حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

نواف الجناحي

على الجميع أن يفهم اننا نبني

هوفيك حبشيان

 

منذ عمر السابعة، اعتاد الاماراتي نواف الجناحي (1977) الانخراط في أجواء التمثيل والاخراج، اذ اقتفى اثر والده في مجال الفنّ. درس السينما في كاليفورنيا، لكنه عاد الى الامارات بعد التخرج، وفي رأسه حلم صناعة الأفلام في وطنه، فأنجز مجموعة من الأعمال القصيرة ذاع صيته من خلالها. وتزامنت عودته هذه مع مرحلة التأسيس للسينما الاماراتية، عبر دفع عجلة الانتاج الى الامام وتخصيص منصة للسينمائيين الشباب لعرض ما لهم من شرائط، أطلّوا من خلاله على المشهد السينمائي الخليجي. بعد فيلم روائي طويل أول ("الدائرة"، 2009) عرّفه الى جمهور المهرجانات والنقاد، عاد أخيراً بتجربته الثانية "ظل البحر"، الذي أنتجته شركة "إيمج نيشن" في أبو ظبي، وعُرض للمرة الأولى عالمياً في مهرجان أبو ظبي السينمائي (2011) وعُرض في صالات السينما في الخليج، حاصداً الاعتراف الجماهيري على شبّاك التذاكر.  

·     في فيلمك الجديد، "ظلّ البحر" (2011)، وهو الروائي الطويل الثاني لك بعد "الدائرة" (2009)، لا نرى لقطة عريضة واحدة قط لناطحات السحاب ولما هي عليه اليوم الامارات من تقدم ومظاهر حداثة وعصرنة. تفضل الذهاب الى ما يُعرف بـ"الباحة الخلفية"...

- تجري الحكاية في مدينة رأس الخيمة حيث غياب تام لبهرجة المدن الكبرى. في "الدائرة" أنجزتُ الشيء نفسه. فرح الناس لأنني، كما قالوا لي، لم أُظهر الصورة النمطية للمدينة في الامارات. القالب الواقعي الذي تمّ الاشتغال عليه هو في النهاية انعكاس لما هو غير مفروض. نحن لا نسعى هنا الى فرض واقع غير موجود على المجتمع. في مجتمعنا هناك أشياء من هذا القبيل، وهناك حكايات من هذا النوع، لذا كل ما علينا فعله هو ايصالها. هل هي تمثل جانباً من الامارات، وهل تتضمن روحها؟ طبعاً.

·     لماذا لم تكتب نصّ الفيلم بنفسك، واستعنت بسيناريست آخر هو محمد حسن أحمد، بعدما كنت وقّعت سيناريو "الدائرة" بمفردك؟ أليس من الصعب تبنّي نصّ شخص آخر وأفلمته، حين يكون المخرج في هذه المرحلة من مساره المهني؟

- حاولت الاثنين: أن اكتب وأن استعين بكاتب آخر. بالنسبة إليَّ، وهنا أتكلم كنواف المخرج، لا فرق كبيراً بين الاثنين. لا اعتبر نفسي كاتباً برغم انني كتبتُ. في أحايين كثيرة، تسيطر عليك فكرة، حدّ انك تشعر بأن أحداًً غيرك لا يمكنه أن يكتبها، واذا كان عندي المقدرة لإنجازها فسأنجزها. في احايين أخرى، أقع على سيناريو يمسّني ويمسّ روحي وقلبي ويسيطر على عقلي، حدّ انني ارغب في نقله الى الشاشة. فلا مانع عندي ولا ابالي كثيراً اذا لم أكن أنا الذي كتبته. عندي قابلية ان اشتغل على كتاباتي وان اشتغل على كتابات شخص آخر. المهم أن يحضّني النصّ على السؤال الآتي: هل هذه حكاية أريد ان أحكيها أم لا؟ في السنوات الاخيرة، جرى تواصل كبير بيني وبين كتّاب مختلفين، وصرتُ اتلقى كمية من السيناريوات. وصرتُ أستثمر حصة كبيرة من وقتي لقراءة سيناريوات جديدة، هذا جزء من مهنتي. اشعر بأنه ينبغي لي أن أقرأ سيناريوات الآخرين. بالنسبة إليَّ هذا باب مهم جداً.

·     لا نستطيع حتى الآن التكلم عن سينما خليجية حقيقية. هناك تجارب، بعضها ناجح وبعضها ضعيف جداً، وبعضها يشي بوجود سينمائي حقيقي خلف الفيلم. على المدى القريب أو الأبعد قليلاً، كيف ستتطور الأفلام الاماراتية، وما هي ابرز المعوقات التي ستحول دون وجود ملامح لهذه السينما الناشئة؟

- نحن في الامارات ليس عندنا صناعة سينمائية، عندنا حركة سينمائية. لكن، باعتباري موجوداً في الحركة منذ البداية، فعندما ارى ما كانت عليه الحال أمس وما هي عليه الحال اليوم، اشعر ان هناك قفزة ضخمة جداً. الناس اليوم محظوظون جداً، لأنهم على الاقل يمكن ان يستندوا الى تاريخ من عشر سنين ويمكنهم الارتكاز عليه واستعماله كمرجع. صار هناك تاريخ عملي فعلي حقيقي يمكن الانطلاق منه. في بداياتنا، هذا كله لم يكن موجوداً. الدعم المالي بات موجوداً، والمهرجانات التي هي بمثابة منابر باتت موجودة، وباتت موجودة بتنوع. هذا كله محفّز. المعاهد التي تفتح أبوابها في انحاء البلاد شيء في منتهى الأهمية ايضاً. لذا، اعتقد ان ما ينتظرنا ايجابي جداً. المسألة مسألة وقت. قد يكون التطور بطيئاً نسبة إلى طموحاتي الكبيرة جداً

·        أنتم دائماً على عجلة من أمركم في الامارات...

- (ضحك). انا اتكلم من وجهة نظري كشخص. كنتُ ارغب في ان تتسارع قليلاً وتيرة التطور. لكنني مدرك لفكرة التطور الطبيعي للأشياء التي تحتاج الى بعض الوقت (...). رهاننا الآن على التراكم الانتاجي: على الأفلام الطويلة أن تتكثف مثلما تكثفت الافلام القصيرة. لكن، نحن اليوم في الامارات ليس عندنا الا فيلم واحد في السنة او فيلمان في اقصى حدّ. هل هذا كاف لخلق تواصل مع الجمهور؟ في رأيي الشخصي: لا. طبعاً، الحركة ابتكرت حالة جميلة وتواصلاً نوعياً معيناً، لكن نحن في حاجة الى المزيد. هذا الشأن على شركات الانتاج أن تتولاّه. يجب ان يكون عند السينمائيين وعي بماهية الفيلم الطويل، وهو مختلف عن الفيلم القصير، سواء من حيث نوع العمل أو الموازنة. بعضهم يريد ان ينجز افلاماً مكلفة. مهلاً، ليس في البلد هذا الكمّ من الفلوس. نحن بلد غني لكن الاستثمارات قليلة في القطاع السينمائي. فعلى السينمائيين أن يتحايلوا على هذا الوضع وينجزوا افلاماً غير مكلفة بموازنات ضيئلة. من أجل تحقيق هذا الشيء، على السينمائي أن يسيطر على أدواته كافة. على المادة الاّ تكون العائق. انا من هذه المدرسة. على الجميع أن يفهم اننا نبني. ولا نستطيع أن نطالب بأن يكون كل شيء كاملاً متكاملاً. الرغبة العملية في الشغل يجب ألاّ تكون مقيّدة بأشياء من هذا النوع. اذا كانت الحكاية مكلفة، فعلينا ان نبحث عن فكرة أخرى

"ألان رينه: الذاكرة والخيال":

سينما تغتال الأدب بالأدب

هوفيك حبشيان 

في "السنة الماضية في ماريينباد"، الذي عُرض أمس في "متروبوليس"، استعان ألان رينه بنصّ كبير لأمير "الرواية الجديدة" ألان روب غرييه. في قصر من القصور ذات الهندسة الباروكية، يجزم رجل بأنه التقى العام الماضي امرأة متزوجة من رجل "مقلق". لعبة مونتاج جديدة يتشابك خلالها الماضي والحاضر والمستقبل. شخصية تدور حول نفسها كسجناء فان غوغ، طارحة أسئلة لا تجد من يرد عليها، وتتكلم دائماً بجمل معلّقة، حُذفت نهاياتها...

