على مدى الأسابيع القليلة المقبلة، ستقوم "المجلة" بنشر مجموعة من
المقالات حول علاقة الأديب المصري نجيب محفوظ الفريدة بالسينما. والمقالات
هي جزء من كتاب "نجيب محفوظ سينمائياً"، الذي أصدره مهرجان أبوظبي
السينمائي، باللغتين الإنكليزية والعربية، احتفالاً بمئوية محفوظ الأولى
التي احتفت بها الدورة الخامسة للمهرجان من خلال برنامج خاص، ضمّ، إلى
الكتاب، عروض استعادية لثمانية أفلام مقتبسة من أعماله أو مبنية على
سناريوات كتبها خصيصاً للسينما، طاولة مستديرة ومعرض لملصقات الأفلام
المأخوذة عن رواياته.
هنا المقالة الأولى بتوقيع الكاتب والناقد السينمائي اللبناني ابراهيم
العريس.
إذا كان هناك مبدع عربي يمكن لنا، لمناسبة الحديث عنه، أن نستعير له
اللقب الذي كان يطلق على أبي حيان التوحيدي، مع شيء من التبديل (كان
التوحيدي يلقّب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة)، فهو دون أدنى ريب، نجيب
محفوظ الذي يمكن اعتباره، انطلاقاً من هنا، أديب السينمائيين وسينمائي
الأدباء. وليس في هذا التعبير مجاز أو محاولة للترميز، أو خلق قيمة إضافية
لهذا المبدع، من خارج. فالحقيقة انه ندر في تاريخ الأدب، عربياً وعالمياً،
أن كان هناك أديب انخرط في العمل السينمائي بشكل مهني، ولكن بشكل إبداعي
ورؤيوي أيضاً، كما فعل صاحب “الثلاثية”، إلى درجة أنه، وقبل أن تبدأ أعماله
الأدبية بتوفير مقومات العيش المادي له ولعائلته ولا سيما مع بدء ترجمة
رواياته إلى لغات أجنبية ونيله حقوقاً مادية في المقابل، وذلك قبل “نوبل”
بسنوات طويلةـ، كان محفوظ يعيش بفضل عمله السينمائي، كاتباً للسيناريو من
ناحية، وموظفاً كبيراً في قطاع السينما ورقابتها في مصر، من ناحية ثانية.
وذلك طبعاً إضافة إلى شراء منتجي السينما حقوق رواياته وقصصه القصيرة
لتحويلها أفلاماً. وهذا، على أية حال، أمر لم يتوقف محفوظ عن ذكره في كل
مرة تحدث فيها عن حياته أو عن علاقته بالسينما.
إننا نعرف، طبعاً، ان محفوظ لم يكن أول ممارس لنوع إبداعي غير السينما.
تجتذبه هذه. إذ دائماً،ـ ومنذ خلق الفن السينمائي،ـ كان ثمة أدباء أو
رسامون أو مهندسون معماريون أو موسيقيون أو مسرحيون أو حتى شعراء، يُغْرون
بممارسة هذا الفن الذي ولد مع بداية القرن العشرين واستمر طوال عقود وحتى
الآن، يجد مجالات ملهمة ليكون عملاً إبداعياً يتجاوز كونه صناعة وحرفة
ترفيه وما شابه. غير إننا إن تبحرنا في ميدان هذا التاريخ، سوف نجدهم قلة،
أولئك الأدباء الذين على شاكلة محفوظ، جعلوا السينما حرفة حقيقية لهم. ومن
أبرز هؤلاء بالطبع جان كوكتو في فرنسا، وغابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي
الكبير في أدب أميركا اللاتينية، والذي كانت له مساهمات أساسية، أولاً في
السينما المكسيكية وبعد ذلك، ولزمن طويل، في السينما الكوبية، وليس فقط عبر
اشتغال الفن السابع على رواياته ـ وكان هذا أضأل انخراطاته السينمائية
شأناً كما نعرف ـ مهما يكن، علينا هنا ان ننحي اسم جان كوكتو جانباً، طالما
إننا نعرف أن هذا الكاتب والشاعر والمسرحي والرسام الفرنسي، إنما استخدم
السينما كوسيلة تعبير تستكمل اهتماماته الإبداعية الأخرى. أما محفوظ
وماركيز فإنهما، ضمن أمور عديدة يتشابهان فيها، تشابها في الدنو المهني من
السينما، محفوظ في كتابته للسيناريو وترؤسه مؤسسة دعم السينما، ثم الرقابة
على المصنفات الفنية في مصر، وماركيز، خاصة، في مساهمته الأساسية في تأسيس
وإدارة وتطوير الهيئات المعنية بالسينما في كوبا.
وهنا، في هذا السياق، قد يكون مفيداً أن نذكر أن فن السينما نفسه،
كنشاط إبداعي-ـ اقتصادي، ولا سيما في مصر والهند، وخاصة في الولايات
المتحدة، كان من بين ممارساته الأساسية، مع تجلي أبعاد فنية متقدمة في
الإنتاج السينمائي، محاولة اجتذاب كبار الكتاب إلى خصّه بجزء من نشاطهم.
غير أننا نعرف في الوقت نفسه أن هذا الاجتذاب، إذا كان قد نجح في أماكن
(تجربة محفوظ وماركيز بين تجارب أخرى في مناطق متعددة) فإنه أخفق في المكان
الرئيسي الذي خاض المحاولة، هوليوود، حيث حاولت الاستديوات الكبرى، في
الأربعينات خاصة، استخدام أدباء من طينة ويليام فوكنر ورايموند تشاندلر،
وسكوت فيتزجيرالد وداشيال هاميث، وحتى ليليان هيلمان وبريخت، للاشتغال على
قصص سينمائية وسيناريوهات.
بيد أن مذكرات هؤلاء الكتاب والحكايات التي تروى عن صراعاتهم مع
هوليوود وداخلها (تلك الحكايات التي يكاد يعبّر عنها أفضل تعبير فيلم
“بارتون فنك” للأخوين ايثان وجويل كوين)، تقول لنا إن الزواج بين الأدب
والسينما، من طريق وجود هؤلاء الكبار في هوليوود، لم يكن سعيداً. غير إننا
لن نتوقف هنا، أكثر، عند هذه المسألة. فقط أشرنا إليها عبوراً، كي نصل إلى
الحديث عن نجيب محفوظ في علاقته بالسينما. والحقيقة أن هذه العلاقة بدأت
أبكر كثيراً مما قد كان في إمكاننا، أو في إمكان أحد غيرنا، أن يتصور.
علاقة محفوظ بالسينما بدأت وكما قال هو نفسه للراحل رجاء النقاش (كتاب
هذا الأخير “نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته)،
“.. وأنا في سن الخامسة، أي باكراً جداً من عمري، وكان ذلك حين دخلت للمرة
الأولى سينما “الكلوب المصري” في خان جعفر، المقابل لمسجد سيدنا الحسين.
وكانت سينما “الكلوب” من أقدم دور السينما في مصر. والى جوارها لوكندة
وكافيتريا، يحملان الاسم نفسه. ومنذ اللحظة الأولى عشقت السينما وواظبت على
الذهاب إليها مع الشغالة، حيث كانت أمي ترسلها معي فتظل ملازمة لي حتى
انتهاء العرض. ثم تعود بي إلى المنزل. كانت كلمة “النهاية” على آخر الشريط
من أشق اللحظات على نفسي. فقد كنت أتمنى أن أمضي اليوم كله داخل دار العرض.
تمنيت لو أني أسكن في دار عرض سينمائي فلا أخرج منها أبداً. كانت السينما
وقتذاك تعرض الأفلام الصامتة ولا نرى في دار العرض إلا صوراً متحركة بدون
صوت. ومع ذلك كانت متعة مشاهدة فيلم صامت لا تعادلها عندي أي متعة أخرى...”.
