأنها تبعدهم عنه، لكنه لا يستطيع أن يغيّر سلوكه لأنه تربى عليه، أو هو متأصل فيه منذ وقت مبكر.

صرامة الأب وخشونته، وفظاظته أحياناً، واصراره على انتزاع الحب والاحترام من أبنائه بطريقة غير عفوية، حتى لو جاء ذلك عن طريق الإكراه أو الإلزام أو التملق، كل هذه السلوكيات تسبب الاختناق لهم، وتجعل أذهان أولاده، خصوصاً جاك، مليئة بالأسئلة والشكوك والصلوات المبهمة والتساؤلات بشأن الرب وعلاقته بالإنسان والكون.

التساؤلات بشأن هذه العلاقة المحيّرة، الملغزة، تُطرح باستمرار من خلال أصوات داخلية هامسة تنتسب لمختلف الشخصيات: هل الله موجود هناك؟ /أين يعيش؟/ هل يراقبنا؟/ هل تراقبني؟/ أنت تركت ولداً يموت.. لم يتعيّن عليّ أن أكون طيباً في حين أنك لا تُظهر أي طيبة؟/ يا إلهي، لماذا؟/ أين أنت؟/ أريد أن أعرف ما تكونه، أريد أن أرى ما تراه/ لم لا يستجيب لدعائنا؟/ لم يفضّل أن يؤذينا على أن يساعدنا؟

هكذا تطرح البراءة أسئلتها – كلما اعتراها اليأس أو العجز أو الحزن - وتذكّي اللغز. الفيلم يريد أن يظهر بأن كل أوجه الحياة هي عرضة لصراع دائم لا ينتهي، وليس مقدّر له أن يُحسم.   

الأولاد ينتقلون – عبر صور ذات كثافة شديدة هي نتاج ذاكرة متشظية - من مرحلة الطفولة البهيجة، حيث العالم مرئي ومسموع ومحسوس من زاوية طفولية وبشفافية عالية، إلى مرحلة المراهقة المحفوفة بمختلف الإغواءات وأشكال الإذلال والتشوش. إضافة إلى اختبار مشاعر البهجة والغيرة والغضب الملتوي والخوف الوجودي والتشوش الجنسي، الرفقة مع أولاد الحي، اللعب واللهو، الكشف عن العنف الكامن لكن بمظهره البسيط غير الخطير (القسوة الموجهة ضد ضفدعة، رشق زجاج بيت متهدم بالحصى)، اكتشاف الميول الجنسية الأولى (جاك المراهق يتسلل خلسةً إلى أحد بيوت الجيران ويسرق لباساً نسائياً داخلياً، انجذابه العاطفي إلى زميلة الدراسة)، اكتشاف حضور الموت (المتمثل في غرق صبي أمام مرأى الجميع واخفاق الكبار في إنقاذه) في عالم لم تعد الحياة فيه محصنة ومتينة ويصعب اختراقها كما كان الصغار يعتقدون، بل هي هشة وسهلة الاختراق.

كما نشهد بوادر التمرد، عند جاك، خصوصاً ضد سلطة الأب.. حتى أنه يصرخ في أبيه، في يأس: "إنه بيتك.. تستطيع أن تطردني منه وقتما تشاء". لكن كلما كبر جاك وازداد نضوجاً، أدرك أن والده ليس مقدساً ولا وحشاً، بل مجرد إنسان عادي لديه قناعاته، لديه عيوبه ونقاط ضعفه، لكن أيضاً لديه طاقة هائلة على الحب.

المشهد الختامي، الذي يدور على شاطئ مهجور، هو  صامت، تخيّلي، شبيه بالحلم. مشهد  مدهش وأخاذ، فيه كل شخصيات الفيلم تتلاقى وتتحد من جديد، تتصافح وتتعانق وتتبادل القبل والابتسام ونظرات المودة. تتمشى، تتنزه. أصوات داخلية هامسة. الملائكة تحيط بالأم التي تهزهز ضوءاً متوهجاً بين يديها ثم، في إيماءة قبول بالفقد الذي عانت منه بعمق، توْدع ابنها المفقود إلى الأبدية، تحت رعاية الرب. عذوبة بالغة، محبة طاغية، غبطة لا حد لها. 

وتيرنس ماليك يعرض هذه الحالات بحساسية ورهافة، من دون نزوع ميلودرامي، رابطاً سلسلةً من اللحظات الشخصية مع لقطات لجوانب من الطبيعة.

العمل ذاتي بعمق. البعد المتصل بالسيرة الذاتية لتيرنس ماليك نفسه واضح وبارز في أكثر من مظهر: أحداث الفيلم تدور في الفترة والمواقع التي نشأ فيها ماليك (تكساس في منتصف الخمسينيات). أبوه باحث جيولوجي في شركة نفط، أمه إيرلندية. كان له شقيقان، أحدهما (الأصغر سناً، عازف غيتار) انتحر شاباً في أواخر الستينيات.. (وتشير بعض المصادر أن هذا الشقيق كان مقيماً في أسبانيا). 

بالإضافة إلى الموسيقى المؤلفة للفيلم، والتي هي من إبداع الكسندر ديسبلات، فإننا نسمع أجزاء من مقطوعات باخ، برليوز، براهمز، ماهلر، موسورجسكي وآخرين.

كائن حي

في حديث للناقد كينت جونز عن "شجرة الحياة"، يقول:

"الفيلم لا يتحرك إلى الأمام بل ينبض، مثل كائن حي عظيم. يبدأ الفيلم وينتهي بالنقطة نفسها: كرة ذات طاقة أساسية في الظلمة، متأهبة لتوليد تجليات أكثر للرب. بخلاف المخرج ستان براكهيج، تيرنس ماليك لا يقوم بمغامرة داخل الكون متوارياً ضمن ثنايا الإدراك الحسي. لكن مثل فرمير، وتيرنر، وجودار.. كلاهما (ماليك وبراكهيج) يذكراننا، كادراً بعد كادر، أن كل ما يوجد هناك ليس سوى الضوء".  

إنه عمل فذ، استثنائي، جرئ، مغامر، قوي، متألق جمالياً، فاتن بصرياً، آسر في معالجته لمضمونه. عمل مدهش في مداه وعمقه، يقف بجدارة في مصاف التحف السينمائية.

عمل تأملي عميق، يعني لكل شخص شيئاً مختلفاً.

وهو فيلم لا يحققه إلا شاعر أو حالم.

عين على السينما في

18/07/2013

 

روبرتس كيدمان وتشارليز ثيرون وأخريات

وراء كل دور شرير نجمة جميلة

لندن: محمد رُضا 

أنهت الممثلة تشارليز ثيرون تصوير دورها في فيلم جديد مأخوذ عن مسلسل قديم هو «ماد ماكس». الفيلم بعنوان «ماد ماكس: طريق الهيجان» وبطولته الرجالية لتوم هاردي ونيكولاس هولت، بينما تنفرد ثيرون بالبطولة النسائية.

والحكاية ملفوفة برداء من السرية حتى الآن، لكن بعض المتسرب من صحراء ناميبيا الأفريقية، هو أن الممثلة التي ربحت الأوسكار والغولدن غلوب سنة 2004 عن دورها في «وحوش»، تلعب شخصية مقاتلة عنيفة في عالم مستقبلي لن يعرف سوى العنف وسيلة حياة.

هذا بالطبع ليست المرة الأولى التي تؤدي ثيرون دورا من هذا النوع، أو - بالهامش العريض للكلمة - دورا شريرا. لقد رأيناها تفعل ذلك، وعلى التوالي، منذ دورها ذاك في «وحوش» حين لعبت دور امرأة قاتلة مسلسلة تنتقل من مهنة البغاء لمهنة سرقة وقتل من يقع في فخها. بعده، سنة 2009، مثلت دورا صغيرا في فيلم عنوانه «الطريق» (يقع في مستقبل غير واعد كحال «ماد ماكس») حيث ظهرت كامرأة مستعدة لقتل أيا كان دفاعا عن حياتها. طبعا بدا ذلك مبررا بعض الشيء وذلك على عكس دورها في «سنو وايت والصياد» حيث الشر شامل والطبيعة البشرية القاسية من بين مزايا شخصيتها. الحال تقريبا نفسه في فيلمها اللاحق «برومثيوس» (كلاهما من إنتاج 2012)، الفيلم الخيالي - العلمي للمخرج ريدلي سكوت الذي مثلت فيه شخصية مديرة الطاقم الفضائي المهدد بالخطر حال حطت سفينته على ظهر كوكب بعيد.

