لايمكن أن نفهم السينما الأمريكية دون أن نكتشف القيم والأفكار التى
صنعت المجتمع الأمريكى ، وخصوصاً فكرة "الأسرة" باعتبارها جزءاً من الحلم
المثالى الأكبر، حلم التحقق معنوياً ومادياً على حد سواء.
ولا يمكن أن نفهم الكثير من الأفلام إلا فى إطار اتجاهين كبيرين:
اتجاه ينتقد فكرة الأسرة النموذجية الأمريكية، ويراها ضرباً من الوهم ضمن
انتقاده لفكرة الحلم الأمريكى عموماً، واتجاه آخر يعترف بالعيوب ولكن لكى
يعود من جديد لإصلاحها من خلال نهاية سعيدة للأسرة بعد تضميد الجراح.
من نماذج الإتجاه الأول بعض الأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية لكتّاب
كبار مثل آرثر ميللر(كما فى كلهم أولادى مثلاً)، وسكوت فيتزجيرالد (جاتسبى
العظيم)،ويمكن أن نضع فى نفس الخانة فيلماً مثل "الطريق الثورى" المأخوذ
أيضاً عن رواية شهيرة، وكذلك أفلام أخرى قامت بتعرية الأسرة والحلم معاً
بصورة قاسية (أقواها وأفضلها على الإطلاق فيلم الجمال الأمريكى).
فى تلك الأفلام، يصبح انهيار الأسرة، وكشف عوراتها، وتصبح النهاية
الكارثية، معادلاً لوهم الحلم الأمريكى بجناحيه المادى والروحى، بل إن
الثراء المادى الفاحش، والملابس الفاخرة، والصعود والتفوق ينتهى بالسقوط،
ويكاد يجعلنا أمام "تراجيديات ساخرة " إذا جاز التعبير.
أما أفلام الإتجاه الثانى فهى كثيرة جداً معظمها فى عصر الأبيض
والأسود، بل إنها تتسلل عبر أفلام كثيرة تبدو وكأنها صنعت فقط للتسلية فيما
هى فى الواقع تنويعة على نفس اللحن، هناك مثلا فيلم "وحدى فى المنزل" الذى
يكرّس (إذا تغاضينا عن طوفان المقالب والمقالب المضادة) فكرة استحالة
الإنفصال عن الأسرة حتى من باب الشقاوة واللعب، بل إن هذا الإنفصال يعادل
الوحدة والخوف والضياع.
وجدتنى مضطراً الى هذه المقدمة الطويلة لكى أحدثكم عن الفيلم الأمريكى
"The Descendants"
أو "الأحفاد" الذى أخرجه واشترك فى كتابة السيناريو له أليكس باين عن رواية
للمؤلفة كاوى هارت هيمنجز.
لن تتضح القيمة الحقيقية لهذا الفيلم إلا فى ضوء الأفكار التى شغلت
دوماً السينما الأمريكية والمجتمع الأمريكى معاً، ولا يمكن أن ننفذ الى
عُمق فيلم "الأحفاد" إلا بوضعه فى إطار تلك الأفلام التى تقوم بتشريح الحلم
الأمريكى مادياً ومعنوياً انطلاقاً من تشريح الأسرة نفسها على النحو سابق
الذكر.
الأحفاد فى الحقيقة يأخذ من الإتجاهين معاً: يقوم بتعرية أسرة أمريكية
مفككة ومعذّبة رغم أنها ثرية وتعيش فى الجنة الأرضية (هاواى)، ولكنه يعود
فى النهاية الى الإيمان بأن الأسرة قادرة على استعاب الخلل، ورأب الصدع من
جديد.
يستخدم الأحفاد نفس آليات أفلام الهجاء العنيف لوهم الأسرة ذات المظهر
البرّاق والمخبر الفاضح، ولكنه لا يقطع الشوط الى آخرة إذ يرى أن الفرصة لم
تضع، ويعتبر أن اكتشاف الثغرات أول خطوة لسدّها.
