حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

عصر “دولوز” "ويوتوبي مو“ الضائعة

يوسف يوسف

 

جيل دولوز الفيلسوف الرحالة كما لقبه أحد المهتمين بسبر أغوار عالمه السحري، هو نفسه الذي تعتبر الكتابة عنده محاولة فريدة غايتها تثمين الحياة وتحريرها مما يسجنها ويحدّ من فعاليتها.

وإذا كان ثمة في هذا العالم من يحبون الأطر تلك التي تحدث عنها كارل بوبر في “ أسطورة الاطار “، إلا أن الذين يمقتونها أكثر عددا، ومن هؤلاء الكارهين لها دولوز، صاحب “ الاختلاف والتكرار “ و “ منطق الحس “.وعلى ذكر هذين الكتابين، فإن مما قاله ميشيل فوكو وهو يعبر عن فرحه بصدورهما: في يوم ما قد يصبح هذا العصر دولوزيا. دولوزيا بروحه الرافضة لكل صنمية وتمثال. الثائرة على النساق والانضباطية الفكرية والفلسفة الاحترافية. دولوزيا بتعايشه مع الجنون، ودعوته إلى كسر طوق العقلانية الأدائية الصارمة، وتحرير الانسان المعاصر من إرث التنوير الذي انبنت عليه الحداثة الغربية بتجلياتها الأكثر أيقانية (من ألأيقونة).

لربما السلفيون – القابضون على ما أنجزه السلف دينا كان أو سواه – يرفعون العصي ويلوحون بها بوجه فوكو ذلك المارق الداعي هو الآخر إلى الثورة اللامتناهية على مختلف الأصنام، إلا أن جميع الذين على شاكلته سوف يرفعونه على أكتافهم ويدورون به في مختلف الأمكنة وهم يرددون: فلتسقط الأطر التي تسجن الانسان، وتبعده عن مساره الحقيقي.

ذلك أن مهمة الفلسفة عند دولوز، أمل فوكو والبشرية المعاصرة في ثورة عارمة، هي خلق المفاهيم ونحتها، وهي مهمة تنفرد بها الفلسفة عن باقي المعارف الأخرى من حيث كونها مبحثا ثوريا جنيالوجيا لا يتوقف عن ابتكار المفاهيم وغرسها وسط الحقول المعرفية المختلفة.

لماذا فوكو يتمنى الثورة الدولوزية؟ انه يفعل ذلك من أجل ان تسترجع الذات تمالكها، ولا تعود من عبيد اسواق النخاسة، التي يتحول فيها الانسان إلى خانع ذليل يقبل بما ينجزه سواه في زمن ربما تختلف شروطه عن شروط زمانه هو. وهنا لا تغيب عن اذهاننا يوتوبيا توماس مور، ذلك العابث الآخر بالتقاليد الرثة، تلك التي توصف بأنها  إمكانية مفتوحة تصنع للانسان منفذا للتبصر في الواقع والبحث عن الأفضل. إن أجمل ما في اليوتوبيا أن شقة الريبة بالنظم السياسية والاقتصاد والاجتماعية وسواها تزداد اتساعا، وهذا يعني أن من يحملون يوتوبياتهم الخاصة، سوف يتحركون لفعل شيء ما ينتقل بهم ربما من المكان الوهمي الذي في الخيال، إلى مكان آخر واقعي ومعاش.

أذكر أننا في عقد التسعينيات المنصرم من القرن الماضي، كنا نجلس ونتبادل الأحاديث السرية المشتهاة، في زمن كانت السياسة فيه تحاول أن تعطي معنى مغايرا للحقيقة، وكنا كل واحد على طريقته، نرفض ذلك الانتهاك المبرمج. وعندما قلت أننا نعيش في جاهلية، انبرى أحد أصدقاء السوء وقال في حدة: هذه إزاحة في المعنى لا يقبلها العقل، فأين نحن من الجاهلية المعهودة في الأذهان والتاريخ يا صديقي؟ قلت: فأما أننا في جاهلية، فذلك لأن الحال من بعضه، وأجدادنا الأوائل عبدوا أصناما من حجر وتمر، فكان أحدهم إذا ما أراد الانتحار ضرب رأسه بإلهه ليموت، وإذا ما جاع أكله وشبع، أما نحن فأصنامنا من لحم ودم. نحن نعبد بشرا وأفكارا، فأما البشر فإنهم مثلنا يمشون على اثنتين، وأما الأفكار فإننا نستمر في تنميتها وإكسائها لحما ودما، ونتشبث بها، كانها نهاية المطاف، فإذا كنا نفكر بثورة سرعان ما تحولت الثورة في منطوقنا الحياتي والفلسفي إلى صنم – أصنام مختلفة الأشكال، وهكذا..

تماما مثلما الحداثة في حديث فوكو، فهي وإن كانت عصرا في التنوير، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى صنم يعبد. اي أن الدفاع عنها والتشبث بها، صار غاية أهل الغرب ومفكريه، ولم يعد أمامهم في رأي فوكو وسواه، إلا أن يطلع دولوز من قبره، ليقودهم في ثورة عارمة ضد مفاهيمهم التي لم يعد لوجودها مبرر، ولسوف يدافع بكل جماع الكلمة عن هذا الأمل بالقول: لقد أخذ دولوز بمبدأ التجريبية المتعالية، لأنها وعلى الرغم من محايثتها، فإنها تنفتح على اللامتناهي، على السديم.

الانسان في تطور متواصل ولا يقف عند حد معين. وحاجته في حياته إلى فرض سلطته على الطبيعة وما حوله، استمرت تغذي نفسها كما يقول غيورغي غاتشف بثمار الخيال الحرّ السيال، اي بالحكايات والخرافات والمعجزات.. إلخ مما يصنع اليوتوبيات. وعلى غرار ما حدث في بدايات الوعي البشري ومرحلة البدائية، يجب أن يحدث اليوم. لقد آمن في بدايات وعيه بأن الآلهة الرئيسية لا بدّ أن تكون من الاناث. لكن اللوحة لاحقا قد تغيرت، فأصبحت الآلهة المذكرة هي الأساس. إنه الانتقال من النظام الأمومي إلى الآخر النظام الأبوي. وها قد مرّ زمن كبير طويل ومضني، بقيت اللحظة الأبوية فيه، هي الوجه الآخر للحظة التلقينية، فتقد ذس البشر، وتم تبجيله، ولربما تم تحويله إلى إله – آلهة مختلفة الألوان والألسنة، فهل أصبحنا بالفعل في حاجة إلى جنون دولوز، الذي حاول وبجدارة الفيلسوف الخلاق، ان يمنع الأفكار من التحول إلى آراء بسيطة، أو إلى أن تكون مجرد نوع من المحادثات أو الدردشات العابرة؟

لم يكن عبثا أن تسمى فلسفته بـ “ الجيو – فلسفة “. والجيو قد تعني الأرض، والجيولوجيا والجغرافيا وقد تعنيها جميعها. إننا بصدد الدعوة للبحث عن مفاهيم جديدة في الأراضي الجديدة التي لم تطأها أفكار البشر حتى الآن

جيل دولوز : سارتر "كان معلمي"

ترجمة فتحي المسكيني 

أيّ حزن على أجيال بلا "معلّمين"! فليس معلّمونا هم الأساتذة العموميون فحسب، على ما بنا من حاجة إلى أساتذة. إذ حين نبلغ سنّ الرجال، يكون معلّمونا أولئك الذين يفرضون علينا جدّة جذريّة، أولئك الذين يعرفون كيف يخترعون تقنية فنّية أو أدبيّة ويجدون طرق التفكير المناسبة لحداثتنا، نعني لصعوباتنا كما لحماساتنا الصاخبة.

نحن نعلم أنّه ليس ثمّة سوى قيمة فنّية واحدة، بل حتى قيمة حقيقية واحدة: "اليد الأولى"، الجدّة الأصيلة لما نقول، "الموسيقى الصغيرة" التي بها نقول ذلك. إنّ سارتر إنّما كان ذلك بالنسبة لنا (بالنسبة إلى جيل العشرين من العمر عند التحرير). من، عندئذ، عرف كيف يقول شيئا جديدا، إن لم يكن سارتر؟ من علّمنا طرقا جديدة في التفكير؟ ومهما كانت لامعة وعميقة، فإنّ أعمال ميرلوبنتي قد كانت تحمل صبغة الأستاذ وتابعة لأعمال سارتر من أوجهة عدة. (قد كان سارتر يشبّه كيان الإنسان عن طيب خاطر باللاّوجود الخاص بـ"ثقب" في العالم: بحيرات صغيرة من العدم، كما يقول

في حين أنّ ميرلوبنتي إنّما يأخذها على أنّها طيّات، طيّات بسيطة وثنايا. بذلك كانت تتمايز وجوديّة صلبة وثاقبة عن وجوديّة أكثـر مرونة وأكثـر تحفّظا.

