مع كل حدث تاريخي لاسيما الأحداث المؤثرة في حياة الشعوب والامم، يصبح
التوثيق لتفاصيله ومراحله وتطوره واجبا علي شهوده، حفاظا علي حق الاجيال
القادمة في معرفة جزء من تاريخهم الذي لا ينفصل بأي حال عن حاضرهم. ومع
قيام ثورة 25 يناير وسقوط نظام مبارك الذي استمر 30 عاما، تسابقت أطراف
عديدة للقيام بما وصفته بـ"توثيق الثورة"، وتأتي معظم تلك الجهود الفردية
المتناثرة من خلال مواقع إلكترونية تقوم بتجميع فيديوهات وصور لاحداث
الثورة ومظاهراتها وبعض المعلومات عما حدث خلال ايامها الثمانية عشر، في
حين بدأت جهات أخري كدار الكتب والوثائق القومية ومكتبة الإسكندرية وبعض
الجامعات كالجامعة الامريكية، في العمل علي مشاريع اكثر جدية. وفي هذا
الاطار يأتي المشروع الذي تبناه مركز الاهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية من خلال وحدة توثيق الثورة المصرية، ويرأسها د. محمد السعيد
ادريس، وتأسست عام 1996، بهدف التوثيق للثورات المصرية، لكنها عملت بشكل
اساسي منذ ذلك الوقت علي توثيق ثورة يوليو 1952 واصدرت بالفعل عددا من
الكتب والدراسات والسيديهات، وبعد قيام ثورة 25 يناير بدأ العمل عليها
مباشرة منذ فبراير الماضي حيث تقدمت الوحدة بمشروع لادارة المركز والذي
يتضمن" توثيق وتحليل ودراسة" ثورة 25 يناير. د. محمد السعيد إدريس- رئيس
الوحدة- علق علي مسألة تعدد مشاريع التوثيق وابدي استياءه من عدم تنسيق
الجهود بين الجهات المختلفة التي تقوم بهذا العمل، مؤكدا ان ذلك لا يعني
سوي اهدار للجهد والموارد، وسينجم عنه التكرار وربما عدم الاجادة، وأضاف
انه اذا تم مثل هذا التنسيق، فربما تتخصص جهة في جزئية معينة تعمل عليها
فيكون هناك نوع من التجويد، ولهذا طالب د. ادريس بأن تكون هناك لجنة تعمل
كحلقة اتصال بين كل الجهات التي اخذت علي عاتقها التوثيق لثورة يناير، بحيث
يكون هناك تكامل بين تلك الجهات، اما عن المشكلات التي يواجهونها في عملهم،
فتتمثل اساسا في مدي القدرة علي التيقن من المعلومات المتاحة، وإشكالية
مفهوم" الوثيقة". وأضاف:"قد نعتمد علي ما يعتبر "وثيقة" ثم يتضح أنها ملفقة
أو غير حقيقية، وخاصة فيما يتعلق بالصور وافلام الفيديو، وفي حين عاني
الباحثون عند توثيق الاحداث التاريخية السابقة من ندرة الوثائق فإننا في
حالة ثورة يناير نعاني غزارة المواد المتاحة، وهو ما يستدعي وجود معايير
للاختيار والانتقاء بحيث تكون العينات المختارة ممثلة، اما عن كفاية
الموارد البشرية والمادية، فيقول د. ادريس انه يحاول العمل في إطار
الامكانيات المتاحة له» وأضاف: اجد مسألة الحصول علي مصادر تمويل من خارج
المركز مسألة صعبة، حتي علي المستوي الشخصي، هو امر لا أجيده". عناصر
المشروع نعود مرة أخري لمشروع المركز وتحدثنا عنه أمل مختار- إحدي الباحثات
المشاركات به- فتقول: إنه سيتم توثيق ثورة يناير من خلال مراحل ثلاث،