وفى حين يتفق الأحفاد وأفلام نقد الحلم الأمريكى فى الإشارة الى هشاشة
العلاقات الأسرية التى تجعل فكرة النجاح المادى بلا معنى على الإطلاق، فإنه
يميل الى رفض هدم الحلم الأمريكى بل يجعله محتاجاً الى عكّازين: أسرة
متماسكة وثروة ممكنة، وإذا تصادم الإثنان فإن الأسرة وحدها هى الثروة وليس
أى شئ آخر.
حدث بسيط
المدهش حقاً أن فيلمنا الهام يذكّرنا فى بنائه بالأفلام سالفة الذكر
التى تبدأ من حدث بسيط جداً يتطور الى سلسلة اكتشافات متتالية مع اللعب
طوال الوقت على الصورة اللامعة فى مقابل الأحزان المستترة، المظهر الأنيق
فى مقابل فوضى المشاعر، الجنة الخارجية فى مقابل الجحيم الداخلى.
بطلنا مات كينج (جورج كلونى) عنده كل مفردات النجاح:محام وثرى ووريث
لأسرة عريقة فى هاواى، لديه منزل فاخروابنتان جميلتان، تزوّج عن حب من
امرأة جميلة، يعيش فى احدى جزر الجنة الأرضية، ولكن قبل أن تستمتع بالشاطئ
الذى تستعرضه الكاميرا تجد نفسك محشوراً مع مات فى حجرة العناية المركزة.
نسمع صوته وهو ينفى لنا أنه سعيد، ذلك أن زوجته إليزابيث ترقد منذ
أيام فى المستشفى فى غيبوبة كاملة إثر حادث زورق أصرّت على قيادته بنفسها.
اضطر مات الى أن يتابع حالتها يوماً بعد يوم، انطلاقاً من هذه الحادثة
تتساقط كل الأقنعة التى تختبئ وراءها أسرة فاحشة الثراء، ويبدأ مات كذلك فى
اكتشاف أسرته نفسها ، وكأنه لم يكن يعرفهم، الزوجة والإبنة الصغرى سكوتى
والإبنة المراهقة ألكسندرا.
هذا هو من جديد الجمال الأمريكى وقد تهاوى ولكن بصورة أكثر نعومة وأقل
حدّة من الفيلم المعروف، يعترف مات أولا أنه لم يكن على وفاق مع إليزابيث،
كانت تتهمه بالبخل، رفض أن يشترى لها زورقاً، هما فى الواقع من عالمين
مختلفين، هى مثل أبيها مغامرة وقوية الشخصية، وهو محافظ وهادئ وتقليدى، هى
تعشق الحياة، وهو لا يعشق إلا العمل لدرجة أنه لم يركن الى ثروته، ولم
يعتبرها مبرراً للبطالة.
يكتشف مات ثانياً أن ابنته الصغرى سكوتى شديدة الشراسة مع زميلاتها،
حياتها اضطربت بعد غيبوبة الأم، هى تبدو كمشروع امرأة ذكية وقوية الشخصية
وعدوانية أيضاً.
ويكتشف ثالثا أن الإبنة المراهقة ألكسندرا التى تدرس فى مدرسة داخلية
بإحدى جزر هاواى أكثر جموحاً، مدمنة للكحول، تتعامل بالسباب والشتائم، تكره
الأم، وتكشف لأبيها عن سرّ هذه الكراهية إذ عرفت بالصدفة أن للأم عشيقاً.
جزر منعزلة
فى إحدى الجمل الحوارية يقول مات إن أفراد أسرته مثل الجزر المنعزلة
رغم أنها جزء من أرخبيل واحد، يتحقق هذا المعنى تماماً سواء فى حديث مات مع
زوجة فى غيبوبة، أو فى الإبنة المراهقة المنفصلة عن الأسرة، أو فى الإبنة
الأصغر التى يقابلها ولكنه لا يعرفها، أو حتى فى أولاد عمومة مات الذين
يلتقون بالصدفة فى المدن والمطارات، ولا يجتمعون إلا لبحث قرار بيع 25 ألف
فدان ورثها الأحفاد عن الأجداد فى هاواى.
