المدينة، المرأة، الجريمة ومن ثمّ الخيانة.. تلكم هي - في شكل مختصر -
العناصر
الأساسية التي تشكّل «القانون» الجامع لنوع أدبي – ثمّ سينمائي – ظهر في
القرن
العشرين وإن كانت الدراسات الأكثر دقة تعود به قروناً الى الوراء وربما
أحياناً الى
حكاية أوديب. ما نتحدث عنه هنا هو الرواية – ومن ثمّ الفيلم – البوليسية
التي باتت
تعرف في لغات عديدة من بينها الأنكليزية بـ «الرومان نوار» أي حرفياً
«الرواية
السوداء». ولعل الاسم ناتج عن كون أحداث هذا النوع من الروايات غالباً ما
تجري في
ظلمة الليل او لعله – في تفسيرات أخرى - متأتٍّ من كون الجريمة شرّ والشرّ
ينبع
عادة من داخل ظلمات الروح. واياً يكن من أمر نعرف ان هذا النوع الأدبي كان
في
البداية مقلّلاً من شأنه لكنه راح يتخذ مكانته شيئاً فشيئاً ولا سيما حين
اكتشفته
السينما باكراً واعتمدته جزءاً من مسارها وتاريخها محقّقة في إطاره أعمالاً
كبيرة
كانت، مقتبسة من روايات كبيرة أميــركية في معظم الأحيان.
ومنذ زمن بعيد، في ما يتعلّق بالأدب والسينما العربيين كانت هناك تساؤلات
دائماً
عن الغياب النسبي لهذا الأدب البوليسي ومن ثمّ للسينما البوليسية في الحياة
الإبداعية العربية على رغم وجود أعمال تنتمي اليه في شكل أو آخر. ولقد سادت
هذه
التساؤلات على رغم محاولات مميّزة لنجيب محفوظ وفتحي غانم في الأدب وكمال
الشيخ في
السينما المصرية. وطبعاً يمكن وضع أطروحات حول هذا الغياب النسبي ليس هنا
مكانها.
هنا ما فرض هذه الملاحظات انما هو عرض الفيلم الثالث للمخرج المغربي فوزي
بنسعيدي وعنوانه «موت للبيع» وفوز هذا الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الخاصة
في مهرجان
الفيلم الوطني في طنجة، ناهيك بالإعلان عن مشاركته في مهرجان برلين.
والرابط بين
حديث الفيلم «نوار»، وحديث فيلم «موت للبيع» هو ان هذا الفيلم ينتمي وإلى
حد يكاد
يكون خطّياً، بل أكاديمياً، الى قوانين هذا النوع بأكثر مما ينتمي اي فيلم
عربي
مشابه او حتى كثير من الأفلام الفرنسية التي تحاول ان تحاكي النوع. ولكأنّ
بنسعيدي –
الذي كتب سيناريو الفيلم بنفسه – وضع امام ناظريه العناصر الرئيسية التي
تحدثنا
عنها في مبتدأ هذا الكلام وراح يطبقها قانوناً بعد الآخر. ولعل علينا ان
نشير هنا
الى ان هذا الكلام لا يبتغي الإنتقاص من جهد الرجل كاتباً لفيلمه ثم مخرجاً
له. بل
يريد فقط الإشارة المبكرة هنا الى صعوبة تطبيق خلاق وليس حرفياً، للقوانين
في ظلّ
مجتمع لا يتيح للعناصر ان تظهر كما كان يتعيّن عليها ان تظهر صافية مدينية
أخلاقية.
وكانت النتيجة ان بدا في سياق السيناريو ان ربط العناصر ببعضها البعض أتى
مقحماً
واحياناً متهافتاً... من دون ان يشكل هذا عيباً اساسياً في فيلم ممتع
ومجدّد على
صعيد الشكل كما على صعيد المضمون!