هذا الفيلم بات ظاهرة سينمائية صنعت مجد رينه مبكراً، واظهرت مدى قدرته على خوض تجربة أسلوبية مماثلة. طبعاً، يأتي الفيلم مثقلاً بتأثيراته الأدبية ومشبعاً بإرث اللغة، اللغة الفرنسية. سينماه تغتال الأدب بالأدب. انه واحد من الذين تنجو سينماهم من الأدب على رغم الحضور المكثف للأخير. وفي هذا الصدد، يقول روب غرييه: "بعض السينمائيين يستغنون عن كتّاب سيناريو، لكنهم على الرغم من ذلك يصنعون سينما يجتاحها الأدب، كأنه في داخلهم ندم من كونهم لا يكتبون رواية. في حين ان سينمائياً مثل رينه، يستعين بكاتب سيناريو، من أجل أن يصنع فيلماً وليس أدباً". في المقابل، يشرح رينه رفضه لنقل الروايات الى الشاشة وتفضيله العمل على سيناريوات أصلية، على هذا النحو: "لا اعرف السبب الحقيقي، ربما لأن المؤلف السينمائي على معرفة تامة بأنه لا يمكنك، إذا شرد تفكيرك أو ضاع تركيزك، ان تطلب الى الممثلين أن يعيدوا تمثيل المشهد الاخير، او حتى ان تطلب الى مدير صالة السينما أن يعيد البكرة التي فاتتك. وهو الشيء الذي يجوز فعله في الادب. اذ يكفي ان تقلب صفحات كتاب في اتجاه الخلف. ويعلم ايضاً ان من المفترض ان يتذكر المشاهد كلّ ما يراه ويسمعه خلال متابعته حوادث الفيلم. في حين ان الروائي يعتبر ان لا بأس اذا عاد القارئ بضع صفحات الى الوراء، اذا صعب عليه فهم بضعة سطور من روايته".

"ستافيسكي" ــ 1974 ــ (الجمعة 25)، واحد من أفضل أفلامه، مع بلموندو بطلاً. تطرق نصّ سمبرون الى شخصية المغامر ستافيسكي وتعمّق في ابعادها النفسية، ولم يتوان عن فتح خطّ مواز بينها وبين إقامة تروتسكي في المرحلة ذاتها في فرنسا قبل أن يتعرض للطرد. ثم فجأة، عام 1980، يقرر رينه المنحى الاختباري المتطرف في واحد من أكثر افلامه تجريباً: "عمي الأميركي" (السبت 26). من خلال الغوص في نظريات لابوري في السلوك البشري، يسعى رينه الى اثارة الضحك. لابوري يَعتبر الكائن الحيّ "ذاكرة حية"، وقد أجرى تجارب مختبرية على حيوانات ليثبت اطروحته في ميكانيزمات العدائية. بالنسبة إليه، سبب الوجود الوحيد هو الوجود نفسه. انطلاقاً من هذا كله، يشيد رينه نوعاً من بازل رهيب ومعقد، مقدماً مرةً أخرى لقاءات مميزة بين ثلاثة ممثلين: جيرار دوبارديو وروجيه بيار ونيكول غارسيا.

احد أروع أفلامه في السنوات الأخيرة: "قلوب" (الثلثاء 29). فانتازيا فيلمية في مسار حافل بالمحطات الكبرى. اللافت في "قلوب" (هكذا ارتأى أن يسمّي فيلمه بعدما اقترح على منتجه 104 عناوين)، هو المزيج من السينما والمسرح، الذي لا ينزلق البتة في فخ "المسرح المصوّر" السيئ الذكر. هنا يقتبس رينه مسرحية للبريطاني ألن أيكبورن، "مخاوف خاصة في اماكن عامة"، مثبتاً أن العودة الى "أفان غارد" جائزة، وخصوصاً اذا كانت لتزويد المشاهد بعض المتعة. هذه المتعة هي اليوم، من مستلزمات عمل رينه. يعمل منها ولها. هذه العودة شرعية شرط ان تكون بهدف تحريك المياه الراكدة، وشرط ان تصالح الجمهور والنقاد، وهو الشيء النادر الذي يملك المعلّم الفرنسي سرّه. شخصياته، منهم من يبحث عن منزل أو حبيب، ومنهم من يسجل البرامج التلفزيونية المملة على كاسيت "في أش اس"، ومنهم من لا يعرف ماذا يفعل هنا والآن، وما الجدوى من هذه التي نسمّيها الحياة. الأهم لرينه ان لا يجبر على تبرير سلوك هذا أو ذاك.

قال رينه في لقاء سابق لنا معه في باريس: "تساقط الثلج المتواصل في "قلوب"، استطيع القول عنه انه من بقايا آثار السوريالية في داخلي، وهي الحركة التي اثّرت فيَّ كثيراً عندما كنت في السادسة عشرة. عندما تعبر صورة الى ذهني، وتسكنها لبضعة أيام، لا اناقشها، اعتمدها [في سينماي] فحسب، وأرحّب بها. لا أعتقد ان الثلج رمزٌ، بيد اني عندما قرأت المسرحية للمرة الثانية وجدت ان هذا الثلج الذي يتساقط، وبفعل تأثير ما، كان يربط بين اللوحات المشهدية الـ54 لمسرحية أيكبورن. كان الاخير يستخدم الإظلام التدرجي في مسرحيته للانتقال من مشهد الى آخر، وانا استبدلت ذلك بتقنية التذويب، فتختفي اللقطة وتظهر مكانها لقطة اخرى، وفي غضون ذلك نرى الثلوج تتساقط. لكني لا أمانع ان يرى بعضكم في هذا استعارة أو رمزاً ما، على رغم اننا لم نقصد ما تشيرون اليه، لا خلال التصوير ولا المونتاج. كان ذلك شيئاً بصرياً فحسب. باستخدامي الفواصل "الثلجية"، اذا جاز لي تسميتها على هذا النحو، لم أقصد عقد صلة بين الفيلم و"الحب حتى الموت"، لكن صحيح اننا ضحكنا ذات يوم على البلاتو وقلنا ان ثمة قرابة بين الفيلمين".

