الصورة التي تحيط بالإنسان ، صورة ازمنة وتحولات
تقود الى يقين مختلف، هذا هو الواقع في أزمنة الدعاية "البروباغاندا " وحيث
تتطور
عقيدة الدعاية الى نوع من البراغماتية التي تحدد بذاتها مساراتها الخاصة..
هذا
الجدل وغيره يبرز للسطح لقراءة ما خلف الصورة وما خلف الإعلام
وماذا يجري في
المطابخ السرية من اعداد للحملات النفسية والدعائية ومن خلال تشفير الصورة
والرسالة الإعلامية بمضامين محددة وهو الذي شهدته البشرية عبر حقب الصراعات
والمراحل الساخنة
.
لا شك أن الحديث عن هذه المعطيات سيحيلنا مباشرة إلى قوة
الوثيقة الإعلامية – الدعائية التي تسهم في ترسيخ تلك القناعات التي تم
انتاجها
مسبقا، قوة الوثيقة بمعنى قوة الصورة كواحدة من مفردات تلك
الصناعة الإعلامية
الدعائية يناقشها الفيلم الوثائقي المنتج حديثا "الحرب النفسية " أو
psywar
للمخرج سكوت نوبل
.
في مناقشة معمقة للظاهرة يتنقل الفيلم بين العديد من الحقب
التاريخية متابعا كيف تغير مفهوم الحرب الدعائية والإعلامية التي تطورت
بشكل مذهل
مع تطور تكنولوجيا الأعلام والاتصال وتطور نظريات التلقي والنظريات النفسية
والأبحاث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، هذه المعارف
والعلوم تلتقي جميعا لتمنح
الرسالة الإعلامية قوتها بحسب ما يذكر (بيتر فيليب) في استعراضه لفكرة
البروباغاندا وكيف تحقق ما يعرف بالاستحواذ القيمي –الاجتماعي للشعوب
باستخدام تلك
الأداة في إعادة تشكيل العقول.
ومما لا شك فيه أن البحث في تدرج فكرة الحرب
النفسية وصراعات المصالح قد أفضت الى ما مؤداه أن استخدام
التكنولوجيا في موازاة
المسوحات والأبحاث قد أفرزت نتائج عمقت الهدف السياسي – العسكري الاقتصادي
في هذه
الرحلة ولهذا يستعرض الفيلم وقائع من تحولات الحياة الأمريكية في القرن
الثامن عشر
وإبان تشكل الطبقة الصناعية وكيف تطورت فكرة الاستحواذ على الآخر من
الاستحواذ
بالقوة والمال الى الاكتساح بالأقناع والترغيب. هذه الجذور
المبكرة يتتبعها الفيلم
بالوثائق التاريخية وتقويم المؤرخين وصولا إلى أولى الحروب الكونية التي
تجسمت فيها
صورة وشكل الدعاية من خلال وقائع الحرب العالمية الأولى التي رسخت ما كان
نابوليون
يؤمن به في فكرة الصراع بين الفكرة والإرادة وبين السيف فإذا
انكسرت الإرادة أصيب
السيف بالشلل وتلك الأرضية التي اعتمدتها الدعاية النازية في مقابل دعاية
الحلفاء
الممنهجة .
وينتقل الفيلم الى محطتين مهمتين في مسار الدعاية المعاصرة ممثلة في
حربي العراق وافغانستان ويتوسع كثيرا في تتبع البناء النفسي للدعاية والحرب
النفسية
التي شهدتها تلكما الحربين ابتداء من رصد المليارات لأغراض
العلاقات العامة وبث
الأخبار التي تضعف إرادة الخصم وبث القصص المختلقة التي تسهم في تأجيج
الرأي العام
ويروي شواهد كثيرة جرت وقائعها ابان الاحتلال ومنها عملية انقاذ المجندة
الأمريكية
(جيسيكا
لينش) التي كانت قصتها في اطار حملة دراماتيكية تم اخراجها بعناية فائقة
لتسخين الأجواء وتحريك الرأي العام الذي بدأ يتململ مشككا بتلك الحرب
ومخرجاتها
المدمرة وبدء القصص الملفقة التي سيقت لأيهام الرأي العام
الأمريكي بجدوى تلك
الحرب .