الهمّ الإجتماعي
إذاً لا بد من القول هنا ان استخدام بنسعيدي للقوانين التي «تحكم» النوع
جاء وقد
أخذ في حسبانه الفوارق الإجتماعية بين البيئة المدينية «الرأسمالية» التي
كتب الأدب «النوار»
الأميركي وغير الأميركي في إطارها - وأحياناً مقارعة لها كما لدى هوراس
ماكوي صاحب «انهم يقتلون الجياد اليس كذلك؟» او لدى جيمس كين في «ميلدرد
بيرس» و «ساعي
البريد يدق الباب دائماً مرتين» -، وبين المجتمع المغربي الذي تجري فيه
أحداث
الفيلم. إذ حتى وإن جعل بنسعيدي الأحداث تدور في مدينة (هي تطوان) فإن
المدينة بدت
هنا «ديكوراً» في احسن حالاتها و «ريفاً» او امتداداً للريف في أسوئها. اما
المرأة
فكان لا بد ان تكون فتاة هوى – لكنها تتقابل هنا مع امرأة اخرى يظللها
الواقع
الإجتماعي البائس في لفتة تقرب «موت للبيع» من الكاتبين الأميركيين اللذين
ذكرناهما
قبل سطور، اكثر مما تقرّبه من مواطنيهما رايموند تشاندلر وداشييل هاميت
الأقرب في
أعمالهما الأشهر من الهمّ التقني منهما الى الهمّ الإجتماعي.
ومرة أخرى ليس هذا عيباً في فيلم بنسعيدي. وربما يكمن العيب الأساس هنا في
عجز
الكاتب/ المخرج عن الربط القوي بين الهمّين بحيث اتى التضافر بين ما هو
اجتماعي –
وصولاً الى انخراط احد فتيان الفيلم في تنظيم اصولي متشدد من غير داع او
مبرر - وما
هو حدثيّ في الفيلم غير مقنع على الإطلاق بحيث بدا ان المخرج/ الكاتب اراد
ان يقول
كلّ شيء عن كلّ شيء فخانته ملكة التعبير، كاتباً على الأقل!. والحقيقة ان
هذا
الجانب من الفيلم اضعفه. وفي المقابل اعاد الفيلم الى جادة صوابه ذلك القسم
المتعلق
بالقانونين الباقيين: الخيانة والجريمة.
ومن هنا ما يرصده المتفرج من واقع ان الفيلم بعد بدايات و«فرش» للشخصيات
طالا
أكثر مما يجب، تمكن من الوصول الى موضوعه حين استقرّ الأمر للحبكة
البوليسية...
وهذه الحبكة تدور من حول الفتيان الثلاثة الذين يعيشون في تطوان عيش بؤس
وقهر لا
يعدهما بأي مسقبل وتتراكم على كل منهم الهموم المعيشية والعائلية حتى
يقرروا القيام
بما يبدو لهم «خبطة العمر» اي سرقة دكان للمجوهرات يملكه «خواجا اجنبي».
ولعل من الواضح هنا ان هذا التعيين الإتني لصاحب الدكان لا يفوته ان يحمل
شيئاً
من التعاطف مع هؤلاء «الأشرار» الثلاثة من قبل مشاهدي الفيلم. وهو تعاطف
يمكن القول
ايضاً انه يندرج ولو نسبياً في قوانين الفيلم «نوار» – اجتماعياً عادة لكنه
هنا قد
يبدو وطنيا!-.. وفي القوانين نفسها كذلك يندرج تدخّل قائد التحري الذي جعل
من القبض
على العصابة، كما من تفكيك الخلية الإرهبية الإصولية، مهمة يقوم بها بجهد
تبدو
المسألة معه مسألة شخصية (قام بالدور مخرج الفيلم نفسه فوزي بنسعيدي فتراوح
اداؤه
بين مشاهد مميّزة وأخرى تحمل الكثير من المبالغة في محاكاة للمخرج/ الممثل
الفلسطيني ايليا سليمان. غير ان ما يبدو لــــدى سليمان تهكماً أحياناً،
وتحية
لباستر كيتون في أحيان أخرى، يصبح لدى بنـــسعيدي مـــجانياً الى حدّ كبير
ولا سيما
حين ترينا مـــشاهد معينة معاناته وسكره وما الى ذلك).