كلما انطلق مات فى رحلته لاكتشاف أسرته وعالمه الصغير، بدا كما لو أن
فكرة الحلم نفسها أقرب الى الوهم، ولكن ما يميّز الأحفاد أنه (وقد وخز
بشدّة إحدى الأفكار الأمريكية المتواترة)، انطلق بسلاسة ونعومة الى عالم
المشاعر الإنسانية الرحيب، وغاص بببراعة فى تناقضات الطبيعة البشرية
المعقدة.
يسير مات فى ثلاثة إتجاهات متداخلة: الإستعداد للحظة نزع الأجهزة
الطبية من زوجته بعد اليأس من شفائها، والبحث عن العشيق الذى لم يكن يعرفه،
واتخاذ قرار باعتباره وصياً بشأن بيع عشرات الأفدنة ليستفيد هو وأولاد العم
بملايين الدولارات.
منحت هذه الإتجاهات فيلمنا ثراءً إنسانياً مدهشاً لأنها قدمت أطيافاً
من المشاعر والأحاسيس، فمن الحزن لفقدان الزوجة ، الى الغضب بعد اكتشاف
الخيانة، الى التعاطف الشديد مع جثة مازالت على قيد الحياة، ومن الفضول
لاكتشاف العشيق واسمه ومسكنه بمساعدة الإبنة ألكسندرا الى الرغبة فى
الإنتقام منه، ثم الرغبة فى أن يودّع عشيقته فى لحظاتها الأخيرة، بل
والتعاطف مع زوجة العشيق وأم أولاده.
معنى النجاح
مفاهيم كثيرة تتعرض هنا للإختبار: معنى النجاح، مفهوم صلة الدم، علاقة
الأجيال ببعضها، هل الثورة من أجل الأسرة أم أن الثروة هى الأسرة نفسها،
معنى الصداقة والحب والزواج والأبوة، الرائع فعلاّ أن هذه المعانى تصل
إلينا بهدوء وسلاسة ومن خلال مواقف يمتزج فيها الضحك بالبكاء، وتسير دوماً
بين قوسين: الموت الرابض فى حجرة الزوجة، والحياة النابضة فى مشاهد باذخة
الجمال ( سياحية تقريباً) لشواطئ هاواى.
لن تسطيع أن تنسى بسهولة لحظة اكتشاف الزوج لخيانة زوجته، ولا مشهد
حديثه الغاضب إليها وهى فى الغيبوبة، ولا قُبلته الأخيرة لها مودعاً
وشاعراً بالإمتنان، ولا مواجهته الهادئة لعشيق زوجته، أو مواجهة مات لابنته
المراهقة ولأصدقائه باحثاً عن سر لم يعرفه عن زوجته، ولن تنسى لحظات اللقاء
مع والدى إليزابيث وامها التى تعانى من الشيخوخة ووالدها الصارم الذى ينهار
عندما يزور ابنته.
تفصيلات كثيرة يدعمها حوار ذكى لم نشعر ابداً بأنه طويل لبراعة المخرج
فى بناء المشاهد بصرياً، وسلاسة تقطيع الجمل ، وضبط المشاعر، بالإضافة الى
التوازن المحسوب بين مشاهد داخلية عاصفة وكئيبة ، وأخرى خارجية مريحة وأقرب
ما تكون الى "كروت البوستال"، التناقض هنا فى صميم معنى الفكرة والفيلم
وليس لإراحة المشاهد فقط.