* امرأة ذات أطماع

* إنها ممثلة بارعة والتعابير التي ترسمها الممثلة تشارليز ثيرون على محياها وهي توزع الأوامر على طاقم السفينة في فيلم ريدلي سكوت «برومثيوس» هي ذاتها التي تستخدمها في تأدية دور الملكة الشريرة في «سنو وايت والصياد» وذلك لأن الشخصيتين محدودتا المعالم وأهم تلك المعالم هي جنوحهما إلى المصلحة الذاتية وحدها. ففي نهاية الأمر هي مالكة قرارها، أو كما تقول في «برومثيوس»: «هذه سفينتي» وغايتها في «سنو وايت» قتل الفتاة التي تهدد عرشها وفي «برومثيوس» البقاء حية حتى ولو ضحت بالجميع.

في سينما اليوم، ثيرون ليست استثناء، بل شهدنا في السنوات القليلة الماضية المزيد من الممثلات الرئيسيات يؤدين الأدوار الشريرة على عكس ما كان الحال من قبل. وكما لعبت تشارليز ثيرون دور المرأة ذات الأطماع المميتة في «سنو وايت والصياد»، رأينا جولي روبرتس تؤدي الدور نفسه في نسخة أخرى تم إطلاقها في ذلك العام (2012) من الحكاية ذاتها بعنوان «مرآة مرآة». روبرتس هي أيضا الملكة الشريرة التي تود القضاء على الفتاة البريئة لأنها لا تريد أن تخسر مكانتها لا كأجمل امرأة في العالم ولا كملكة حاكمة بأمرها.

ولو كان الأمر وقفا على ثيرون وروبرتس لما شكل ذلك إلا أهمية محدودة، لكن بمراجعة الأفلام الفانتازية والتاريخية في السنوات الأخيرة، فإن المرأة الأقوى في غالبية هذه الأفلام كانت ملكة أو أميرة أو وصية عهد أو أم لملك شريرة.

في «ألكسندر» (2004) أنجلينا جولي قبضت على قرارات ابنها الإسكندر العظيم (كولين فارل) بإحكام وطوعته كشرط لتوريثه الحكم والبقاء في مكانتها كأم القائد الإغريقي المهيب. في سبيل ذلك، قامت بحياكة مؤامرات انشغل بها النصف الأول في هذا الفيلم الذي تعثرت فيه خطوات المخرج أولير ستون.

ومثلها في عالم أكثر فانتازية هيلينا بونام كارتر، حينما منحها زوجها المخرج تيم بيرتون دورا رئيسا في فيلم «أليس في أرض العجائب» هو دور «الملكة الحمراء» القاسية والتي يخشى بطشها الجميع. كذلك كانت الشريرة في فيلم زوجها الآخر «سويني تود» (2007) وفي الأفلام الأخيرة من سلسلة «هاري بوتر» التي انتهت آخر حلقاتها في العام الماضي أيضا. كذلك الحال مع راتشل فايز (كما تفضل أن ينطق الجميع اسمها) التي ظهرت قبل أشهر ليست بالبعيدة في دور الساحرة الخبيثة في فيلم «أوز العظيم والقوي».

* الشريرة في المقدمة

* والمستقبل لا يختلف كثيرا في هذا الاتجاه. فإلى جانب فيلم تشارليز ثيرون المغامراتي المقبل، هناك أنجلينا جولي التي انتهت من تمثيل «ماليفسنت» المأخوذ أيضا عن فانتازيا أسطورية ظهرت كتبا للصغار مقتبس عن الرواية الفانتازية (التي كانت يوما ما بريئة) «جمال نائم». وإذا ما كانت الأفلام التي تم تحقيقها عن رواية الفرنسي شارل بيرو الشهيرة تلك، وضعت تلك الفتاة الصغيرة في قلب الحدث (تؤديها في الفيلم الجديد الصبية إيلي فانينغ) إلا أن النية في الفيلم الجديد هو جعل عدوة الجميلة النائمة، واسمها ماليفيسنت، تستحوذ على الموضوع والفيلم، في حين ستتحول الأميرة أورورا، التي حكم عليها بالنوم تخلصا منها والتي ستقوم بدورها إيلي فانينغ، إلى الصف المساند في الموضوع.

ثمة سبب جوهري يغفل عنه معظم المراقبين يقف وراء انتشار هذه الظاهرة: لقد تم اختزال الحاجة إلى ممثلات أدوار الشر المتخصصات في مقابل منح هذه الأدوار إلى نجمات السينما لأجل زيادة احتمالات الجذب الجماهيري. ففي السنوات الممتدة من عمق تاريخ السينما إلى الثمانينات والتسعينات، كانت هناك ممثلات معينات تعهد إليهن مثل هذه الأدوار (مرسيدس مكبريدج، مرغريت هاملتون، آن سافاج، جان غرير وسواهن) لكن هوليوود وجدت أنها تستطيع استثمار شهرة ممثلاتها في إطار آخر، خصوصا بعد النجاح الذي حصدته ميشيل فايفر في دورين من هذا النوع: «علاقات خطرة» (1988) و«عودة باتمان» (1992).

* شريرات الفيلم نوار

* المرأة في الأفلام كانت دوما تعمل على جبهتي القانون. هي الخير في مقابل الشر وسنيدة البطل في مهامه التي من بينها إنقاذها من الموت بعدما تم خطفها أو ربطها إلى سكة حديد بانتظار قطار قادم. لكن في الأربعينات برزت المرأة بوصفها شريرة وإن كانت الأدوار منحت (بالتساوي) بين ممثلات معروفات وغير معروفات، وذلك في السينما المعروفة بـ«الفيلم نوار» وهي أفلام بوليسية داكنة مع شخصيات على حافة نفسية وعاطفية غير مستقرة. من بين هؤلاء الممثلات جين غرير في «من الماضي» وباربرا ستانويك في «تأمين مزدوج» كما ريتا هايوورث في «غيلدا».

المشهد

كل أسبوع سقطة!

* كل أسبوع، ومن منتصف الشهر الماضي وحتى اليوم، هناك سقوط مدو لفيلم كبير ما. في منتصف الشهر الماضي كان «الآن تراني»، فيلم تشويقي (نظريا) يتحدث عن مجموعة من السحرة الذين يمتهنون سرقة المصارف والأثرياء. بعد أسبوعين وعلى نحو هادر وجد «سقوط البيت الأبيض»، وهو فيلم دمار شامل من مخرج واظب على هذه الأفلام اسمه رونالد إيميريش، نفسه وهو يترنح تحت ضربة قاضية سريعة من فيلم نسائي صغير هو «الحرارة». وفي مكان ما، وبين هذه جميعا، سقط فيلم «بعد الأرض»، خيالي علمي حاول فيه ول سميث تدريب ابنه جادن على التمثيل على حساب مشتري التذاكر.. وفشل.

* في مطلع هذا الشهر شهر «ذا لون رانجر» سلاحه في وجه النقاد والجمهور لكنه حل ثانيا بإيراد ضعيف. بعد أسبوع كان فيلم الوسترن هذا أصبح في منتصف الطريق للخروج من القائمة. في الأسبوع الماضي حط «باسيفيك ريم» على حافة المركز الثالث، أيضا بعد فيلم خفيف وغير مكلف بعنوان «ناضجون 2».