الخيانة...وما بعدها
في القسم الثاني من الفيلم إذاً، يعطي بنسعيدي لنفسه دور «ديوس اكس ماشينا»
اي
الشخصية التي ستسيّر الأحداث. وهكذا في الوقت الذي يكون الرفاق فيه قد
افترقوا ثم
التقوا مقررين تنفيذ السرقة، يكون هو قد رتّب خطة مضادة تعتمد على جرّ احد
الفتيان
الى الخيانة وذلك عبر عمله على جمعه بحبيبته فتاة الهوى، وتمويل اقامتهما
ريثما
ينجز مهمته إثر انجاز اللصوص الثلاثة الصغار مهمتهم. غير ان الخيانة، ولأن
الخيانة
في الفيلم «النوار» يجب قانونا ان ترتبط بالمرأة، لن تكون خيانة الفتى
لرفيقيه هي
الأساس بل خيانة المرأة له وذلك في المشهد الأخير والمنفّذ بشكل رائع في
الفيلم.
طبعاً لن ندخل هنا في التفاصيل كي لا نحرم القارئ من متعة التشويق إن شاء
مشاهدة
هذا الفيلم الذي لا بد ان نقول انه – وعلى رغم نواقصه و مجانية بعض مشاهده
– هو حدث
سينمائي مغربي، وربما عربي نادر. وإذ نقول هذا مستثنيين السيناريو من
مديحنا، نسارع
الى التأكيد على ان القوة الرئيسية في «موت للبيع» انما تكمن في سينمائية
فوزي
بنسعيدي اي في اخراجه والتوليف واحياناً في إدارته لممثليه – على رغم الضعف
المؤكد
في بناء شخصياتهم
-.
والحال اننا منذ بدايات يسري نصرالله و«ثلاثية» ايليا سليمان الفلسطينية،
لم
نشاهد في السينما العربية لغة فيلمية تضاهي لغة بنسعيدي في هذا الفيلم. ولا
نتحدث
هنا فقط عن الصورة اللافتة – الشكلية – التي قدّم لنا بها مدينة تطوان أكان
ذلك في
ساحاتها وشوارعها او في مشاهدها العامة الملتقطة من بعيد، في ليلها او في
نهارها،
بل نتحدث عن كاميرا وتوليف متحركين بشكل مدهش، ومثالنا على ذلك بعض تلك
المشاهد
التي صوّرها بنسعيدي من الخارج للمبنى الذي تقطنه اسرة احد الشبان رفقة عمه
وامه
واخته العانس.
لقد كانت الكاميرا من الخارج دائمة الحركة صعوداً وهبوطاً وبانورامياً ليس
لاستعراض ما يحدث بين طبقة وأخرى فقط، بل كذلك لرغبة في رصد للشخصيات في
ارتباط
مدهش مع طوبوغرافية المكان وتدرّج الحالات النفسية لقاطنيه.
وفي هذا السياق واضح ان بنسعيدي يقدّم نفسه هنا تلميذاً واعياً للمخرج
الفرنسي
مارسيل كارنيه، وفي مرة او مرتين تلميذاً نجيباً لألفريد هتشكوك (في
«فرنزي» على
سبيل المثال). ومن هنا حتى نقول ان سينما مغربية جديدة وممتعة للبصر تبدو
وكأنها
تبدأ مع هذا الفيلم «السينمائي» الى حد التخمة، خطوة كان يمكننا ان نخطوها
لو ان
بنسعيدي اشتغل على تشذيب السيناريو وتهذيبه وضبطه اكثر كثيراً مما فعل. لو
فعل لكان
في امكاننا ايضاً ان نقول ان فوزي بنسعيدي أكّد صعوداً ما كان فيلماه
الأولاّن «الف
شهر» و«يا له من عالم رائع» قد اقترحاه، وهو اننا هنا امام سينمائي استوعب
تاريخ
الفن السابع وتعمق فيه ليشمّر بعد ذلك عن ساعديه ويخوض غمار سينماه الخاصة،
ولكن
بعد ان نسي ان دقائق عديدة تقصّ من الفيلم في غرفة التوليف يمكن ان تكون
احلى هدية
تقدّم الى السينما.