من ناحية مبدئية، واضح أن حالة نجيب محفوظ في هذا السياق ليست
استثنائية. فالسينما، بشكل أو بآخر، تبدو حاضرة بقوة في حياة الغالبية
العظمى من أطفال المدن العربية، على الأقل خلال النصف الأول من القرن
العشرين. غير انها، في حالة محفوظ، من الواضح أنها اشتغلت على ذهنه بأكثر
مما نتصور، بحيث ستصبح لاحقاً واحداً من المكونات التي ساهمت في خلق إبداعه
السينمائي. ولعل هذا يبدو واضحاً إن نحن قرأنا الكتاب الذي وضعه الناقد
مصطفى بيومي بعنوان “السينما في عالم نجيب محفوظ”، حيث حاول أن يرصد كل
وجود ملموس للسينما، فناً وأمكنة عرض وفاعلية في حياة الشخصيات، في أدب
محفوظ، رواية بعد رواية وشخصية بعد أخرى. ومن الواضح ان هذا الرصد، ولو
البرّاني الإخباري، الذي لا يزال في حاجة إلى تحليل أوسع ورصد أعمق لتأثير
السينما، وليس فقط لحضورها في أدب محفوظ، سيفيدنا كثيراً، إذ نربطه بذكريات
محفوظ المبكرة حول علاقته بالسينما، كي ندرك كم كان المخرج صلاح أبو سيف
على صواب حين كان يقول- بوصفه “المكتشف الأول” لإمكانات محفوظ السينمائية
بضرورة خوضه مهنة السينما، ولو ككاتب سيناريو- إنه قبل أن يعرف محفوظ
شخصياً أواسط عقد الأربعينيات من القرن العشرين، وبعد أن قرأ له عملاً أو
عملين، وربما بناء على نصح من الأديب فؤاد نويرة، شقيق الموسيقي عبد الحليم
نويرةـ، أدرك انه يكتب “بصرياً” وأن في أسلوبه أبعاداً سينمائية مؤكدة.
والمدهش أن محفوظ، إذ قدّمه نويرة إلى أبو سيف وعرف أن هذا الأخير يطلب منه
المساهمة في كتابة سيناريو “عنتر وعبلة”، أبدى دهشته للأمر تماماً وقال
لأبو سيف إنه لا يعرف أبداً كتابة السيناريو، وإنه ليس على الإطلاق قادراً
على ذلك. ومحفوظ يكمل بنفسه الحكاية هنا في حديثه المذكور مع رجاء النقاش
قائلاً: “حين أخبرني صديقي فؤاد نويرة (...) بأن المخرج صلاح أبو سيف يرغب
في مقابلتي كي أعمل معه في كتابة سيناريوات الأفلام، رفضت متعللاً بعدم
معرفتي بهذا المجال، حيث أنني أفهم في الكتابة الأدبية، أما السينما فهي
أمر صعب بالنسبة إليّ. إلا أن فؤاد نويرة أقنعني بأن أبو سيف سيعلمني ما
يفيدني في مجال كتابة السيناريو، وهمس فؤاد في أذني بأنني سأتقاضى مبلغاً
محترماً نظير كتابة السيناريو...”. وهكذا التقى محفوظ أبو سيف الذي راح
“على مدار عدة جلسات متواصلة، يعلمني أوسع التفاصيل وأدقها في كتابة
السيناريو (...) وكانت النتيجة مبهرة من وجهة نظره. ثم أعطاني أبو سيف
مجموعة كتب عن فن السيناريو فقرأتها بنهم شديد، كما قمت بشراء مجموعة كتب
أخرى ودرستها بعناية حتى أتقنت هذا الفن”.
والحقيقة اننا لو لم نكن أمام مسألة تقنية إلى حد بعيد- كتابة
السيناريو- لكان من حقنا أن نرى في هذه الحكاية، التي سمعناها من محفوظ
مراراً، كما سمعناها بتفاصيلها المتطابقة تقريباً، من أبو سيف نفسه، بعداً
سقراطياً، يرتبط باستنباط سقراط - في واحدة من محاورات أفلاطون السقراطية-
للمعرفة من أعماق فتى عبد لم يكن يخيل إلى أحد، ولا إليه هو نفسه انه يملك
تلك المعرفة فجاء من يحثه على إخراجها من داخله. بيد أن المسألة هنا تقنية،
وينطلق في صددها سؤال هام يتعلق بكون نجيب محفوظ، حسب روايته ورواية أبو
سيف المتطابقتين، قد كتب السيناريو الأول في حياته قبل أن يحثه أبو سيف على
قراءة الكتب التعليمية في هذا المجال. أما الجواب على هذا السؤال فلا ريب
انه ماثل في عدد كبير من روايات محفوظ وقصصه القصيرة التي صدرت، حتى قبل
احتكاكه المباشر هذا بفن السينما، ليس كمتفرج فقط، بل كشغّيل أيضاً. وعبارة
أبو سيف حاسمة هنا: فهو حتى من قبل أن يتعرف إلى محفوظ و”يعلّمه” فن كتابة
السيناريو، أدرك البعد السينمائي بل البصري في أدب صاحب “بداية ونهاية”.
ويقودنا هذا الأمر، بالطبع، إلى متابعة تاريخ نجيب محفوظ مع الفن
السابع، خلال العقود التي تلي بدء تعاونه مع صلاح أبو سيف على كتابة
السيناريو الأول. ولكن هنا، انطلاقاً من سؤال أساسي جديد، يشكل فحوى وموضوع
هذه الصفحات: نجيب محفوظ الذي له كل هذا التاريخ وكل هذا الباع مع السينما،
ولاسيما في الحالة القصوى هنا التي تتجسد في اشتغاله الحرفي ككاتب
للسيناريو، لماذا لم يقم، أبداً، بكتابة أي سيناريو لأي من أعماله سواء
أكانت هذه الأعمال قصصاً أو روايات، أو مسرحاً مكتوباً، أو مشاهد من تاريخ
مصر؟
للوهلة الأولى يبدو هذا السؤال لغزاً حقيقياً، في مسار مبدع ستقتبس
السينما المصرية، وغير المصرية، وكذلك التلفزة من بعدها، الغالبية العظمى
من أعماله، بل كذلك مبدع كتب عدداً كبيراً من السيناريوات المأخوذة إما من
كتّاب آخرين (إحسان عبد القدوس خاصة، والى حد ما أمين غراب)، أو من ترجمات
واقتباسات من الأدب العالمي ( كما هي الحال مع “لك يوم يا ظالم” المقتبس عن
إميل زولا)، كما شارك في كتابة سيناريوات جماعية (“جميلة الجزائرية”
و”الناصر صلاح الدين” ليوسف شاهين..) أو من أحداث يومية شغلت الصحافة فكتبت
عنها تحقيقات اقتبسها، خاصة، صلاح أبو سيف ومحفوظ للسينما كما في “ريا
وسكينة” و”الفتوّة”، أو غير أبو سيف (عاطف سالم، نيازي مصطفى)...
إننا نعرف دائماً أن جزءاً أساسياً من وجود السينما الأكثر جدية، في
مصر، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، يرتبط بمساهمات نجيب محفوظ.
فاقتباسات رواياته لعبت دوراً في بعد اجتماعي وسم السينما المصرية، وكتابته
سيناريوات لقصص وروايات الآخرين، ساهمت إلى حد كبير في رفد أعمال أدبية،
بقيمة إضافية، أو على الأقل باستنباط قيم كانت قبل تدخّله خفية مخبأة خلف
أقنعة الأحداث والتعامل المسطح مع الشخصيات. ومن المؤكد في هذا السياق
بالذات، أن محفوظ، ككاتب سيناريو، أعاد مثلاً إلى روايات إحسان عبد القدوس
قيمة اجتماعية تربط الشخصيات ببيئتها بأكثر مما كان أدب عبد القدوس نفسه
يفعل. فعبد القدوس الذي كتب أعماله الكبيرة مثل “الوسادة الخالية” و”أنا
حرة” وقد أضحى أسير نجاحه الجماهيري العريض، من الواضح أن هذا النجاح كان
يجبره على أن يركز في النص الروائي على سيكولوجية الشخصيات وعلى مزيج من
البعد الميلودرامي والنفحة التحررية - خاصة في قضايا الجنس والمرأة -
متأثراً بأدب أوروبي (البرتو مورافيا بشكل مباشر، ولكن فرانسواز ساغان بشكل
أكثر مباشرة يصل إلى حدود الاقتباس كما في “لا أنام” ). أما محفوظ فإنه حين
اشتغل على سيناريوات النصوص القدوسية، أعاد التوازن بين ما هو “وجودي”
و”تحرري”، وما هو اجتماعي، بحيث في الوقت نفسه الذي ظلت فيه ملامح أدب عبد
القدوس الأساسية ماثلة، صار فيه الفيلم أكثر دنواً من فن الالتزام
الاجتماعي، تماماً كما لو أن محفوظ تعامل مع شخصيات عبد القدوس، وكأنها
الإمتداد الطبيعي المتطور لشخصيات رواياته هو نفسه، في ارتفاعها الطبقي
الذي أدى، فيما أدى إليه، إلى تحول الأزمات الخارجية لشخصيات أدبه (الأزمات
التي ترتبط بالصراعات الاجتماعية بله الطبقية) إلى صراعات جوانية (وكأننا
هنا في العالم الخاص الذي تنتمي إليه شخصية “كمال” في الثلاثية التي تكاد
تبدو هنا شخصية “قدّوسية” بامتياز، تضاهيها في ذلك شخصية على رؤبة لاظ في
“السراب” )... وفي هذا السياق نفسه نكاد نقول إن محفوظ، إذ ساهم في سيناريو
“شباب امرأة” عن فكرة لأمين يوسف غراب (عاد هذا وحوّلها لاحقاً إلى رواية
منشورة)، جعل شخصية البطل (شكري سرحان) شخصية أقرب إلى أن تكون شخصية
قدّوسية، إنما في انزياح طبقي من مستوى شخصيات الطبقة الوسطى إلى الطبقة
الدنيا...).