يروي رينه ان ما كان يسلّي ايكبورن هو انه لم يكن يريد ان يعرف شيئاً عن افلمة مسرحياته. ويتابع: "... واذا كان ثمة تشابه بين الفيلمين، فسألقي اللوم على ايكبورن لا عليَّ. ذلك لأنني كنت حريصاً على البقاء وفياً لمسرحيته وروحيته ومرارته. عندما تقرأ ايكبورن يمتلكك الاحساس بأنك ترى الاشياء عبر الكلمات. اليوم ثمة جدل دائر حول ما اذا كان ايكبورن قد كتب 46 مسرحية أم 67، لكني لم أشاهد الا ما يقارب الاربعين. جميعها مرّ. انه باختصار أكثر المؤلفين المسرحيين الذين أضحكوني. وفي كل مرة كنت اخرج من الصالة كنت اشعر بتعب شديد من كثرة الضحك. لكن هذه الطرافة غير موجودة في اعماله المسرحية الاخيرة، وهذا ما صعقني فيه. من جهة اخرى، لا يريد ايكبورن ان يسمع بما أفعله بمسرحياته. لا يهمّه الامر بتاتاً. وغالباً ما يرفض تحويل مسرحياته أفلاماً. عندما ذهبت اليه لأطلب منه ان يبيعنا حقوق "تدخين / لا تدخين"، قلت له لعله يقتنع: اعدك بأنني سأحاول تحقيق المشروع، ولكنني لن اتصل بك هاتفياً ولن اطلب منك ان تقرأ الاقتباس، ولن اطلب منك المجيء الى البلاتو، ولن اكلفك كتابة بضعة مشاهد اضافية. كذلك لن احيطك علماً بأي جديد حول المشروع، وحين تجهز النسخة النهائية سأتصل بك وسأدعوك إلى مشاهدته، وأنت من ستقرر اذا كنت تريد ابقاء اسمك في الجنريك أم سحبه. هنا رأيته مصدوماً، فمنحني الضوء الاخضر على الفور. ايكبورن رجل مملوء بالانشغالات: يكتب مسرحية كل سنة، عدا انه يخرج نحو 4 مسرحيات سنوياً، وهو مواظب على عمله، وكثير الانضباط، لذا فبالنسبة اليه الذهاب للتسكع على بلاتوهات التصوير هو اضاعة للوقت. ايكبورن هذا كرّس وجوده للعطاء وقاطع الحياة الاجتماعية. هو الآن يقطن ويعمل في مدينة بحرية قريبة من يوركشاير، رافضاً ان يكون في لندن مثل الجميع. لا قطار مباشراً يقلك الى سكاربورو، مملكة الثقافة حيث يملك ايكبورن مطعماً وباراً ومكتبة وصالة سينما وقاعتين للمسرح. يجدر ان تصعد في سيارة اجرة وتقطع مسافة ساعة ونصف الساعة من الزمن قبل ان تصل الى هناك. واذا جئت الى حيث مكان اقامته واتصلت به قائلاً له "أنا هنا"، فسيردّ عليك: "يجب ان نتقابل على الفور، لكن يستحيل ذلك قبل نهار الجمعة المقبل، هل يناسبك ذلك؟". 

بالنسبة إلى رينه ليس في هذه المسرحية شخصية رئيسية. "اكثر ما كان يغويني فيها ان بعض الشخصيات لا تتلاقى اطلاقاً. ننتقل من خفة الظل الى السماجة، وهذا الانتقال لطالما احببته. من جهة اخرى، لطالما عارضت مسرحيات كانت تنقل الى باريس حوادث تدور في لندن في الاصل المسرحي. هذا النوع من الاقتباسات يصدمني حقاً. لكن بدا لي ان لا وجود في هذه المسرحية لخصوصيات المجتمع البريطاني، اذ لا وجود للتفاصيل التي تجعل من لندن شخصية اساسية قائمة بذاتها. بقدر ما حرصت على ان يبقى "تدخين / لا تدخين" [1993] انكليزياً في أدق تفاصيله، من الملابس الى المأكولات وإلخ، اشتغلت هنا نقيض ما فعلته هناك، بعد استئذان ايكبورن. في الواقع، لم اقتطع من المسرحية ما كان يشي بواقع بريطاني ما. اكثر ما كان بريطانياً في المسرحية هو اسلوب الحوار، لكن احاسيس الشخصيات كان يمكن العثور عليها في باريس. سواء وقعت الحوادث في لندن ام في بيكاديللي، فهذا لم يكن يغيّر الكثير في السيرورة الدرامية". 

hauvick.habechian@annahar.com.lb

"ألان رينه: الذاكرة والخيال": كلّ العروض تبدأ الساعة الثامنة مساء. للمزيد عن جدول العروض metropoliscinema.net

"ما نموتش"

هـ. ح.

منذ بدء الثورة التونسية، كنا ننتظر أن يقول نوري بوزيد كلمته في ما يحدث في بلاده. شريطه الجديد، "ما نموتش" الذي نال جائزة أفضل مخرج عربي في مهرجان أبو ظبي السادس، مناسبة لإطلاق مواقفه الصريحة من قضايا جدلية تؤرق المثقف اليساري الذي تعرّض العام الماضي لاعتداء جسدي على يد شاب متطرف. من القضايا التي يطرحها بوزيد للبحث: صعود حركات التطرف في المجتمع التونسي، وضع المرأة في ظل الذكورية التي لا تطاق، وايضاً وخصوصاً، مسألة التحجب التي تحولت نقطة خلافية في تونس. بوزيد واضح: لا مجتمع سوياً اذا كانت حقوق المرأة فيه مهضومة وحريتها في يد سلطة الأب او الزوج أو ربّ العمل

أما في ما يتعلق بالتفاصيل، فمن خلال حكاية شابتين تونسيتين، زينب وعائشة، تقرران استرداد ما خسرتاه في اللحظة الضائعة بين ثورتين، يقدم بوزيد بورتريهاً لما آلت اليه الأحوال في تونس ما بعد اللحظة التي قرر فيها البوعزيزي اضرام النار في جسده. يترك مخرج "رجل الرماد" فيلمه مشرّعاً امام الاحتمالات كافة، مانعاً نفسه من تسديد الأهداف السهلة في مرمى "العدو"، ومكتفياً بتعرية منظومة قمعية لها امتدادات قوية في المجتمع التونسي

بالرغم من هذا كله، يعتبر بوزيد أن ما تمر به بلاده هو فوضى خلاقة، او فوضى التكوين. يقول: "بصراحة، في رأيي، الثورة الحقيقية تبدأ الآن. الثورة الحقيقية هي في الحياة اليومية، من كتابة الدستور الى الصراعات على مدار اليوم. المجتمع المدني يساهم على نحو مهول في الصراعات ويغيّر في ميزان القوة داخل المجلس التأسيسي حيث الغالبية مع "النهضة". الثورة تحصل الآن والمخاض لا يزال. لكنني متفائل جداً. كنا نعرف ما هم عليه "الأخوان المسلمون"، لكن ما كنا نجهله هو ان هناك حركة تقدمية كبيرة تتنظم يومياً بشكل أكبر".

النهار اللبنانية في

24/01/2013

 

هل كُشفتْ أسرارٌ للمخرجة وهل استُخدم الفيلم للدعاية؟

«٣٠ دقيقة بعد منتصف الليل» لبيغولو والجدل حول علاقة هوليوود بالبنتاغون

نديم جرجورة 

لا تنتهي تداعيات الفيلم الجديد لكاثرين بيغولو (مواليد 27 تشرين الثاني 1951 في «سان كارلوس» في كاليفورنيا). منذ إعلانها بدء تنفيذ مشروعها هذا، المعنون بـ«ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل»، لاحقتها اتّهامات وحملات، ازدادت حدّتها لحظة اغتيال أسامة بن لادن في الثاني من أيار 2011. هذا فرض تبديلاً على المشروع. إطلاق عرضه التجاري الأميركي في 19 كانون الأول 2012، أشعل نوعاً من حريق «لن يلتهم أحداً»، كما علّق معنيون بالفيلم. الاتهامات طالت وزارة الدفاع الأميركية الـ«بنتاغون». طالت «وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية». الوكالة نفسها هاجمت الفيلم بسبب مشاهد اعتبرتها «مُهينة» بحقّها. مشاهد مرتبطة بعمليات تعذيب نفّذها عملاء استخباراتيون بحقّ إرهابيين.