الاولي هي مرحلة ما قبل الثورة (مقدمات الثورة) والمتمثلة في الحركات
الاحتجاجية والمعارضة لنظام مبارك منذ بدايتها مع حركة "كفاية" ثم "حركة 6
ابريل" وغيرها من الحركات، وهناك المقدمات القريبة والمتمثلة في صفحة "كلنا
خالد سعيد" التي تم إنشاؤها علي الـفيس بوك، ثم اندلاع ثورة تونس ثم الدعوة
من خلال صفحة "كلنا خالد سعيد" إلي القيام بوقفة احتجاجية في ميدان التحرير
يوم عيد الشرطة 25يناير. المرحلة الثانية هي مرحلة الثورة بين 25 يناير و11
فبراير، ويتم فيها رصد كل الأحداث سواء المظاهرات أو أحداث العنف والشغب
وحرق أقسام الشرطة وفتح السجون، والمظاهرات المضادة السلمية والمسلحة،
بالإضافة إلي التصريحات الرسمية، ومرحلة قطع الاتصالات ونشر الشائعات،
بالإضافة إلي الأحداث داخل ميدان التحرير. المرحلة الثالثة وهي ممتدة تبدأ
فيما بعد تنحي الرئيس مبارك ويتم فيها رصد تيار الاعتصامات الفئوية، وتيار
التعاطف مع الرئيس السابق، وحالة التشكيك في بعض رموز الشباب من الثوار، أو
حتي الرموز المؤيدة للثورة من الشخصيات العامة، وفتح ملفات الفساد
والمحاكمات لرموز النظام السابق، وغيرها. أما عن تجميع المعلومات والبيانات
فيتم من خلال موقع الفيس بوك من خلال رصد الدعوات للمظاهرات سواءً جاءت من
قبل صفحات أو مجموعات، كما يتم رصد تعليقات المشاركين في مجملها كميا
وكيفيا، بالاضافة الي توثيق كل ما يتعلق بصفحات الموقع سواء المؤيدة أو
المعارضة للثورة، أو للمجلس العسكري أو لنظام مبارك. يتم ايضا الاعتماد علي
مواقع إلكترونية شاركت بشكل قوي في نقل أحداث الثورة، فضلا عن مواقع الصحف
المصرية والاجنبية، وبرامج التوك شو، وتصريحات وخطب وبيانات ولقاءات
المسئولين الرسميين في الدولة، كما يتم تجميع لقطات وافلام الفيديو، وهناك
الصور الفوتوغرافية والوثائق الرسمية السرية. وتضيف أمل"أنه علي عكس مشروع
توثيق ثورة يوليو الذي قامت به الوحدة وظهر انتاجه في شكل كتب وتقارير، فقد
اتفقنا علي ان الشكل الامثل لمشروع توثيق ثورة يناير هو ان يكون من خلال
موقع إلكتروني، نظرا للمستجدات والتغييرات التي تحدث، ليس فقط كل يوم،
وانما خلال اليوم الواحد، اذ تتبدل الامور بشكل سريع ومتلاحق، وبالتالي كنا
نبحث عن وسيلة تمكننا من التعديل والاضافة أو الحذف أو التغيير بشكل ميسر
وسريع، وكان من المفترض أن يتم اطلاق الموقع خلال هذه الايام التي توافق
مرور عام علي الثورة لكن للاسف لم نتمكن من ذلك بسبب عوامل كثيرة منها
اسباب تقنية في تنفيذ الموقع، واخري لها علاقة بانشغال معظم القائمين علي
المركز في العمل السياسي وما يستدعيه من ارتباطات اعلامية. مكونات الموقع
وتشرح امل مكونات الموقع الذي يشرف علي تنفيذه مركز اماك بمؤسسة الاهرام،
فتقول انه سيتضمن عددا من الروابط لتسهيل مهمة المتصفح، ويعتمد اساسا علي