الحياة اللندنية في
03/02/2012
نحو جائزة من «مؤسسة السلام»
لندن - «الحياة»
رشحت مؤسسة «سينما من أجل السلام» العالمية في حفلة توزيع جوائزها في
دورتها
الحادية عشرة، فيلم «الرحيل من بغداد» للمخرج العراقي قتيبة
الجنابي ضمن الأفلام
الأهم التي تناولت الدراما بروح وثائقية، وذلك ضمن منافسة الترشيحات
الأخيرة
للمؤسسة، والتي تعد من النتاجات السينمائية المهمة على الصعيد العالمي.
ومن المقرر ان يقام الحفل الختامي الكبير لتوزيع الجوائز في الثالث عشر من
شباط
الجاري، وتحضره شخصيات فنية وإبداعية عالمية، ما منح الحفل
بعداً عالمياً، خاصة في
الانشطة التي تتفاعل في مساحة مؤسسة «سينما من اجل السلام» والافلام
المرشحة
لجوائزها.
ويستقبل الحفل، الذي كانت دورته الأولى قد عقدت في عام 2002 في كونزرثوس
بمدينة
برلين الالمانية، النتاجات السينمائية العالمية الابرز التي
«تعزز السلام
والديموقراطية وحقوق الانسان والتعايش بين مكونات البشر» بحسب ما تقول
المؤسسة في
بياناتها.
وقد استضاف الحفل على مدار الاعوام الماضية العديد من الشخصيات السينمائية
العالمية و»التي عززت بحضورها اهمية دور السينما والسينمائيين
في الحد من الحروب
والاقتتال وترسيخ السلام العالمي ورفض كل اشكال الهيمنة. ومن الضيوف الذين
شاركوا
في احتفالات الاعوام الماضية، الفنان داستن هوفمان وجورج كلوني وريتشارد
غير
ولوناردو ديكابريو وشارون ستون... والعديد غيرهم.
ويعتبر ترشيح الافلام لهذا الحفل خطوة في غاية الأهمية للسينمائيين، اذ يتم
عادة
اختيار الافلام المرشحة للجوائز وفقاً لأهميتها وافكارها
وامكانيتها «في شحذ أفكار
المتلقي ونظرته نحو القضايا التي تطرحها».
ويستعرض فيلم «الرحيل من بغداد» حالة الخوف الذي كان يطارد العراقيين إبان
النظام السابق، من خلال حكاية مصور فوتوغرافي كان قد اختير
ليكون متخصصاً في تصوير
رأس السلطة، هرب الى المنفى بعدما تم القبض على ابنه بتهمة الانتماء الى
حزب يساري
معارض وقتله في ما بعد.
يذكر ان الفيلم حصد العديد من الجوائز، لعل من اهمها الجائزة الاولى في
مهرجان
الخليج وجائزة افضل فيلم بريطاني مستقل للعام 2011، اضافة الى
جائزة خاصة من مهرجان
اوكرانيا السينمائي الاخير في العام 2011.
الحياة اللندنية في
03/02/2012
«هوغو»
تاريخ السينما على تكّـات ساعات
باريس
دبي - زياد عبدالله
لن نقع على «سائق التاكسي» (1976) مؤرقاً ليل نيويورك وتلك الأفكار
التدميرية
تعصف برأسه، ولن تكون القصة كاملة نسج مخيلة مجنونة كما دي
كابريو في «جزيرة شاتر»
(2010).
مارتن سكورسيزي هذه المرة يصنع شيئاً جديداً في «هوغو» (جائزة أفضل مخرج في
الغولدن غلوب ومرشح لأوسكارات كثيرة)، بطله فتى يتيم لم
يتجـــاوز الثــانية عشرة
من عمره، والــــلقطة البانورامية الأولى ستكون لباريس الثلاثينات، والفيلم
ثلاثي
الأبعاد مصنف كفــيلم صــالح لجميع أفراد العائلة.