في حوار منشور في المجلة الفرنسية الأسبوعية «لو نوفيل أوبسرفاتور» (17 كانون الثاني 2013)، قالت كاثرين بيغولو إنها لم تتلقّ أية مساعدة من أجهزة الدولة الأميركية: «وزارة الدفاع لم تعط رأيها في السيناريو. لو أننا (السنياريست مارك بووال وهي) استجدينا هذا التعاون، لحصلنا على معلومات أكثر من دون أدنى شكّ. بووال، بصفته صحافياً، جمع معلومات كثيرة بجهده الشخصي. ثم اتّخذ قراراً ممتازاً، تمثّل بالعمل انطلاقاً مما حصل عليه فقط». أضافت أنهما ارتكزا على شهادات مسؤولين كبار شاركوا في مهمة اغتيال بن لادن: «كان مستحيلاً سرد ملاحقة دامت 10 أعوام في عمل مدّته 150 دقيقة. وجدنا أنفسنا أمام 370 ساعة تصوير، ما جعلنا نعمل طويلاً وكثيراً في غرفة المونتاج. هذا فيلم روائي لا وثائقي». 

لكن الفيلم أعاد طرح سؤال العلاقة بين هوليوود وأجهزة الدولة الأميركية، السياسية والعسكرية والأمنية. في تقرير لمكتب «وكالة الصحافة الفرنسية» في واشنطن منشور في 21 كانون الثاني 2013، فإن المساعدة (!) التي قدّمتها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لفريق الفيلم، أثارت مجدّداً «الجدل حول التاريخ الطويل للعلاقات بين الـ«بنتاغون» وهوليوود، التي يُشتبه في أنها تؤدّي دوراً ترويجياً للجيش الأميركي». أضاف التقرير ان وزارة الدفاع الأميركية، «في سعيها إلى الدعاية عن أبرز إنجاز حقّقته الإدارة الحالية، تواجه اتهامات من جمهوريين بأنها كشفت بعض أسرار الدولة للمخرجة بيغولو، في حين أن جمهوريين عديدين اتّهموا الـ«بنتاغون» باستخدام هوليوود وسيلة للدعاية». غير أن فيل ستراب، رئيس الخلية المكلّفة بمهمّة تنظيم العلاقات مع صناعة السينما في وزارة الدفاع، أكّد أن الفيلم لم يحظ بتعاون من الوزارة، باستثناء لقاء استمرّ 45 دقيقة فقط بين المخرجة وكاتب السيناريو ومسؤول المهمّات الخاصة في الـ«بنتاغون» مايكل فيكرز، من أجل تقديم «عرض عام». أوضح ستراب للوكالة نفسها أن الوزارة تطلب من المخرج إرسال السيناريو و«ما يتوقّعه منا»، مشيراً إلى أنه غالباً ما يأخذ الدعم «شكلاً تقنياً لإضفاء صدقية على شخصية عسكرية أو عمل عسكري، وأيضاً لاستصدار إذن بالدخول إلى منشآت عسكرية، أو لاستخدام دبابات أو طائرات أو سفن ستظهر في الفيلم». لكن، لكلّ شيء ثمنه. فالمعدّات كلّها التي تُستخدم تكون مستأجرة، كما أن الـ«بنتاغون» يشترط، خصوصاً، منحه حقّ الاطلاع على السيناريو. ويبرّر فينس أوغلفي، مساعد ستراب، ذلك بالقول: «نريد أن يؤدّي الممثلون أدوار العسكريين بالشكل الذي نريد لهم أن يتصرّفوا فيه». ومن غير الوارد إطلاقاً أن يتعاون الـ«بنتاغون» مع فيلم يُظهر مدرِّباً عسكرياً عنيفاً، كما حصل في فيلم «سترة معدنية كاملة» (1987) لستانلي كيوبريك، أو يُبرز جندياً متهوّراً كما حصل في فيلم «ذي هيرت لوكر» (2008) لبيغولو نفسها، الذي حصد ست جوائز «أوسكار» في الدورة الـ82 في العام 2010، منها أفضل فيلم وأفضل إخراج (عن فرقة نزع الألغام في العراق أثناء الاحتلال الأميركي).

كلاكيت

انشقاقات

نديم جرجورة

هل هناك رابط يجمع السينما اللبنانية بالبلد، على مستوى التشابه بين مصائرهما ووقائعهما وحكاياتهما؟ التشابه كبير: التخبّط. الارتباك. الفوضى. انعدام المرجعيات المنفتحة على العصر. الادّعاء. الفردانية المنكمشة داخل جماعات متناحرة. غياب أفق واضح المعالم. إلغاء الآخر والماضي. إلخ. التشابه كبير. لم يخرج البلد من «حروبه الصغيرة». لم يدخل البلد مرحلة بناء دولة ووطن. السينما تُشبهه. لم تخرج السينما من ارتباكات مساراتها التاريخية. لم تدخل مرحلة بناء متين للصناعة. التقوقع الطائفي/ المذهبي اللبناني يتنامى يوماً بعد يوم. التقوقع في شلل سينمائية عائق أمام تطوّر سليم لصناعة مطلوبة. الانشقاقات السياسية المبنية على مصالح طائفية/ مذهبية جعلت البلد مزرعة مفتوحة على الأعاصير الداخلية والخارجية كلّها، من دون حماية أو تحصين لا للبلد ولا لناسه. الانشقاقات السينمائية موجودة. أكاد أقول التشتّت السينمائي معقود على إنجازات فردية لم تتوصّل إلى رفد المشهد السينمائي المحلي بمفردات الصناعة.

صورة متشائمة؟ ربما. لكن التشابه بين البلد وصناعة الأفلام فيه منسحبة على الإيجابيّ أيضاً. بين حين وآخر، يبرز أناس متحرّرون من سطوة الفساد والفوضى والخراب. يواجهون تحدّيات شتّى. يقفون على الحافة من أجل قناعة منفلشة على مصالح عامّة. بين حين وآخر، يُقدّم مخرج أو أكثر فيلماً أو أكثر يمنح أملاً بتراكم نوعي لأفلام تروي حكايات أو ترسم حالات، بناء على مفردات العمل السينمائي السوي. القلّة مفيدة ومهمّة، لكنها لا تصنع حالة متكاملة. القلّة لا تبني وطناً يتحرّر من فساد يبدأ بالأخلاق ويكاد لا ينتهي في السياسة. القلّة لا تنشئ صناعة سينمائية، يُفترض بكثيرين العمل على إنشائها: الدولة، إن وُجدت. القطاع الخاص، إن اهتمّ. الجامعات والمعاهد الأكاديمية والمدارس الجانبية، إن بلغت مرتبة ثقافية راقية، وتحرّرت من عطشها المرضيّ للمال (علماً أن الدراسة الأكاديمية لم تكن ولن تكون شرطاً لولادة سينمائيين مبدعين. فهي، في أحيان كثيرة، تكون عائقاً أمام ولادة هؤلاء). الشباب، إن امتلكوا رغبة حقيقية وعميقة في السينما، وثقافة سينمائية تعينهم على مواجهة تحدّي صناعة السينما.

«المبادرة الفردية» سمة هذا البلد في مستويات عيشه كلّها. الفرد أساسي. اليوم، بات الأمر مختلفاً بعض الشيء. شركات إنتاجية باتت مُساهماً بارزاً في دعم مشاريع مختلفة. المبادرة الفردية أنتجت أعمالاً تليق بالسينما، وإن كان عددها قليلاً للغاية، نسبة إلى الكمّ المُنتَج. سينمائيون عديدون يعاندون القدر ليُنجزوا أفلاماً يعثر المُشاهد فيها على متعة العين والقلب والخيال. غلبة المُسطّح والمبتذل والمدّعي لن تحول دون إنجاز روائع لبنانية، وإن ظلّ عددها قليلاً للغاية. لا يتعلّق الأمر بمهرجانات دولية، وجوائز يظنّ البعض أنها مفتاح النجاح الحقيقي. لا يتعلّق الأمر بكثرة عدد مشاهدي هذا الفيلم أو ذاك، وإن كان الشقّ التجاريّ أساسياً في عملية إنجاز الأفلام. المسألة كامنة في جوهر المشاريع: الكتابة، ثم التنفيذ.

هذا هو السؤال الأصلي.