أمّا كامو، يا للحسرة! فكان تارة نزوعا متكبّرا إلى الفضيلة، وتارة عبثا من الدرجة الثانية: كان كامو ينتسب إلى المفكّرين الملعونين، لكنّ كلّ فلسفته إنّما كانت تعود بنا إلى لالاند ومايرسون، إلى مؤلّفين كانوا بعدُ معروفين جيّدا لدى حاملي الباكلوريا. في حين أنّ ما كان يأتي من سارتر إنّما هو الموضوعات الجديدة، وشيء من الأسلوب الجديد، وطريقة خصومية وشرسة جديدة في طرح المشاكل. ففي خضمّ فوضى التحرير وآماله، اكتشفنا وأعدنا اكتشاف كلّ شيء:كافكا، الرواية الأمريكية، هوسرل وهيدغر، توضيح المواقف الذي لا ينتهي مع الماركسية، الاندفاع نحو رواية جديدة… لكنّ كلّ شيء مرّ عبر سارتر، ليس فقط لأنّه كان يملك، بصفة الفيلسوف، عبقرية الكلّ الجامع (la totalisation)، بل لأنّه كان يعرف كيف يخترع الجديد. إنّ العروض الأولى لمسرحية الذباب، وظهور الوجود والعدم، ومحاضرة الوجودية مذهب إنساني، إنّما كانت أحداثا كبرى: كنّا نتعلّم من بعد ليالي طويلة كيف هو التماهي بين التفكير والحرية.

إنّ "المفكّرين الأحرار" (penseurs privés)، هم، بوجه ما، يعارضون "الأساتذة العموميين". حتى السوربون تحتاج إلى سوربون مضادّة، وإنّ الطلبة لا يستمعون جيّدا إلى أساتذتهم إلاّ حين يكون لهم أيضا معلّمون آخرون. لقد كفّ نيتشه في وقته عن أن يكون أستاذا من أجل أن يصبح مفكّرا حرّا: ذلك ما كانه سارتر أيضا، في سياق آخر، ومخرج آخر. وإنّ للمفكّرين الأحرار خاصيتين: نوع من التوحّد الذي يلازمهم في كلّ حال؛ ولكن أيضا شيءٌ من الاضطراب، شيءٌ من فوضى العالم حيث ينبجسون والذي ضمنه هم يتكلّمون. ولذلك هم لا يتكلّمون إلاّ باسمهم الخاص، دون أن "يمثّلوا" شيئا؛ وهم يستحثّون داخل العالم أشكالا من الحضور الخام، وقوى عارية ليست هي بدورها "قابلة للتمثيل". كان سارتر قد رسم بعدُ في ما هو الأدب؟ المثال الأعلى للكاتب: "

إنّ الكاتب سوف يستعيد العالم كما هو، نيئا تماما، عرقان تماما، نتنا تماما، يوميّا تماما، من أجل أن يقدّمه إلى حرّيات على أساس من الحرّية… إنّه لا يكفي أن نمنح الكاتب حرّيةَ أن يقول كلّ شيء! فهو ينبغي أن يكتب لجمهور يملك حرّيةَ تغيير كلّ شيء، وهو ما يعني، علاوة على إزالة الطبقات، القضاء على كلّ دكتاتورية، والتجديد المستمرّ للأطر، والقلب المتواصل للنظام، ما إن يميل إلى التحجّر. وبكلمة واحدة، إنّ الأدب هو، في ماهيته، الذاتيّة التي من شأن مجتمع في ثورة دائمة." إنّ سارتر، منذ البداية، إنّما تصوّر الكاتب في شكل إنسان مثل الآخرين، يتوجّه إلى الآخرين من وجهة نظر حرّيتهم فحسب.

كانت كلّ فلسفته تنخرط في حركة تأمّلية لا تكفّ عن إنكار فكرة التمثيل، ونظام التمثيل نفسه: كانت الفلسفة تغيّر من موقعها، كانت تهجر دائرة الحكم (jugement)، من أجل أن تستقرّ في عالم أكثر ألوانا هو عالم "ما هو سابق على الحكم" و"ما هو سابق على التمثيل". إنّ سارتر قد رفض مؤخّرا جائزة نوبل. وتلك مداومة عمليّة على نفس الموقف، فزعٌ من فكرة أن يمثّل بالفعل شيئا ما، حتى ولو كان قيما روحية، أو كما يقول، من أن يكون تابعا للمؤسسة.

يحتاج المفكّر الحرّ إلى عالم ينطوي على حدّ أدنى من الفوضى، حتى وإن كان أملا ثوريّا، بذرة من ثورة دائمة. ثمّة، لدى سارتر، شيء مثل تعلّق خاص بالتحرير، بالآمال الخائبة لهذه اللحظة. وكان لابدّ من حرب الجزائر من أجل أن يعثر على شيء ما من النضال السياسي أو الاضطراب المحرِّر، وعندئذ،
 
في أوضاع معقّدة، وتعقّدُها في كوننا على وجه الدقة لم نعد المقموعين، بل أولئك الذين يجب عليهم أن يرتدّوا ضدّ أنفسهم. آه أيها الشباب. لم يبق غير كوبا ورجال المقاومة (les maquis) الفينزويليين!

 بيد أنّه ثمّة ما هو أكبر من وحدة المفكّر الحرّ، إنّها وحدة أولئك الذين يبحثون عن معلّم، الذين كانوا يريدون معلّما، ولم يمكنهم الالتقاء به إلاّ في عالم مضطرب. إنّ النظام الأخلاقي، إنّ النظام "التمثيلي" قد انغلق علينا. حتى الخوف النووي قد بدا لنا في هيئة خوف بورجوازي. إنّه يحدث أن نقترح على الناشئة، الآن،تيلهارد دي شاردان باعتباره معلّما للتفكير. لقد نلنا ما نستحق. بعد سارتر، ليس فقط سيمون فايل، بل سيمون فايل القرد. وليس ذلك، رغم كل شيء، لأنّه لا وجود لأشياء جديدة على نحو عميق في الأدب الحالي. لنذكر مع خلط الحابل بالنابل: الرواية الجديدة، كتب غومبروفيتش، سرديات كلوسوفسكي، سوسيولوجيا ليفي-شتراوس، مسرح جينات ودي غاتي، فلسفة "الجنون" التي يشتغل عليها فوكو… بيد أنّ ما ينقص اليوم، وهو ما كان سارتر قد عرف كيف يجمّعه ويجسّده للجيل السابق، إنّما هي شروط كلّ جامع (une totalisation): ذاك الذي تكون فيه السياسة والمخيال والجنس واللاّوعي والإرادة مجتمعة ضمن حقوق الكلّ الإنساني. نحن نقتات وجودنا اليوم، والأعضاء مشتّتة. كان سارتر يقول عن كافكا: إنّ أعماله هي "ردّة فعل حرّة وموحّدة على العالم اليهودي-المسيحي لأوروبا الوسطى؛ إنّ رواياته هي التجاوز التأليفي لوضعه كإنسان، ويهودي، وتشيكي، وخطيب ناشز، ومسلول، الخ". بل سارتر نفسه:

إنّ أعماله هي ردّة فعل على العالم البورجوازي كما وُضع موضع سؤال من قِبل الشيوعية. إنّها تعبّر عن التجاوز لوضعه الخاص كمثقّف بورجوازي، وتلميذ سابق لدار المعلمين، وخطيب حرّ (libre fiancé)، ورجل قبيح (بما أنّ سارتر غالبا ما قدّم نفسه على هذا النحو)…، الخ..: كلّ الأشياء التي تنعكس وتتصادى في حركة كتبه.