استباق مشاهدة «هوغو» بعلامات استفهام وتعجّب أمر مشروع «سكورسيــزياً»،
لكن
هـــذه العلامات سرعان ما تختفي تحـــت وطـــأة جـــمال ما
صنعه سكورسيزي في هذا
الفيـــلم، والذي يبدأ في مكان ليكون في مكان آخــــر، لا بل إن هوغو (آسا
بترفيلد)
ليس إلا مــــعبراً إلى تاريخ السينما،
واستكمالاً لرحلات سكورسيزي الاستعادية كما
هي الحال مع «رسالة إلى أيليا» 2010 وثـــائقي عن أيليا كازان
أو حتى «شاين أيه
لايـــت» 2008 عن فريق «رولينغ ستـــونز» التحية التي قدمها سكورسيزي لمن
رافقت
أغـــانيهم كتابته وتصويره أحلى أفـــلامه وفق قوله، وليكون «هوغو» في
ملــمح من
ملامـــحه، فعل حنين يمارسه سكورسيزي بعيداً من شركة السينما العالمية التي
أسسها
لترميم الأفلام المهملة، وعلى شيء من «الأتوبيوغرافية» إن صح
الوصف.
صورة البدايات
نقع في «هوغو» على قطار الأخوين لوميير والناس يتدافعون أمام الشاشة حين
شاهدوا
للمرة الأولى شاشة وقطاراً متحركاً على سطحها، مروراً بطلقة
المسدس الشهيرة في
نهاية فيلم «سرقة القطار العظيمة» 1903 وقد راح الجمهور يهرب من أمام
الشاشة خوفاً
من أن تصيبهم رصاصة ذلك السارق الذي يوجه مسدسه نحوهم، وصولاً إلى جورج
ميليس الذي
شكّل بدايات السينما بخياله المدهش ونحن نتعقب في شكل رئيس
فيلمه الشهير في تاريخ
السينما «رحلة إلى القمر» (1902 ) والذي سيكون مفصلياً في «هوغو» ونحن
نشاهده
مستعاداً بكل تفاصليه خلف الكاميرا وأمامها، وفي الاستوديو الزجاجي الذي
صنعه ساحر
السينما ميليس.
لن يكون في بداية الفيلم ما ينبئ بذلك. نحن في رفقة هيوغو في محطة قطارات
باريس،
إنه يمتلك موهبة إصلاح كل شيء، ويمضي حياته في دهاليز الساعات
يضبطها ويصونها ومن
ثم يقوم بسرقة ما يسد رمقه من طعام.
مع شخصية هوغو الآثرة ستحضر شخصية بائع الألعاب (بن كينغسلي) والذي سنكتشف
مع
تتابع الأحداث من سيكون، ومعه حفيدته إيزابيل التي تعشق الكتب
والقراءة، إضافة
لمفتش الشرطة (ساشا كوهين) الذي يكون على الدوام بالمرصاد للأطفال المشردين.
من خلال تلك الشخصيات والبناء البصري المدهش لباريس الثلاثينات، نتعرف على
عوالم
هوغو، حيث أمه الغائبة عنه من البداية، ووالده (جود لو)
المتوفى في حريق والذي كان
أباً وأماً لهوغو، ويعمل في صناعة وصيانة الساعة، والذي يترك له قبل وفاته
رجلاً
آلياً، وللدقة ما يعرف بـ «أوتوماتون» وهي دمى معدنية بمقدورها رسم الأشكال
وكتابة
بعض العبارات صـنعت بين عامي 1768 – 1774.
هذا «الأتوماتون» يكون والد هوغو قد انتشله من المتحف وقد توفي دون أن
يتمكن من
إصلاحه وسيتحول إلى اللغز ويعبر في الوقت نفسه إلى حياة بائع
الألعاب الذي لن يكون
إلا جورج ميليس نفسه.
فما أن يتمكن هوغو من تشغيله بواسطة مفتاح تحمله إيزابيل ننتقل إلى رحلة
البحث
عن ميليس، إذ سيقدم «الأوتوماتون» على فعل وحيد يتمثل برسمه
وجه القمر كما لو أنه
مصنوع من الكريما وقد انغرست به الكبسولة الفضائية مزيلاً ذلك بتوقيع جورج
ميليس،
اللقطة الشهيرة من فيلم «رحلة إلى القمر»، لا بل إنها الصورة التي تحضر متى
ذكر هذا
الفيلم.