فيلم واحد يدمغ حياة مخرجه ويقترن باسمه

«أمنية الموت» علَم على مايكل وينر

نديم جرجورة 

هناك سينمائيون ترتبط أسماؤهم بعنوان واحد طيلة حياتهم. يتذكّرهم كثيرون بفضل هذا العنوان. يتناسون أشياء أخرى صنعها هؤلاء إلى جانب هذا الـعنوان. أو ربما ينسون. هذا طبيعي. هذا لا يعني أن السينـمائيين عاجـزون عن صنع الجـيّد، أو المهمّ، أو الأفضل. لا علاقة للمـسألة بتصنيفات كهذه. المشاهدون يتوقّفون عند «نجاح» ما، ويتغاضون عن كل شيء آخر، وإن كان «أنجح». يقدّرون «هذا الفيلم» فقط. يقولون إن فلاناً أنجـز «هذا الفيلم». أما الأفـلام الأخرى، والمهن الأخرى، فتبقى خارج القول.

مايكل وينر مخرج بريطاني. وفاته في 21 كانون الثاني 2013 أعادت طرح هذه المسألة. السينمائي الذي بدأ حياته صحافياً في مرحلة باكرة من حياته (كان في الرابعة عشرة من عمره عندما بدأ يعمل في صحيفة بريطانية)، تحوّل إلى «ايقونة» الأفلام التشويقية القاسية والصعبة بفضل «أمنية الموت». الذين كتبوا في رحيله نقداً أو تأبيناً، توقّفوا عند «تحفته» السينمائية هذه، وتغاضوا عما فعله لاحقاً. عما فعله قبلاً أيضاً. في العام 1974، حقّق وينر «أمنية الموت». تعاون مع أحد أكثر الممثلين براعة وجمالاً وأداءً رائعاً. تعاون مع تشارلز برونسن. «أمنية الموت» أول فيلم من سلسلة أفلام «غرق» برونسن فيها من دون أن يحافظ على قوّته التمثيلية التي قدّمها في الفيلم الأول. مايكل وينر نفسه حقّق الأفلام الثلاثة الأولى. مع هذا، ظلّ الفيلم الأول أفضلها وأقواها وأجملها. صنع لحظة تحوّل جذري في المسار المهني لمخرجه. قبله، أدار وينر كباراً في السينما الأوروبية والأميركية: بيرت لانكستر وروبرت دوفال («رجل القانون»، 1971). مارلون براندو (Nightcomers، 1972). آلان دولون («سكوربيو»، 1973). لكن «أمنية الموت» وسم حياته السينمائية.

القصّة عادية جداً. تحدث هنا وهناك. الآن وفي أوقات مختلفة. إنها لعبة العنف والغضب. الوحش الطالع من داخل الذات الفردية. إنها لغة الثأر. يتجلّى الانتقام في إحدى أبهى صُوَره. بول كيرساي (تشارلز برونسن) يجد نفسه في بداية طريق الخراب الداخلي. يجد نفسه معلّقاً أمام هاوية النهاية. لا مفرّ. قَتْلُ زوجته واغتصاب ابنته دفعاه إلى خيار واحد: الثأر. الصُوَر السينمائية جزء من لعبة الموت. العنوان دعوة إلى الآخرين لتمنّي الموت. الاقتباس موفّق. الرواية الأصلية كتبها براين غارفيلد. رحلة الدم والعنف والجثث والعيون المنسدلة على رحيلها، هي نفسها رحلة التطهّر من أوساخ هذا العالم بالغرق فيها. أو بالأحرى: رحلة الانتقام هي نفسها رحلة البحث عن خلاص. الطريق أشبه بدرب جلجلة، وإن اختلفت منعطفاتها ومصيرها ونهايتها. درب الجلجلة الذي سار عليه كيرساي أفضت به إلى خلاص. وُصف الفيلم بأنه «مُنشئ نوع». بأنه «مرجع أساسي» لهذا النمط من الأعمال السينمائية.

في جعبته ثلاثة وأربعون فيلماً، منها أربع وثلاثون روائياً طويلاً، بدأ تحقيقها في العام 1956. بداياته مرتبطة بإنجازه أفلاماً قصيرة. أول روائي طويل حمل عنوان «أطلق الرصاص كي تقتل» أنجزه في العام 1960، هو المولود في لندن في 30 تشرين الأول 1935. مساره طويل. من استديوهات بريطانيا إلى هوليوود، خاض مايكل وينر تحدّيات عديدة. انطلاقته الفعلية تمّت مع فيلمه الثاني «البعض يُفضّل الأمور هادئة» (1961)، عن امرأة شابّة تأخذ زوجها إلى عالم العري. إلى جانب تشارلز برونسن، هناك أوليفر ريد. ستة أفلام كانت ثمرة تعاون بينهما على مدى ربع قرن، بدءاً من «النظام» (1964). اختار صوفيا لورين في «قوّة النار» (1979).

فنان متعدّد الاهتمامات (عمل ناقداً سينمائياً أيضاً)، حقّق مايكل وينر أفلاماً متأرجحة بين اشتغال «عبقري» وعمل «سيء». حـقّق تناقضـات وضـعت أفلامه في أنـواع مخـتلفة، من الكومـيديا إلى الثريلر السياسي والتشويق العنفي. لكن «أمنية الموت» لاحقه طويلاً، ويبدو أنه سيظلّ يُلاحقه.

السفير اللبنانية في

24/01/2013

 

"جانجو طليقاً"..

تحرير العبيد على طريقة تارانتينو!

محمود عبد الشكور 

فى كل فيلم جديد يخرجه كونتين تارانتينو، يمكنك أن تلاحظ ببساطة أمرين: استيعاب وهضم للنوع أو الأنواع التى يقدم من خلالها حكايته، وقدرته على الإضافة سواء من حيث الأفكار المطروحة، أو الشكل الذى يحمل تلك الأفكار.

فيلم  "django unchained" ليس استثناء من هذه القاعدة، من حيث النوع نحن أمام إعادة إحياء مدهشة لأفلام الويسترن، ولكن بعد أن يأخذها تارانتينو الى آفاق واسعة مختلفة، مأساة العبيد الأفارقة هى محور الفيلم، ليست المسافة واسعة جداً، مع ذلك، من حيث المضمون، لأن العلاقة بين القانون والعدالة هى أصلاً إحدى الموضوعات الأساسية فى عالم سينما الويسترن الذى طالما جعلنا نتعلق بمشاهدة الأفلام الأمريكية.

اللافت فى المعالجة هنا أن موضوع تحرير العبيد يطرح هنا بشكل ثورى إن جاز التعبير، سؤال الفيلم هو: لماذا لم يقم العبيد الأفارقة بثورة رغم القهر والذل وانتهاك الكرامة؟، لماذا انتظروا حرباً أهلية تحررهم؟، لماذا لم يركبوا الخيول ويقتلوا تجار الرقيق ولو حتى من باب المحاولة؟ يمكن أن تعتبر فيلم "جانجو طليقاً" هو التعبير السينمائى العنيف عن تحقيق مالم يتحقق بالفعل، تارانتيو قرر تحرير العبيد بالقوة، وعلى عينك يا تاجر الرقيق.

من حيث الشكل، يستفيد الفيلم من كل كليشيهات وموتيفات أفلام الويسترن الأمريكية أو الإيطالية (الإسباجيتى)، يضعها فى خلاّط ثم يخرجها عملاّ جديداً ومبتكراً، يأخذ من السينما ليعيد إليها العطاء فيلماً اصيلاً ومختلفاً، ولولا ملاحظات أساسية على ربع الساعة الأخيرة من الفيلم، لكنا أمام عمل استثنائى وخارق.

اللعبة الثلاثية

يعتمد تارانتينو على الرسم البارع لشخصياته، ثم إدارة لعبة درامية فيما بينها، مع استغلال كل إمكانيات النوع السينمائى حتى النخاع، فى "جانجو طليقاً" ثلاث شخصيات محورية، وشخصيتان مؤثرتان فى الخلفية، الزمان عام 1858، قبل عامين من الحرب الأهلية الأمريكية، والمكان ولايات تتاجر فى العبيد من تكساس الى ميسيسيبى، والصراع محوره تطبيق القانون الضيق، والعدالة الواسعة.