نحن نتكلّم عن سارتر كما لو كان ينتمي إلى حقبة ولّت. يا للحسرة! إنّما نحن على الأرجح الذين ولّينا في خضمّ النظام الأخلاقي والامتثالي الحالي. إنّ سارتر، على الأقلّ، إنّما يسمح لنا أن ننتظر، دون عنوان واضح، لحظات مستقبلية، واستئنافات حيث يعيد الفكر تكوين نفسه ويعيد صنع تشكيلاته الجامعة (totalités)، بما هي قوة جماعية وخاصة (privée) معا. وإنّه لهذا السبب إنّما يظلّ سارتر معلّمنا. إنّ كتاب سارتر الأخير، نقد العقل الجدلي، هو أحد أجمل وأهمّ الكتب التي ظهرت في السنين الماضية. إنّه يعطي للـوجود والعدم تتمّته الضرورية، في معنى أنّ المطالب الجماعية إنّما تأتي لاستكمال ذاتيّة الشخص. وحين نفكّر في الوجود والعدم من جديد فذلك من أجل أن نستعيد الدهشة التي تولّدت لدينا أمام هذا التجديد الكبير للفلسفة. نحن نعلم اليوم أيضا بشكل أفضل أنّ علاقات سارتر مع هيدغر، وتبعيّته إزاء هيدغر إنّما كانت مشاكل واهية، قائمة على سوء فهم. فما كان يثيرنا في الوجود والعدم إنّما كان سارتريّا فحسب وكان يقيس لنا مقدار مساهمة سارتر: مثل نظرية سوء النيّة، حيث يقوم الوعي، داخل نفسه، بتصريف قوّته المضاعفة في ألاّ يكون ما هو وأن يكون ما ليس هو؛ ونظرة الغير، حيث أنّ نظرة الآخرين تكفي لأنْ تجعل العالم يهتزّ من تحتي وتجعله "يُسرَق" منّي؛ ونظرية الحرّية، حيث أنّ هذه تضع حدودها بنفسها بأن تشكّل نفسها بنفسها من خلال مواقفها؛ والتحليل النفسي الوجودي حيث نلتقي من جديد على الخيارات الأساسية لفرد ما ضمن حياته الملموسة. وفي كل مرة، كانت الماهية والمثل المضروب يدخلان في علاقات مركّبة كانت تهب للفلسفة أسلوبا جديدا. إنّ نادل المقهى، والفتاة العاشقة، والرجل القبيح، وبخاصة صديقي-بيار-الذي-
لم-يكن-أبدا-هنا، إنّما كانت تكوّن روايات حقيقية في صلب العمل الفلسفي وتجعل وتيرة الماهيات على إيقاع الأمثلة الوجودية. وفي كلّ مكان كان يسطع تركيب نحوي عنيف، مصنوع من الكسور والتمطيط، يذكّرنا بالأمرين الأكثر استحواذا على سارتر: بحيرات اللاّوجود، ولُزوجة المادة.

إنّ رفض جائزة نوبل هو خبر سارّ. أخيرا هناك أحدٌ لا يحاول أن يفسّر أنّها لمفارقة لذيذة لكاتب ما، لمفكّر حرّ، أن يقبل التشريفات والتمثيلات العمومية. لقد أخذ بعدُ كثير من الماكرين يحاولون حمل سارتر على التناقض: فالناس ينسبون إليه مشاعر الغيظ، فالجائزة جاءت متأخّرة؛ و يعترضون بأنّها، على كلّ حال، تمثّل شيئا لا يُستهان به؛ وهم يذكّرونه بأنّ نجاحه، على كلّ حال، إنّما كان وسيبقى بورجوازيّا؛ ويشيرون إلى أنّ رفضه ليس أمرا عاقلا ولا راشدا؛ وهم يقترحون عليه أن يتّبع مثل الذين يقبلون-وهم-يرفضون، ولو كلّف ذلك وضع المال في أعمال خيرية. ليس من المستحسن الاحتكاك به أكثر من اللازم، إنّ سارتر مجادل مخيف… ليس ثمّة عبقريّة من دون محاكاة ساخرة لنفسها. ولكن أيّة محاكاة ساخرة هي الفضلى؟ أن يصبح عجوزا متكيّفا مع الأوضاع، مرجعية روحية أنيقة؟ أم أن يريد من نفسه أن يظلّ مخبول التحرير؟ أن يرى نفسه أكاديميا أم أن يحلم بأنّه رجل مقاومة فينزويلي؟ من لا يرى الفرق في الكيف، الفرق في العبقريّة، الفرق الحيويّ بين هذين الخياريْن أو هذين النوعين من المحاكاة الساخرة؟ لأيّ شيء كان سارتر وفيّا؟ دائما للصديق بيار-الذي-لا-يكون-هنا-أبدا.

إنّه قدر هذا المؤلّف أن يجعل الهواء النقيّ يمرّ حين يتكلّم، حتى ولو كان هذا الهواء النقيّ، هواء الغيابات، صعب التنفّس.

نُشر هذا المقال لأوّل مرة في مجلّة: Arts, 28 novembre 1964.

وقد كتبه دولوز بعد مضيّ شهر من رفض سارتر جائزة نوبل.

عن موقع الاوان

المدى العراقية في

12/02/2013

 

استضافته «إيمج نيشن أبوظبي»

الصديق يستعيد ذكرى البدايات: «بس يا بحر» جسَّد صراع الإنسان في المنطقة

النهار - خاص

على مدى يومين استضافت «إيمج نيشن أبوظبي» المخرج السينمائي القدير خالد الصديق - الملقب بالأب الروحي للسينما الخليجية ـ ليكون ضيف شرف نادي الأفلام الاجتماعي، حيث التقى فيهما المخرج العربي الكبير بعشاق السينما الإماراتية من المخرجين والطلاب والهواة المهتمين بصناعة الفن السابع ومستقبل صناعة السينما الخليجية والإماراتية في أبوظبي. واستعاد الصديق في حديثه ذكرى البدايات مع فيلم «بس يابحر»، الذي اصطدم بإشكالية التمويل وتدبير المبالغ اللازمة لإنتاجه.

في لقاء نقاشي جمع الصديق بنخبة من المخرجين والمهتمين، تناول سيرته الذاتية، وبعضاً من جوانب خبرته الطويلة ومشواره الحافل بالتفاصيل والأحداث، عبر محطات عديدة كمخرج كويتي استطاع أن يحقق نجاحات وبصمات سينمائية متميزة، والفوز بعدة جوائز عالمية مرموقة. وقام الصديق باستعراض جوانب من بداياته وطفولته المبكرة في الكويت، وكيف انتقل في بداية ستينيات القرن الماضي إلى الهند، وحيث توطدت علاقة والده بالهند بحكم عمله بالتجارة، وهناك التحق بمدرسة ابتدائية داخلية، استطاع خلالها مشاهدة الأفلام الهندية، وفي المرحلة الثانوية، عرف طريقه إلى صالات العرض السينمائية ، وكانت وسيلة الترفيه الأولى المتاحة أمامه لسد فراغه، ولاسيما خلال عطلة نهاية الأسبوع، وشاهد كما كبيرا من الأفلام الهندية، واكتشف أنه وقع أسيرا لغرام السينما التي استحوذت على اهتمامه وشغفه. ويقول : بدأت أعرف الهروب من المدرسة لأحضر وأشاهد كثيرا من العروض السينمائية في دور العرض، واستطعت أن أعرف طريقي إلى استديوهات التصوير، ومشاهدة نجوم السينما، والمخرجين، والعاملين في شتى مجلات صناعة السينما، ومشاهدتهم عن قرب، مما أشبع فضولي، وتعرفت عن قرب أيضاً على كثير من جوانب العمل، وكنت سعيداً للغاية أنني أرى النجوم الذين أشاهدهم في الأفلام. ويتابع: خلال هذه الفترة توطدت علاقتي بالسينما وصناعة السينما الهندية، وتنامت اهتماماتي بعالم السينما، وعارض والدي فكرة احتراف العمل السينمائي، ورفضت العمل مع والدي بالتجارة كما رفضت وظيفة البنك التجاري، وعندما رجعت إلى الكويت بدأت أفكر في عمل سينمائي، وكانت البداية مع فيلم «بس يابحر»، لكنني اصطدمت بإشكالية تمويل الفيلم وتدبير المبالغ اللازمة التي تم التغلب عليها، والتحقت بتلفزيون الكويت بعد انطلاقته الأولى في بداية الستينيات، واستطعت أن أنشئ قسم السينما فيه، ومن ثم أخرجت فيلم «عاليا.. وعصام»، وكانت قصة تتناول ظاهرة الثأر في مجتمع البادية، والعلاقة بين مشاعر الحب الإنسانية وظاهرة الثأر التي تسيطر على ثقافة المجتمع البدوي. وتحدث الصديق عن مرحلة جديدة من تاريخه السينمائي بإخراج فيلم عن حياة القنص والصيد بعنوان «الصقور» مع كل من الفنان سعد الفرج والفنانة حياة الفهد ومحمد المنصور، وفي هذه المرحلة ركزت على كيفية التعبير بالصور «بالكاميرا» أكثر من التعبير بالحوار، وتسنى ذلك في فيلمي «وجوه الليل» و«شاهين» الذي لم يكتمل لظروف معينة، وبعدها فيلم «عرس الزين».