* … ربما لن تتوقف الحال عند هذا الحد. اليوم موعد إطلاق فيلم عنوانه R.I.P.D من بطولة جف بردجز ورايان رينولدز، في دوري رجلي بوليس ماتا، كل في زمن ومكان مختلف، ليجدا نفسيهما، فوق مكان ما بين السماء والأرض، وقد أصبح الأول امرأة جميلة (ماري - لويز باركر) والثاني إلى آسيوي عجوز (جاسون هونغ). مفارقة مسلية بالطبع وما يحدث معهما حين يتم إعادتهما للأرض للنيل من موتى - أحياء هو أكثر مدعاة للتسلية. يوم الجمعة الماضي أخذت شركة «يونيفرسال» المنتجة بعرض الفيلم على قطاعات تجريبية من المشاهدين، لكن الإشارات الأولى تفيد بأن الفتور كان سمة غالبة بين العينات التي تم اختبارها. فهل يكون ذلك تمهيدا لسقوط جديد آخر؟

* وماذا عن «أحمر 2» الذي يرصف بروس ويليس وجون مالكوفيتش وهيلين ميرين وأنطوني هوبكنز (كل منهم تجاوز الخمسين) في مغامرة جاسوسية جديدة بناء على نجاح معقول حققه الجزء السابق قبل ثلاث سنوات؟ ما نجح سابقا، قد لا ينجح اليوم. والمفارقة المشتركة بين كل هذه الأفلام هي أنها جميعا وثقت أن الجمهور ينتظر كل منها بفارغ الصبر، وأن تكلفتها العالية سوف تستعاد خلال الأسبوع ذاته أو في أسبوعين إلى ثلاثة على أبعد حد. افتراض كلف كل واحد من هذه الاستوديوهات الكبيرة مئات ملايين الدولار مما سيدفعها لمراجعة استراتيجياتها في المستقبل القريب.

بين الأفلام

* صراع البشر في العزلة

* A Filed in England

* «حقل في إنجلترا» يوفر للمشاهد عملا غريبا على أكثر من نحو. هو فيلم جديد للمخرج البريطاني بن ويتلتي الذي سبق أن خاض غمار أنواع متعددة ودائما بمعالجات بصرية مثيرة. هنا الميل صوب التجريبي لحكاية مصورة بالأبيض والأسود في زمن حرب أهلية في إنجلترا القرن التاسع عشر قوامها خمس شخصيات تبحث عن كنز يعرف مكانه واحد منهم ويريد الاحتفاظ به، آخر الأجواء التي يؤلفها العمل مع تلك المقاطع التي تفصل بلون أسود بين فترات زمنية أو درامية تمنحه، لجانب تصوير ملهم، وضعا خاصا. لكن المشكلة هي أن لا شيء مساو في هذا الحجم من العمل يقع بين دفتي الفيلم. بالتالي يبدو العمل بحاجة إلى مأزق إضافي (على صعيد قصته) لكي يترك الأثر الدرامي كاملا.

* Killing Season

* في أجواء قريبة، لكن بالألوان، يتقدم طرح جديد للمخرج مارك ستيفن جونسون («غوست رايدر»، «حين تكون في روما») يقوم على شخصيتين فقط (ممثلون آخرون في لقطات متباعدة) معزولون في لعبة قاتلة في مكان ناء: روبرت دي نيرو في أحد أفضل أداءاته الأخيرة يلعب دور رجل يعيش في منزل في الطبيعة، يغزو عزلته صربي (جون ترافولتا) أتى من زمن الحرب السلافية في بلاده لينتقم من دي نيرو الذي كان اشترك في إعدام مقاتلين. يثق دي نيرو به قبل أن يدرك أن ترافولتا جاء لقتله، ومن هنا تنطلق لعبة القط والفأر في الغابات الكثيفة. حينا يصاب الأول وحينا يصاب الثاني ودائما يصاب المشاهد بشيء من عدم الاكتراث. بعد بداية قوية وحالما يتبدى اتجاه الفيلم يفتر الاهتمام ويتحول لمجرد متابعة.

* Despicable Me 2

* شرير الفيلم الأول من «يا لحقارتي 2» هو بطل هذا الجزء الذي يروي قصة غرو السعيد بحياته إلى أن يسطو الأشقياء على مخازن حكومية (سرية طبعا) ما يستدعي فريقا من وكالة أمنية لإرسال العميلة لوسي لعلها تقنع غور للاشتراك في عملية البحث عن الفاعلين واستعادة المسروقات. الحكاية، وما يتبعها، ليست أكثر من غلاف شفاف لفيلم من المحتمل أنه يجلب المسرة للصغار، لكنه بالتأكيد لا يجلب فائدة ولا يتمتع بخامة فنية إضافية لفن الرسوم المتحركة التي ينتمي إليها هذا الفيلم.

شاشة الناقد

* الغرب الأميركي كما لم يكن * الفيلم: The Lone Ranger 

إخراج: غور فربينسكي تمثيل: جوني دب، آرمي هامر، هيلينا بونام كارتر، ويليام فتشنر النوع: وسترن | الولايات المتحدة - 2013 تقييم: (من خمسة)

آخر مرة زرت فيها «مونيومنت فالي» وصخورها الحمراء الشاهقة قبل سنتين كانت لا تزال في شمالي ولاية أريزونا. لكن «ذا لون رانجر» ينقلها إلى تكساس لتزين الأحداث المفترض أنها تقع هناك. ويضيف عليها شغل المؤثرات الخاصة فإذا بالكاميرا تمر بواحدة من تلك الصخور غريبة التكوين كما لو كانت عمودا صغيرا في متجر كبير. إذا كان هذا ليس كافيا، فما البال برجال يرفضون خلع معاطفهم الشتوية السميكة وهم تحت أشعة الشمس الصحراوية؟ هل خطر للمخرج فربينسكي أنه لا يعقل أن يرتدي عاقل أكثر من قميص وسترة بلا كم في مثل هذا الطقس؟

على الأرجح كل ما خطر بباله هو كيف يستعير (أو هل أقول يسرق) المشاهد الأولى من فيلم سيرجيو ليوني «حدث ذات مرة في الغرب» (1968) حين يصل ثلاثة أشقياء إلى محطة مرتدين معاطف كالحة. ولاحقا مشهد من الفصل الأول من فيلم سام بكنباه «الزمرة المتوحشة» (1969). المشهد الذي يطلب فيه الممثل بو هوبكنز من زبائن مصرف مشاركته الغناء الديني مهددا من عصا بالقتل. هذا المشهد منقول كما هو باستثناء أن الزبائن باتوا راكبي قطار لا تعرف من أين أتى وإلى أين يتجه. مثله في هذا المصير الفيلم نفسه. هذا أسوأ فيلم وسترن في السنوات العشر الأخيرة، ولو وضعته حيال أفلام وسترن صغيرة وسريعة من الأربعينات والخمسينات لاستقر في مركز متواضع بينها أيضا.

الحق على جوني دب. يا ليته ما وافق على بطولة فيلم يستنسخ فيه شخصيته المزعجة في «قراصنة الكاريبي». لكنه واحد من ثلاث شركاء (الآخران هما المخرج غور فربينسكي والمنتج جيري بروكهايمر) جنوا نجاحا كبيرا من تلك السلسلة وحاولوا تكرار النجاح ذاته في هذا الفيلم باستعارة كافة معادلات تقديم عمل يستند إلى نوع قديم من الأفلام (سينما قراصنة البحار وسينما الوسترن) بريشة معاصرة تناسب من لم يشاهد فيلما من هذين النوعين مطلقا من قبل.

ينطلق الفيلم كما لو أن لديه كل الوقت في الدنيا ليؤسس حبكته: رجل القانون المقنع (آرمي هامر) يشكل مع الهندي الأحمر تونتو (دب) ثنائيا للدفاع عن الظلم وتحقيق العدالة و(خلال ذلك) الانتقام من العصابة التي يقودها متوحش (ويليام فتشنر) الذي قتل شقيق المقنع. تمر خمسون دقيقة قبل أن يتشكل ذلك الثنائي الذي هو لب المغامرة أساسا والسبب وراء إقبال الناس المفترض على الفيلم.