ومن الجانب الآخر ثمة ابادة عرقية في تيمور الشرقية في اندونيسيا
ونيجيريا تعيش على وقع صراعاتها ومواكبة لحملات الجنرال فيديلا في
الأرجنتين كل هذا
يقع ما بين حقبتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي
ويكشف جانبا من
التداخلات في العلاقات العامة والحرب النفسية التي اعتمدتها طواقم أمريكية
متخصصة
في تعاطيها مع (عينة) واحدة من الأزمات وكيف تم العزف على وتر الأثنيات
وقلب
الحقائق واعتماد نظرية الأيهام لغرض الوصول الى ذلك الأنسان
المحاصر بأزماته
المستحكمة .
ومن
النقاط الجوهرية التي يثيرها جون ستوبر الباحث المتخصص في العلاقات العامة
هي
ظاهرة ادماج العمل الصحافي بحرب الدعاية والحرب النفسية وقد تجلى ذلك بكل
ابعاده من
خلال احتلال العراق من خلال مواكبة الفرق الصحافية الحربية التي تم اعدادها
وتدريبها وتجهيزها لغض ان تعكس وجهة نظر تبدو في الظاهر
مختلفة عن وجهة نظر
المنغمسين في الحرب بشكل مباشر وتبدو مختلفة مع وجهات نظر السياسيين ولكنها
في
حقيقة الأمر تقدم قراءة موازية لاتبتعد كثيرا عن النقاط المفصلية التي
يعتمدها
الخطاب الرسمي والحربي
.
لكن قبل ذلك وفي محور الحرب يناقش الفيلم كيف تم تأسيس
الأرضية لعسكرة المجتمع في عدد من بلدان العالم في زمن الحروب بمعنى تشكيل
وعي جمعي
يؤمن بشكل مطلق بجدوى وضرورة العمل العسكري وكمثال : اصدار
قانون المواطنة في عهد
الرئيس الأمريكي جورج بوش وهو القانون الذي رسخ سلسلة من المفاهيم المرتبطة
بذلك
الوعي الجمعي ولكن القصة لا تتوقف عند حدود هذه الواقعة اذ ان قانونا
مشابها كان
قد صدر عشية الحرب العالمية الأولى هيأ الأرضية لتسيد منطق الحرب والدفاع
عن وجهة
النظر الجمعية التي تحكم القرار .
ويقدم الفيلم كما كثيفا من المشاهد من اجواء
احتلال العراق وكيفية مواكبة الطواقم الصحافية الأمريكية
لمجريات تلك الحرب
ويومياتها ووقائعها لغرض تحقيق قدر اكبر من الأقناع والواقعية في انظار
الرأي العام .
ويعالج الفيلم من خلال المقابلات مع الخبراء مسألة شائكة وهي التي تلخص ذلك
الشكل التداولي لأمريكا وهي تسير نحو صعودها وذلك في مطلع
القرن الماضي، الحريات
أولا ثم التلاحم الاجتماعي ، الأنثوية وادماج المرأة ة، التصديق بما يقوله
الأعلام
والساسة، هذه (التركيبة الخاصة او الفورمولا ) هي التي منحت مفهوم
العلاقات
العامة الأمريكية منحى مميزا مختلفا ما لبث أن وجد دعمه الكامل في أوساط
صناع
القرار ومراكز المال الأمريكية
..
ولعل مما يلفت النظر هي طريقة معالجة ما يعرف
بقوة الدولة في اوقات الأزمات انطلاقا من اعتصام النقابات في
الولايات المتحدة في
مطلع القرن الماضي وكيف تم التعاطي مع المتظاهرين أو المحرضين على
الإضرابات وصولا
الى العصر الحديث وهو ما يناقشه الفيلسوف المعروف "نعوم تشومسكي" الذي يذهب
بعيدا
في قراءته لقوة الدولة الإمبريالية القائمة على الهيمنة وهو الشكل الحديث
لتغول
طبقة الأثرياء والصناعيين وإنتاج السلاح فضلا عن الصراع على
مراكز النفوذ
.
يعلق المخرج سكوت نوبل على منجزه قائلا : إنه فيلم عن المعركة
الحقيقية التي
تجري وقائعها في داخل العقول انه تطور متسارع عاشه العالم وخاصة امريكا في
مجال
الدعاية والعلاقات العامة وبما يخدم المصالح والاستراتيجيات ويمضي إلى
القول أنه
تتبع قصص أناس كانوا في صلب عملية انتاج الخطاب الدعائي والبروباغاندا وهو
الذي
أثاره ليس من جهة الموضوع بل من ناحية الخزين الصوري لكي لا
يعلو صراخ الخطاب
السياسي على الحقيقة الفيلمية الوثائقية.