ويشير إلى أن التحدي الكبير الذي مثل أمامهم تمثل في إنجاز فيلم «بس يابحر» الذي صور صراع الإنسان الخليجي في فترة ما قبل النفط مع الحياة وضغوطها وقساوتها وكيف كان يعاني خلال مرحلة الصيد والقنص، ويقول: «أردت أن أوصل للمتلقي الذي لا يطلع على واقع الحياة الاجتماعية في منطقة الخليج أنه لم يحظ بهذا النعيم الذي نعيش فيه الآن، فالغرب يتصورون أننا نعيش في قصور من ذهب، ويغيب عنهم أن المواطن الخليجي قد عانى كثيراً في فترة ما قبل النفط، ومن خلال الفيلم استطعت أن أنقل وأصور هذه الحقبة ونجحت في إنجاز الفيلم عام 1971، واستطعت أن أصور بالكاميرا تحت الماء لأول مرة في آسيا ومصر واليابان وبتقنيات سينمائية خاصة جداً، وبالتأكيد لم تكن سهلة وهينة. عن تلك الفترة ودعوته للعناصر الشابة المهتمة بصناعة السينما، يقول: «إنني لازلت أتذكر ما كتبه الراحل الكبير يوسف السباعي في الصحف المصرية بعد إنتاج الفيلم في مصر ومشاهدته، كتب يقول: «بس.. يا سينما» في إشارة إلى دعوة السينما المصرية للاحتذاء بما تحقق وما شاهده في فيلم «بس يابحر» من تقنيات جديدة لم تكن معروفة على صعيد السينما العربية في ذلك الوقت. ومن ثم إنني أدعو الشباب الإماراتي والخليجي إلى المغامرة والمثابرة، فإنهم يعيشون اليوم ظروفا أفضل بكثير مما كان يعيشها جيلنا، إنه جيل محظوظ أن تتواجد هذه الإمكانات وهذا التطور وهذا التقدم وهذا الاهتمام، ووجود شركات ومؤسسات متخصصة ومهتمة بصناعة السينما، دون أن نغفل ما قد حدث للمجتمع الخليجي من تقدم وتطور في المفاهيم والثقافة، وأدعوهم للعمل والمثابرة والإبداع، فالمناخ الآن أصبح مهيئاً أكثر من أي فترة مضت لصناعات سينما إماراتية وخليجية قادرة على المنافسة عالمياً.

ودعا المخرج السينمائي الكبير خالد الشيخ إلى المبادرة نحو صناعة سينما خليجية واعدة وقال: «الآن هناك تفهم كامل ورؤية واضحة وتشجيع كبير من قبل المهتمين بصناعة السينما، والمسؤولين في حكومة أبوظبي وبالإمكان استثمار هذا الدعم وهذا التوجه وهذه الثقافة لصناعة سينما خليجية ناجحة وخاصة في الإمارات، ولعل ما شاهدناه خلال العشر سنوات الأخيرة من تطور ونجاح على صعيد المهرجانات السينمائية وتنظيمها واكتساب الخبرات العالمية، إنما هو مؤشر جيد يدعو الجيل الجديد من الشباب إلى التفاؤل والتمسك بالفرصة والحماس للعمل والإبداع». جدير بالذكر أن خالد محمد الصديق، فنان ومخرج كويتي مخضرم، يعتبر الأب الروحي للسينما الخليجية، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة شيلسي في المملكة المتحدة، وقد اشتهر بأعماله الفنية السينمائية، ومن أبرزها فيلم «بس يابحر» الحائز 9 جوائز عالمية، وفيلم «عرس الزين» الفائز بـ6 جوائز وفيلم «وجه القمر» وفيلم «الصقر» وغيرها من الإبداعات السينمائية الرائعة التي شارك بها الفنان الكبير في مهرجانات سينمائية عالمية ومنها مهرجانات نيويورك وشيكاغو وجولدن جلوب في كاليفورنيا وفينيسيا ولندن وأبوظبي ودبي. أشاد رئيس إيمج نيشن أبوظبي محمد العتيبة، بتجربة المخرج الكويتي المخضرم وقال: إنها فرصة كبيرة نستثمر فيها تجربة وتاريخ ومسيرة الأب الروحي للسينما الخليجية، وأن يستفيد الطلاب والهواة وعشاق صناعة السينما من خبرته ومسيرته التي من شأنها أن تضيف الكثير إلى مستلزمات ومتطلبات النهوض بصناعة السينما، لاسيما في وجود عدد كبير من المهارات الشابة. وأن مثل هذه اللقاءات إنما يمثل تواصلا حيا وإيجابيا بين الأجيال الجديدة والأجيال التي سبقتنا، وهي رسالة أصلية وحيوية لنشاط الشركة حيث نسعى إلى توفير فرص حقيقية لتطوير المهارات والكوادر الإماراتية في جميع قطاعات الإبداع وخاصة المجال السينمائي والدراما التلفزيونية.

النهار الكويتية في

12/02/2013

 

افريقيا إدريسا ودراوغو: المستشفى أم السينما؟

الدار البيضاء ــ سعيد المزواري  

صباح اليوم الختامي لمهرجان السينما الافريقية في خريبكة، قمنا برفقة الصحافي السنغالي أبوبكار سيسوكو بلقاء مع المخرج من بوركينا فاسو إدريسا ودراوغو (1954). بصراحته وحماسته المعهودتين، استرسل مخرج “القانون” (1990) في تحليل وضعية السينما الافريقية منطلقاً من رؤية نافذة لخصوصية القارة وتجربة رائدة استطاعت التحليق عالياً في أفق السينما العالمية على الرغم من الإكراهات التي يرزح تحتها السينمائيون الأفارقة عموماً وأولئك المنتسبون لجنوب الصحراء على وجه الخصوص.

قال ودراوغو: “هذا المهرجان ملتقى حقيقي لإنتاجات متنوعة من مختلف ربوع القارة وفرصة ليجتمع السينمائيون ويتبادلوا الأفكار حول الأزمة الهيكلية التي تعبر فيها السينما الإفريقية (...). أما التكريم فأستقبله بكل حفاوة، فهو يمكن أن يترجم احتفاءً بما أنجزته من أفلام وقد يشجع تالياً مخرجين شباباً على المضي في العمل بثقة أكبر ويدفعهم إلى القول: هذا ممكن، نحن أيضا نستطيع بلوغه”.

حين عدنا الى موضوع أزمة السينما في افريقيا، لم نتوقع أن نتلقى في طيات الجواب انتقادا صريحا لدور النقاد والصحافيين. فهم، في رأي ودراوغو، لم يستطيعوا رسم طريق التحديات للمبدعين ولم يضطلعوا بمهمة استشراف القضايا المحيطة بالسينما وطرحها للنقاش، مكتفين بالإنتاج المرافق لخروج الأفلام في الصالات. عرّج ودراوغو كذلك على النقطة المفصلية لمسببات الأزمة، وهي غياب منظمة اتحادية فاعلة ومؤثرة للمخرجين الأفارقة: “لمَ تصلح الفيديرالية الإفريقية للمخرجين؟ لماذا لا تضطلع بدورها؟ وهل في وسع السينما الإفريقية أن تكتسب يوماً، صوتاً واحداً وإرادة قوية موحدة في الوجود، من خلال منظمة قوية ذات حضور سياسي بارز ومسؤولية واضحة؟ فالقضايا حاضرة الآن وتحتاج الى من يدافع عنها”.

بإمعان الغيور وبلهجة محذِّرة، يؤكد الجهبذ الخمسيني هشاشة الوضع السينمائي في افريقيا، مستحضراً غزو الصور الأجنبية للمخيلة الافريقية من طريق التلفزيون. فإذا كان التثاقف وتبادل التأثيرات بين الشعوب ظاهرة صحية في رأيه، فإن هيمنة صور الثقافات العظمى على الصغرى تحت غطاء قانون القوة الاقتصادية أمر غير مقبول البتة: “كل الشعوب قادرة على الإبداع، نحن شعوب مهيمن عليها اقتصادياً، لكن هذا لا يلغي حقّنا في تجسيد صورة لنا، في إطار التنوع الثقافي العالمي. هذه إشكاليات كبرى لا يستطيع السينمائيون كأفراد توليها، من هنا تنبع ضرورة العمل على خلق هيكل فيديرالي قوي يعبّر عن إرادة الشعوب هذه، ويحمل تطلعات السينمائيين إلى مصاف النقاش الكوني”.

في معرض الجواب عن انتقادات بعض الأصوات لإبداعية الأفلام الافريقية وما ترى فيها انزواء موضوعاتها داخل نظرة تحمل الكثير من الكليشيهات والمباشرة، ردّ ودراوغو بحزم أن هذا كلام تافه وأنه لا يرى في ذلك بُعداً حقيقياً من أبعاد الأزمة. فالمنافسة، في تصوره، كفيلة أن تفرز الغث من السمين، ومن تراكم الكمّ يخرج الكيف. قبل أن يستحضر وداروغو التكنولوجيا الرقمية ويؤكد بمرارة أن آمالا كبيرة عقدت عليها كي تكون حلاً جذرياً لمشكلة الإنتاج نظراً لرخص تكاليفها المادية مقارنة بالشريط الفيلمي (35 ملم). لكنها تمخضت عن مشكلات تقنية جسيمة لدى استخدامها من طرف المخرجين الأفارقة، بفعل غياب تكوين خاص للإلمام بجميع الحيثيات التقنية المرتبطة باستعمال وسائل التصوير الرقمية: “كل مقاربات الإنتاج (وسائل التصوير، التمويل...) التي تشتغل وفقها السينما الافريقية مستوردة، إذ اننا لم نتمكن بعد من ابتكار مقاربات إنتاج تستجيب طموحاتنا انطلاقاً من أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية الخاصة”.