غور فربينسكي، ليس معجبا بالغرب ولا يعرف عنه سوى بعض النماذج التي يحاول تقليدها والتخيل بأن الصحراء والصخور والجبال هي بحد ذاتها مواقع ناجحة. لا شيء يملأ الفضاء بينها وبين المشاهد سوى مفارقات تجنح للكوميديا السهلة ولمعان من المشاهد المعجوقة وكاميرا تسعى لتعويض فقر الفيلم الفني بحركة دائمة تهرب دائما إلى الأمام.

بالنسبة لجوني دب، فإن المطلوب منه هنا أن يبدو ساخرا وشاذا شكلا بالمعنى الواقعي للكلمة ومن الغريب كيف يتحسن الفيلم (ولو بمقدار قليل للغاية) حين يغيب عن الشاشة. آرمي هامر لديه مهمة صعبة وهي لعب دور البطولة (هو «ذا لون رانجر» في نهاية المطاف) من المقعد الخلفي فحتى مع كون شخصيته هي عنوان الفيلم إلا أنه منح، في أفضل الحالات، نصف بطولة في عمل مثقل بالمتاعب يمضي في اتجاهات عدة دون أن يكمل أيا منها.

سنوات السينما 1935

بدايات لثلاثة مخرجين

* في ذلك العام نأى المخرج الأميركي جون فورد عن أفلام الوسترن والهنود الحمر التي كان يحققها لينجز هذا الفيلم المبكر عن أحداث آيرلندية. إنه «الواشي» The Informer الذي تقع أحداثه في عام 1912 ويتعامل مع عبء وتبعات رجل وشى بالثوار وعاش ليلتقط سوء فعلته.

فورد من رعيل هوليوود الناطقة الأول، كذلك هنري هاثاواي الذي أنجز في العام ذاته «حياة بنغال لانسر» مع غاري كوبر في دور قائد وحدة بريطانية تقاتل المتمردين في بعض البقاع الهندية.

مخرج ثالث مهم بدأ حياته في مطلع الثلاثينات هو جورج كوكر الذي حقق فيلمين بارزين في عام 1935 هما «سيلفيا سكارلت»، وهو كوميديا مع كاثلين هيبورن وكاري غرانت (في مطلع مهنتهما) و«ديفيد كوبرفيلد» عن رواية تشارلز ديكنز بطعم أميركي خفيف.

الشرق الأوسط في

19/07/2013

 

جعفر بناهي يتحدى الحصار الإيراني

كارلوفي فاري (تشيخيا) - فيكي حبيب 

هو متهم بنشر «بروباغندا ضد السلطات الإيرانية»، لكنّ النظام البوليسي لم ينجح في إسكاته. هو قيد الإقامة الجبرية، لكنّ معجزة التكنولوجيا وهبته أجنحة يطير بها حيثما يشاء. هو ممنوع منذ عام 2009 من صنع أفلام لـ20 سنة، لكنّ تمرده أقوى من مصادرة إبداعه. هو فنان يؤمن بقدرة الفن على التغيير، لكنّ أفلامه محظورة في إيران. هو مبدع جعل السينما مرآة مجتمع ضاقت به الحريات، لكنه «خطير» في أعين السلطات التي أصدرت حكماً بسجنه 6 سنوات، قبل أن يتحول الحكم إلى منع من السفر.

هو السينمائي الإيراني الشهير جعفر بناهي الذي شكّل مفاجأة سارة لجمهور الدورة الأخيرة لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي، حين أطل عليهم عبر «سكايب» من منزله في طهران حيث مقرّ إقامته الجبرية، ليخرق الحظر، ويؤكد عزيمته على مواصلة المسيرة... ما فسّر التدافع الكثيف لمشاهدة فيلمه «ستائر مغلقة»، على رغم التأخير الذي وصل لأكثر من ساعة في مهرجان مشهودة له دقة مواعيده. لكنّ صيت بناهي الذي سبقه إلى كارلوفي فاري والاضطهاد السياسي الذي يتعرض له في بلده منذ أعلن صراحة تأييده للاحتجاجات في إيران بعد الانتخابات الرئاسية عام 2009، كانا كفيلين بامتصاص الامتعاض. وبمجرد صعود ابنة بناهي، سولماز، إلى المسرح لتقدّم فيلم والدها - بما أن بطليه سُحبت منهما جوازات سفرهما ما إن عادا إلى طهران بعد المشاركة في مهرجان برلين حيث نال الفيلم جائزة الدب الفضية لأفضل سيناريو - وإعلانها أن بناهي خصّ جمهور المهرجان بمفاجأة، حتى نسي الحضور التأخير الذي جعلهم ينتظرون لما بعد منتصف الليل. وما هي إلا ثوانٍ حتى علا التصفيق الذي استمر لأكثر من ربع ساعة، حين أطل بناهي عبر «سكايب» ليحيي الجمهور التشيخي الذي اكتظت به صالة السينما حتى الثانية فجراً، موعد انتهاء العرض.

«مهرجان كارلوفي فاري هو واحد من المهرجانات التي أحبها جداً، فعندما كنت هنا (2001)، سُنحت لي فرصة لقاء سينمائيين كبار، أضحوا جزءاً من عائلتي. للأسف خسرت هذه العائلة، لكنّ قلبي معكم. وكل ما أتمناه اليوم هو أن أتمكن من صنع أفلام مجدداً، لأتمكن من عرضها عليكم»، قال بناهي هذه الكلمات قبل أن يختتم: «من المؤلم جداً بالنسبة لي ألا أكون جزءاً من المجتمع، لأنني أحقق أفلاماً عن المجتمع ومن المجتمع، ولهذا أعيش اليوم في حزن شديد».

سينما بالسرّ

حزن خيّم على فيلم «ستائر مغلقة» الذي صوّره بناهي سراً من دون الحصول على تصريح من السلطات الإيرانية في فيلته المطلّة على بحر قزوين، بالاشتراك مع صديقه كامبوزيا بارتوفي (كاتب سيناريو فيلمه «الدائرة» الفائز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عام 2000)، فنسجا معاً أنشودة سوداوية عن مصادرة الحريات في دراما يختلط فيها الواقع بالخيال.

ولا يمكن اعتبار «ستائر مغلقة» إلا تكملة لفيلم بناهي السابق «هذا ليس فيلماً» الذي صوّره أيضاً سراً عام 2011، وهرّبه إلى مهرجان «كان» في فرنسا عبر «فلاش» (USB) زرعه داخل كعكة. ولا يبتعد الفيلم الجديد عن أهداف الفيلم الأول، خصوصاً لجهة الحديث عن الفن في ظل قمع الحريات، والتركيز على الوطن الذي يتحوّل إلى سجن كبير.

تيمة يبدو أنها تؤرق بناهي وهو قابع في «سجنه». كيف لا، وهو يعتبر أن منعه من صنع أفلام بمثابة حكم إعدام؟

لكنّ بناهي لم يستسلم، وإن كان اليأس قد تسرب إلى عروقه. «كان حزيناً ويائساً إلى أبعد حدود، من هنا نصحه طبيبه بأن يدوّن ملاحظاته وأن يفكّر بفيلم جديد للحفاظ على قدراته الذهنية متقدة، حتى وإن كان عاجزاً عن التصوير»، يقول بارتوفي، ويضيف: «استهل الكتابة، وأمام كل نسخة، كانت الحماسة تزداد لديه أكثر فأكثر. وشيئاً فشيئاً صار صنع الفيلم ضرورة ملحة».

في هذا المعنى، تتحوّل السينما إلى علاج ضد الاكتئاب، علاج عكس التخبط الذي يعيشه المخرج، وهو عاجز عن الحركة، من خلال تخبط فيلمه بين الواقع والخيال، ما نسف الحدود بينهما ووضع المشاهد في حال إرباك.