الشخصيات الثلاث هم: طبيب الأسنان المعتزل الألمانى كينج شولتز (كريستوفر والتز)، الذى تحوّل الى مهنة أكثر ربحاً، صائد جوائز يتابع الخارجين على القانون، يقتلهم ليحصل على مكافأة العدالة الأمريكية، رجل يبيع الجثث من أجل المال تماماً مثل تجار الرقيق، ولكنه فى النهاية محسوب على رجال القانون.

الطرف الثانى هو جانجو العبد الإفريقى (جيمى فوكس)، لا نعرف شيئاً عن تاريخه السابق، ولكنه الآن يمتلك فرصة لكى يكون حرّاً، الطبيب صائد الخارجين على القانون سيلجأ إليه لأنه يعرف ثلاثة أشرار من المطلوبين موتى أو أحياء، سيصبح مساعداً لصائد الجوائز، فى مقابل بعض الدولارات، مع الحصول فى النهاية على حريته.

الشخصية الثالثة هى تاجر العبيد الثرى كالفن كاندى (ليوناردو دى كابريو)، النموذج الفج لتجارة الأجساد، وانتهاك البشر، هو لا يخرق القانون الذى كان  يسمح بتجارة العبيد، والذى يقنن إجراءات بيع البشر فى صورة وثائق وعقود مكتوبة، ولكنه ينتهك فكرة العدالة بمعناها المطلق، العدالة التى تمنع الإنسان من انتهاك حقوق الإنسان، او فلنقل إن هذا ما ينبغى أن يكون.

أما الشخصيتان المؤثرتان للغاية رغم أنهما فى الخلفية قليلاً فهما: برومهيلدا (كيرى واشنجتون)، وهى زوجة جانجو التى تم بيعها فى  ميسيسيبى، ومع ذلك لم ينسها أبداً، وهى التى ستدفعه الى مواصلة العمل مع الطبيب شولتز، يريد أن يستردها، ولذلك يجمع النقود من مهنة صيد الجوائز، وينتظر مساعدة الطبيب الماكر فى تنفيذ هذه المهمة.

ولدينا ستيفن (صامويل جاكسون)، خادم كاندى الأسود العجوز، الذى يبدو أكثر قسوة من البيض على الزنوج، النموذج الفجّ لما تفعله العبودية من تشويه للإنسان بحيث يتحوّل الضحية الى جلاد أكثر شراسة من الجلاّد نفسه، إنقلاب داخلى جدير بالدراسة والتأمل.

بعد أن يبنى تارانتينو شخصياته مثل بنّاء مخترف، يصبح من البساطة الممتنعة توصيل الجسور بينها على هذا النحو البديع: يستعين الطبيب صائد الجوائز بالعبد جانجو للتعرف على ثلاثة أشقاء خارجين عن القانون، يقوم الطبيب بشراء جانجو لهذه المهمة، بعد إنجازها يقوم بتحريره، ولأن العبد يريد أيضاً استعادة زوجته برومهيلدا التى بيعت إثر محاولتهما الفاشلة للهرب من المزرعة التى يعملان بها، فإن جانجو يوافق على العمل طوال الشتاء مع شولتز فى صيد الخارجين عن القانون، يكتشفان أن برومهيلدا عند تاجر العبيد الشرس كالفن كاندى، يحاولان التحايل من أجل استردادها، يكتشف ستيفن العجوز الاسود اللعبة، يبداً الانتقام ثم الإنتقام المضاد، ثورة دموية فردية صغيرة يقودها جانجو بعد تحريره.

براعة السيناريو ليست فقط فى تحديد ملامح الشخصيات، ولا فى اللمسة الساخرة التى تكاد تشغل النصف الأول من الفيلم، ولكن فى طريقة مدّ الجسور بين الشخصيات وبين الأفكار فى نفس الوقت، صائد الجثث والجوائز فى مقابل تاجر الرقيق، الألمانى الأوربى فى مقابل الأمريكى، العبد الثائر فى مقابل العبد المتواطئ، القدرة على تطبيق القانون بصيد الخارجين عنه فى حوادث السرقة والخطف والسطو، والفشل فى تطبيق العدالة بانتشار تجارة الرقيقة وتقنينها، حكاية الحب بين جانجو وبرومهيلدا فى مقابل علاقة الكراهية بين ستيفن وكل زنوج العالم، ثم الثورة الشاملة التى يقترحها تارانتينو: أيها العبيد، ثوروا واقتلوا البيض، يحدث ذلك أولاً عندما يقوم جانجو باصطياد الأشرار البيض، باسم القانون، وكمساعد للطبيب شولتز، ثم عندما يقوم بتصفية عائلة كاندى كلها باسم العدالة بمعناها العام.

انتقام جانجو

لا تفلت الفكرتان أبداً من تارانتينو: القانون والعدالة، وفى قلب الحكاية تفاصيل لا تنسى: جلد العبيد وتعذيبهم وترك الكلاب لتنهش أجسادهم أحياء، ربط حكاية حب جانجو بأسطورة سيجفريد وبرومهيلدا الألمانية، سيجفريد سيقتل التنين وسيتجاوز دائرة النار لإنقاذ جبيبته برومهيلدا، وهو ما سيحققه جانجو فعلياً على الشاشة ولكن بصورة أخرى، ركوب العبد الحصان مما يثير دهشة وذهول البيض، الزنوج لايركبون الخيول، وعندما يركبوها تتغيّرحياتهم، هذا هو المعنى الواضح.

فى مشهد هام من الفيلم، يكتشف كاندى، الذى يتلذذ بمشاهدة العبيد وهم يصارعون بعضهم البعض حتى الموت على طريقة الرومان، أن الثنائى شولتز وجانجو قررا خداعه، جاءا فى هيئة تجار للعبيد، أوهماه بشراء عبد مقابل مبلغ ضخم يصل الى 12 ألفاً من الدولارات، بينما هما  يريدان شراء برومهيلدا.

يُخرج كاندى جمجمة صغيرة يقول إنها للعجوز بن، خادمه وخادم أجداده، الذى لم يفكر أبداً فى الثورة على الذل والخنوع، يفسّر كاندى ذلك بأن ثلاث نقاط محفورة فى جمجمته تثبت أن الجنس الأسود أكثر قابلية للخنوع من البيض، النقاط الثلاث تتحول فى جماجم البيض الى مناطق للإبداع كما يقول، ستكون هذه الملاحظة أحد أسباب تتابعات العنف الدموى فى ربع الساعة الأخير من الفيلم، بما يكاد يذكرنا على نحوما بالتتابعات الدموية فى نهاية فيلم "سائق التاكسى": كبتٌ ثم انفجار.

لم تكن مشكلة هذه الدقائق الأخيرة فى تغليب خيار العنف الدموى لإقرار العدالة بمعناها الواسع، من الواضح أن البناء بأكمله، ومشاهد العنف ضد العبيد، مصممة لكى تصل بالمتفرج الى هذا الحل الذى يقترحه تارانتينو حتى على مستوى حكايته وشخصياتها المحدودة، كان واضحاً ايضاً أن صيد الخارجين على القانون سيؤدى بالضرورة الى صيد الخارجين على العدالة حتى لو كانوا ملتزمين بالقانون الجائر، كان مفهوماً تماماً أن الخاص سيتحول فى النهاية الى عام، وأن البراعة فى استخدام المسدس ستقود حتماً الى الوصول الى  تفجير الديناميت.