في اعتقاد ودراوغو، لا يمكن السلطة العامة على مستوى الدول أن تلعب دوراً أساسيا في حل الأزمة في ظل ضآلة الأسواق السينمائية الافريقية (بدرجة أكبر دول إفريقيا جنوب الصحراء) بفعل ضعف القدرة الشرائية لدى سكان تلك المنطقة، وتمركز هؤلاء في الأوساط القروية. كما أن واقع النجاعة الاقتصادية يقذف بالثقافة إلى آخر سلّم اهتمامات المسؤولين السياسيين. “فلنأخذ مثالاً، مبلغ مليوني أورو كموازنة متوسطة من أجل انجاز فيلم. يمكنك سريعاً القيام بعملية حسابية لعدد المدارس والمستشفيات التي يمكنك تشييدها بهذا المبلغ، فيصبح قرار صرفه في انجاز الفيلم صعباً...”.

لكن مرة أخرى، في رأيه، يجب الا تطغى المقاربة الاقتصادية على وظيفة السينما كرافد ثقافي مهم، ودورها الأساسي في الارتقاء بالشعوب وحلّ الخلافات المزمنة التي تعصف بدول عدة في القارة السمراء. انطلاقاً من الإيمان بهذه الثوابت، نستطيع إطلاق تجربة التعاون جنوب – جنوب والعمل، شيئاً فشيئاً، مع تحسن أحوال السكان المعيشية، على تنمية الأسواق السينمائية الافريقية واستغلال إمكاناتها الهائلة.

التطرق الى موضوع شائك كهذا هو مهمة مضنية، لكن تحمسنا للافادة من خبرة رائد مثل ودراوغو كان حافزاً للاستمرار في الأسئلة، فارتأينا أن نحطم رتابة الحوار بسؤال أكثر خصوصية حول ما يحضّر من أعمال. فجاء الردّ بدعابة لا تخلو من مسحة ضيق، تلتها، بعد إلحاحنا، كلمات تعبق بالحكمة: “لا أدري بعد. نحن دائماً في صدد الاشتغال على شيء ما ويكمن السؤال في مدى سرعة إخراجه إلى الوجود، لذلك يجب انتظار الوقت المناسب أو توافر الإمكانات المادية اللازمة لإنجازه. لعل كوني قد حظيت بفرصة إنجاز أفلام عدة فازت بجوائز ومكّنتني من السفر حول العالم، يجعلني لا أستعجل الأمور الآن. ككل مخرج لديَّ مشاريع لكنني أتحلى الآن بالحكمة والقدرة على انتظار الوقت المناسب”.

هنا ينتابك إحساس بأن الرجل ينظر من زاوية الرضا إلى مسار امتد زهاء أربعين عاماً. لكن كان كافيا أن نسأله عن شعوره حيال ريادته لتعلو عيناه مسحة من التأثر وهو يستشهد بمثال كبير آخر لم يعد ينجز أفلاماً هو سليمان سيسه، مستطرداً بنبرة فيها شيء من الحسرة: “حين ترى مخرجين عالميين انطلقوا برفقتك في عام واحد في “أسبوعا المخرجين”، وهم الآن ينجزون فيلماً كل سنة تقريباً فقط لأنهم يعملون في فضاءات ملائمة للعمل، تتساءل إذا لم يكن قدرنا نحن أن نقود معركة لخلق مثل هذه الفضاءات في افريقيا! لكن هذا ليس مهمة سهلة”.

أعادنا هذا إلى قلب النقاش عن الأزمة، ليستمر الحوار حول التوزيع واستثمار الصالات. يسهب ودراوغو (الذي تبوأ مدة عامين مسؤولية ادارة الصالات في بوركينا فاسو) في التفاصيل المتعلقة بأبعاد التوزيع، مشيراً إلى غياب رؤية اقتصادية واضحة تتجاوز إكراهات قلة الإمكانات المتاحة لاقتناء حقوق الأفلام عبر إيجاد حلول في إطار تضامني بين الدول الإفريقية. وكذا لضرورة العمل على خلق ترسانة قانونية لإرساء آليات تكفل تتبع مداخيل القاعات: “قبل أن يمضي السينمائيون في انتقاد الأوضاع الراهنة، مرددين “ينقصنا كذا وكذا”، يجب الشروع في وضع أسس المنظومة السينمائية (...). لكن ما داموا منهمكين في دوامة الخلق والمقاربة الفردانية، فلن نستطيع أبداً استنباط الدروس من أوضاعنا ولا الافادة من تجارب أسلافنا”.

النهار اللبنانية في

12/02/2013

 

«تعصب» لغريفيث:

دفاع سينمائي عن براءة الإنسان في وجه الكراهية

إبراهيم العريس 

في عام 1915 عرض السينمائي الأميركي المؤسس دافيد وارك غريفيث فيلمه الكبير «مولد أمة» الذي يعتبر من جانب كثر من المؤرخين، اول عمل سينمائي كبير في تاريخ الفن السابع بالمعنى العلمي للكلمة. غير ان روعة ذلك العمل لم تصرف اذهان المتفرجين في ذلك الحين عن تعاطف، - رآه البعض ضمنياً فيما رأى آخرون انه واضح وضوح الشمس -، ابداه الفيلم في واحد من أجزائه، مع جماعة «الكو كلاكس كلان» العنصرية البيضاء، التي لم يتردد دون ايجاد بعض المبررات لجرائمها التي كانت الشغل الشاغل للناس في ذلك الحين والتي جعلت اول ضحاياها الزنوج المستقدمين من افريقيا والذين كانت قوانين الرئيس آبراهام لنكولن قد سعت الى تحريرهم من العبودية – كما يرينا في هذه الأيام بالذات فيلم «لنكولن» للمخرج ستيفن سبيلبرغ - لقد كانت تلك الجماعة المتطرفة تقوم بغارات وغزوات غير مبررة ضد السود وأحياناً ضد بيض يدافعون عنهم. ومن هنا حين اوجد غريفيث في فيلمه «مولد أمة» مبررات لجرائم عصابات «الكو كلاكس كلان»، استثار هذا التبرير استهجان المتفرجين والنقاد والمؤرخين الذين وجدوا ان من الطبيعي إزاء ذلك اتهام غريفيث بالعنصرية، او بالجهل على الاقل. وهو أمام تلك الهجمة التي سيقول لاحقاً انه لم يكن يتوقعها بأية حال من الأحوال، لم يجد نفسه إلا وقد انكب على عمل اراد من خلاله ان يثبت انه ليس عنصرياً وأنه فنان تقدمي يقف بعنف ضد شتى انواع التعصب والعنصرية. وهذا العمل انجزه غريفيث في العام التالي 1916 لإنجازه «مولد أمة»، وحمل عنواناً فصيحاً هو «التعصب» (أو «لا تسامح»). ومنذ اللحظة التي عرض فيها «تعصب» ظل هذا الفيلم الغريب والمدهش يعتبر صرخة عنيفة، بل اول صرخة حقيقية اطلقتها السينما ضد الداء الذي سيكون لاحقاً داء القرن العشرين، ثم وفي شكل اسوأ، احد أمراض القرن الحادي والعشرين: التعصب.

> الى جانب عنوانه الاساسي «تعصب»، يحمل فيلم غريفيث عنواناً فرعياً اكثر دلالة هو «المعركة التي خاضها الحب على مدى العصور». وواضح من هذا العنوان ان السينمائي الاميركي الشاب، في ذلك الحين، انما اراد ان يضع الحب في مقابل التعصب، وأن يؤرخ لمسيرة الانسانية تأريخاً يقف فيه مع الحب وضد التعصب. وهو انطلاقاً من تلك الرغبة، افرد ساعات فيلمه الثلاث ونصف الساعة (فكان بذلك اطول فيلم في تاريخ السينما حتى ذلك الحين) لسرد تلك المعركة والمسيرة، وذلك عبر اربعة اقسام خلط غريفيث فيها بين فصول من التاريخ متعددة، لكنها كلها تشكل، اذ ترتمي في بوتقة فكرية واحدة، حكاية هي نفسها، دائماً: حكاية براءة الانسانية اذ تضطر لمجابهة شر التعصب.

> في القسم الاول من الفيلم، نجدنا في اميركا العام 1914 حيث يطالعنا ثري ينفق جلّ وقته في التبرع للأعمال الخيرية، غير ان ذلك لا يمنعه من ان يصرف عمالاً يشتغلون لحسابه، ظلماً، ما يؤدي الى اضطرابات اجتماعية. وخلال تلك الاضطرابات العمالية الحادة التي لا يفوت المخرج ان يصوّر تعاطفه معها ومع العمال البائسين القائمين بها، يقبض رجال الشرطة على احد المضربين ويتهمونه - بتحريض من الصناعي «فاعل الخير» - بجريمة من المؤكد انه لم يرتكبها وهو بعد ان يحاكم محاكمة صورية لا يجد فيها امام عسف السلطة من يدافع عنه وينقذه، يُحكم عليه بالإعدام شنقاً، فيما تحاول خطيبته يائسة انقاذه.