دائرة مغلقة

يفتتح الفيلم بلقطة لفيلا مطلة على البحر، سرعان ما نخمّن أن الكاميرا لن تغادرها طوال دقائق الشريط (106 دقائق)، فتراها تجول في دائرة مغلقة بين الطبقات الثلاث، لتعكس ثقل الاحتجاز وما يمكن أن يحدثه في النفوس من تخبط ولا اتزان.

شعور يتسلل إلى المشاهد ما إن يدخل المكان رجل أشيب (يجسد الدور كامبوزيا بارتوفي الذي شارك في الإخراج) وفي جعبته حقيبة، يتضح بسرعة أنّ في داخلها كلباً، يأخذ مكانه على الأريكة أمام جهاز التلفزيون فيما الكاميرا تحدق بعينيه وهو يشاهد تقريراً حول الحرب التي تشنها السلطات في إيران على الكلاب بعد إصدار مجلس النواب قراراً بتحريم اقتنائها في البيوت كونها «نجسة».

ذعر يخرج من عيني الكلب وهو يتابع مشاهد إعدام أقرانه، قبل أن تتحول الكاميرا إلى عيني الرجل وما فيهما من ذعر مشابه. وسرعان ما نفهم أن الرجل كاتب شهير مطارد من الشرطة أيضاً، ولهذا عمد إلى سدّ النوافذ الكثيرة التي تحيط البيت بستائر سود تحجب الفيلا الجميلة عن العالم الخارجي، ثم قصّ شعره بالكامل خوفاً من افتضاح هويته. لكنّ صومعته الهانئة، سرعان ما يقتحمها من دون استئذان شاب وفتاة ادعيا أنهما يبحثان عن ملجأ بعدما كانا يحضران حفلة فنية، ما جعلهما عرضة لملاحقة الشرطة. وإذ يخرج الشاب للبحث عن سيارة تقلهما، يترك الفتاة في الفيلا، ليبدأ الشك حول هويتها، وما إذا كانت مزروعة من الشرطة لاعتقال الرجل. تسأله عن كلبه، ولماذا قصّ شعره؟ وتقول له: «أنا أكتب فيك التقارير»... وقبل أن تصبح هوية المرأة غير ملتبسة عند المشاهد، وقبل أن يصبح الداخل، مصدر التهديد الذي يتربص بالكاتب لا الخارج، يطل جعفر بناهي في الكادر، فنراه أمام الكاميرا في الفيلا وقد سطا لصوص عليها، فيما الشخصيتان الرئيسيتان (المرأة والكاتب) لم تبارحا المكان، على رغم أنه لا يعيرهما اهتماماً، ليتضح لنا أنهما ليستا إلا شخصيتين خيالتين... وكأن المشاهد الأولى ليست إلا فيلماً داخل فيلم... أو هي مشروع فيلم لم يختمر بعد في رأس بناهي...

في «ستائر مغلقة» يبدو جعفر بناهي وكأنه يقدم مرافعة ضد قمع الحريات، بالاتكاء على الرموز. فالفيلا ليست إلا رمزاً لإيران التي أضحت خارج العالم، فيما الفتاة تحيلنا إلى الرقابة التي تطارد الجميع أين ما كانوا، أما الكاتب فيرمز إلى كل مبدع لا حول له ولا قوة في ظل نظام بوليسي.

وإذ يمكن أن يخرج المشاهد بانطباع أن بناهي يهذي في هذا الشريط، فهذا لأن المخرج لم يكن يريد أن يحقق فيلماً بمقدار ما كان يريد أن يُشرك المتفرج بحال التخبط والضياع واللااتزان التي يعيشها وهو مقيّد وممنوع من ممارسة المهنة التي يحب... من هنا، أهمية المشهد الذي يزيح فيه بناهي الستائر السود عن النوافذ، فيُفرج عن الضوء الذي يقتحم الغرف، لكنه يُفرج أيضاً، عن «ملصقات» عملاقة لأفلام بناهي، وكأن لسان حاله يريد أن يقول إن الإبداع لا يموت مهما حاول أعداء الفنون محوه.

الحياة اللندنية في

19/07/2013

 

بروس ويليس:

أدركت متأخراً أن العائلة أهم من المال والشهرة

باريس - نبيل مسعد 

بروس ويليس هو أحد ألمع نجوم هوليوود، لا سيما في أفلام المغامرات. وبين أبرز الأعمال التي سببت شهرته العالمية «داي هارد» الذي يحتل المكانة المميزة، خصوصاً أن هناك أربعة أجزاء مكملة له صورت في خلال 25 سنة، أي منذ 1988، وهو عام صدور الفيلم الأساسي، غير أن الشخصية التي يؤديها ويليس في هذه السلسلة من الأفلام، أي مفتش الشرطة جون ماكلين، دخلت تاريخ الفن السابع وصارت رمزاً للبطولة.

في ما يخص حياته الشخصية، فقد ظل ويليس متزوجاً من الممثلة ديمي مور طيلة 13 سنة أنجبا خلالها ثلاث بنات. وإثر طلاقهما عقد النجم قرانه على عارضة الأزياء إيما هيمينغ وله منها ابنة.

زار ويليس باريس للترويج لفيلمه الجديد «ريد 2» المكمل لفيلم «ريد» النازل إلى صالات السينما قبل ثلاثة أعوام. ويحكي الجزء الثاني إذاً عن قيام مجموعة من الجواسيس المحترفين المتقاعدين باستئناف نشاطهم إثر تعرض العالم كله لخطر الدمار بسبب عصابة من المجرمين يتزعمها مجنون يحلم بالسيطرة على الكون وثرواته. وكانت الدولة الفرنسية قد كرمت النجم الهوليوودي قبل فترة مانحة إياه وسام الشرف في الفنون والآداب. «الحياة» التقت ويليس وحاورته.

·        أنت معتاد على زيارة فرنسا في شكل دوري، أليس كذلك؟

- نعم، وأتكلم الفرنسية إلى حد ما، لكن بلكنة أميركية أعجز كلياً عن التخلص منها. أنا معتاد على القدوم إلى مهرجاني دوفيل للسينما الأميركية، ثم «كان» الدولي، بما أن أفلامي تعرض في شكل دوري في إحدى هاتين المناسبتين السينمائيتين المهمتين، غير أنني أتمتع بصداقة قوية مع المنتج والمخرج السينمائي الفرنسي لوك بيسون وهو كثيراً ما يدعوني مع عائلتي إلى زيارته هنا في باريس. أنا أعشق فرنسا وأعتبرها وطني الثاني بعد الولايات المتحدة، أكثر من إنكلترا مثلاً أو أي بلد آخر في العالم.

·     في العام 2010 شاهدناك تحضر حفلة المبتدئات في فندق «لو كريون» الباريسي بصحبة كل من زوجتك السابقة ديمي مور وبناتكما الثلاث. حدثنا عن هذه المناسبة؟

- حفلة المبتدئات هي من أهم المناسبات الاجتماعية الراقية، لذا تنعقد دورياً في أحد أفخم الفنادق الباريسية «لو كريون». وأعترف بأنني نادراً ما شاهدت في حياتي منظراً خلاباً مثل ذلك الذي يتسنى للمرء مشاهدته من غرف وشرفات هذا المكان المطل على ساحة كونكورد، أحد أكبر الميادين في العالم. ويتلخص مضمون السهرة في قيام عائلات من المجتمعات المخملية بالقدوم إلى باريس والمشاركة في الحفلة بهدف إطلاق بناتها في الدنيا. وترتدي الفتيات المدعوات أحلى الفساتين التي ابتكرها كبار مصممي الأزياء، وعقب تناول العشاء تعزف الفرقة الموسيقية ألحان رقصة الفالس.