التقسيم الزمني، اي يتم دراسة كل عنصر من عناصر المشروع علي مدي كل شهرعلي
حدة، بحيث يمكننا في النهاية رسم خط بياني يوضح تطور موقف أو وضع العنصر
المدروس خلال عام، وليكن مثلا علاقة مصر بالولايات الامريكية، أو نشاط حزب
سياسي معين. وسيتضمن الموقع روابط موضوعية مثل مسار التحول الديمقراطي،
ومواقف خارجية من الثورات العربية، واخر للثورة المصرية، وهناك رابط بعنوان
"قضايا" ويضم موضوعات مثل الفتنة الطائفية، وأمن الدولة، والتيار السياسي
الديني، والانفلات الامني، وفي هذا الرابط يتم الاعتماد في الجزء الخاص
بجمع المعلومات علي التصريحات والفيديوهات، اما في الجانب التحليلي فنرصد
ونربط الاحداث، كمثل علاقة وقوع حوادث فتنة طائفية بالاعلان قبلها عن خروج
مظاهرات، وكل ذلك بناء علي حقائق وبيانات ومعلومات لا علاقة لها برأي
الباحث نهائيا. هناك ايضا رابط لمقالات الكتاب، حيث نقوم بتتبع مقالات
الكتاب المؤثرين، قبل وبعد الثورة وعمل مقارنة بينها وتحليل اتجاهاتهم،
وهناك رابط للادبيات المتعلقة بالثورة كفكرة من الناحية النظرية والفرق
بينها وبين الانتفاضة مثلا. رابط اخر للوثائق وهي ربما لا تكون متوفرة ولكن
ما يتم العثور عليه يتم اتاحته علي الموقع مثل وثائق ويكيليكس أو وثائق من
جهاز امن الدولة وغيرهما، هناك رابط اخر لطرائف الثورة من شعارات
وكاريكاتير وهتافات، كما سيتم توثيق الاحزاب السياسية الجديدة والائتلافات
والقوانين الصادرة بعد الثورة، والانتخابات البرلمانية والانتخابات
الرئاسية المقبلة. تضيف أمل أنه سيكون هناك رابط لاستكتاب بعض الكتاب الذين
يقدمون دراسات أو تقارير عن الثورة تحت عنوان"دراسات بحثية"، كما يسعون
لعمل رابط يضم حوارات يتم اجراؤها بشكل حصري للوحدة بعيدا عن "الاثارة
الصحفية"، يحصلون من خلالها علي يوميات وذكريات وأسرار وكواليس، عاشتها
العناصر الفاعلة والمشاركة في الأحداث تفيدهم في مسألة التوثيق، مثل شخصيات
عملت في حكومة شرف أو شفيق أو في المجلس الاستشاري، لكن العقبة - كما تقول
أمل- إنهم كباحثين تنقصهم المهارة الصحفية في تحقيق ذلك، اذ يحتاجون لمن
يعاونهم في الاتصال بهذه الشخصيات وتحديد المواعيد وغيرها من الامور، لكنها
تعتقد انه ربما عندما يصبح الموقع الالكتروني "واقعا" ستتيسر الكثير من
الامور سواء تلك المتعلقة بالتمويل أو بالمساعدات الفنية والصحفية. صعوبات
حول الصعوبات التي تواجههم، تقول أمل إن أولها هو قلة عدد الباحثين في
المشروع حيث لا يتجاوز عددهم الخمسة، ويقومون بالشقين التجميعي والتحليلي،
كما اشارت الي فكرة غزارة المواد المتاحة والمطلوب حصرها وتصنيفها، من
ناحية اخري هناك صفحات تختفي أو يتم إزالتها، فمثلا مقالات مصطفي بكري
أزيلت من أرشيف صحيفة الاسبوع، وبالتالي تصعب مهمتهم حيث يضطرون للجوء الي
الارشيف الورقي في دار الكتب مثلا وهو امر يتطلب المزيد من الوقت والجهد.