> بعد ذلك نجدنا ننتقل مباشرة الى فلسطين ايام السيد المسيح، وتطالعنا في الفيلم هنا، معجزة عرس قانا الجليل التي يقوم بها يسوع الناصري. غير ان حبّ الشعب للسيد لا يمنع السلطات من مطاردة هذا الأخير والقبض عليه وصلبه وبالتحديد لأن السلطات الحاكمة أدركت من فورها ان تحلق الناس حول السيد المسيح يشكل خطراً حقيقياً على سلطتها ونفوذها... وبعد هذا الفصل الذي نجد فيه قمع السلطات مناهضاً لبراءة المسيح، سيرينا الفيلم تدريجاً وإذ يتعمق بعض الشيء في تاريخ تطور الدين المسيحي، أن السيد المسيح المبشّر بدين المحبة، سيكون هو المسؤول لاحقاً، ولو عن غير إرادة منه، عن انقسام المسيحيين الى كاثوليكيين وبروتستانت، ما يشكل موضوع القسم الثالث من الفيلم، حيث نجد انفسنا في فرنسا ايام الملك شارل التاسع، يوم الصراع الدامي بين الطائفتين. يومها تقرر كاثرين دي مديتشي إبادة البروتستانت. وتكون ذروة تلك الإبادة يوم عيد القديس بارتيلوميو. والفيلم يصور لنا تلك الإبادة وضروب التعصب الديني التي كانت تكمن في خلفيتها، من خلال حكاية فتاة بروتستانتية مغرمة بشاب كاثوليكي، في زمن لا يسمح بمثل ذلك الغرام، لسيادة التعصب فيه.

> القسم الرابع من الفيلم، وهو الأضخم انتاجاً والأروع من الناحية التقنية والجمالية، ينقلنا الى بابل في بلاد ما بين النهرين، وتحديداً الى زمن الحاكم ايام بالتازار، الذي ساد الزمن الزاهي ايامه حيث عاشت تلك المدينة الاستثنائية، ابهى لحظات ازدهارها في وضع راحت تتعايش فيها الشعوب المتنوعة والثقافات واللغات المختلفة التي تتضافر في ما بينها في «عولمة» مبكرة من الواضح ان غريفيث عبّر عنها في ذلك القسم من فيلمه من دون ان يكون دارياً أنها ستكون سمة اساسية من سمات العالم بعد ذلك بالكثير من العقود. غير ان ذلك التعايش الذي نجده في اول الفيلم ونكاد نحتفل به معتقدين انه سيعمّ بخيره وصفائه الإنسانية جمعاء، لا يروق لقورش، الملك الفارسي الذي لرغبة منه في التخلص من و «ديموقراطية» تلك المدينة الجارة التي تهدّد ديكتاتوريته، يحاصر بابل ويذبح سكانها جميعاً، ومن بينهم صبية حسناء، نشاهد معظم الاحداث من وجهة نظرها، وتجرح حتى الموت.

> من الواضح ان اقسام فيلم «تعصب» الاربعة هذه تقدّم لنا صورة مثالية لما اعتبره المخرج براءة الانسان في مواجهة جبروت السلطة، وتعطّش هذه الأخيرة الى التهام ضحاياها. فالسلطة، بالنسبة الى غريفيث، سواء كانت مدنية او دينية، سلطة حكم او سلطة سيطرة مادية او – وهذا ادهى – سلطة دينية او ايديولوجية، لا يمكن ان تقوم لها قائمة إن لم تدمّر الآخرين لتتخلص منهم... ولا سيما حين يكونون من الابرياء والضعفاء، إضافة الى اولئك الذين يأخذون على عاتقهم مهمة تكمن في محاولة توعية الناس. والحقيقة ان الفيلم كله إنما هو سرد لذلك الصراع الابدي الذي تخوضه السلطة، اذاً، ضد الانسان. ما يقول لنا في النهاية انه بالنسبة الى غريفيث، الضحية هو الانسان. وآن للسينما ان تقول هذه الحقيقة البديهية للمعنيين بها. والحقيقة انه إذا كان هذا الأمر وارداً على الدوام في كتابات الفلاسفة والمفكرين ونتاجات المبدعين الأدبيين منذ وعى الإنسان ذاته، في المراحل الأولى من عصر النهضة على الأقل، فإن السينما لم تكن بعد، في ذلك الحين فناً له من الجرأة والعمق، ما يمكّنه من ان يكشف في فيلم من افلامه عن اهتمام كهذا. ومن هنا دهش كثر من المتفرجين والنقاد وحتى من غير هؤلاء وأولئك من هذا الفيلم الذي بدا جريئاً في موضوعه، واضحاً في رسالته، وكذلك شديد الآنية في حقبة من التاريخ كانت قد بدأت تشهد تصاعد الأنانيات، بل حتى بروز الهويات التعصبية – التي سيصفها الكاتب اللبناني امين معلوف بعد فيلم غريفيت بمئة عام بأنها «هويات قاتلة» -.

> عرض فيلم غريفيث هذا للمرة الاولى والحرب العالمية الاولى ضاربة أطنابها. والناس المعنيون متحمسون للحرب، غير راغبين في اي كلام يناقض ما يعتقدون. بل نعرف ان كثراً من انصار السلام والتسامح بين الشعوب في ذلك الزمن الصعب، من الذين انطلقوا ينددون بالحرب وبالمتسببين بها، راحوا يتساقطون، سياسياً وجسدياً احياناً، ضحايا مواقفهم. ما يعني ان عرض الفيلم في ذلك الزمن مرّ مرور الكرام واحتاج الأمر الى زمن طويل تالٍ قبل ان يعاد الاعتبار الى الفيلم سياسياً وإنسانياً، والحال ان ذلك لم يتحقق إلا بفضل المخرج السوفياتي الكبير سيرغي ايزنشتاين الذي سيبكون هو اول من اعاد اكتشاف الفيلم فنياً واكتشف اهميته، هو الذي قال ان اعظم ما في السينما العالمية وما في السينما السوفياتية يدين لغريفيث وتحديداً لفيلمه «تعصب».

alariss@alhayat.com

الحياة اللندنية في

12/02/2013

 

محمد عاطف يكتب:

"صائدو الساحرات" والكوميديا المرعبة 

كلما وقفت أمام دار العرض أفكر في حضور فيلم مصنف "رعب"، أتذكر حنيني لأيام كانت مشاهدة أكبر عدد من أفلام الرعب وعدم الانزعاج أو الهلع منها، مدعاة للفخر بين الأقران، ثم ما يلبث شريط الذكريات أن ينقطع بشكل مفاجىء فور توقعي ما قد أره من كميات دماء وحويصلات مقززة تنفجر كما جرت العادة في صناعة تلك النوعية من الأفلام، منذ رحيل الأب الروحي للهلع "هيتشكوك"، إلا أن توقيع "تومي ريكولا" مؤلفًا ومخرجًا كان مشجعًا على مشاهدة تعويذته المرعبة الجديدة "صائدو الساحرات".

يروي الفيلم قصة أخ وأخت تعرضا للاختطاف من ساحرة شريرة واستطاعا هزيمتها، ومنذ ذلك اليوم تكرس جهدهم لمطاردة الساحرات بشكل احترافي، إلا أن اختطاف ساحرات الغابة لعدد من الأطفال بقرية نائية واستدعاء الأخوين للمهمة، لم يكن بنفس سهولة عمليات الصيد التي قاموا بها من قبل، حيث تنتظرهم العديد من المفاجئات عن طبيعة جديدة للحياة، والحب، والسحر، والخير، والشر.

الفيلم لا يعتمد على مجرد الأقنعة المرعبة، والصرخات المفاجئة، أو القطع على وجوه لمسوخ، بل يدور في إطار تشويقي مثير يشحذ الانتباه طوال مدة عرضه على الشاشة، لدرجة الوهم بأنها لا تتجاوز النصف ساعة، كما يجري الحوار في غلاف كوميدي خفف كثيرًا من حدة الهلع والحزن على مصير ضحايا ساحرة الغابة الشريرة، بالإضافة إلى الاشتباكات والمشاجرات المخرجة بشكل جيد جعل من الفيلم وجبة مكتملة العناصر تحتوى على كل ما ينتظره المشاهد من معارك أكشن، وتسلسل مشوق، ورعب يحبس الأنفاس، ورومانسية رقيقة.

يحتوي الفيلم على أكثر من تيمة محببه للكبار والصغار، لعل أبرزها تيمة "الجميلة والوحش" التي ظهرت في الرومانسية الصامتة بين "إدوارد العملاق/ خادم الساحرة الشريرة" وصائدة الساحرات "غريتيل/ جيما أرتلتون"، كما يحتوى على تيمة الانتقام للعائلة عندما تتصاعد الأحداث ويكتشف كل من الأخوين "غريتل" و"هانسل/ جيرمي لينر" أنها يطاردان الساحرة الأكثر شرًا في العالم، والتي كانت السبب في تشريدهم داخل الغابة منذ سنوات.