المعنى ببساطة أنه حتى فى الجنة الأرضية يوجد معذّبون بمشاعرهم مثل
البشر فى كل مكان، حتى فى بلاد الحلم يضيع الحلم، حتى فى ظل الثراء المادى
تعانى الأرواح، ولكن فيلمنا ، الذى يلوم الأحفاد الذين صنعوا بيوتاً ولم
يصنعوا حباً، والذين كسبوا قضايا الآخرين وخسروا معركتهم الخاصة، لايقضى
على الحلم تماماً .
غيبوبة الأم ستُعيد التئام شمل أسرتها من جديد، سيتعلم مات أن الثروة
المادية ليست كل شئ، سيتراجع عن قرار بيع الأرض، وهى الشئ الوحيد الذى يجعل
أبناء العمومة يجتمعون معا.
جاءت سلالة عائلة كينج من زواج امرأة من هاواى ورجل أبيض بعد حكاية
حب، من هذه الأسرة الصغيرة تحقّق الثراء المادى، يقول الفيلم هنا أن الثراء
الحقيقى هو الأسرة وعلاقة الحب بين أفرادها، تلك هى نقطة الإنطلاق الى
الحلم الأمريكى بكل تجلياته المادية.
اكتشف مات اسرته واستعادها، وبينما يبدأ الفيلم بالأم المغامرة وهى
تمرح فى زورقها، ينتهى بالاب وهو يستدفئ مع بنتيه ببطانية واحدة بيما
يستمعون الى أخبار المناطق الجليدية الباردة. الأسرة هى المشكلة والحل
معاً، يتضح ذلك أيضاً وبشكل غير مباشر من خلال شخصية سيد صديق الإبنة
ألكسندرا، الذى يرافق مات وأسرته فى كل مكان يذهبون إليه وكأنه يبحث عن
أسرة عوضاً عن عائلته المنكوبة بعد مصرع الأب.
اشتغل ألكسندر باين بالأساس على ممثليه فقدموا مباراة فى التشخيص،
جورج كلونى الذى لم يفلت منه مشهد واحد رغم أطياف المشاعر وتقلباتها من
الحب الى الكراهية الى الغيرة الى الخوف الى الحب الى التعاطف الى الدهشة،
بل إن كلونى اختار لبطل الفيلم مشية متعثرة ومترددة تعبيراً عن شخصية
محافظة، لفتت الأنظار أيضا الموهوبة شايلين وودلى فى دور الإبنة المراهقة
ألكسندرا، وباتريشيا هاستى فى دور الزوجة إليزابيث، لم تنطق حرفاً واحداً،
والتى استغرقت كل دورها (باستثناء لقطة واحدة ) تمثّل الغيبوبة فوق سرير
العناية المركزة.
يقول فيلم "الأحفاد" إن الأجداد صنعوا الأسرة، والأسرة صنعت المال
وزرعت الأرض، والمال صنع أمريكا، يذكّر الفيلم مشاهده الأمريكى بألاّ ينسى
مشاعره وإنسانيته، وألا ينسى أن شيطان التفاصيل يمكن أن يجعله يتعذب فى قلب
الجنة، ثم يفتح الفيلم أمامه باب التصحيح والمصالحة، ذلك أن الحب والمال
معاً هما اللذان يصنعان الحلم.
عين على السينما في
22/02/2012
شبح "حسن الإمام" فى فيلم "ركلام"!
محمود عبد الشكور
أول ما خطر الى ذهنى بعد أن شاهدت فيلم "ركلام"، الذى كتبه مصطفى
السبكى وأخرجه على رجب، واستضافته الصالات السينمائية المصرية، أن شبح مخرج
الميلودراما المصرية الأكبر حسن الإمام يظلّل الفيلم، ويمنعه من أن يحقق
طموح صانعيه بأن يقولوا أشياء أعمق عن عالم الضائعات فى الملاهى الليلية.