نحن، إذا كنا هنا قد استطردنا في تحرّ أوّليّ، لعلاقة نجيب محفوظ
ككاتب للسيناريو، بنصوص الآخرين، فإنما كي نعود إلى سؤالنا الأساسي:
إذاً... لِمَ لَمْ يكتب محفوظ سيناريوات لرواياته وقصصه بنفسه؟
هناك أولاً الجواب السهل: إن كل ترجمة من لغة إلى لغة تعتبر خيانة.
وثمة للتعبير عن هذا مثل إيطالي شهير يتألف من كلمتين هما “الترجمة خيانة”،
فكيف بالترجمة من نوع إبداعي إلى نوع آخر؟ وهناك جواب أسهل: يصعب كثيراً
على أي مبدع أن يعود إلى عمل قديم له. لو فعل سوف يحدث تبديلات أساسية
وجذرية في عمله تستغرق وقتاً وجهداً لا تعوّض عليهما المكافآت المالية. لكن
هناك، في المقابل، الجواب الأكثر تركيبية وتعقيدية بكثير: إن محفوظ الذي
تأثر بالسينما في الجزء الأعظم من إنتاجه الأدبي، والذي أثّر في السينما
المصرية وربما غيرها من السينمات، كان يرى أن زمن الفيلم السينمائي لا
يمكنه أبداً أن يستوعب “كلّ” ما كان يريد أن يقوله في أي عمل من أعماله.
والحال أننا هنا، في هذه السطور، نرجّح هذا الجواب الأخير، دون أن يسهو
بالنا عن صوابية الجوابين الأولين. ونستطرد هنا لنقول إن نجيب محفوظ كان
يقول دائماً - وهو كان، كعادته، يعني حقاً ما يقول- إنه منذ اللحظة التي
ينتهي فيها من كتابة عمل من أعماله، يعتبر أن “علاقته” به قد انتهت وأن
العمل صار ملكاً للذين يقرأونه، بمن فيهم النقاد والمؤرخون، ثم خاصة في
حالتنا هنا، السينمائيون إن رغبوا في اقتباس العمل للسينما أو للمسرح أو،
بشكل أحدث، للتلفزة.
ومن هنا نادراً ما كان نجيب محفوظ يتوقف شارحاً أو محللاً أي عمل من
أعماله بعد صدوره، هو الذي كان يقول دائماً- وأيضاً هنا، كعادته، يعني ما
يقول - إن العمل يجب أن يصل إلى متلقّيه بذاته ودون أي تدخل من صاحبه، لأن
كل تدخل سيعتبر مصادرة على العمل وتوجيهاً له بعيداً من العلاقة الطبيعية
المباشرة التي يجب أن تقوم بين العمل والمتلقّي. والحال أن هذا الاستطراد
من شأنه أن يلغي هنا ما قد يحاوله قارئ هذا الكلام من التساؤل: إذا كانت
تركيبية النص المحفوظي (وهو أمر سنتوسع فيه بعد سطور) قد حالت بين محفوظ
وكتابته سيناريوات رواياته الكبيرة الغارقة في تلك التركيبية، فماذا عن
القصص القصيرة، والروايات الأقل تركيبية، التي كان يمكن لمحفوظ أن
“يترجمها” سينمائياً بشكل خطّي؟ واضح أن الجواب على هذا السؤال متضمن في
الفقرة السابقة، حيث أشرنا إلى إصرار محفوظ على أن النص المنجز لا يعود
ملكه. وفي استطراد سريع هنا قد يكون في وسعنا أن نضيف - على لسان محفوظ دون
أن يكون قد قال هذا بوضوح - إن مبدع العمل هو أقل الناس قدرة على أن يتحول
إلى متلق “حيادي” للعمل ما يؤهله على إعادة الاشتغال عليه، ولو بمجرد لعبة
القراءة.
بيد أن هذه التأكيدات التي تظل في حاجة إلى استطرادات وتفسيرات لا
يتسع لها هذا المجال، إنما هي في عرفنا، مع تأكيدنا عليها، اقتراحات لا بد
من الانطلاق منها لدراسة العلاقة بين محفوظ وأعماله، بعد ولادة هذه
الأعمال. ومن هنا نجدنا نختار في هذا السياق التوقف، الذي نراه وقد بات
ضرورياً عند هذا المستوى من الكلام، عند واحدة من هذه التأكيدات، وهو
المتعلق بأن محفوظ كان يرى، إلى حد ما، أن زمن الفيلم السينمائي يبدو
قاصراً عن استيعاب “كل” ما كان يريد قوله في أي عمل من أعماله.
ونعود هنا، في سبيل الوصول إلى المستوى التالي من الحديث، إلى استطراد
مقارنة كنا بدأناها أول هذا الكلام، بين علاقة غابريال غارسيا ماركيز
وعلاقة نجيب محفوظ بالسينما، إنما في سياق حان وقته هنا ويتعلق بقاسم مشترك
إضافي بين الاثنين وهو أنه لئن كانت السينما اقتبست بعض أعمال ماركيز ومعظم
أعمال محفوظ، فإن الأعمال الأساسية لهذا كما لذاك، ظلت عصيّة على الفن
السابع. لم يتمكن أحد حتى اليوم، على كثرة المشاريع والتطلعات، من تحويل
“مائة عام من العزلة” أو “خريف البطريرك” إلى فيلم سينمائي، كما أن السينما
ظلت، حتى الآن، بعيدة عن ثلاثة من أعمال محفوظ الاساسية “الثلاثية”
و”الحرافيش” و”أولاد حارتنا”. نقول هذا طبعاً، ونحن نعرف أن حسن الإمام
حاول جهده في ثلاثة أفلام هي “قصر الشوق” و”بين القصرين” و”السكرية” (أجزاء
الثلاثية) كما ان ثمة نصف دزينة، على الأقل من أفلام اقتبست عن فصول
“الحرافيش” بينها تحفة سينمائية هي “الجوع” لعلي بدرخان، إضافة إلى
الاستنكاف عن فيلمه “أولاد حارتنا” الذي كان مسألة رقابية -ـ دينية، لا
مسألة تقنية. فلم هذا التناقض؟
ببساطة، لأننا نعرف تماماً أن النجاح الذي يحالف السينمائيين حين
يقتبسون أعمالاً أدبية، ثانوية الأهمية وحدثية الخلفية، في مسار أصحابها،
لا يمكن أن يكون هذا النجاح من نصيبهم حين يتصدون لأعمال كبيرة تركيبية
المنحى تغوص بين بعد هندسي في عرض الأحداث والشخصيات، وبين عمق التحليل في
دراسة وتقديم الشخصيات ورسم العلاقات في ما بينها. من هنا ما نلاحظه، حتى
يومنا هذا، أن الفن السابع لم يدنُ من “يوليسيس” جيمس جويس (وإن دنا من
قصته “الموتى”) ولا من “البحث عن الزمن الضائع” لبروست -ـ كانت هناك
محاولات دائمة أخفقت- ولا من “سفر إلى آخر الليل” لسيلين، ولا من “الرجل
البلا سمات” لروبرت موتسيل. أما المخرج الألماني الراحل فاسبندر فإنه حين
أراد أن يؤفلم رواية “برلين الكسندر بلاتز” لألفريد دوبلن، فضّل السرد
التلفزيوني التبسيطي في حلقات، على التكثيف السينمائي الذي أدرك أنه لا
يمكن ان يستجيب لعمق الرواية. وليس ما ذكرنا، سوى نماذج من إخفاقات
سينمائية كبيرة في مجال التعاطي مع الأدب الكبير. ولعل في إمكاننا ان
نستكمل هذا بالإشارة إلى أن ما من فنان سينمائي كبير إلا وفي مساره مشاريع
لم تتحقق عناوينها- “دون كيشوت” أو “الكوميديا الإلهية” أو “قلب الظلمات”
لكونراد أو سوى ذلك. هنا قد يقول قائل: ... مع هذا ثمة أفلام ناجحة أخذت من
دوستويفسكي وتولستوي وحتى كافكا (المحاكمة” لأورسون ويلز، أو “أميركا” لجان
ماري شتروب)، بل إن معظم الأدب العالمي أفلم دائماً. وهذا صحيح. وصحيح كذلك
أن ثمة أفلاماً اقتبست من معظم روايات محفوظ، قبل ان تدخل التلفزة على الخط
لتعيد الاقتباس أو تقتبس المتبقي. ولكن يبقى السؤال: ماذا بقي من الأعمال
الكبيرة حين أفلمت؟ وما الذي يشاهده الجمهور العريض من محفوظ على الشاشات؟
الشخصيات شوهدت بالتأكيد، والعلاقات حضرت، وخصوصاً حضرت الأحداث.