·     ها هي فرنسا تكرّمك بمنحك وسام جوقة الشرف في الفنون والآداب، فما شعورك تجاه هذا التقدير؟

- شعرت بالخوف والقلق حينما سمعت خبر هذا التكريم، ذلك أن التكريم عادة ما يكون للذين انتهوا فنياً أو رحلوا عن الدنيا، وقد تقبلت الفكرة شيئاً فشيئاً. وفي النهاية أقول إنني مسرور وفخور بكون فرنسا فكرت في منحي أحلى أوسمتها، ثم لأن إدارة نادي السينما الفرنسي المرموق «سينماتيك فرانسيز» قررت عرض مجموعة من أهم أفلامي في فصل الشتاء الفائت. أنا إذاً رجل سعيد وأشارك فرحتي مع زوجتي التي ترافقني في كل جولاتي الفنية حول العالم.

·     لقد ابتعدت بعض الشيء عن أستوديوات السينما في السنوات الخمس الأخيرة، وأقصد كممثل، فهل تنوي الآن العودة إلى نشاط مكثف؟

- نعم، والواقع أنني عدت في العام الفائت إلى النشاط المكثف بأفلام عدة هي «لوبر» و «إكسبندابلز 2» ثم «جي أي جو 2» و «داي هارد، يوم جيد للموت»، والآن في 2013 بفيلم «ريد 2». لقد احتجبت فترة محددة عن الشاشة كممثل وفضلت خلالها تكثيف عملي كمنتج وأيضاً كمؤلف موسيقي، وأنا مستمر في هذين النشاطين، إلا أن التمثيل كان قد بدأ ينقصني وبالتالي قررت استئنافه من جديد من دون ان أتجاهل الباقي.

العائلة أولاً

·        ما كان سبب قرار الابتعاد أصلاً؟

- قررت تخصيص وقتي لعائلتي في شكل أساس، لأنني تعلمت من أخطائي السابقة ومن طلاقي الذي كان سببه الأول منحي الأولوية المطلقة لعملي الفني، مهما حدث. لكنني تقدمت في العمر وأدركت الكثير من الأمور وبينها الدور الذي تلعبه العائلة في حياة أي رجل بالمقارنة مع المهنة مثلاً، ثم المال والشهرة وأمور أخرى كثيرة كنت أعتبرها ذات أهمية قصوى في سنوات شبابي، غير أنني كنت أعتقد أن الجمع بين كل هذه الأشياء هو في إطار الممكن بالنسبة الى رجل ذكي، ومن دون أن يضطر الشخص الذكي هذا إلى تقديم أي تضحيات. وحتى ألخص لك الموقف، كنت مقتنعاً بأن النجاح المطلق هو مصيري، ولم أستمع الى كلام أصدقائي الذين كثيراً ما قالوا لي إن العائلة لا تعوض بشيء آخر وذلك مهما كنا نتمسك بهذا الشيء الآخر ونوهم أنفسنا بأهميته. وبما أن زوجتي إيما تصغرني سناً ولا تزال في أوجّ مجدها الفني في دنيا الموضة، اقترحت عليها الاهتمام بالأمور العائلية وبنفسها، وكل ذلك من طريق قضاء أكبر وقت ممكن إلى جوارها. وذات يوم طلبت مني أن أعود إلى عملي كممثل لأنها شعرت بأن الوقوف أمام الكاميرا هو أمر له أهميته بالنسبة الى توازني النفسي، لكن في شكل عاقل ومن دون أن يطغى عملي على حياتنا الخصوصية. وهذا ما حدث بالفعل وربما أنه يحدث أكثر وأكثر منذ صرت أباً للمرة الرابعة حديثاً.

·     في فيلمك الجديد «ريد 2» يتحول البطل الذي تؤديه، وهو جاسوس متقاعد، إلى شخصية كوميدية نوعاً ما، من دون التنازل في طبيعة الحال عن عضلاته البارزة، لماذا؟

- لأن الجدية لازمت الجاسوس هذا في الفيلم الأساس «ريد» ، من أوله إلى آخر لقطة فيه، وقد اعتبرت أن الجمهور صار في حاجة إلى مشاهدة هذا الرجل يسخر بعض الشيء من نفسه، وعرضت فكرتي على الشركة المنتجة التي وجدتها غير مقنعة في أول الأمر قبل أن تغير رأيها بعدما رويت للمنتجين مواقف ساخرة كنت أراها تناسب الحبكة. وهناك عنصر التقدم في العمر الذي يلعب دوره في حكاية الكوميديا هذه ، فالبطل التقليدي عموماً ليس في حاجة إلى أن يضحك جمهوره كي يقنعه بحركاته البطولية بالتحديد، بينما تتحول الفكاهة إلى عنصر ضروري إذا كان بطل الفيلم فوق سن الخمسين.

·        تتكلم عن العمر، فكيف تحافظ على لياقتك البدنية؟

- عمري 57 سنة الآن، ولا أزال أسبح وأركض وأمشي وأمارس الفروسية والألعاب الرياضية الآسيوية. أنا مولع بشيء اسمه الرياضة ولا أتردد في قضاء ساعات في التدريب الجسماني كلما سمح لي وقتي بذلك.

·        وهل تفعل ذلك من أجل أدوارك أساساً؟

- لا بل مثلما ذكرته للتو، محبة في الرياضة نفسها، لكن الأمر يفيدني مهنياً طبعاً.

·        ما هي أفلامك المفضلة كمتفرج؟

- صدق أو لا تصدق، أنا أهوى الرسوم المتحركة، والذي أحبه في شكل خاص هو «راتاتوي» الذي يحكي قصة الفأر الطباخ.

الحياة اللندنية في

19/07/2013

 

«طريق بيروت»:

استعارة لعبة الممثل

بيروت - «الحياة» 

انتهى المخرج الفلسطيني فجر يعقوب من العمليات الفنية لفيلمه الوثائقي الدرامي الجديد «طريق بيروت – مولهولاند 150 ألف كيلومتر». والفيلم الذي بات بهذا جاهزا للعرض يستغرق 52 دقيقة، يرصد خلالها مصائر بعض الهاربين من فلسطينيي سورية باتجاه لبنان جراء الحرب الطاحنة التي تدور فيها وطاولت معظم مخيمات اللجوء فيها.

ويــــقول المخرج فجر يعقوب إنه لم يسع في وقت من الأوقات ليصور الفلسطينيين (السوريين) وهم على أبواب نكـــبة جديدة تدفـــع بهم للهجرة من جديد، علــــى أنهم ضحايا «مشروع» غامض يقضي بترحيلهم أو باحثين عن سلام مفقود، لم يكن ممكناً تصور أن يكونوا ضحــــاياه فــــي بلد مثل سورية بالذات. أما «وقـــد حلت هذه الكارثة، فإن أفضل شيء لمعاينتها من الداخل ومحاولة التــــركيز عليها وفهمها، هو تصــــوير فيلـــم عن هؤلاء المرحلين إلى متاهات لم تعـــد ممكنة إعادة تسميتها أو إطلاق اسم جديد عليها طالما أن النكبات المتتالية قد أصبحت «حرفة» متنقلة أمام هذا الشعب المنكوب أصلا منذ أكثر من ستة عقود».

يبدو الطريق طويلاً في الفيلم، من دون نهايات يمكن بلوغها حتى عن طريق الرموز والإشارات التي يحفل بها. والعمل وإن كان قد جنح كثيراً نحو استعارة لعبة الممثل، فإن ما يبدو أكثر نجاعة هنا، هو ما يمنح الفيلم ذلك الدفع الدرامي المطلوب ليحقق شيئاً من الهدف الذي مشى باتجاهه، وبخاصة أن المخرج نفسه ينتمي إلى نفس «المرَحّلين» وقد وجد نفسه في ضيم اللحظة من الداخل، بدل أن يقف من خارجها ليقرر معنى ومصير فيلمه.