ويذهب وليم روبنسون رئيس تحرير مجلة
"دراسات في نقد العولمة" الى القول إن الحديث عن الدكتاتورية قد يبدو
مستغربا في
أنظمة تنهج الديمقراطية ولكن دراسة واقع الحال تثبت شكلا آخر هو
الدكتاتورية
الاقتصادية واستحواذ أصحاب رؤوس الأموال والخلل في اسس العدالة الاجتماعية
وصولا
الى الشكل التقليدي للانتخاب الذي يفضي إلى عنصرين : هما
الناخب الذي يدلي بصوته ثم
ينصرف والسياسي الذي يبدأ رحلته في الاستحواذ على الرأي العام يهذه الطريقة
او تلك .
يجمع الفيلم حصيلة غزيرة ومتنوعة في رسم مسارات العلاقات العامة
تاريخا
وتطبيقا وارتباطها بثقافة الصورة الوثائقية وتدفقها وانتشارها على مستوى
العالم .
الجزيرة الوثائقية في
30/01/2012
ثلاثة أفلام تعيد السينما الفرنسية إلى الخارطة الدولية
الفرنسيون يجدون في المشاهدة ملاذاً آمناً من الأزمة
الاقتصادية
هوفيك حبشيان
من بين الفيض الوفير من الأفلام الفرنسية التي شاهدناها في الآونة
الأخيرة، هناك ثلاثة أعمال مثيرة شقت طريقها أخيراً إلى الصالات العالمية،
بعد مرور إجباري عبر بوابة المهرجانات الدولية: "الأمر والأخلاق" لماتيو
كاسوفيتس،"الحرب أُعلنت" لفاليري دونزيللي و"الفنان" لميشال أزانافيسيوس.
باستثناء جنسيتها الفرنسية، تتشارك هذه الأفلام الثلاثة شيئاً واحداً:
موهبة استثنائية في جذب الإنتباه أتاحت للسينما الفرنسية أن تتموضع مجدداً
(وهي سينما رائدة لا شك) على الخارطة الدولية. على مدار الأشهر الأخيرة،
اهتمت الصحافة السينمائية بهذه الجواهر البصرية التي أدرجت في معظم قوائم
النقاد المتضمنة أفلامهم المفضلة. وفي الواقع، لا نزوة في هذه الخيارات، بل
اعتراف بطليعية هذه السينما التي أعطت الكثير للشاشة منذ أوغوست ولوي
لوميير اللذين اخترعا السينما، من الواقعية الشاعرية التي سادت خلال الحرب
العالمية الثانية، والـ"موجة الفرنسية الجديدة" التي ألهمت السينمائيين
الكبار في كافة أصقاع الأرض، وصولاً الى الجيل الجديد من السينمائيين
الفرنسيين الذين يصنعون سينما حميمية.
هذا كله خلال عام واحد (نعني 2011)، توافد فيه الفرنسيون إلى السينما
بكثرة، على نحو فاق التوقعات، بعدما وجدوا فيها ملاذاً آمناً من الأزمة
الاقتصادية التي تعصف بأوروبا منذ أكثر من ثلاث سنوات. فالتقارير الصادرة
عن المركز الوطني للسينما تشير إلى إيرادات قياسية لم تبلغها الصالات
الفرنسية منذ 45 عاماً، إذ شهدت ارتفاعاً في الإرتياد بنسبة 4 في المئة
مقارنة بعام 2010، بحيث بلغ عدد التذاكر التي بيعت مئتين وخمسة عشر
مليوناً، وأكثر من ثلث هذه البطاقات لأفلام فرنسية، في مقابل الثلث الثاني
لأفلام أميركية. هذا كله يدل على عافية تتمتع بها السينما منذ بضع سنوات في
فرنسا، وهي البلد الأول في أوروبا، وفي مناطق كثيرة من العالم، قدرةً على
مواجهة انتشار السينما الأميركية والوقوف أمام هيمنتها. أكثر من 40 في
المئة من الأفلام المعروضة في الصالات الفرنسية كانت فرنسية، والإقبال
عليها من قبل الجمهور ارتفع بنسبة 22 في المئة. وتخطى 20 فيلماً فرنسياً
عتبة المليون متفرج. أما "منبوذون" لأريك توليدانو وأوليفييه ناكاش، فتحول
الى ظاهرة حقيقية في فرنسا، مستقطباً ما يزيد عن 16 مليون مشاهد، علماً أن
الفيلم كوميديا حول صداقة غير تقليدية تنشأ بين رجل فرنسي ثري وشاب أسود من
الضاحية.