بقى فيلمنا فى منطقة وسطى، هو بلا شك ضل كثيرا بلاشك من (راجع ما
كتبتُه عن فيلمه شارع الهرم)، وعلى رجب الذى يبدو عادةً كمخرج جيد يعمل على
سيناريوهات متعثّرة (من صايع بحر الى بلطية العايمة)، وغادة عبد الرازق
التى يتذبذب مستوى أفلامها صعوداً وهبوطاً (من الريس عمر حرب الى بون
سواريه).
ولكن الفيلم أيضاً أقل بكثير مما يجب لأنه لم يستطع الإفلات من
الميلودراما، ولأن كاتبه لم يستطع أن يضبط بناءه بحيث يحكى ثلاثة حكايات
متداخلة بنفس الدرجة من القوة، ولأن الفيلم المأخوذ عن قصص حقيقية لم يستطع
أن يقدم بناء فنياً يستوعب هذه الحكايات، فعُدنا مع الأسف الى دائرة حسن
الإمام وبطلاته اللاتى تدفعهن الظروف دفعاً الى الإنحراف، واللاتى تتآمر
عليهن القوة القاهرة فتسقطن بلا مقاومة، هن ضحايا ولكنهن مستحقات للعقاب فى
نفس الوقت.
حسن الإمام هو أبرز مخرجى الميلودراما فى السينما المصرية والعربية،
وهو التلميذ النجيب لمسرح رمسيس وصاحبه الكبير يوسف وهبى، والإمام أيضاً هو
المؤرخ السينمائى (إذا جاز هذا التعبير) لعالم الملاهى الليلية وفتيات
الليل والعوالم والراقصات الشهيرات من شفيقة القبطية الى بمبة كشّر وبديعة
مصابنى.
مأزق الميلودراما
لم تكن مشكلة حسن الإمام فى موضوعاته، ولا فى نقص المادة الروائية
والقصصية، فقد كان يعرف تفاصيل التفاصيل عن هذا العالم الذى تحدّث عنه،
وكان يتمتع بخفة روح وحب حقيقى للحياة ولعالم الغناء والمرح.
كانت المشكلة فى تلك المعالجات الميلودرامية التى تستهدف الإسراف
العاطفى بكل الوسائل: بالمصادفات، واصطناع الكوارث، والإنقلابات المفاجئة،
ومبالغات الأداء شبه المسرحية، وكانت المشكلة الأكبر فى مأزق الميلودراما
عموماً إذ تستهدف أن تتعاطف كمتفرج مع الشخصيات اللاتى تتعرض غالباً الى ما
تنوء بحمله الجبال، وفى نفس الوقت تطالبك بأن توافق على عقابهن القانونى أو
الأخلاقى.
وراء كل راقصة مأساة وكارثة، وفى نهاية كل راقصة مأساة وكارثة، عليك
أن تتعاطف أولاً مع معاناتها، وعندما تموت وحيدة وفقيرة ومنبوذة، عليك أن
تقول أيضاً بملء الفم :" تستاهل".
الميلودراما تجعل شخصياتها مثل ريشة فى مهب الريح لاتملك من أمرها
شيئاً، ثم تحاكم هذه الريشة وتبرّرعقابها بدافع أخلاقى أو دينى، وهنا وجه
المفارقة وموضع التناقض.
لا يفطن صنّاع الميلودراما الى ذلك لأن الهدف محصور فقط فى التأثير
العاطفى فى كل الإتجاهات دون أن يتعمق التحليل فى مسار يناقش دور الإرادة
والإختياروالمقاومة والصعود والهبوط، تلك المناطق الرمادية الأقرب الى
الطبيعة الإنسانية لا تقترب منها الميلودراما إلا فى أضيق الحدود.
هذا هو الإطار الذى رسّخت تقاليده أفلام حسن الإمام، وهو أيضاً الإطار
الذى لم يفلت منه فيلم ركلام رغم الجهد الكبيروالطموح الأكبر لدى صنّاعه.