السينما والسحر
وهنا نتعرف على الجانب الغائب من بائع الألعاب. وهنا سيلتقي هوس هوغو
السينمائي
مع هوس إيزابيل بالكتب حين يذهبان إلى المكتبة العامة ويكتشفان
من يكون ميليس
ويعثرا في الوقت نفسه على مؤلف الكتاب الذي كان يحسب أن ميليس قد مات. إنه
ميليس
المتواري والمهزوم بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، الساحر الذي ما أن
وقع على
السينما حتى وجد فيها مساحة لممارسة السحر عبر الصورة، مخرجاً
وممثلاً ومنتجاً،
وإلى جانبه زوجته، فصنــع مـــئات الأفلام، التي سرعان ما اندثرت وضــاعت
إبان
الحرب مع عزوف الناس عن السينما والمسرح واستخدمت شرائط السلوليد التي تحمل
أفلامه
في صناعة كعوب أحذية النساء كما يورد الفيلم.
فيلم «هـــوغو» المأخوذ عن كتاب مصور لبراين سيلزنيك بعنوان «اختراع هوغو
كابري»
يمضي في ثلاثة عوالم متجاورة ومتداخـــلة كما مســـننات الساعات في حياة
هوغو،
الطفولة والسينما والمغامرة، وتوالدية القصص أشبه بالماتروشكا (الدمية
الروسية ذات
الطبقات)، وهو محفوف بالعوالم التي سرعان ما تلـــتقي كـــلها لدى كائنات
ميليس من
ساحرات وحوريات بحر ورحالة ومغامرين.
ولعل استثمار سكورسيزي في التقنية الثلاثية الأبعاد ليس إلا على تناغم مع
تلك
العوالم لنكون في النهاية أمام «تحفة فنية» (ترجمة «ماستر
بيس»)، التوصيف الذي
أطلقه جيمس كاميرون على هذا الفيلم بعد مشاهدته، قائلاً لسكورسيزي إنه شاهد
في «هوغو» أفضل فيلم يستخدم الأبعاد الثلاثة.
الحياة اللندنية في
03/02/2012
في «قطع» ملامسة للحدود القصوى
باريس - ندى الأزهري
انقطع عن وطنه وقطع معه كل تواصل، انطلق يعدو في دروب مفتوحة، لا يطيق
الحواجز
ولا النظر إلى الوراء. في منتصف الثمانينات بدأ بالرحيل
تدريجاً عن إيران. ثم حين
منع فيلمه «ماء، ريح، تراب» قرر مغادرة بلده نهائياً. مساراته تعددت... لكن
وجهته
ظلت واحدة: السينما. هي انتماؤه الوحيد، وطنه الذي حمله معه متنقلاً بين
الحدود،
حياته التي خصص لها كل ما يملك.
المخرج الإيراني امير نادري يعود لكن ليس كمرّات سابقة بأفلام إيرانية ثم
أميركية، بل بفيلم ياباني. صاحب «العدّاء»، فيلمه الإيراني
الاشهر، قطع مسافات
وسنوات ليتحول كما قال من مخرج «إيراني» إلى مخرج «أميركي». من بائع
للمرطبات في
دار للسينما في مدينته عبادان إلى مؤلف سينمائي «عالمي». من الشارع الذي
تعلم فيه
كل شيء إلى عواصم العالم التي حلم دوماً بوصولها في بحثه عن
الحرية، علامته
المسجلة.
واليوم ها هو نادري عاد متفرداً في أسلوبه، في فيلم يعبّر عن شخصيته
بامتياز،
ملامسة للحدود القصوى للأشياء، وتساوق ايقاع عوالمه الداخلية
مع ايقاع حياته
الخارجية. نادري يبحث في العمق الإنساني، تستهويه قدرة الإنسان الذاتية في
مقاومة
الظرف سواء أكان قادما من المحيط أم من النفس. شخصياته في امتحان مستمر
شاق، يجزّ
بها في المعترك ثم يدفعها لتتجاوز ذاتها ومحدوديتها، وشقاء
ظرفها، يقودها نحو
التهلكة لتخرج برؤوس مرفوعة. إنها هو، (نادري)، الذي غادر إيران قبل نحو
عشرين
عاماً واستقر في الولايات المتحدة متحدياً نفسه والظروف والناس وكل من تنبأ
بفشله.