بساطة تصوير المشاهد الداخلية وتوزيعات الإضاءة الخافتة كانت سر جمال الصورة بالفيلم، كما ساهمت المؤثرات السمعية والبصرية في انغماس المشاهد داخل الأحداث، وهرولته هنا وهناك مطاردًا للساحرات مع الأخوين، واكتملت تلك المتعة بارتداء النظارة السحرية لمشاهدة الفيلم ثلاثي الأبعاد 3D.

عادة تسبب أفلام الرعب كوابيس ليلية لدى الصغار، وتمنعهم لأيام من تدلية أقدامهم خوفًا من الوحش المنتظر تحت الفراش، إلا أن فيلم "صائدو الساحرات" يغير تلك القناعة الراسخة منذ سنوات طويلة، فروعة الأداء الكوميدي لأبطال الفيلم وتعاطيهم مع أهوال الحرب مع السحر الأسود كمهمة شيقة دفاعًا عن الخير يشجع الكثير منهم على حب المواجهة، أما بالنسبة للكبار فتوقيع "تومي ريكولا" القادم على أي فيلم رعب يجعل من مشاهدته أمرًا مشوقًا، فقد حرك المخرج والمؤلف ابن الخمسة وثلاثين عامًا المياة الراكدة في فن صناعة الهلع.

البداية المصرية في

12/02/2013

 

ثالث أفلام روبن فلايشر يجمع حتى الآن 87 مليون دولار

«فرقة العصابات» نافذة على المافيا الأميركية

دبي ـ غسان خروب 

يبدو أن هوليوود قد بدأت تصطحبنا في الآونة الأخيرة نحو اتجاه سينمائي جديد، من خلال تقديمها مجموعة أفلام يكاد أن يكون التاريخ الأميركي قاسمها المشترك، ومن بينها فيلم «فرقة العصابات» الذي يعد ثالث أفلام المخرج الأميركي روبن صاموئيل فلايشر صاحب فيلم الرعب «أرض الزومبي» (2009) والفيلم الكوميدي «30 دقيقه أو أقل» (2011).

في فيلمه هذا، والذي جمع حتى الآن 87 مليون دولار، ينقلنا فلايشر إلى عالم عصابات المافيا الذي تشكل في بعض المدن الأميركية غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، لنشهد من خلاله حرباً ضروساً بين «خير» مدفوع إلى استخدام العنف المطلق، و«شرّ» يجب أن يخسر في النهاية أمام «خير» تحوّل «شرّاً» لشدّة عنفه ودمويته.

من تابع فيلم فليشر «أرض الزومبي»، وشهد أسلوبه الناجح في الإخراج السينمائي، سيتوقع منه فيلماً ذا حبكة متينة، تعيد إليه الحنين إلى حقبة الخمسينات، وقد نجح فلايشر إلى حد ما في ذلك، خاصة وأنه حاول هنا تتبع مسار مجموعة من الأفلام الكلاسيكية مثل الفرنسي «المنبوذون» للمخرجين إريك توليدانو وأوليفيه نقاش، و«أل آي كونفيدنشل» للمخرج كورتيس هانسون، ولذلك نجده قد سلح الفيلم بعناصر ساعدت على ابتكار قصة جذابة، من بينها إشراكه نخبة من نجوم هوليوود أبرزهم شون بين، جوش برولين، إيما ستون وريان غوسلينغ، وعناصر أخرى تتعلق بالإخراج وتقديم صورة جميلة حاول من خلالها الابتعاد عن الأسلوب المستهلك نحو ابتكار نسخة خاصة به.

ورغم توغله في عالم المافيا الأميركية، إلا أن لم يحاول فلايشر خلال سياق الحوار طرح أي أسئلة أخلاقية حول ثنائية الخير والشر، بقدر ما يقترب من شخصيات العمل ومدى رغبتها في التحرر من الشر المحيط بها، كما حدث مع شخصية جون أومارا (جوش برولن) العائد أصلاً من الحرب، والتي أصابته بالتمزق الروحي إزاء وحشية الموت والقتل والعنف.

أسلوب قديم

يتضمن الفيلم عدداً من المشاهد التي تغلب عليها الإضاءة الكثيفة، في حين تفتقر بعضها إلى ذلك، وهو ما يذكرنا بفيلم سين سيتي الذي أخرجه روبرت رودريغز وفرانك ميلر ولعب بطولته بروس ويلس. فضلاً عن أن استخدام المخرج لأخبار الصحف، تذكرنا أيضاً بأسلوب إخراجي قديم، حيث كانت هذه الطريقة تستخدم لتقديم أجزاء أساسية من قصة الفيلم.

البيان الإماراتية في

13/02/2013

 

صناعة الأفلام...

من هوليوود إلى آسيا  

بدأت صناعة الأفلام تتجه بشكل متزايد نحو آسيا، لا سيما الصين، ما يثير المخاوف في قلوب المديرين التنفيذيين في استوديوهات هوليوود. توشك الثقافتان على التصادم في مهرجان برلين السينمائي الدولي الذي يبدأ مع الفيلم الملحمي الصيني The Grandmaster للمخرج وونغ كار واي. «شبيغل» تابعت التفاصيل.

تشعر السيدة تشنغ بالفخر كونها اشترت قنينة مشروب خلال مزاد علني في هونغ كونغ. في مرحلة معينة، تقول إنها فقدت صبرها حين وصلت قيمة العروض إلى 91 ألف دولار: «صرختُ فجأةً «1،5 مليون!»، وهكذا أصبحت القنينة لي».

كيلي تشنغ واحدة من الأثرياء الصينيين المتحمسين الذين ظهروا في الفيلم الوثائقي «الهوس الأحمر» (Red Obsession). تقول إحدى شخصيات الفيلم الذي سيُعرَض في مهرجان برلين السينمائي الدولي: «يحب الصينيون ابتلاع الحضارة الغربية».

يروي الفيلم قصة تحوّل صناعة النبيذ نحو الشرق. وهو يرصد سلوك الفرنسيين الذين يدافعون بكل شجاعة عن أقبية نبيذهم ضد جشع عملائهم الآسيويين. يطرح الفيلم الوثائقي رؤية مسبقة أمام المشاهدين عما قد يحصل أيضاً في عالم صناعة الأفلام.

تتوقع دراسة أجرتها شركة «إرنست ويونغ» الاستشارية أن تحل الصين مكان أميركا الشمالية كأكبر سوق للأفلام في العالم بحلول عام 2020. يقول مدير مهرجان برلين ديتر كوسليك: «أظن أن الأمر سيحصل قبل ذلك. إذا فتح الصينيون سوقهم، لن يتمكن أحد من ردعهم».

هذا العام، يعرض كوسليك الملحمة الصينية The Grandmaster كفيلم افتتاحي. يُذكَر أن المخرج وونغ كار واي هو رئيس لجنة التحكيم في المهرجان هذه السنة. يروي The Grandmaster قصة حب يعيشها أستاذ الفنون القتالية يب مان الذي درّب بروس لي.

ستوفر الشركة الصينية «تيسيرو» المجوهرات للنجوم على السجادة الحمراء باعتبارها أحد أبرز رعاة المهرجان. في سوق الأفلام في مهرجان برلين السينمائي حيث يجتمع التجار من أنحاء العالم لشراء الأفلام وبيعها، يسجل كوسليك عدداً أكبر من الشركات الآسيوية مقارنةً بالسنوات السابقة.

ثقل مالي

لا يقتصر الأمر على الصين، فقد زادت أهمية كوريا الجنوبية وروسيا في عالم صناعة الأفلام في السنوات الأخيرة. سجلت السوق الروسية نمواً بنسبة 20% في عام 2012، وقد حصد فيلم مثلIce Age 4 إيرادات بقيمة 50 مليون دولار هناك، أي ما يساوي أكثر من نصف ميزانيته.

يقول منتج هوليوود جيري بروكهايمر (من أعماله Pirates of the Caribbean): «لا نستطيع المجازفة بعد الآن بصناعة أفلام مكلفة مع نجم غير مشهور في آسيا». فيما كانت الأفلام الأميركية تكسب حتى ثلثي عائداتها في أميركا الشمالية خلال الثمانينات، ها هي تحصد اليوم حوالى الثلث فقط.

تطغى المخاوف الآن من احتمال التخلي عن هوليوود منذ أن كسبت شركة الاستثمار الهندية Reliance غالبية حصص شركة الأفلام DreamWorks ومنذ أن اشترت شركة صينية ثاني أكبر سلسلة من دور السينما في الولايات المتحدة. أخيراً، في منتصف شهر يناير، اشترت شركة الإلكترونيات الصينية TLC حقوق التسمية لمسرح «غرومان» الصيني في قلب هوليوود، وهو واحد من أشهر دور السينما في الولايات المتحدة. على ما يبدو، إنها مسألة وقت قبل أن تشتري الصين أول استوديو لها في هوليوود.