الرقم في عنوان فيلم «طريق بيروت – مولهولاند 150 ألف كيلومتر» لا يعبر عن مساحة جغرافية لنقل أشخاص تائهين يقول المخرج. إنه مساحة رمزية لعمل جردة حساب مع مشاريع واقتراحات جديدة تقضي بأن يغلق قوس هذه النكبات ويتوقف عند فلسطينيي الشتات، وربما ماهو أبعد من ذلك. لذلك قد يبدو فيلماً عن اللاجئين الفلسطينيين (السوريين) الذين وجدوا ممراً للهروب من الحرب المستعرة في سورية إلى لبنان وقد لا يغدو كذلك. ميرا صيداوي مسرحية فلسطينية، تعيش وتعمل في بيروت تأخذ على عاتقها مهمة البحث والتنقيب في مصائر هؤلاء قبل أن تضــــيع هــــي نفسها في متاهة (مولهولاند) فـــي إشارة رمزية إلى الطريق المستحيل، وهي عندما تلتقي بشبح من « أشباح» الحرب اللبنانية في الطريق –لعب دوره حسان مراد– يقوم على النبش في ذاكرة حرب لا تبتعد كثيراً من معالم الطريق ذاتها التي سيعبرها المرَحّلون الجدد. وهنا سوف نكتشف أن ثمة من يعيد رسم المأساة من الداخل على شاكلة ملهاة. ليس حسان مراد هنا إلا رمزاً لحرب تقــــع في المستقبل ويكون الجميع وقوداً لهــــا، وليس «نبش» قبر زوجته وداد في نهــــاية الـــطريق الذي لا نهاية له إلا عنواناً درامياً لمرحلة قد تطاول وتحرق الجميع.

الحياة اللندنية في

19/07/2013

 

ما الذي يبقى من الحب وأحلامه الوردية؟

أمستردام – محمد موسى 

بعدما عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي، وصل الجزء الثالث من ثلاثية «قبل...» (ويحمل هذه المرة عنوان «قبل منتصف الليل») إلى الصالات الأوروبية، وذلك بعد مرور ما يقرب من عشرين عاماً على عرض الفيلم الأول من السلسلة («قبل شروق الشمس»). وبالطبع لم يكن مخرج الفيلم، الأميركي، ريتشارد لينكليتر ولا بطلا الفيلم: الأميركي إيثان هوك والفرنسية جولي ديلبي (في أفضل أدوار مسارهما حتى اليوم)، يتوقعون أن ما بدأ كفيلم أميركي مستقل صغير، سيتحول إلى ظاهرة سينمائية عالمية، وأن شخصيتي الفيلم الرئيستين سينضمان إلى عشاق السينما الشهيرين، وأنهما سيعاودان الظهور كل عشر سنوات تقريباً، ليتابعا قصة حب الأميركي «جيسي» والفرنسية «سيلين»، وأن جيلاً كاملاً من المشاهدين سيبحث لديهما عن شبابه وقصص حبه وخيبات الحياة وأفراحها في قصة الثنائي، الذي شاهدناه ينضج ويكبر أمام أعيننا.

وكان لافتاً أن يختار بعض الصالات السينمائية الهولندية إعادة عرض الجزءين السابقين من السلسلة («قبل شروق الشمس» (1994) و «قبل غياب الشمس» (2004))، جنباً إلى جنب مع الجزء الجديد «قبل منتصف الليل»، وكأن عرض الجزء الأخير لا يكون تجربة مكتملة إلا باستعادة السلسلة كلها. خطوة الصالات هذه، تثير أسئلة عن الاستقلالية الفنية للأجزاء التي تلت الفيلم الأصلي، وإن كان من الممكن تتبع قصة الفيلم الثالث والتأثر بها، إذا كان المشاهد يجهل تاريخ الشخصيات، ولم يتأثر ويتعاطف ويستثمر في علاقة الحب التي ربطتها.

من فيينا إلى اليونان

ما بين لقاء البطلين في قطار أوروبي، ثم قضائهما ليلة كاملة يتسكعان في شوارع في «فيينا» في الفيلم الأول، وعطلتهما في قرية يونانية في الجزء الثالث، هناك عقدان من الزمان. ولكن لن تَمر هذه الفترة الزمنية كأعوام السينما التي تغطى بالمكياج وتغيير الديكور، بل هي سنوات حقيقية مرت على البطلين والمخرج. فالبطلان اللذان كانا في الفيلم الأول في منتصف العشرينات من عمرهما، بوجهين متوردين طافحين بالرغبات والطموحات، هما الآن في منتصف الحياة. يواجهان أزمات منتصف العمر. صحيح أنهما اختارا بعضهما، وحققا المُراد، لكن أسئلة القلق الوجودي ما زالت تطاردهما، كما أنهما يبدوان، وكحالهما عندما كانا في العشرينات من العمر، ما زالا يواصلان البحث عن الحب «المثالي» و «السعادة»، التي يجتهدان في محادثاتهما الطويلة لإيجاد تعريف واضح لها.

يبدأ «قبل منتصف الليل» بمشاهد كثيرة لـ «جيسي» مع صبي، سنعرف أنه ابنه من زواجه السابق، والذي كان في طريقه لزيارة أمه الأميركية في الولايات المتحدة الأميركية. هذه المشاهد هي الأطول في السلسلة التي لا تضم بطلي الحكاية. بعدها سنتكشف أن «جيسي» و «سيلين»، اللذين كانا التقيا في باريس في الجزء الثاني، الذي انتهى بمشاهد مشروعة على احتمالات عدة، قد تجاوزا وضعهما الخاص المعقد، وأنهما يعيشان الآن معاً في العاصمة الفرنسية حيث أنجبا في السنوات العشر الماضية، توأم بنات، تجلسان الآن في المقعد الخلفي في السيارة، التي كانت تتجه إلى مكان عطلتهما في اليونان، حيث يتشاركان البيت الريفي مع مجموعة من الأدباء الأوروبيين.

منذ الجزء الثاني، والممثلان إيثان هوك وجولي ديلبي يشتركان في كتابة السيناريو. وما يبدو وكأنه ارتجال أمام الكاميرا، هو وكما يكشف المخرج، جرى التحضير له بعناية شديدة. الارتجال يحدث بعيداً من الكاميرا، بين الممثلين والمخرج، قبل أشهر من التصوير، ليتم بعدها تسجيل كل شيء في السيناريو الذي يتم تصويره. الحوار في السلسلة هو الذي يُحدد ويُغير دينامية المشاهد.

ليس من الغريب أن يشترط البطلان الاشتراك في كتابة الحوار، فالعلاقة بين هذا الأخير والتطورات والتقلبات النفسية للشخصيات التي يلعبانها، أمر أساسي في السلسلة التي لا يمكن أن تصل بالقوة والحميمية ذاتها، بوسيط فني آخر غير بصري. فمن الصعب تخيل التدرج والتقلب المستمر عند الشخصيتين بسماع الحوارات نفسها عبر الإذاعة مثلاً. والحوارات تترواح، مما يشبه لعبة كرة المضرب بين البطلين، إلى وسيط لاكتشاف جوانية الشخصيات، وأسرارها الحميمة. وكل هذا يتم بسلاسة كبيرة. حيث إن الحوارات هي التي تقود الفيلم بصرياً، الكاميرا مثلاً تتراجع في كثير من المشاهد لتصور البطلين المتقدمين نحوها، كما أنها تصور أحياناً البطلين من الخلف، وهما يواصلان المحادثات التي لا تتوقف.

الخروج من الحلم

في «قبل منتصف الليل»، هناك مشهد هو الأطول في الفيلم: «جيسي» و «سيلين» يجلسان في السيارة. يشبه هذا المشهد، ما اعتاد المخرج الإيراني عباس كيارستامي على تقديمه في أفلامه، عندما تكون مشاهد السيارات المتحركة، وكأنها انتقال غير محسوس للشخصيات، بين مستويات درامية وزمنية عدة.

وفي شكل عام، يواصل الفيلم الثالث من السلسلة، ما بدأه الجزء الثاني، بالخروج من المناخ «الحِلميّ» الذي كان يغلف الفيلم الأول، فالبطلان اللذان وقعا في الحب في ليلية صيفية ساحرة في فيينا، بدوا في بعض مشاهد «قبل منتصف الليل»، وكأنهما خرجا من ذلك الحب وتنكرا له. هل الحياة اليومية والزواج الطويل يقتلان الحب...؟ الإجابة لن تكون مبسطة وجاهزة في الفيلم، كما يمكن البحث عنها، في ملامح الجيل الذي يمثله «جيسي» و «سيلين»، الجيل الذي يملك الحرية والإمكانات للتفكير بحياته وفلسفتها، مع القدرة أحياناً على تغيير دفتها، مقارنة مع الأجيال الماضية.