المشكلة فى رأيى أن هذه النقلة العنيفة، لم تجد لحظتها المناسبة، كان كاندى قد كتب عقود الصفقة لبيع برومهيلدا مقابل 12 ألفاً من الدولارات، رغم أن ثمنها هو 500 دولار، كانت لعبة الذكاء قد انتهت فعلياً لصالحه، أراد فقط مصافحة شولتز، ولكن الأخير قتله بالرصاص، فانفجرت المجزرة داخل القصر.

بدلاً من أن يتم قتل العبد جانجو مرتكب المجزرة، يتم إرساله للعمل فى أحد المناجم (!!)، فينجح من جديد فى تحرير نفسه، ويقوم باستكمال المجزرة من جديد بمزيج من الرصاص والديناميت، قانون جانجو هو العنف بالعنف، والدم بالدم، والبادى أظلم.

لم يفلح تارانتينو فى التمهيد الأخير لهذه المجزرة، زادت الجرعة والصنعة قليلاً، أرجو ألا تنسى أن الطبيب شولتز لا يستخدم مسدسه أبداً قبل عقله، وهو واسع الحيلة بدرجة تجعل رد فعله العنيف على مصافحة كاندى غريباً للغاية، بالتأكيد سيفكر فى قتل شولتز، ولكن ليس بهذه الطريقة السريعة، لاحظ أيضاً أن الذين يتركون الكلاب لكى تنهش لحم عبد وهو حى لمجرد أنه فشل فى المصارعة، لن يتركوا على الإطلاق أول عبد يرتكب مذبحة جماعية ضد البيض لكى يعانى من الأشغال الشاقة فى شركة للمناجم، ولن يتركوا حبيبته على قيد الحياة، وهى سبب العداء بين كاندى  من ناحية، وشولتز وجانجو من ناحية أخرى.

انفصل هذا الجزء فى تقديرى عن جسد الفيلم المتماسك، الذى يبدو بالفعل مثل سبيكة من المعادن المختلطة، ولكن الفكرة وصلت بمنتهى القوة: لن يحصل لك أحد على حقك، الخنوع قد يمنع موت الجسد، ولكنه لا يمنع موت الروح، لا معنى للقانون إن لم يكن يحقق العدالة، فى الحقيقة، لم يتم تحرير العبيد إلا بالقوة، بالحرب الأهلية التى ستطحن أمريكا بعد عامين من أحداث الفيلم.

تندمج فى الفيلم روافد شتى من التأثرات البصرية، يمكنك أن تعتبر "جانجو طليقاً" عموماً تحية شاملة لعالم الويسترن الذى تتلاشى فيه المسافات بين القوة والقانون والعدالة، بين قانون الفرد وقانون المجتمع، وهى فكرة محورية ايضاً فى عالم تارانتينو، وفى أفلامه البعيدة عن الويسترن، كل عناصر موتيفات أفلام الغرب موجودة: العمدة والماريشال والبار والمسدسات والخيول والعبيد والسادة والمال والنساء، ولكن بعد أن اندمجت فى إطار سينما تحرير العبيد، على شريط الصوت لا تتوقف الأغنيات التى تكاد تحوّل الحكاية الى أسطورة، استخدام الزووم فى لقطات متعددة ينقلنا الى استخدامات مشابهة فى أفلام الويسترن الإيطالى، المشاهد الطويلة التى يتم بناؤها على مهل ملمح آخر من ملامح التأثر بأفلام الويسترن الإسباجيتى، من أروع أمثلتها المشهد الإفتتاحى، ومشهد قتل شولتز لعمدة مدينة، سنعرف فيما بعد أنه خارج على القانون،  تارانتينو يعتمد عموماً فى أفلامه على بناء المشاهد الطويلة المتقنة.

مشاهد العنف الأخيرة أقرب فى تأثراتها بمشاهد أفلام العصابات والمافيا، وليس أفلام الويسترن، الحقيقة أن شخصية كاندى، وحياته، وأعماله، وقصره، لا تفترق كثيراً عن أى شخصية رجل عصابات يتاجر فى أى شئ، روح السخرية المعروفة عن تارانتينو منحت الفيلم حيوية فائقة، البيض الذين يتشاكسون لأن الأكياس الى تخفى وجوههم لا تمنحهم فرصة للرؤية، خزينة المال التى يمتلكها  شولتزعلى شكل ضرس عملاق، الرجل الذى يخلع الضروس أصبح يخلع الأشرار.

يقدّم الممثلون عادة أدواراً استثنائية تحت قيادة تارانتينو، الجميع كانوا مميّزين فى "جانجو طليقاً"، ربما لا يلاحظ البعض صعوبة دور جيمى فوكس الذى بدا صامتاً تقريباً فى الربع الأخير من الفيلم، كان يحافظ على تعبيرات معقدة على وجهه دون أن ينطق بكلمة، أدهشنى صامويل جاكسون بدوره الغريب، ذلك الزنجى الذى يكره جنسه ويحتقرهم، الممثل الكبير قدّم الشخصية بلمسات بارعة تجمع بين القسوة والسخرية، ليوناردو ديكابريو كان مناسباً ومميزاً فى دور يجمع بين الرقة والأناقة الظاهرية، والقسوة المتوحشة فى الداخل.

على أن كريستوفر والتز، المشخصاتى الفذ، اكتسح الجميع بأدائه الواثق والهادئ، الشخصية أيضاً شديدة التركيب، رجل له طبيعة عملية، ولكنه أيضاً يمتلك رؤية ووجهة نظر عن القانون والعدالة، شديد الذكاء والسخرية، أوربا القديمة التى تحاول ترويض أمريكا الطائشة، لا يمكن ألا يتطرق اليك هذا المعنى حتى لو لم يقصده تارانتينو، السياق يقول ذلك، والمشخصاتى الفذ يقوله بذكائه وبراعته وبقدرته على العمل لتنظيم الفوضى، الحقيقة إن مقتل هذه الشخصية قبل النهاية، حرم الفيلم من نهاية أكثر عمقاً وذكاء.

فى الأسطورة الألمانية، نجح سيجفريد فى تحرير برومهيلدا رغم النار والتنين، وفى أسطورة ترانتينو، نجح جانجو فى تحرير برومهيلدا رغم العبودية والذل، فى الحالتين لم تتم مواجهة القوة إلا بالقوة المضادة، فى الواقع لا يوجد التنين، وفى الواقع لم يقم عبد أسود بتصفية عشرات البيض مثل عصابات شيكاغو، ولكن سينما تارتنتينو تعيد تركيب الحياة من جديد، وتصنع لها نهايات وشخصيات كالأساطير.

تارانتينو قادر دوماً على تحويل العادى الى خارق، قادر على وضع النبيذ الجديد فى أوان عتيقة، وقادر أيضاً على الربط بين التنين والخيول التى ركبها الزنوج، فلم ينزلوا عنها حتى اليوم.

عين على السينما في

23/01/2013

"جانجو طليقا" واللعب بقواعد السينما التارانتينية

أحمد شوقي 

تقول إحدى النصائح الطريفة التي توجه لدارسي فن كتابة السيناريو "الحوار أداة خادعة قادرة على إفساد عملك، فلا تكتب حوارا مطولا إلا لو كان اسمك هو كوينتن تارانتينو!". أذكر العبارة السابقة ليس إقرارا بصحتها، فمن حق كل كاتب بالطبع أن يستخدم حواره الذي قد يكون أفضل من تارانتينو ذاته، وليس توضيحا للمكانة التي وصل لها المخرج الأمريكي المثير للجدل، فهي معروفة لمعظم محبي السينما. ولكني أذكرها كمدخل للحديث عن آليات التعامل النقدي مع أفلام تارانتينو ومع غيره ممن يمتلكون تلك الصفة النادرة المسماة بالموهبة الاستثنائية، وهي نفس الآليات التي وجدت نفسي تلقائيا استخدمها مع فيلم تارانتينو الجديد "جانجو طليقا" أو "Django Unchained". 