اشترى الآسيويون، لا سيما الشركات اليابانية مثل «سوني»، عدداً من الاستوديوهات مرة واحدة في السابق، وذلك قبل أكثر من 20 سنة. يقول خبير الصناعة الأميركية توماس بلايت: «تريد الصين من هوليوود أمراً مختلفاً عما أرادته اليابان في تلك الفترة. لا يتعلق الأمر بالمال بقدر ما يتعلق بالمهارات».

المال ليس المسألة المهمة الوحيدة في هوليوود أيضاً. تعتبر الولايات المتحدة أن السينما هي شكل من فنونها الخاصة وهي تهدف إلى سرد قصص أميركية والاحتفال بالقيم الأميركية أمام العالم. يقول بروكهايمر: «سنتابع صنع الأفلام عن كرة القدم الأميركية في المستقبل، لكن بميزانية أصغر بكثير، لأن المشاهدين الأميركيين هم الذين يهتمون بكرة القدم الأميركية حصراً». يحث بروكهايمر كتّاب السيناريو على التفكير في إطار دولي وكتابة أدوار للنجوم الآسيويين في الأفلام.

يقول ستيفان أرندت من شركة الإنتاج X Filme في برلين: «أصبحت الأيام التي نستطيع خلالها جني أموال كثيرة في السينما استناداً إلى الحلم الأميركي معدودة». أنتج أرندت فيلم Cloud Atlas، وهو النسخة السينمائية من رواية ديفيد ميتشل وشارك فيه نجوم مثل توم هانكس وأُنتج بتمويل كبير من الألمان والروس والصينيين. يروي الفيلم ست قصص متوازية تقع في ستة عصور مختلفة.

تدور القصة حول التقمص وانتقال الأرواح، أي «الجوانب الروحية التي لها وقع كبير في آسيا» بحسب قول أرندت. بما أن أي شركة إنتاج أميركية لم تكن مستعدة لتمويل فيلم ميزانيته 100 مليون دولار، نقل أرندت مشروعه من بلد إلى آخر: «جمعنا الأموال خلال بضعة أشهر!».

الرقابة الصينية تسارع الى الحذف

سبق وعُرض فيلم Cloud Atlas في روسيا حيث شاهده أكثر من مليونَي شخص. يساوي هذا العدد ضعف الجمهور الكامل في ألمانيا وهو ليس أقل بكثير من جمهور الولايات المتحدة. يقول وكيل التوزيع ألكسندر فان دولمان الذي شارك في إنتاج الفيلم وتولى توزيعه في دور السينما في روسيا وأوروبا الشرقية: «يتعلق الفيلم بالنضال في سبيل الحرية والبحث عن الخلاص، وهو أمر يجذب الجمهور الروسي».

يعمل قطاع السينما بشكل مختلف في روسيا مقارنةً بالولايات المتحدة أو ألمانيا. يقول فان دولمان: «تُعرض جميع الأفلام تقريباً في دور السينما طوال أسبوعين فقط، لذا لا بد من تحقيق نجاح باهر خلال فترة قصيرة». في الأسبوع الأول، عُرض فيلم Cloud Atlas في نصف دور السينما الروسية، وقد كلفت العلاقات العامة وحدها 3،5 ملايين دولار. يوضح فان دولمان: «إنها سوق مربحة للغاية ولكنها تحمل مجازفة كبرى في الوقت نفسه».

في الأسبوع الماضي، حقق الفيلم النجاح خلال عرضه الأول في الصين، وقد عُرض على 4 آلاف شاشة هناك. لكن شاهد رواد السينما الصينيون نسخة أقصر من تلك التي شاهدها الناس في بقية دول العالم. فقد حذفت الرقابة 23 دقيقة من فيلم Cloud Atlas.

يقول المخرج توم تايكوير: «حذفت الرقابة جميع المشاهد الجنسية تقريباً وليس مشاهد العنف. حُذفت أيضاً أجزاء الفيلم التي تدعو إلى الثورة ضد النظام القائم. لكن يظهر كل شيء في مقتطفات الفيلم، بما في ذلك قبلات المثليين والمشاهد الحميمة. إنه أمر مثير للفضول».

فرض الرقابة على الأفلام الغربية أمر شائع في الصين. على سبيل المثال، حُذفت المقاطع المتعلقة بالدعارة في شنغهاي من فيلم جيمس بوند Skyfall وحُذف المشهد الذي يقتل فيه قاتل مأجور حارس أمن.

ظن المنتج بروكهايمر أن اختيار نجم هونغ كونغ تشاو يون فات للتمثيل في ثالث جزء من فيلمPirates of Caribbean فكرة حسنة. لكن لسوء الحظ، لم تقتنع الرقابة في بكين بالطريقة التي جسّد فيها الممثل دور رجل صيني غريب الأطوار، فاعتبرت أن الشخصية كاريكاتورية وحذفتها بالكامل.

القرصنة توسّع قاعدة الجمهور الصيني

لا نفع من هذه الرقابة في الصين لأن معظم الصينيين يشاهد النسخ الأصلية من الأفلام الغربية قبل أن تظهر في دور العرض، وذلك عبر الأقراص المسرّبة. يُصنَع عدد كبير من هذه الأقراص في روسيا. فور عرض أي فيلم في دور السينما هناك، تظهر أقراص لها ترجمة صينية في بكين بعد فترة قصيرة.

يجرّب الصينيون الأفلام على الأقراص لتحديد ما إذا كانت تستحق المشاهدة في دور السينما. وحدهم أعضاء الطبقة الوسطى والعليا في الصين يستطيعون تحمّل كلفة بطاقات السينما. بعد احتساب جميع الرسوم الإضافية، قد تكلّف البطاقة الواحدة 25 دولاراً. لذا يضطر أصحاب المداخيل المحدودة إلى الاكتفاء بالمشاهدة على الأقراص. يقول رولف جيسين، أستاذ أفلام الرسوم المتحركة في بكين: «في الصين، دار السينما هي مكان للتمييز الاجتماعي».

يجب أن تحقق الأفلام في الصين إيرادات هائلة على شباك التذاكر، وتبلي الأفلام الجماهيرية مثل Transformers و Avatarحسناً هناك. أما الأفلام الأخرى التي تتمحور حول التاريخ الأميركي مثل Lincoln و Argoو Zero Dark Thirty، فلا فرصة لها هناك (إذا حصلت أصلاً على إذن لاستيرادها).

الصين سوق منظمة جداً. في الوقت الراهن، يمكن عرض 34 فيلماً أجنبياً في السنة في البلد كله. للالتفاف على هذه القاعدة، يبحث المنتجون الأميركيون والأوروبيون عن الشركاء الصينيين. يُعرَض فيلمCloud Atlas باعتباره فيلماً صينياً لأن الصينيين وفروا 20% من التمويل.

بدأ المنتجون الغربيون يُظهرون استعدادهم لمراعاة الحساسيات الصينية من خلال فرض رقابة ذاتية. كان يُفترض أن يتمحور الفيلم الهوليوودي Red Dawn حول غزو أجزاء شاسعة من الولايات المتحدة من جانب القوات الصينية. لكن بعد تصويره، استعمل المنتجون حيلاً رقمية لتحويل الصينيين إلى كوريين شماليين.

ربما لا ضير في أن يمتنع صانعو الأفلام الأميركية بعد الآن عن تشويه سمعة دول أخرى لأسباب اقتصادية، لكن إذا انفتحت كوريا الشمالية يوماً على الغرب، فلن تجد هوليوود أي بلد تُلصِق به صفة الشر.

الأسواق في آسيا كبيرة جداً لدرجة أن الاستوديوهات بدأت تبحث في سجلاتها عن المواد اللازمة لإنتاج نسخ مجدَّدة للأسوق المحلية حصراً. صدرت نسخة هندية من فيلم العصابات The Italian Job، فضلاً عن النسخة الصينية من الكوميديا الرومنسية What Women Want. وأصبحت النسخة اليابانية من فيلم Unforgiven لكلينت إيستوود قيد الإنتاج. ويرتكز الفيلم الصيني الدراميA Woman, a Gun and a Noodle Shop للمخرج تشانغ يي مو (كان على جدول الأفلام في مهرجان برلين منذ ثلاث سنوات) على فيلم Blood Simple، وهو أول عمل من إخراج الأخوين جويل وإيثان كوين. حصدت النسخة المجددة في الصين أكثر من عشرة أضعاف الإيرادات التي حصدها الفيلم الأصلي في الولايات المتحدة.

في كل سنة، يُقاس نجاح مدير المهرجان ديتر كوسليك نسبةً إلى عدد أفلام هوليوود التي يستطيع عرضها في مهرجان برلين السينمائي. لكن قد يصبح هذا المعيار قريباً جزءاً من الماضي!

الجريدة الكويتية في

13/02/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)