"ركلام" تعبير يطّلق فى الملاهى الليلية على الفتيات اللاتى تجالسن
الزبائن، يطلب لهن الزبون المشروبات نظير المسامرة والمنادمة، وقد يتطلّب
الأمر أن ترقصن أيضاً لزوم الفرفشة وخلق أجواء الإنبساط والمرح.
ولكن فيلمنا يؤكد من خلال حكاية بطلاته الأربع أن الأمر ينتهى بأى
ركلام الى أن تحترف الدعارة التى يبدو أنها التطوّر الطبيعى لعملية
"الإمتاع والمؤانسة".
يتبدّى طموح مصطفى السبكى فى اختيار أن يسير السرد بطريقة مركّبة من
الحاضر الى الماضى والعكس، فى الحاضر: القبض على أربع ساقطات فى فيلا
بمنطقة المريوطية، والتحقيق معهن بتهمة الإشتراك فى شبكة للدعارة، وفى
الماضى: فلاشات حول حكاية كل واحدة منهن وصولاً الى لحظة السقوط. البداية
ركلام .. والنهاية عاهرة.
ولكن الطموح لم تسانده صنعة تضبط الإنتقالات من الحاضر الى الماضى،
انتقلنا بسلاسة فى بعض الأحيان، وبطريقة مصطنعة فى أحيان أخرى، كما لم
ينضبط التوازن بين القصص الأربع، وبدا بوضوح أن سبب السقوط واحد وهو
الإحتياج المادى مما جعلنا أمام قصة واحدة تروى أربع مرّات رغم اختلاف
التفاصيل.
تقريباً أصبحنا أمام معادلة متكررة: احتياج مادى، وظروف اجتماعية
قاسية، تنتهيان الى سقوط بلا مقاومة حقيقة، كل حالة هى فى الحقيقة ريشة فى
مهب الريح تحمّلت ما لا يطيقه بشر.
شادية (غادة عبد الرازق) خادمة فقيرة، تُطرد الى بيت خالتها بسبب
خلافها مع زوج أمها، يتحرش بها زوج الخالة المتدين، فتعود الى الأم،
يجبرونها على الزواج من تاجر مخدرات متزوج من امرأتين (مصيبة) ، تساعده فى
عمله، وتنجب له طفلة تسمّيها شهد، يسجن الزوج (مصيبة )، تصبح عاهرة شوارع،
تدخل الى عالم الركلام،تموت ابنتها (عقاب أخلاقى)، تسقط فى شبكة المريوطية
ويحكم عليها بالسجن (عقاب قانونى).
دولت (رانيا يوسف) جامعية لم تجد عملاً سوى كمندوبة مبيعات لا تبيع
شيئاً، خطيبها كتب كتابه عليها ولكنه يبحث عن شقة على قدر فلوسه دون جدوى،
هو يعمل أيضا كسائق عند رجل أعمال، تتقابل مع زميلة سابقة (صدفة)، تدفعها
الأخيرة الى العمل ك"ريكلام" ثم كعاهرة، يكتشف خطيبها أنها قضت ليلة فى
فراش الثرى الذى يعمل عنده (صدفة)، يتركها (عقاب أخلاقى) فتسقط أكثر، يُقبض
عليها وتحاكم وتسجن (عقاب قانونى).
شكرية (تلعب دورها إحدى الوجوه الجديدة) فتاة فقيرة، حبيبها طبّال،
اسرتها مفككة، أخوها الأكبر يضربها، تتزوج من محام عاجز جنسيا (صدفة)، تحمل
من صديقها الطبال (مصيبة)، يضربها الزوج العاجز فتفقد الجنين (عقاب
أخلاقى)، تستمر كراقصة وركلام، يُقبض عليها ضمن الشبكة وتسجن (عقاب
قانونى).