فيلمه الأخير الذي صوّره في اليابان مع
ممثلين يابانيين، اعتراف بالحب للفن السابع،
قصيدة رثاء لكبار السينما، اليابانية منها على وجه الخصوص:
كيروساوا وأوزو
وميزوغوشي... إدانة للجهلة الذين قضوا على السينما باسم التسلية والترفيه.
حياة أو موت
في «قطع» شخصية متفردة، اسطورية. السينما بالنسبة اليها مسألة حياة او موت.
«شوجي»
الشاب الياباني الوسيم عاشق لدرجة الهوس، خلال النهار يدور في شوارع طوكيو
موزعاً المنشورات التي تدعو لإعادة الاعتبار الى الفن السينمائي. وفي
الليل، ينظم
عروضاً على سطح شقته في الهواء الطلق لأفلام عمالقة الفن
السابع، يتجمع حوله محبون
لهذه السينما يقدم لهم الفيلم بكلمات مكثفة دالة مشغولة بالهوى ثم يدعهم
يتمتعون.
لكن، ثمة تطوراً مأسوياً يقطع على شوجي
شغفه اليومي. «الياكوزا»، المافيا
اليابانية، تقتحم حياته، تجيء في أمسية لتصحبه لمقابلة رئيسها. هنا
الكارثة. يعلم
بموت أخيه على يد هذه العصابات. كان يعمل معها، لكنهم تخلصوا منه لعدم
تمكنه من
ايفاء دين عليه. على شوجي الآن ان يسدد لهم خلال ايام معدودة
دين أخيه الضخم الذي
يتجاوز امكاناته. تفصيل صغير: الأخ استدان ليحقق حلم شوجي بإخراج بعض
الأفلام
السينمائية. لم يجد الفنان مفراً من التسديد إنما على طريقته. يريد أن يرد
الدين من
جسده، تعذيب طوعي ليشعر حقاً انه دفع الثمن لشقيقه. نوع من رد الاعتبار
لهذا الغالي
الذي دعمه وساير احلامه السينمائية. يقرر أن يصبح هدفاً لضربات
الهاوين، الغاضبين،
اللاهين... كل من يدفع يستطيع تسديد اللكمات إلى وجهه بل إلى كل أعضاء
جسده. اليوم
الاخير للسداد بات كالخرقة لكن تصميمه لم يهن، بقي ثمن مئة لكمة لينتهي من
هذه
المعاناة. السينما كانت سنده، مئة ضربة ومع كل واحدة يتذكر
عنواناً لفيلم خالد، علم
من أعلام السينما ترك أثره فيه، الإيطالية (فيليني)، الفرنسية (ريفيت
وتروفو...)
الإيرانية (كياروستامي «لقطة مقربة») الأميركية (جون هيوستن...) وبالطبع
اليابانية.
السينما والحياة
السينما هنا هي التي تساعد على تحمل قسوة الحياة، السينما ليست «عاهرة» بل
«فن»،
كان شوجي يصرخ، يدعو الناس «من فضلكم شاهدوا افلامهم»... صرخة
من القلب لموت
السينما والخوف من موت الذاكرة وضياع الأسماء الكبيرة. شوجي رمز، معاناته
تعبير في
حده الأقصى عن معاناة محبي هذا الفن، نزفه هو السينما التي تنزف.
مشاهد عنيفة بيد أنها تركت حيزاً لأخرى ليست أقل عنفاً وحسب بل شاعرية
برقّتها
وجمالها. حين كان شوجي يعود كل مساء إلى شقته بعد تلقيه
الضربات كان يرتمي متهالكاً
على السرير تاركاً جهاز العرض يدور فتعبر مشاهد من الأفلام الخالدة التي
أحبها في
نزفه هو السينما التي تنزف تنعكس على جسده المثخن بالجراح تضيئه وتضيء معه
روحه.