تواجه السلسلة تحديات زمنين مضغوطين، الأول هو الفترة الزمنية التي تجرى فيها الأحداث الآنية، والمحددة بسقف زمني (ظهور الشمس، غروبها، منتصف الليل)، والآخر، الزمن الذي سبق بداية كل جزء، والذي يتم العودة إليه بانتقائية وبعاطفية، عبر المحادثات الطويلة بين شخصيتي الفيلم. الذكريات والنوستالجيا، سيحضران ويحركان الفيلم منذ البداية، الحنين إلى زمن مفقود بدا أنه سَبَقَ مشروع الفيلم الأصلي الأول، حتى عندما كان البطلان في بدايات العشرينات كانا يستعجلان الزمن، لكي يبدأ الحنين لذكريات لقائهما الأول، والذي لم يخططا له.

يضم الفيلم الأول مشاهد لمدينة فيينا خالية من البشر، مصورة في ضوء الفجر. تعود الكاميرا في تلك المشاهد إلى الأمكنة التي مر عليها العاشقان في ليلتهما الطويلة في المدينة، فبدت تلك المشاهد، وحتى قبل افتراق العاشقين، تشبه حزناً خفيفاً يَلِف القلب، عندما يتذكر المرء علاقة حب قديمة.

الحياة اللندنية في

19/07/2013

 

هل كشف فيلم فيصل الياسري «حنيناً خفياً» إلى عهد صدّام؟

بغداد – علي السراي 

تحوّل حفل لدائرة السينما والمسرح في بغداد، كان مخصصاً لعرض أول أفلام مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية، إلى سجال ولغط في شأن «رسالة» الفيلم، ما جعل المنظمين يقررون تأجيل العرض، إلى إشعار آخر. فالمسؤولون في الدائرة قرروا تأجيل العرض بسبب رسالة الفيلم السياسية، التي أظهرت «تمجيداً لصدام حسين»، في حين نفى مخرج الفيلم ذلك، وقال إن مادته «بسيطة، وتسرد حياة العراقيين ومشكلاتهم بعد عام 2003».

والفيلم الذي حمل عنوان «بغداد حلم وردي»، أخرجه السينمائي والإعلامي المخضرم فيصل الياسري، وقامت ببطولته زوجته الممثلة هند كامل، إلى جانب نخبة من الممثلين العراقيين. ويتعرض الفيلم إلى أحداث اجتماعية وقعت في عام 2008، حيث كانت أعمال العنف توشك أن تنخفض تدريجياً، وتتجه البلاد إلى الهدوء النسبي.

الفيلم مأخوذ من رواية «حكاية حب في بغداد» للكاتبة العراقية ميسلون هادي، وقام الياسري بتحويلها إلى قصة مرئية، تسرد حياة عائلات عراقية جابهت ميول بعض الجماعات إلى العنف الطائفي. وكان يوم 8 تموز (يوليو) الجاري، موعداً للعرض الأول للفيلم حيث غصت قاعة المسرح الوطني، وسط بغداد، بالمهتمين بالفن السابع في العراق.

وجاء الاهتمام لأسباب عدة من بينها أن فيلم الياسري كان أول إنتاج ضمن مشروع عاصمة الثقافة العربية، وكان، إلى حد ما يمثل عودة طيبة لمنتجي الفن السابع في العراق.

لكن العرض تأجل، واختلف الطرفان المعنيان بـــه في تفسير أسباب القرار الذي اتخذته الــدائرة. وقال أحد الموظفين في دائرة السينما والمسرح أن «مسؤولين شاهـــدوا الفيلــــم قبــــل العــرض، فاكتشفوا مشاهد فيه تمجد عهد صدام حسين».

من صاحب القرار؟

وكان الشاعر نوفل أبو رغيف، وهو مدير للشؤون الثقافية في وزارة الثقافة، تسنم بالوكالة منصب مدير السينما والمسرح، بعد أن قررت الحكومة إبعاد الفنان شفيق المهدي، المدير السابق، من منصبه على خلفية تعري ممثلة ألمانية في المسرح الوطني ببغداد. ويشير الموظف إلى أن مشاهدة الفيلم قبل عرضه كانت بطلب من مدير الدائرة، للتأكد من مضمونه السياسي. وكانت النتيجة بحسب قول الموظف أن في الفيلم مشاهد عدة تظهر الحياة في بغداد، بعد عام 2003، أسوأ بكثير مما كانت عليه في أثناء حكم الرئيس السابق، صدام حسين.

وشهدت الساعات اللاحقة للموعد المحدد لعرض الفيلم - الذي لم يعرض -، الكثير من اللغط، وتسرب كم هائل من المواقف التي زادت قصة «الحلم الوردي» إثارة ودراما.

ومن بعض ما تسرب أن تحقيقاً عاجلاً سيكون مع المخرج ومن أشرف على إنتاج الفيلم، وإنَّ «موجزاً بالحادثة، وملابسات تمجيد صدام حسين، وصل مكتب رئيس الحكومة».

غير أن النبأ الرسمي عن تأجيل العرض لم يشر إلى أي شيء من هذا بل اكتفى بالحديث عن «خلل تنظيمي» كان هو السبب لتأجيل العرض.

أما فيصل الياسري، مخرج الفيلم فقال في حسابه الشخصي، في موقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك) إن «الفيلم لا يمجد صدام حسين لا من بعيد ولا من قريب»، ثم انه «لم يعرض حتى الآن، حتى يطلق النقاد رأيهم في مادته».

وسرد الياسري نسخته من القصة قائلاً: «بعد دقائق على بداية برنامج حفلة عرض الفيلم همس مدير عام السينما والمسرح بالوكالة نوفل أبو رغيف في أذني قائلاً إن الفيلم لن يعرض. صدمني وحسبت انه يمزح، ولكنه أكد ذلك مبرراً أن الوزير طلب عدم عرض الفيلم إلا بحضوره، وها هو لم يحضر بداعي انه منشغل الآن (...). على الفور أكدت على ضرورة عرض الفيلم احتراماً للجمهور وللإعلانات التي نشرتها دائرة السينما والمسرح، لكنه أكد أن الوزير مصر على موقفه».

في الميديا المحلية تناول صحافيون وسينمائيون عراقيون الفيلم، الذي لم يعرض، بوابل من النقد، وطالبوا باستبعاده من العرض تماماً، لأنه «يمجد صدام». ورداً على ذلك، كتب الياسري أيضاً إن «بعض ما كتب كان افتراءً على مادة الفيلم، وعلى من اشتغل عليه».

ومن المعروف أن الأفلام المنتجة لمصلحة مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية تخضع للفحص المسبق من قبل لجنة تتألف من 5 إلى 7 مختصين بالشأن السينمائي في دائرة السينما والمسرح. ويحال سيناريو كل فيلم إلى خبراء في وزارة الثقافة لفحصه أيضاً، وبحسب هذا السياق فإن وزارة الثقافة اطلعت على محتوى فيلم الياسري وبقية الأفلام، منذ فترة طويلة.

وواضح الآن أن السجال حول فيلم الياسري تختلط فيه مواقف سياسية وأخرى تعكس الانقسامات الحادة في الوسط الفني العراقي، وبخاصة ما يرتبط بتمويل مشاريع بغداد عاصمة الثقافة العربية.

لكن ما يهم المتلقي العراقي أنه شاهد أحكاماً جاهزة على الفيلم قبل أن يعرض، وأن الانقسام السياسي في البلاد يحول دون التوصل إلى توافق بشأن حدود ومعايير حرية التعبير في المواد الفنية المنتجة في البلاد بعد عام 2003.

الحياة اللندنية في

19/07/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)