ولكن، في الحقيقة، بعد أن جرد كل هذا من تلك الروح الداخلية التي ما كان
يمكن لشيء غير اللغة أن يعبر عنها ويدخل القارئ في ثناياها. والحقيقة أن
نجيب محفوظ كان دائماً اكثر من أي شخص آخر وعياً لهذه الحقيقة. فهو إذا كان
أدرك باكراً أن “كل ترجمة هي في نهاية الأمر خيانة في شكل أو آخر”، كان في
إمكانه أن يطبق بالأحرى هذه القاعدة، على الترجمة من فن إلى آخر. ومن هنا،
لئن سمح لنفسه بين حين وآخر أن يخون نصوص زملاء روائيين بتحويلها بنفسه إلى
سيناريوات سينمائية، فإنه ما كان في وسعه أبداً أن يخون نفسه بنفسه. ومن
هنا كان دائماً ـرفضه القاطع لأن يكتب أي سيناريو في اقتباس عن عمل أدبي
له. ودائماً كانت الإغراءات كبيرة جداً، لكنه رفضها. كان من السهل على
محفوظ ان يشتغل في اقتباس على “الوسادة الخالية” أو “أنا حرة” أو “النظارة
السوداء” (روايات لإحسان عبد القدوس) بناء على طلب صديقه صلاح أبو سيف أو
حسام الدين مصطفى... وكان يدرك طبعاً ان مثل هذه الأعمال تعكس صورة ما
للمجتمع وتقدم شخصيات من لحم ودم، لكنه كان يعرف أيضاً أن من المستحيل
اعتبارها منتمية إلى الأدب الكبير، الأدب الذي يغوص عميقاً في بعده
الإنساني والذي تلعب فيه اللغة التحليلية، لا السردية، دوراً أساسياً في
إقامة العلاقة بين الحدث وشخصياته وبين القارئ. الأحداث والعلاقات في الأدب
البسيط، هي المهمة، إضافة إلى وصف الأجواء الاجتماعية والخروج في نهاية
الأمر بموقف وعظي فيه من “النهايات السعيدة” ما فيه.
من هنا حين كان محفوظ يوافق على أن يشتري أحد حقوق رواية له
لاقتباسها، كان يعرف مسبقاً، أن في إمكانه أن يعتبر الاشتغال على هذه أمراً
لا يعنيه فهو كتب وأنجز عمله وأوصله إلى القارئ، بعد ذلك حر من يشاء إعادة
قراءة العمل على مزاجه كما يريد. محفوظ يملك الرواية. أما المقتبس فإنه
يملك قراءته لها، حتى ولو أتت قراءة مختلفة جذرياً. وهذا أمر حدثنا محفوظ
عنه في جلسة ظريفة جمعتنا به مع الصديقين الكاتبين جمال الغيطاني ويوسف
القعيد: “ذات يوم جاءني مخرج صديق يعرض عليّ رؤيته الإخراجية لرواية لي كان
اشترى حقوقها، ورفضت كعادتي الاشتغال على سيناريو لها. في الرواية كان
المفروض أن تنتهي الأحداث بالقبض على الشخصية الشريرة، بطل الرواية، لكن
رؤية المخرج اتجهت صوب نهاية سعيدة، وقال لي: في النهاية سنجعله يتوب
ويتزوج حبيبته ونجعل ختامها مسكاً. هنا بعد أن استمعت إليه صرخت بهدوء: مسك
إيه؟ ده مسكوه مش مسك”.
تبدو هذه الحكاية، هنا أشبه بنكتة من تلك التي اعتاد محفوظ أن يرويها
بظرف، لكنها تحمل كل دلالاتها. خصوصاً إذا عرفنا أن كاتبنا الكبير ترك
للمخرج حرية رسم النهاية كما يشاء. يومها إذ روى هذا، ولاحظ استغراباً على
وجوهنا، قال: “حسناً.. إنها رؤيته وتفسيره. أما تفسيري فسيظل باقياً بين
دفتي الكتاب”.
إذاً، من المؤكد أن من يريد أن يعيش عوالم نجيب محفوظ حقاً، سيكون من
الأفضل له أن يعود إلى كتبه، لا إلى الأفلام التي اقتبست منها. ومع هذا،
هناك دائماً أفلام كبيرة أخذت عن أعمال محفوظية لا تصل في أهميتها
الإبداعية الأدبية إلى شوامخه. ومن أبرزها طبعاً “القاهرة 30” (عن “فضيحة
في القاهرة” الاسم الأصلي لـ “القاهرة الجديدة” ) و”بداية ونهاية” لصلاح
أبو سيف، و”الاختيار” ليوسف شاهين و”قلب الليل” ثم خصوصاً “الكرنك” و”أهل
القمة” لعلي بدرخان، علماً أن فيلم “أهل القمة” المأخوذ عن قصة قصيرة
لمحفوظ، يظل واحداً من أقوى وأجمل الأفلام التي افتتحت ما سمّي آخر
السبعينيات - بداية الثمانينيات من القرن العشرين، بالواقعية الجديدة في
السينما المصرية. والحقيقة هي ان معظم بدايات شيء ما في السينما المصرية ثم
في التلفزة، تحمل إما اسم نجيب محفوظ أو بصماته، بدءاً من “مغامرات عنتر
وعبلة” حتى مسلسل “حضرة المحترم”. من تسييس التاريخ، إلى الواقعية
الاجتماعية، إلى سينما الجريمة والتشويق، من “لك يوم يا ظالم” إلى “الطريق”
و”اللص والكلاب”، إلى السينما السياسية العنيفة في انتقادها كما في
“ميرامار” و”ثرثرة فوق النيل” بين أعمال أخرى، إلى سينما سيكولوجية التحليل
الجنسي في “السراب” لأنور الشناوي، مروراً طبعاً بسينما التأريخ الاجتماعي
للشخصية المدينية في مصر كما في “الثلاثية” حتى كما حققها حسن الإمام،
و”زقاق المدق” و”خان الخليلي”.. بل يمكننا أن نقول هنا إن الفضل يعود إلى
محفوظ، حتى، في مجال ولوج السينما المصرية عالم السينما المتحدثة عن
السينما وحياتها الخفية ( “المذنبون” عن قصة قصيرة له، وخصوصاً “الحب تحت
المطر” ). والحقيقة ان هذا كله يضعنا أمام واقع أساسي هو واقع ارتباط بعض
افضل أعمال أهم مخرجي مصر ليس بأدب محفوظ وحده، بل بإطلالته الواعية على فن
السينما. ذلك أن الافلام التي ذكرنا، والتي لم نذكر، حملت دائماً تواقيع
شاهين وأبو سيف وسعيد مرزوق وحسين كمال وعاطف الطيب (خصوصاً في التحفة
المقتبسة من “الحب فوق هضبة الهرم” ) وعلي بدرخان، وعشرات غيرهم سواء
أكانوا من مبدعي السينما الذين تعاملوا مع محفوظ مباشرة، أو من الذين دخلوا
أجواء أعماله في شكل غير واع.