سوزى (تلعب دورها إحدى الوجوه الجديدة)، من أسرة ثرية، يفقد والدها
أمواله فى البورصة (مصيبة) ، يتركها خطيبها الثرى بعد الإفلاس، تعمل مع
أمها (مادلين طبر) فى المركز الصحى الذى تديره خالتها (إيناس مكى)، نكتشف
أن الخالة تدير المركز فى أنشطة مخالفة للآداب (صدفة)، تتزوج سوزى عرفياً
من أجل المال ثم تسقط، تفقد كل شئ (عقاب أخلاقى)، تُسجن مع الشبكة (عقاب
قانونى).
لا تسير الخطوط بنفس القوة ولا الدرجة بين الفتيات الثلاث، كان واضحاً
أن التركيز الأكبر على حكايتى شادية ودولت، وبدا الإضطراب فى إهمال إحدى
البطلات ثم العودة إليها، وظهرت ظلال الميلودراما ومشكلاتها فى كل
الحكايات، رغم أن على رجب بذل مجهوداً كبيراً فى ضبط الإنفعال والحركة
وتقصير مدة المشاهد العاصفة (الضرب والصفع والركل والسباب فى القسم والشارع
ومع الأزواج .. الخ).
مشاكل السيناريو
كان من دلائل الإضطراب أيضاً أن السيناريو لم يستطع أن يدمج حكايتين
جانبيتين ضمن البناء فتذكّرهما بعد أن عرفنا بالفعل أن الفتيات سقطن
تماماً، وأعنى بهما مأساة الوفاة العقابية المفاجئة لابنة شادية، وحكاية حب
رقيقة لها مع رجل أعمال (صبرى فوّاز فى دور مميّز) أصبحت عشيقته لمدة
اسبوعين فى استلهام لفيلم امرأة جميلة!
احتاج الأمر أيضاً الى مشاهد إضافية تشرح لنا كيف تم الإيقاع بالفتيات
من خلال وشاية قوّادة محترفة اسمها ليالى (علا رامى فى دور غير مناسب
بالمرة) لاتعرف بالضبط لماذا تتشاحن معها الفتيات الى هذه الدرجة المدمّرة
؟، ولماذا تدبّر المكائد المبتادلة فى عالم لا يعيش إلا بمبدأ المصالح
المتبادلة التى تحافظ على الجميع؟
ينتهى الفيلم بالحكم على الفتيات الأربع وهن وراء الأسلاك والقضبان
على طريقة فيلم احنا التلامذة، ينتهى مثل أى ميلودراما بعقاب الضحايا
اللاتى تعاطفنا معهن أمام كوارث ليست من صنعهن، تستقر الريشة التى عصفت بها
الرياح فوق أرض الزنزانة فتستريح وتأخذ عقابها، يسعد المشاهد بتعاطفه
الإنسانى، وباطمئنانه الى يقظة العدالة السماوية والأرضية معاً.
هذا بالضبط هو عالم حسن الإمام مدعوماً بتفاصيل أكثر، وبحكايات جديدة
تدور فى نفس الحلقة، مصير ساحق يلقى بضحاياه فى صالة الملهى الليلى، يدمّر
البطلات، وينتظر المزيد منهن فى فيلم قادم.
ولكننا نظلم الفيلم كثيراً إذا قلنا أنه فيلم مسلوق أو صُنع على عجل،
هناك جهد كبير، وعناصر مميزة جداً، مصطفى السبكى نفسه يقول هنا أن لديه
أشياء أفضل بكثير من شارع الهرم، أراه يحاول بطموح أن يصنع شيئاً مثل الذى
فعله احمد عبد الله فى فيلمية كباريه والفرح (لايخلوان أيضا من بصمة
ميلودرامية إماميّة واضحة)، لاشك أن "ركلام" قفزة واسعة فى مشوار السبكى،
وأتمنى ألا يكون فيلمه القادم تراجعا الى الخلف.