بعدما خاطب جيل كامل من المشاهدين في منتصف التسعينات بفيلم
"الكراهية" الذي تحول لسان حال شباب الضواحي، عاد ماتيو كاسوفيتس بـ"الأمر
والأخلاق"، سابع أفلامه، نافضاً الغبار عن واحدة من آخر الصفحات غير
المشرفة من التاريخ الفرنسي الاستعماري. "كاسو" (هكذا يلقبونه) في زمن "ساركو"
يختلف عن ذلك الذي كانه في عهد ميتران. لعب النضج في عقله، وعرف الصعود
والهبوط، فقرر إنجاز هذا الشريط في ظروف إنتاج غير تقليدية، مستثمراً فيه
نحو عشر سنين من حياته.
في حين تستعد فرنسا لانتخاب رئيس جديد لجمهوريتها في آذار 1988، تقدم
جماعة الكاناك في منطقة أوفيا الكاليدونية على خطف رجال شرطة فرنسيين،
بعدما يشنون هجوماً على مقرّهم، مطالبين باستقلال بلادهم عن الإستعمار
الفرنسي المعشش فيها منذ سنوات. الحكومة الفرنسية ترسل دعماً من 300 من
عناصر فوج التدخل على رأسه النقيب لوغورجو (كاسوفيتس). على الأخير أن يفاوض
الثوار ليجد حلاً للأزمة. وبالفعل، ينجح النقيب من خلال احتكامه الى العقل
والضمير، بأن يتواصل مع الكاناك ويستمع إلى مطالبهم المحقة وينال ثقتهم.
لكن، بدلاً من ان تجند في خدمة لوغورجو كل الإمكانات لإنجاح المفاوضات التي
تدوم عشرة أيام، تدخل السياسة ومصالحها على الخطّ، لتخفت آخر ضوء أمل،
فيتخذ المسؤولون في الإليزيه قرار استخدام القبضة الحديد بدلاً من الحوار
والحل السلمي. هذا التهميش لدوره، يضع النقيب أمام معضلة أخلاقية، لكونه
يصبح رهينة أوامر تأتي من الأعالي، ولا يستطيع أي شيء حيالها، ولا سيما انه
يغدو لعبة في يد مصالح متناقضة تحركها أطراف ثلاثة: العسكر، السياسيون،
الثوار.
لكي يدعم خطابه الإتهامي بالصدقية، استند كاسوفيتس إلى شهادة النقيب
لوغورجو الذي نشر كتاباً اسمه "الأخلاق والتحرك"، وأيضاً إلى وثيقة تعود
ملكيتها إلى رابطة حقوق الإنسان، علماً ان ما يُسرد في هذين المصدرين سبق
أن اعترضت عليه شخصيات عسكرية وسياسية فاعلة في تلك الحقبة، وعلى رأسها
الوزير السابق برنار بون.
أسلوب الفيلم صارم جداً. التقطيع يحبس الأنفاس، على الرغم من اننا
مطلعون على خاتمة الحوادث. التقنيات تنتمي إلى سينما استعراضية مصدرها
هوليوود. الغضب يخرج من عيني الشاشة، كون الفيلم يراقبنا أكثر مما نراقبه.
صوت النقيب الذي يسرد بصيغة الفلاشباك معضلته الأخلاقية يتماهى تدريجاً مع
ضمير المشاهد. تعامل كاسوفيتس غير النمطي مع صورة الجنود والخاطفين يزعج
بلا شكّ المصابين بمرض الوطنية البلهاء. انهم شخصيات حقيقية من لحم ودمّ،
شخصيات معقدة، تائهة وعالقة، والنقيب أبلغ مثال على هذا. بعد كل ما حظي
الفيلم به من ترقب منذ مرحلة التصوير (حرص كاسوفيتس على مشاركتنا هواجسه
عبر "فايسبوك" خلالها)، ماذا سيكون مصيره في حفل توزيع جوائز "سيزار"
المقبل في 25 شباط/فبراير؟
الفيلم الثاني للفرنسية فاليري دونزيللي، "الحرب أعلنت"، شريط تعاملت
معه الأقلام بحماسة شديدة وداعمة، منذ الكشف عن تفاصيله في مهرجان كانّ،
قسم "أسبوع النقاد"، والى أن قرر المركز القومي للسينما في فرنسا تسميته
مرشحها الرسمي لجائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، من دون أن يتمكن من الوصول
إلى الترشيحات النهائية الصادرة قبل أيام. إنها حالة سينمائية في ذاتها.