والحال أن هذا كله يدفعنا إلى السؤال عن السبب الحقيقي الذي جعل
واحداً من أقرب أصدقاء نجيب محفوظ اليه، وهو الفنان توفيق صالح والذي كان
من شلة الحرافيش أسوة بأحمد مظهر، يستنكف عن الاشتغال على نص كبير، أو صغير
من نصوص نجيب محفوظ محوّلاً إياه إلى فيلم. ذلك انه كان دائماً يُسأل-
وكاتب هذه السطور طرح عليه، مرة، هذا السؤال وكنا معاً في سيارة توفيق
صالح، ومعنا الأستاذ محفوظ يستمع إلينا من دون تعليق- لماذا لم يكن هو من
يشتغل على تحويل “الثلاثية” إلى ثلاثة أفلام؟ فيضحك توفيق صالح يومها
ويجيب: “أفعل عندما يقبل الأستاذ أن يكتب السيناريو بنفسه!” وكان واضحاً أن
جواب توفيق صالح تهرّب لا أكثر، لأنه- وأكثر من أي شخص آخر - كان يعرف أن
الأستاذ لن يفعل! ومع هذا، نعرف أن واحداً من أكثر أفلام توفيق صالح شعبية-
وأقلها جودة في الوقت نفسه - كان “درب المهابيل” هو عن قصة وسيناريو لنجيب
محفوظ. فلم كان هذا الانتماء السينمائي لمحفوظ عن طريق عمل كوميدي خفيف
يمكن نسيانه بسهولة، بينما نعرف ان توفيق صالح اقتبس معظم أفلامه من أعمال
أدبية، لا سيما “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم؟ مهما يكن الأمر،
يمكن أن نقول دائماً إن توفيق صالح الذي كان شديد الاقتراب من عالم نجيب
محفوظ، كان يرى في أعماقه نفس ما كان يراه هذا الأخير: عجز السينما الكلي
عن اختراق عمق هذا العمل... لا اكثر ولا أقل!
إذاً، يمكننا أن نختم هذا الجزء من الكلام هنا بالعودة إلى تأكيد أن
الإنصاف يقتضي أن نقول إن أهل السينما بذلوا دائماً جهودا كبيرة لنقل أدب
نجيب محفوظ إلى الشاشة، لكن الواقع يدفعنا إلى القول إن هذا الأدب لا يزال
عصياً على ذلك. وربما في انتظار أن تُخلق لغة سينمائية جديدة تكون أكثر
قدرة على التوغل داخل أدب هو، على الورق بين دفات الكتب، واحد من أعظم
الآداب العربية في القرن العشرين، وفي مكانة متقدمة في الأدب الاجتماعي، في
العالم كله.
وهذا ما ينقلنا هنا إلى البعد الأساسي، الذي لا بد من الوصول اليه،
نرى ضرورة التوقف عنده، حتى وإن كانت ملامحه تشكل المتن الأساس للصفحات
السابقة، وإنما موزعاً نتفاً نتفاً، وهو ينطلق من الخصوصية – اللاسينمائية-
التي نفترضها للمتن الأدبي المحفوظي الكبير. ولعل خير ما نبدأ به هذا
الكلام هنا هو ما قلناه لمناسبة ظهور طبعة جديدة وكاملة عن “دار الشروق” في
القاهرة، قبل سنوات، تضم الأعمال الأدبية الكاملة لنجيب محفوظ. يومها دعونا
الباحثين في أدب عميد الرواية الأدبية هذا إلى إعادة قراءة هذا الأدب، على
ضوء اكتماله- وبشكل حاسم بوفاة مبدعه الذي ما عاد في إمكانه مذّاك أن يضيف
إليه جديداً. ولقد كان واضحاً من خلال إعادة قراءة المتن الأدبي المحفوظي
ككل، إنه أدب يتكامل مع بعضه البعض بحيث يبدو للمتعمق فيه، على ضوء معرفته
بتاريخ مصر، خلال السنوات الفاصلة بين اكتساب نجيب محفوظ وعيه وهو طفل
(حوالي ثورة 1919)، وبين بداية سنوات الانفتاح، أن هذا الأدب قد “أرخ”
لمصر، وأحداثها الكبرى، والانزياحات الطبقية والاجتماعية فيها، ولكن من
خلال شخصيات تبدو منتزعة من الحياة نفسها (فصّل محفوظ جذور حضورها في
رواياته، في أعمال عديدة له مثل “المرايا” و”حكايات حارتنا” و”حديث الصباح
والمساء” ). لكن “التاريخ” بالنسبة إلى محفوظ ليس سلسلة متلاحقة من الأحداث
الخطّية، والانتقالات الجغرافية أو التاريخية، بل هو مجموعة من الدلالات
التي تكون آياتها الربط بين الخاص والعام، أي بين التاريخ العام للبلد،
وتاريخ الأفراد، وأكثر من هذا، تاريخ وعي الأفراد ذاتهم وبيئتهم.
صحيح هنا أن لكل نصّ من النصوص المحفوظية حياته الخاصة و”أبطاله”
الخاصّين، غير أن القراءة الترابطية، في معنى من المعاني، ستبدو لنا إن
تبحرنا في الأمر، قراءة لا مناص منها، حتى وإن لم تكن أبداً قراءة
كرونولوجية، رغم أن مثل هذه القراءة، قد تكون جزءاً من بدء صياغة المشروع
المحفوظي. إذ حتى شخصيات الروايات في فردية معظمها المطلقة، منظوراً اليها
ضمن إطار التتابع التاريخي لما يكوّن وجودها، هي شخصيات تتأثر بالعناصر
الخارجية (البيئة وحركة الزمن)، وقد تفعل فيها أحياناً، وتشكل ذرة في
النسيج الفاعل بعيداً من غائية تاريخية يرفضها الفيلسوف الذي كانه، أيضاً،
نجيب محفوظ. والحقيقة أن جزءاً أساسياً من القيمة الكبرى لأدب نجيب محفوظ
يوجد هنا بالتحديد: في ذلك الربط الخلاق بين العام (البيئة وحركة التاريخ
وانفعال الجمع بالأحداث) والخاص (حياة الأفراد وعلاقاتهم...). وهذا الإدراك
للاغائية حياة الفرد وحركية المجتمع- على رغم إيمان مبطن بقدر ما وبحتمية
تاريخية معينة- هو الذي يعطي أدب محفوظ وحدته في تنوعه، على غرار ما فعل
الفرنسيان أونوريه دي بلزاك في “الكوميديا الإنسانية” واميل زولا في سلسلة
رواياته “آل روغون ـ ماكار”. وفي هذا السياق قد يكون ممكناً القول إن قصص
محفوظ القصيرة، تبدو في معظمها وكأنها تنويع ما على النصوص الكبيرة، أو
كأنها هوامش لهذه النصوص، أو سرد لأفضل بعض شخصياتها، إذ ضاق عليها متن
الروايات الكبرى.
انطلاقاً من هنا لا يعود لدينا فقط تفسير لعدم قدرة السينما المصرية
على تحويل هذا المتن أفلاماً، لها نفس القيمة الفنية التي للروايات، بل
كذلك جزءاً إضافياً لتفسير سبب رفض محفوظ كتابة السيناريوات لأعماله. بيد
ان هذا ليس،في الحقيقة سوى جانب من الموضوع. إذ هناك أيضاً، في كل رواية من
الروايات المحفوظية، ذلك التمفصل المزدوج، من ناحية بين التاريخي والدرامي،
ومن ناحية أخرى، بين الجوّاني والبرّاني (ما تعيشه الشخصية وما تفكر فيه،
أي الكيفية التي بها ينعكس المعيوش على التكوّن النفسي)... وهذا التضافر،
إذا اضفنا إليه الهندسة” الزمانية/ التاريخية الرابطة بين روايات المتن
كله، ستجعلنا أمام جواب ممكن على السؤال “اللغز” الذي انطلقنا منه في هذا
النص.
ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من الإشارة إلى أن محفوظ نادراً ما عبّر
عن رأيه في الأفلام التي أنجزت انطلاقاً من أعماله. بل إنه كان يقول، بمكره
المعهود، إن هذه الأعمال قدمت “كما هي”، باستثناء، مثلا، “تغيير في شخصية
الرجعي طلبة رضوان في فيلم “ميرامار” لكمال الشيخ، حيث ان الشخصية التي كان
يجب أن تكون شريرة، انقلبت مثيرة للتعاطف إذ مثلها يوسف وهبي، الفنان
الكبير المعروف (...) وفي “ما عدا ميرامار، يقول محفوظ، التزم المخرجون
بروح النص الأصلي لأعمالي”، وهو يرى ان الفضل في ذلك يعود إلى أن رواياته
كانت في أيدي “كبار مخرجينا من أمثال صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وحسين كمال
وعاطف سالم وحسام الدين مصطفى وعلي بدرخان وحسن الإمام..”. ولكن هذا
التوكيد لا يمنع محفوظ من أن يضيف: “ورغم ان حسن الإمام التزم إلى “حد ما”
بروح النصوص التي قدمها لي في السينما وهي “الثلاثية” و”زقاق الدق”، إلا
أنه أخضعها لمدرسته التي تميل إلى الإثارة الحسية والميلودراما. حتى بدا
السيد أحمد عبد الجواد، بطل “الثلاثية” وكأنه شخص لا همّ له سوى العوالم
والمتعة الجسدية. وربما كان لنشأة حسن الإمام في جو العوالم بمدينة
المنصورة حيث ولد، ثم عمله في مطلع حياته بالقاهرة، في “صالات” عماد الدين،
اثر كبير في الأسلوب الذي سار عليه عندما عمل في الإخراج السينمائي. دخل
حسن الإمام السينما وهو ممتلئ بالحس “البلدي”، وهو شيء آخر غير الحسّ
الشعبي. فالثاني متأثر بالثقافة والتراث، أما الأول فهو حسّ مصري صميم غير
مخلوط”. ويخيل إلينا أن محفوظ قال في هذه الكلمات البسيطة، أشياء كثيرة
وهامة، تماماً كما كانت حاله، إزاء الفيلمين المكسيكيين اللذين اقتبسا من
روايتين له، وهما ما ننتقل إليهما في حديثنا هذا.
إننا نعرف ان السينما في مختلف البلدان العربية على رغم أنها بدت
دائماً مفتقرة إلى نصوص أدبية جيدة تبني عليها موضوعاتها، لم يدن أي
سينمائي عربي غير مصري من نص لمحفوظ يقتبسه. وربما كان ذلك لأن السينمائيين
العرب اعتقدوا بأن أدب محفوظ، في قاهريته المطلقة، أدب محلي يعبر عن مكانه
وزمانه المحددين بحيث يصعب نقله إلى أماكن أخرى، حتى وإن كان الواقع يقول
أموراً مختلفة: يقول خصوصاً أن الحس المديني، وتصوير صعود الطبقة الوسطى
وهبوطها، وارتباط المجتمع في واقعيته بالمسائل الأخلاقية والسياسية،
والتأزم الجنسي، والموقف من شؤون الأرض والسماء، والبحث عن تقدم في
المجتمعات لا يتنافى مع أصالتها وعمق إيمانها، وهذه كلها من السمات الرئيسة
في أدب محفوظ عموماً، إضافة إلى تعبيره العقلاني عن قضايا السلطة والدين
وقضية المرأة، أمور تجعل أدبه أدباً شاملاً كونياً، وهو ما “اكتشفه” محكمو
جائزة “نوبل” ذات يوم.
وعلى خطى أهل “نوبل”، اكتشف هذا كله سينمائي، لكنه آت من بعد ألوف
الكيلومترات من العالم العربي، هو المكسيكي أرتورو ريبستين، الذي أعجبته
كثيراً رواية “بداية ونهاية” فحوّلها إلى فيلم سينمائي بعدما نقل أحداثها
إلى المكسيك بالتعاون مع زوجته السيناريست باث اليثيا غاريثيَا دييغو.
ريبستين أبقى الرواية على عنوانها نفسه، ليصبح الفيلم منذ عروضه الأولى-
وتحقيقه نجاحات لا بأس بها في المهرجانات العالمية- واحداً من أشهر أفلام
ريبستين، الذي اشتهر دائماً بأفلامه الميلودرامية التي تغوص عميقاً في
نفسية الشخصيات وتتحدث خصوصاً عن ذلك الارتباط الوثيق بين الحياة الخارجية
والحياة الداخلية للبشر. لقد أبقى ريبستين حين حقق فيلمه هذا، على الأحداث
نفسها وعلى الشخصيات نفسها. ولسوف يقول إنه لكثرة ما رأى المكسيك من خلال
نص محفوظ لم يجد أي صعوبة في تحويل النص إلى سيناريو. نذكر هنا أن المخرج
الذي قابل محفوظ في القاهرة بعد ذلك، أرسل إليه شريط فيديو للفيلم- وشاهده
محفوظ بلهفة لم تكن معتادة لديه- وشاءت المصادفة أن نلتقيه في كازينو “قصر
النيل”، حيث كانت لقاءاتنا معه، كلما زرنا القاهرة في ذلك الحين. ويومها،
فور اللقاء راح يحدثنا عن الفيلم باستفاضة. صحيح انه بدأ حديثه شاجباً ما
وضعه المخرج في الفيلم من “مشاهد إباحية”، بحسب تعبير محفوظ، “ما كانت
لتخطر لي في بال”، لكنه استطرد بعد ذلك إذ سألناه عن رأيه في الفيلم،
قائلاً إن في كل لحظة من لحظات الفيلم، شعر بذلك “التضافر”- استعمل هذه
الكلمة تحديداً- بين المكسيك والقاهرة، وشعر وكأنه هو نفسه كتب الرواية عن
المكسيك. وما ألمح اليه محفوظ يومها، من دون أن يقوله صراحة، هو أنه،
للأسف، وجد أن هذا الفنان المكسيكي، أي ريبستين، قد فهم أدبه، سينمائياً،
أفضل مما فعل أي سينمائي عربي. تهذيب محفوظ الفائق منعه من قول هذا، ولكنه
إذ راح يتحدث عن الفيلم مطولاً ويتوقف عند لقطات ومشاهد فيه، كان واضحاً
مقارنة بما كان محفوظ يفعله خلال حديثه عن أفلامه الأخرى في مناسبات سابقة،
إذ يفضل دائماً عدم الخوض فيها.
لم نعرف بعد ذلك رأي محفوظ في الفيلم الثاني الذي اقتبسته السينما
المكسيكية عن رواية “زقاق المدق” هذه المرة (محملة إياه العنوان الذي حملته
الترجمات الفرنسية والإسبانية وهو “حارة المعجزات”)، لكننا علمنا،
بالتواتر، ان سروره كان أقل، وفقط لأن مقدار الإباحية في الفيلم الثاني كان
أكبر! ومع هذا يمكننا ان نفترض ان الفيلم أشاع الرضى والسرور لدى محفوظ لأن
“حارة المعجزات” لم يبد أقل مكسيكية من “بداية ونهاية”، بل إن الحس
الاجتماعي هنا كان أكبر، مع تراجع في البعد السيكولوجي لمصلحة البعد
الاجتماعي، علماً أن “حارة المعجزات” لم يقدم تلك الصورة البانورامية التي
تسم “زقاق المدق” كرواية، بل اختار بعض اللوحات والنماذج المعبّرة. كما أن
الفيلم لم يصور طبقة معدمة، كما حال الرواية، بل فئات قد تكون هامشية، لكن
أوضاعها الاقتصادية ليست العامل الحاسم في بناء مصيرها.
“حارة المعجزات” لم يكن، مثل “بداية ونهاية” من إخراج ارتورو ريبستين،
بل من انتاجه فقط، أما الإخراج فعهد به، هذه المرة، إلى خورخي فونس، مع
فارق أساسي، هو أن شركة ريبستين اتصلت هذه المرة مسبقاً بكاتبنا المصري
الكبير متفقة معه على إنتاج الفيلم وتحويل أحداثه إلى أحداث مكسيكية. ولقد
قيل يومها إن ريبستين كمنتج، سأل محفوظ عما إذا كان يود المشاركة في كتابة
السيناريو، لكن هذا الأخير رفض، قائلاً ما اعتاد دائماً أن يقوله في كل مرة
يُطلب إليه أن يكتب بنفسه سيناريو لعمل له، أي ما يفيد أنه يرى دائماً أن
كل علاقة له بأي عمل من أعماله، تنتهي ما إن يخط السطر الأخير فيه، منتقلاً
إلى عمل تال.