الاخراج
كنت دوما أؤكد أن على رجب مخرج جيد وفاهم ولكنه يعمل على سيناريوهات
بها مشكلات مزعجة، ركلام هو أيضا أفضل أعماله، وفيه يقدم أفضل مستوياته
التقنية، تتضح موهبة على رجب فى اختيار المكان وإبراز تأثيره وخلق الجو
سواء فى المشاهد الداخلية والخارجية، كما تتضح فى فهمه وتعاطفه مع عالم
البسطاء والمهمّشين، هذا المخرج لا يصوّر شخصياته من الخارج ولكنك تحس أنه
يعرفهم جيداً .
مشاهد الإسكندرية فى هذا الفيلم تتفوّق على مشاهدها التى لا تُنسى فى
فيلميه صايع بحر وبلطية العايمة، ليست المسألة فقط فى اختيار الأماكن التى
لم نرها من قبل، ولكنى أتحدث عن هذه العلاقة السحرية بين البشر
والمكان،وتوظيف المكان بكل تفاصيله للتعبير عن الدراما، ولشرح الحالة
النفسية لأبطاله (الغيوم، الأمطار، البرق والرعد، الأمواج، أضواء الملهى
الملونة، السراديب، الأبواب، الزجاج، الشوارع، شريط القطار.. الخ).
هناك بالطبع آثار من سينما مراهقة مثل حركة الكاميرا البطيئة، وهناك
سوء اختيار مزعج للوجوه الجديدة التى أضعفت الفيلم، ولكن هناك عيناً ذكيةً
وواعية بضرورة السيطرة على الإنفعالات وتحجيم المشاهد الميلودرامية الى
أدنى مستوى ممكن.
نانسى عبد الفتاح تقدم هنا إضافة حقيقية الى مسيرتها كمديرة تصوير
واعدة (من أفلامها فى شقة مصر الجديدة)، كل المشاهد الخارجية بالأسكندرية
جيدة ، مشاهد الملهى أيضا بألوانه المختلطة (الأحمر والذهبى مع مساحات
مختارة من اللون الأسود فى مشاهد السقوط أو التآمر)، اللقطات الواسعة جعلت
الشخوص مسحوقة أمام المكان، واللقطات القريبة رصدت أدق التعبيرات.
ملابس الشخصيات، مونتاج دعاء فاضل الذى خفّف من وطأة الأغانى والرقصات
وأعاد دمجها مع الأحداث، موسيقى تامر كروان، ديكور كريم شاتيلا، كلها عناصر
مميزة ساعدت على تحمّل تقليدية المعالجة، وأحاطتها بإطار مختلف، الإنتاج
بالمناسبة لا علاقة له بعائلة السبكى رغم أن المؤلف منهم، لدينا منتجة
جديدة أقرأ اسمها على الأفيش لأول مرة هى مارلين فانوس.
غادة عبد الرازق ورانيا يوسف هما الأفضل بالتأكيد خصوصاً مع الضعف
الواضح للوجهين الجديدين اللتين لعبتا دورىّ شكرية وسوزى، ربما بدت غادة
أكبر من الدور خصوصاً فى بداية الفيلم، ولكنها قدمت أكثر من مشهد ناجح
ومؤثر، شادية ليست شخصية ضعيفة، ولكن الكوارث التى تعرضت لها هى التى
هزمتها.
ركلام فيلم يمتلك الإجتهاد والطموح، بيتعد عن الإثارة رغم أن موضوعه
بسمح بذلك، يبذل جهدا فى التفاصيل، ولكن المعالجة ظلت فى دائرة أفلام
الأمس، حيث المصائب التى لا تأتى فرادى، وحيث ذلك الإنسان الذى تجرفه
العواصف، وحيث نرفض نحن أن نزرع الشوك ولكن الظروف هى التى تجعلنا نمشى
عليه، وحيث الفقر يقود الى العيب ، والعيب يقود الى الحرام ، والحرام يقود
الى الخطايا، وحيث لاجريمة بدون عقاب.
وآه ياليل يازمن.
عين على السينما في
22/02/2012 |