فالقواعد ـ أي قواعد ـ يتم وضعها من أجل أن تستخدم في أداء الفعل في أفضل صوره، وذلك عبر تنبيهات تستخدم في تفادي الأخطاء التي وقع فيها الغير من قبل، وتوضيح الوصفات التي أثبتت نجاحها من قبل حتى يتم توظيفها مجددا. فعندما يحذر مدرسي السيناريو من الإفراط في الحوار فذلك نابع من مئات السيناريوهات التي أفسدها طول الحوار، وعندما يتعامل الناقد مع عمل بقسوة فهذا سببه الإيمان بأنه كان في الإمكان أفضل مما كان.  

أما عند التعامل مع صانع أفلام يمتلك بصمته الخاصة التي تمكنه من خلق تجارب لا تشبه إلا غيرها، عندها يكون محاولة فرض الوصاية ومحاكمة المبدع بحدود أضيق من خياله أمر ظالم بكل المقاييس. "جانجو طليقا" هو أحد هذه الأعمال التي لا تشبه إلا نفسها، أو لنكن أكثر دقة هو أحد الأعمال التي لا تشبه إلا صاحبها. فهو فيلم تارانتيني الهوية لا يمكن أن يقدمه سوى مؤلفه ومخرجه ولا يجب أن يتم التعامل معه إلا بقواعد السينما الترانتينية.  

إعادة خلق وليس تقليد

أبرز سمات سينما كوينتن تارانتينو هي الإخلاص الشديد لنوعيات الأفلام التي يحبها المخرج. فبينما يخجل معظم صناع الأفلام الكبار من تصنيفهم كمخرجي نوعية Genre ويفضلون أن تكون أعمالهم عصية على التصنيف، فإن تارانتينو لا يخجل في كل مرة من تقديم عمل ينتمي شكليا لأحد أنواع الأفلام التي يحبها، ولكنه انتماء يستلهم فقط الشكل العام لهذه النوعية من الأفلام ولا يمكن أن يدرج تحت عنوانها بشكل كامل. ففيلم "Kill Bill" مثلا كان إهداءا لسينما الكاراتيه وصل لارتداء البطلة لنفس الحلة الصفراء التي اشتهر بها نجم أفلام الكاراتيه الأشهر بروس لي، لكنه امتلك بناءه السردي والفكري الخاص المختلف تماما عن كل أفلام النوعية. 

بالمثل يشبه فيلم "جانجو طليقا" شكليا أفلام الويسترن سباجيتي التي ظلت تحقق نجاحات ضخمة حتى بدأت شعبيتها في الانحسار تدريجيا لتصبح من النوعيات المهمشة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ففي فيلم تارانتينو ستجد كل العناصر الخارجية: قبعات ومسدسات متدلية من الأحزمة ومبارزات يربح فيها الأسرع وشريف الشرطة معدوم الحيلة أمام البطل واسع الذكاء والقدرات، وحتى أشكال العناوين وطبيعة الموسيقى المستخدمة. ولكن النظرة الأكثر عمقا للبناء الدرامي الخاص بالفيلم تكشف بسهولة أن الفيلم يتشابه شكليا فقط مع نوعية الويسترن من باب الإهداء، ولكنه لا ينتمي فعليا إلا لسينما صانعه الذي يعيد خلق النوعية المندثرة بطريقته الخاصة. 

خصوصية البناء

والبناء الدرامي لدى تارانتينو يعلى بشدة من قيمة المشهد الواحد في دفع الحكاية. فلا يتردد المخرج المؤلف في بدء فيلمه بمشهد طويل يمتد لقرابة الربع ساعة، يعتمد فيه على توظيف ديناميكية حواره المشبع بالتوتر الداخلي الذي صار ـ كما أوضحت ـ مضربا للمثل، ومعها الميزانسين المعد بعناية والأداء التمثيلي الهائل للممثل النمساوي كريستوفر فالتز، ليخلق بهذه العناصر حالة جذب يصعب أن يفلت المشاهد منها. المشهد يحطم مجددا قاعدة أخرى يتشدق بها المنظّرون حول تناسب الملل طرديا مع طول المشهد باستثناء المشاهد التأملية، فلا المشهد الافتتاحي ولا غيره من مشاهد الفيلم يمكن وصفها بالشعرية أو التأمل، بل هي على العكس مشاهد حركة صرفة، ولكنها صورة أخرى لقدرة الموهبة على تحطيم القواعد. 

المشهد إذا وحدة لا يستهان بها في بناء الفيلم، وهو ما يتأكد إذا ما تم حصر عدد مشاهد الفيلم الممتد لأكثر من 165 دقيقة فستكون في الأغلب أقل من عدد مشاهد أي فيلم حركة آخر يتسول الإثارة لتسعين دقيقة فينجح حينا ويفشل أحيانا. ومع توالي المشاهد تتراكم الشحنات وتتضح الشخصيات لتجد نفسك تلقائيا متورطا في المغامرة المثيرة التي يخوضها العبد جانجو (جيمي فوكس) مع طبيب الأسنان صائد الجوائز (كريستوفر فالتز) من أجل استعادة زوجة جانجو من منزل الثري المهووس بمصارعة العبيد (ليوناردو دي كابريو). 

إدانة دموية وعيب دائم

يتخد الفيلم موقفا عدائيا واضحا من فكرة الرق والتفرقة العنصرية، موقف يصل لدراجة التطرف في اعتباره كل من شارك في هذه الفترة ولو بالسكوت عن الحق مدانا بشكل أو بآخر بما يستوجب العقاب. والعقاب عند تارانتينو ليس عقابا نفسيا أو ضمنيا، ولكنه عقاب مادي صرف يجعلك تشاهد الشخصيات المدانة وهي تتمزق برصاصات الأبطال فتسيل دماءها وتتناثر أشلاءها. لا سيما إذا ما كان المتورط في تحويل حياة العبيد جحيما هو أحد بني جنسهم كشخصية الخادم الأسود التي يجسدها صامويل جاكسون ببراعة، والتي يتلذذ جانجو في مشهد النهاية الدامي بالانتقام فيه من كل من اشتروا سعادتهم مقابل عذاب الآلاف في نير العبودية، وهو موقف لا يختلف كثيرا عما فعله المخرج في فيلمه السابق "Inglorious Bastards" بتغيير دفة التاريخ لينتقم من الزعيم النازي هتلر بطريقته الخاصة. 

تلك الدموية المفرطة يراها البعض عيبا أخلاقيا في أفلام تارانتينو وأراها مجرد سمة أسلوبية نابعة من نوعيات الأفلام التي لم يخجل يوما في الإعلان عن حبه لها وتأثره بها. ولكن إذا ما أردنا الحديث عن العيب الحقيقي المزمن في سينما تارانتينو فهو أن القيمة النهائية للفيلم ككل لا توازي دائما حاصل جمع قيمة كل مشهد على حدة. فالتميز في صياغة وصناعة كل مشهد تحوله لوحدة متكاملة مشبعة بالدراما الداخلية والمشاعر، لكن الفيلم بأكمله لا يمتلك نفس القدرة على إثارة التساؤلات داخلك، ويكتفي بجمع هذه الوحدات في جسم واحد يهدف قبل كل شيء لإمتاع المشاهد، وهو بالطبع هدف نبيل مالم يتاجر صانع الفيلم بأكثر من ذلك، وهو مالا يفعله مخرجنا أبدا. 

تارانتينو إذا واصل في "جانجوطليقا" تقديم السينما الخاصة به والتي تميزه عن أي صانع أفلام في العالم. السينما التي يستغل فيها المخرج المؤلف مواهبه للحد الأقصى ويكرم بها نوعيات الأفلام التي يحبها ويمتع بها جمهوره بأعمال لا تشبه إلا نفسها، ليفرض بذلك قواعده الخاصة على كل من يحاول تحليل أفلامه. 

عين على السينما في

24/01/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)