وهنا وإذ حان وقت اختتام هذا المقال الذي نعتقد أننا فتحنا فيه
أبواباً عريضة أمام أسئلة كثيرة يثيرها دائما اقتباس أعمال نجيب محفوظ في
أفلام سينمائية، نجد أنه لا بأس من اختتام كلامنا هنا بتوقف مستفيض عند
فيلم يمثل التعاون الواضح الكبير بين مبدعين كبيرين من مبدعي مصر والعالم
العربي: نجيب محفوظ ويوسف شاهين. وهذا الفيلم هو “الإختيار”، الذي كتبه
الأول وأخرجه الثاني كنوع من الردّ على هزيمة الجيوش والسلطات العربية أمام
الهجوم العسكري الإسرائيلي عام 1967. ونحن إذا كنا تركنا الحديث عن
“الإختيار” للنهاية، فما هذا إلا لأنه يقف نسيج وحده في إسهام محفوظ
السينمائي، متميّزاً بكونه أساساً غير مقتبس عن أي نصّ روائيّ أو قصصي
لمحفوظ، ناهيك بأنه يعتبر دائماً فريداً ومميّزاً في السينما الشاهينية،
كما يعتبر اسهاماً محفوظياً سينمائياً خالصاً.
حتى اليوم لا يبدو واضحاً تماماً ما الذي يعنيه أن يكون فيلم
“الاختيار” حاملاً، في خانة كتابة السيناريو، اسمين هما من أبرز الأسماء في
عالم الإبداع العربي المصري: نجيب محفوظ ويوسف شاهين. ويزداد الغموض حين
نتذكر، حين نشاهد الفيلم، أنه، وكما أشرنا في الفقرة السابقة، ليس مبنياً
على قصة أو رواية لمحفوظ، بل هو - كما يبدو واضحاً - سيناريو أصيل كتب
ليصوّر فيلماً، وتشارك في كتابته محفوظ وشاهين خلال الحقبة التالية لهزيمة
حزيران 1967، حين كان المثقفون يبحثون في ثنايا الواقع، أو في ثنايا
افكارهم على الأقل، عن “مشجب” ما، يعلقون عليه أسباب الهزيمة. ونحن، إذا
صدقنا “الخطاب” الذي يحمله “الاختيار”، سنجد أن المثقف المصري وانفصاميته،
هما السبب الأساس - وربما الخفي- لتلك الهزيمة. في فيلمه السابق “الأرض”،
كان شاهين قد دنا من هذه الفكرة ولكن جزئياً، كما رأينا. فهو كان وضع
تقابلاً بين شخصية محمد أبو سويلم (الفلاح المناضل والمتمرد الذي ينهزم في
النهاية أمام الإقطاع والسلطة الممثلة بعسكرها) وبين شخصية الشيخ حسونة،
المناضل السابق والمثقف الذي كان رفيق سلاح لأبو سويلم في ثورة 1919، لكن
تردده وعجزه عن أي فعل وانخراطه الراهن في السلطة، تضعه خارج لعبة بناء
المستقبل التي على الفلاح أبو سويلم أن يخوضها من دون هذا “النصف الآخر”.
كل هذا جاء واضحاً في “الأرض”.
ومع هذا كان المأخذ على الشيخ حسونة تردده، أي “عدم الفعل”، وبالتالي
الخيبة مما كان متوقعاً منه أن يفعله ولم يفعل. في “الأرض” لم تكن إدانة
المثقف جديدة على شاهين، لكنها كانت لا تزال عند مستوى العتب. كنا كمن
يطالع ترددات كمال في ثلاثية نجيب محفوظ، التي منعته من أن يعيش حياته
ويفعل في حياة الآخرين. في معنى ما، كأننا كنا في زمن يسبق الغوص أكثر
وأكثر على إدانة للمثقفين ستكون أكثر جذرية واتهامية بكثير، في “الطريق” أو
في “السمان والخريف” أو في “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ. وهنا قد يكون مفيدا
التذكير بأن سيناريو “الاختيار” قطع مسافة واسعة ليصل إلى الإدانة المطلقة
للمثقف في سياق البحث عن أسباب الهزيمة. مسافة ما كان يمكن الافتراض بأن
سينما شاهين كانت مؤهلة لها. فقط أدب محفوظ كان مهيأً. ومن هنا قد يحق لنا
الافتراض بأن هذا الفيلم يدين فكرياً لمحفوظ، أكثر مما يدين لشاهين. وليس
في هذا ظلم لشاهين طالما انه تبنى الإدانة تماماً، ثم غلفها ببعد سينمائي
لا بد من الإقرار بأنه فتح أمامه، بعد كلاسيكية “الأرض"، طريق حداثة، راحت
تسم أفلامه حتى النهاية.
“الاختيار” هو في هذا المنظور فاتحة النصف التالي من إبداع يوسف شاهين
السينمائي، على مستوى الشكل على الأقل. لكن الشكل هنا أتى حتمياً، مرتبطاً
بجوهر الفيلم وموضوعه غير مقحم عليه من خارجه. في كلمات أخرى، ما كان
تجريبياً في بعض لحظات “الأرض” الأكثر كلاسيكية، وما كان “أوروبياً” في
“فجر يوم جديد”، صار هنا، في “الاختيار”، جوهر الفيلم وموضوعه. وكيف لا
يكون كذلك في فيلم جعل من الانفصام موضوعاً له، ومن أزمة هذا المثقف
جوهراً، ومن العلاقة بين المثقف والسلطة، والمثقف ونفسه، سؤاله الكبير؟
سينمائياً، تبع شاهين موضوعه بشكل كامل، مجازفاً بألا ينتهي به الأمر إلى
تحقيق فيلم ناجح جماهيرياً، اللهم إلا إذا تم التركيز في الكلام الخارجي
عنه على أنه “فيلم ضد المثقفين” وجرى حتى الحدود القصوى استغلال غضب يوسف
السباعي (الكاتب الرومانسي المعروف ووزير الثقافة في أواخر العهد الناصري
وأوائل العهد الساداتي) على الفيلم لاعتباره إياه يطاوله بشكل أو بآخر.
طبعاً، لم يكن لا في نية نجيب محفوظ ولا في نية يوسف شاهين، عمل فيلم
يندد بيوسف السباعي، حتى وان كان ثمة إشارات مرمية في أوله، تضع السباعي في
البال. لكن كينونة انفصامية المثقف/ الكاتب في الفيلم، أتت من الصدق، بل
لنقُل من التجاوب مع ما هو معهود من صورة المثقفين العرب، إلى درجة أن
مثقفين كثراً (ولِمَ لا يكون يوسف السباعي واحداً منهم؟) كان يمكنهم أن
يروا ذاتهم معكوسة على شاشة هذا الفيلم.
المثقف هو، هنا، “بطل” الحكاية، من دون أن يكون للحكاية بطل بالمعنى
المعهود للكلمة. لنقُل إذاً انه البطل المضاد. انه كاتب ناجح، له علاقات
مثمرة وقوية بأركان الدولة. أعماله، بصرف النظر عن قيمتها الفنية أو
الفكرية الحقيقية، تقدّم على أرفع مسارح الدولة. اسمه سيد، وهو يسافر كما
يحلو له في مهمات حكومية. زوجته حسناء، تنتمي إلى نوع يبدو لنا بائداً من
الارستقراطية، لكنها عرفت، ظاهرياً على الأقل، كيف تتكيّف مع المجتمع الذي
تعيش فيه: مجتمع النخبة السياسية والفكرية الذي يصول فيه زوجها ويجول على
سجيته. ونحن، في أول الفيلم، أمام سيد وقد جاء يستأذن وزير الثقافة في
السفر لحضور مؤتمر أدبي في أوروبا، نكتشف أيضاً أن سيد يستعد لقفزة جديدة
في حياته، إذ ها هو على وشك أن يعيّن ملحقاً ثقافياً في بلد أوروبي. كل شيء
اذاً ناجح ومريح في حياته: السلطة، المكانة، المال، الزوجة والغد المشرق.
ولكن وسط هذا كله، ها هي الشرطة تعثر على المدعو محمود قتيلاً. ومحمود ليس
في حقيقة أمره سوى الشقيق التوأم لسيد، شبيهه كلياً، في الشكل على الأقل.
أما في نمط الحياة فإنه يبدو لنا نقيضاً خالصاً له: انه بحار ومشاكس اختار
لنفسه ان يعيش كما يهوى من دون أن يتطلع إلى مكسب، ومن دون أن يقدم أية
تنازلات.