الحياة اللندنية في
03/02/2012
«لوريل
وهاردي»
إبراهيم حاج عبدي
منذ الدقائق الأولى للحلقة الأخيرة من برنامج «الاتجاه المعاكس»، بدا
التشنج
واضحاً على الضيفين، وهما السياسي اللبناني جوزيف ابو فاضل
والمعارض السوري محيي
الدين اللاذقاني في حلقة خصصت للبحث في مسألة تنحي الرئيس السوري بشار
الأسد وفقاً
لقرار الجامعة العربية الأخير. كل ضيف حاول النيل من الطرف المقابل، وبعد
عبارات
نابية وشتائم متبادلة خرج الأمر عن السيطرة حين ترك الضيف
اللبناني «الضخم» مقعده
قبل انتهاء مدة الحلقة بنحو ربع ساعة، وراح يهاجم خصمه «الضئيل الحجم»
موجهاً اليه
سيلاً من الشتائم «والضربات»، وإذ تحول الوعيد الذي قيل باللهجة اللبنانية
«بدك
تاكلها»، إلى معركة فضائية على الهواء، لم يعد أمام مقدم البرنامج سوى مهمة
واحدة
هي فض الاشتباك والفصل بين «المقاتليَن الجسورَين»، ليخرج الثلاثة من
الكادر وينتهي
البرنامج على ايقاع اللكمات والصفعات.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتحول فيها الاستوديو التلفزيوني الى «ساحة
للوغى»، فالأدبيات العربية التي تتغنى بالبطولة والشجاعة باتت
تجد ترجمتها على
الشاشات، كساحة افتراضية للمعارك، ولئن قال المتنبي «أعزُّ مكانٍ في الدنى
سرج
سابح»، فإن أحفاده الآن، يطبِّقون صدر بيته لا على صهوات الجياد، وإنما في
«الاستوديوات»،
متناسين عجز البيت ذاته: «وخيرُ جليس في الأنامِ كتابُ»، الذي يلمح
الى الحصافة والحكمة والحجة المنطقية... بمعنى أنه لا بد للإقدام ذاك أن
يكون
مقروناً بهذه الصفات النبيلة.
ومع ان القاسم يتبع -دائماً- سياسة «الشد والرخي»، إذ يحاول الذهاب بضيفيه
إلى
أقصى حالات الاستفزاز والانفعال، حتى يحقق لبرنامجه «الأقدم
على شاشة الجزيرة»
الإثارة المطلوبة، لكنه لم يكن ليتمنى أن تكون النتيجة على هذا النحو من «الابتذال»، الذي انتهى بكارثة أعادت إلى
الأذهان مفارقات «لوريل وهاردي»
السينمائية.
لم تعد مطرقة القاسم تفيد في ضبط الغضب العارم الذي يبديه ضيوفه، وبات من
الملح
أن تلجأ الفضائيات، كما اقترح الزميل بشار إبراهيم في زاوية
سابقة، إلى إعداد كوادر
متخصصة في فض النزاعات الطارئة، فمثلما تعدّ الفضائيات متخصصين في الديكور
والاضاءة
والصوت والتصوير وتأهيلهم ... عليها كذلك أن تعد كوادر قادرة على قراءة
انفعالات
الضيوف والتدخل في الوقت المناسب للحيلولة دون انقضاض أحدهما على الآخر.
ومثلما لم نُشِر الى الجانب السياسي في ما سبق، كذلك من السذاجة بمكان
الخوض في
الجانب الأخلاقي، ذلك أننا لن نضيف جديداً إذا قلنا ان مثل هذه
المظاهر، التي
تستخدم فيها الأيدي والأرجل بدلاً من «اللسان»، تخلو من «آداب الحوار»، وهي
تشير
إلى افتقار الثقافة العربية لـ «ثقافة الاختلاف». ومثل هذه البديهيات
تحيلنا إلى
المربع الأول، فالسلطة السياسية أغلقت الأبواب طويلاً أمام أي
حوار، وكرَّست قسرياً
قناع «المسلَّمات»، وعند أول امتحان تخرج النزعات والعصبيات المكبوتة من
قمقمها
لتثبت أن الهدوء زائف في عقول عاصفة، صمتت مُكرَهةً لعقود.
الحياة اللندنية في
03/02/2012 |