فإذا نظرنا جيداً بالنحو الذي انجز (تصوير غير تقليدي لمخرجة لم تدرس
السينما) والنتيجة التي تم الوصول اليها، سنقتنع حتماً بحقيقة أن هذا
الفيلم واحد من المعجزات التي لا تحصل إلا نادراً.
من نافذة المستشفى الباريسي حيث يرقد طفلهما المصاب بواحد من أخطر
أنواع السرطان، يقول الزوج المنتكس روميو لزوجته جولييت: "لماذا
نحن؟"."لأننا نملك القدرة على التحمل"، ترد الزوجة، وكأنها لم تكن تتنظر
إلّا هذا السؤال لتصرّ على أن المعركة لن تمضي بها الى الاستسلام.
لا يحيلنا الفيلم على أيٌّ من التيارات التي تجرجرها السينما الفرنسية
خلفها. فجزء من أهميته يكمن في بقائه على مسافة مما يسمى موضة. انها
التجربة الشخصية المؤلمة التي عاشتها دونزيللي وحبيبها جيريمي ألكاييم
(يضطلعان بأدوارهما الحقيقية في الفيلم)، تتحول رواية سينمائية تقوم على
براغماتية لافتة، قوامها الإختزال والسرد الديناميكي والإنفعال الذي يتسلل
حتى من أكثر المشاهد بساطة.
مأساة استئصال ورم سرطاني من دماغ طفل لم يبلغ الثانية من عمره بعد،
تحكيها المخرجة بغرابة شديدة. الميلودراما التقليدية تفسح المجال هنا لصيغة
حكائية قائمة على التناقضات. غضب دونزيللي مثير. يبدأ بشيء من التمرد
وينتهي بحكمة تكاد يكون درساً في الحياة والسلوك. الحقائق لا تعبر عنها
تجسيداتها الواضحة والبدائية. الفرح لا يُترجم بابتسامة والحزن لا يعني
دمعة. كل مشهد يتجاوز ما يسبقه في قدرته على الإقناع، ودائماً المفاجأة في
الطليعة. الحياة ماراثون متواصل، لكن السعادة غير مضمونة للعدّاء. وإذا
ألقي القبض على الثنائي بتهمة الغناء وهما في سيارة أجرة، فهذا ليس للتخفيف
من وطأة المصيبة، انما للتأكيد على أن الحياة، مهما بلغت من الأسى والسواد،
فهي ليست كتلة متراصة على قلب الإنسان، بل تبقى هدية.
اذا قبلنا السعادة، فعلينا أيضاً قبول المأساة. بهذه الفكرة الفلسفية
البسيطة، تأخذنا دونزيللي في رحلتها التلقينية التي تبدأ في صخب نادٍ ليلي
حيث تغرم جولييت بروميو من النظرة الأولى، وتنتهي فصولها المتحولة على
شاطىء بحر كما في فيلم شهير لتروفو. لكن فيلماً طريفاً ومؤلماً يقطن بين
هاتين الضفتين، وهي على شاكلة الحياة التي يعيشها معظم البشر: تنطوي على
تناغم عشوائي بين الصفاء والصراع، بين الحرب والسلام.
لا يُمكن الحديث عن السينما الفرنسية في المرحلة الأخيرة من دون ذكر
"الفنان" لميشال أزانافيسيوس. حاز الفيلم مؤخراً تسعة ترشيحات لجوائز
الأوسكار، وذاع صيته أكثر وأكثر في الأيام القليلة الماضية، بعدما عبرت كيم
نوفاك في مجلة "فاراييتي" عن غضبها من النحو الذي استعملت فيه موسيقى
برنارد هرمان في الفيلم، وهي الموسيقى التي وضعت أصلاً لفيلم "دوار" ("فرتيغو")
لهيتشكوك الذي اضطلعت فيه بدور البطولة.
حكاية هذا الممثل الذي يدعى جورج فالنتاين (جان دوجاردان في أداء
متمكن نال عنه جائزة التمثيل في مهرجان كانّ 2011 حيث شارك الفيلم ضمن
المسابقة) ليست من الأساطير أو الإستيهامات التي تفيض بالأفكار الجنونية.