حتى الآن يبدو كل شيء منطقياً. وها هما ضابطان في الشرطة يحققان في
جريمة قتل محمود. ونحن من خلال هذا التحقيق، سوف نشاهد، خلال النصف الثاني
من الفيلم، الوجه الآخر للميدالية، الوجه الآخر لحياة سيد، وليس فقط لأنه
توأم محمود، ما يعني أن هذا “التكامل” بينهما منطقي، بل لأن الأمور أعمق من
ذلك بكثير، ظاهرياً ثم باطنياً. ظاهرياً، لأن نمط حياة محمود، إذ نبدأ
باكتشافه من حول لعبة الرحلة المكوكية بين الحاضر والماضي، مروية لنا بلسان
الراوي، يكشف في الوقت نفسه كل العفن الذي يأكل حياة سيد. ثم لأننا سنكتشف
أيضاً أن زوجة سيد، جواباً على الفراغ العاطفي الذي تعيشه وسماجة حياتها
الاجتماعية التي يرميها فيها زوجها، انتهى بها الأمر ذات يوم إلى الارتماء
في أحضان محمود. كل هذا يشكل بالطبع سياق الجانب الحدثي البوليسي في الفيلم
الذي يتخذ هنا شكل الفيلم البوليسي.
غير أن ثمة في الأمر باطناً لا علاقة لهذا الجانب الذي نتحدث عنه به،
في سطح الأمور على الأقل. وهذا الباطن يكاد يعكس كون محمود وسيد هما في
نهاية الأمر شخص واحد. الانفصام يكمن هنا، وليس في داخل شخصية سيد، بمعزل
عن محمود. ولكأن نجيب محفوظ، وليس يوسف شاهين، طوّر في هذه الفكرة، ما كان
تقاعس عن تصويره في روايته “الشحاذ”، حيث لدينا التوأمة، ولكن بين البطل
ورفيقه المناضل السابق، الذي يغدر به البطل تاركاً إياه في السجن فيما يخرج
هو ليعيش حياة مرفهة، يظل يغوص فيها حتى اليوم الذي تندلع فيه أزمته
الخاصة، من خلال علاقته بابنته، التي يكشف له جمالها، سقوطه وسقوط زوجته،
وتكشف له طهارتها، أزمة حياته كلها، فيزوجها من صديقه الذي كان أبقاه في
السجن، ربما كناية عن رغبة مزدوجة لديه ليس هنا مجال التعمق فيها: من ناحية
في أن يعود إلى طهارته الثورية والأخلاقية السابقة، ومن جهة ثانية في ان
يعوض بها، وهي شبيهة أمها حين كانت في عمرها، عما انحدر إليه وضع هذه الأم
ـ هذه الازدواجية بين البطل ورفيقه السابق، مجسّدة، كحل، في “تقاسم” ابنة
البطل، هي نفسها في نهاية الأمر، الازدواجية بين محمود وسيد، مجسدة في
“تقاسمهما” زوجة سيد. لكن ما كان فعلاً طوعياً “تطهيرياً” في “الشحاذ” يصبح
هنا صراعاً أخلاقياً بين التوأمين، يدفع واحد منهما حياته ثمناً له.
واضح أن ازدواجية سيد/ محمود في “الاختيار”، بقدر ما عمقت رؤية نجيب
محفوظ لازدواجية المثقف في علاقته بالمجتمع وبذاته، كما تجلت في أعمال
كثيرة له سابقة، أتت لدى شاهين كنوع من الإجابة على أسئلة كانت قد بدأت
تشغل ذهنه من حول المثقف ودوره، منذ زمن بعيد، ولكن بعفوية الفنان. وهو
بالتالي وضعها كتقابلات لم يكن بعد في استطاعته تجاوز دلالتها الأخلاقية:
بين قناوي (بائع الصحف... أي ناشر الثقافة بشكل او بآخر) ورجل النقابات، أي
المكتسب وعياً في “باب الحديد”، طالب العلم الناوي السفر إلى ألمانيا وسيدة
المجتمع التي تكتسب بدورها وعياً ثورياً من “فجر يوم جديد”، ثم خاصة بين
محمد أبو سويلم و”المثقف” الشيخ حسونة في “الأرض”. في كل هذه التقابلات،
كانت الإدانة أخلاقية إلى حد كبير. ولكن في “الاختيار” تبدل الأمر تماماً،
صرنا أمام ازدواجية سيكولوجية (جوانيّة) تفسّر في نهاية الأمر سياسياً،
وتفسّر في طريقها ما يسميه الفيلسوف الفرنسي جوليان بندا “خيانة المثقفين”.
وآية ذلك في “الاختيار” إننا، منذ النصف الثاني للفيلم، لا نعود مهتمين
كثيراً بالتحقيق البوليسي، بقدر ما نهتم بما يعتمل داخل الشخصية التي نراها
أمامنا، والتي يحدث لنا حقاً، بين الحين والآخر حين نجابهها، أن نصل إلى حد
العجز عن معرفة ما إذا كان هذا الذي نراه على الشاشة هو سيد أو محمود.
وليس هذا فقط، لأن سيد يتقمص شخصية محمود، بل لأنهما، في جوهر هذا
العمل، شخص واحد. إذ هنا، بعد أن صارت الهزيمة حقيقة واقعة (بُني الفيلم
كله على وجودها، على عكس ما حدث، مثلاً، في “الأرض” حيث أن النص سابق على
حصول الهزيمة، بل حيث أن الأحداث المروية نفسها هي أحداث تدور في ثلاثينات
القرن العشرين، استخدمها شاهين، وليس عبد الرحمن الشرقاوي، في إسقاط واع
على الحاضر، كان لا يزال، على أية حال، يتساءل عما إذا لم يكن المثقف قد
ساهم سلبياً، في تردده على الأقل، في حصول الهزيمة)، صارت إمكانية إدانة
المثقف واضحة، وخصوصاً أن المثقف صار منذ زمن بعيد جزءاً من السلطة التي
قادت إلى الهزيمة. وحسبنا هنا ان نراجع تاريخ مصر، على الأقل في سنوات
الخمسين والستين، كي ندرك أن المثقف صار جزءاً أساسياً من السلطة. وليس فقط
لكونه مستشاراً كان قادة الثورة يصغون إليه (محمد حسنين هيكل، مثلاً)، وليس
فقط لكونه فناناً أو مبدعاً وروائياً وما إلى ذلك ولد مع الثورة وراح يبرر
لها كل ما تفعل، بل لكونه صار وزيراً وقائداً. ولم لا نقول ان معظم الضباط
الأحرار الذين قاموا بثورة 1952، كانوا يفخرون بكونهم قراء وكتاباً ولهم
مؤلفات، بل إن كبيرهم، الراحل عبد الناصر، كان لا يفتأ يستخدم أمهات الأدب
مراجع له في خطبه وأحاديثه، ونشر ذات زمن رواية “ثمن الحرية" التي يقال انه
كتبها بوحي من “عودة الروح” لتوفيق الحكيم. حسناً.. إن هذا كله قد يبدو
مقحماً بعض الشيء هنا، ولكننا سقناه لوضع “الاختيار” في إطاره، وتوضيح تلك
الرغبة الحاسمة التي استشعرها يوسف شاهين، تحت رعاية نجيب محفوظ، بتعرية
المثقف، من الداخل ومن الخارج. وهو أمر سوف يواصل القيام به، منذ ذلك
الحين، بأشكال متنوعة تبدو أحياناً أكثر وضوحاً، غير أن هذا الوعي كان لا
بد له أن يتأخر بعض الشيء. إذ في ذلك الحين (سنوات ما بعد هزيمة 1967) كانت
المسألة لا تزال مسألة تخبط في تحديد المسؤوليات، كي لا نقول ما هو أكثر من
هذا. ومهما يكن من أمر، سيقول شاهين لاحقاً، إنه إذا كان في “الأرض” قد نظر
إلى الصراع الطبقي على انه مسؤول عن الهزيمة لأن الغلبة فيه كانت للطبقات
الإقطاعية المسيطرة، التي يسكت عنها المثقفون و”رجال الدين” أيضاً، فإنه في
“الاختيار” أدان انتهازية المثقفين وانفصاميتهم. ونحن في الحقيقة لن نحتاج
هنا إلى تفكير عميق قبل أن ندرك أن نجيب محفوظ مسؤول اكثر من يوسف شاهين عن
استثارة هذا الوعي النقدي الجذري العميق في فيلم يمكن بكل بساطة اعتباره من
أفضل الاستكمالات السينمائية لأدبه، ما يحيلنا من جديد إلى ما نسمّيه عادة
أيادي نجيب محفوظ البيضاء على السينما المصرية.
ملاحظة:
(هذا المقطع الأخير عن فيلم “الأختيار” مقتبس بتصرف عن كتابنا “يوسف
شاهين: نظرة الطفل وقبضة المتمرد” الصادر عام 2009 عن دار الشروق في
القاهرة).
أبوظبي السينمائي في
05/03/2012 |