ميشال أزانافيسيوس لا ينقصه الإلهام، هذا شيء سنتأكد منه تباعاً، لكن خلف
الحكاية الفردية لممثل يخاف المجازفة لإيمانه الأعمى بنمط في طريقه إلى
الإنقراض، هناك شهادات تفيد مثلاً بأن تشارلي شابلن كان من الذين أبدوا
تحفظاً شديداً حيال السينما الناطقة. ولم ينجز أول فيلم ناطق له ("الأزمنة
الحديثة" ــ 1937) الا بعد مرور تسع سنوات على دخول الصوت إلى السينما. هذا
كله للقول إن هذه الثورة الأولى التي شهدتها السينما في تاريخها قبل حلول
الألوان (الثورة الثانية)، لم يكن مرحباً بها من قبل الكثيرين ممن اعتبرو
أنها ستقضي على السينما. هذه المفارقات والعدائية تنتج بعض المشاهد اللذيذة
هنا، نواجهها اليوم من المسافة المفترض بأننا، كمشاهدين واعين، ساهمنا في
تأسيسها.
يضعنا أزانافيسيوس أمام فيلم ينطوي على تناقضات. القديم مقابل الجديد،
الرجل مقابل المرأة، الصمت مقابل الكلمة، الشهرة مقابل الإستبعاد، الضوء
مقابل العتمة. هذا واحد من الذين يعرفون كيف "ينسخون". ستيفن سودربرغ فعلها
من قبله في "الألماني الجيد" (2006)، وها نحن نرحل مجدداً في واحدة من أبعد
الرحلات عبر تاريخ السينما، يتخللها صعود وهبوط، عظمة وانحطاط، أمل ويأس.
هكذا كانت السينما في زمن البراءة، حلمٌ بهي قابل للتصديق يهز أبدان الآلاف
الجالسين في صالة مظلمة، تلتصق عيونهم بالشاشة وتتطاير انفعالاتهم مع أي
حركة يقوم بها نجمهم المفضل. انها قبلة صامتة على جبين السينما يضعها كل من
دوجاردان وأزانافيسيوس، فيحار المرء معهما ما إذا كان عليه أن يضحك أو
يبكي، أو الإثنين معاً. نعم، الإنفعال هنا، بلا ألوان أو كلام أو مؤثرات
بصرية، يعيدنا الفيلم إلى ينبوع السينما.
وعندما نقول تحية الى زمن سينمائي غابر، زمن إيرول فلين ودوغلاس
فيربانكس والعصر الذهبي، لا نستطيع أن نغفل كل الإحالات التي تتضمنها.
"الفنان" يقحمنا في هذه الدهاليز السينيفيلية، محافظاً، رغم ذلك، على خط
مستقيم في سرد الحكاية. فهناك الكثير من هذه الغمزات المحببة: الحبكة تتضمن
عناصر من "رقص تحت المطر"، الميوزيكال التحفة من توقيع ستانلي دونن. نعثر
ايضاً في هبوط فالنتاين وصعود راقصة يلتقي بها (بيرينيس بيجو) الى أعلى
مراتب النجومية، أشياء كثيرة من "ولادة نجمة"، رائعة جورج كيوكر. في حين
يأتي الكلب ليكون رابطاً عبر الزمن مع "أومبرتو دي" لفيتوريو دو سيكا أو
أفلام متفرقة لشارلي شابلن. أما كل الفصول المتعلقة بسقوط فالنتاين الى
الحضيض وبيع ممتلاكه في المزاد العلني، بعدما يستثمر كل ما يملكه في فيلم
صامت ينبذه الجمهور، فتحمل إشارات واضحة الى قطب الصحافة والإعلام الذي
صوره أورسن ويلز في "المواطن كاين". الفيلم، بهذا المعنى، لا ينطوي على أي
ابتكار، سوى انه يعلن، بجرأة عالية، ان السينما لا تقتصر على هذه التي
نعرفها اليوم. هل إثبات هذه النظرية يحتاج الى فيلم؟ بعد المتعة الخالصة
التي ترافقنا حتى بعد فترة من مغادرتنا الصالة، أغلب الظن أن الجواب على
هذا السؤال سيكون نعم.
مهرجان أبوظبي
السينمائي في
30/01/2012 |