وتضيف أمل هناك أحيانا صعوبات علي مستوي الشق التحليلي، فمن الصعب الحكم
علي موقف معين أو الربط بين الاحداث أحيانا، سواء بسبب تبدل المواقف
وتغيرها باستمرار، أو بسبب عدم وجود حقائق ومعلومات كافية، فمثلا بالنسبة
للمجلس العسكري، سنرصد ونجمع كل البيانات العسكرية والتصريحات والمؤتمرات
الصحفية، لكن بالنسبة للشق التحليلي، إذا قال بعض الكتاب ان المجلس "متآمر"
فهو رأي خاص، لكن بالنسبة لنا كباحثين لابد ان تكون هناك ادلة وحقائق،
فسنقوم بتوثيق ما قام به افراد الشرطة العسكرية تجاه المعتصمين دون أن نصدر
احكاما، واذا كانت هناك مظاهر قمع سنوثقها، لكن ليس دورنا مثلا ان نقول اذا
ما كان ذلك غير مبرر، كل مهمتنا ان نجمع كل التفاصيل الدقيقة ليتضح المشهد
امام الرائي.
جريدة القاهرة في
24/01/2012
«كُلنا
كده عـايزين صورة»
بقلم : مدحت بشاي
عن إبداع الخالق في خلقه للإنسان، جاء في القرآن الكريم " خَلَقَ
السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَركُمْ "،
وفي الكتاب المقدس " فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَي صُورَتِهِ. عَلَي
صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَي خَلَقَهُمْ.".. لقد كان الإنسان
هو الأعظم في إبداعات الخالق، وكان عليه أن يمارس الإبداع البشري بحرية
ليقدم للكون شهادة لروعة خلقه، ومن هذا المنطلق كان تجمع أهل الإبداع
الإنساني بعد إبداعهم أروع ثورة في تاريخ المصري الإنسان، وفي اجتماعهم
أقسم أعضاء " جبهة الإبداع المصري " بنقابة الصحفيين ..بصوت واحد أقسموا "
أقسم بالله الذي منحنا الحرية ووهبنا العلم.. أن أكون مخلصا لقيم الحرية ،
وأن أدافع بكل كياني عن هوية مصر وتراثها الحضاري بكل منجزاته الفنية
والأدبية والفكرية والأثرية، أقسم بالله أن أكون مستعدا للتضحية بحياتي
ثمنا لحقي وحق الآخرين في التعبير عن الرأي بكل حرية.. ".. إنه جانب من
القسم الذي ردده الحضور( أكثر من 2000 مشارك ومشاركة). الإبداع وأهله يقول
أهل التنظير في أمر الإبداع ان المبدع لا يفكر في ابتكار حلول غير مسبوقة
فحسب، بل يدرك ببصيرة إشكاليات جديدة ، فتكون المعالجة من خلال منظور غير
تقليدي، كأن تكون نقطة الانطلاق علي سبيل المثال عبر تخيل صورة عكسية لأزمة
ما عبر أسهل الطرق لتوليد فكرة جديدة ، فتتولد فكرة إبداع طريق ثالث. فنقول
مثلاً: إذا كانت المدرسة المصرية قد اكتظت بطلابها إلي حد الفشل في تحقيق
أهدافها التربوية والتعليمية ، فليكن الحل الإبداعي أن تذهب المدرسة للطالب
من خلال الدراسة بالإنترنت والمراسلة وغيرها. ولعل أحد أهم أسباب معاناة
شعبنا العظيم ، والتي دفعت شبابنا الرائع لتقدم الصفوف والاحتجاج الغاضب
الثائر بتلك الأعداد للقيام بثورة يناير ، وفضلاً عن تعاظم حالة الفساد
الهائلة وبشاعات الممارسات الديكتاتورية الظالمة والمُهدرة للكرامة
الإنسانية وانتشار مساحات الفقر والجهل والمرض ، فإن افتقاد روح الإبداع
لدي مبارك ونظامه وحكوماته علي مدي الحقب الأخيرة ، وبدعوي الإصرارعلي دوام
حالة الاستقرار المزعومة، وماترتب عليها من سيادة حالة من البلادة والغباء
وفشل قراءة الواقع المصري الإنساني ، كانت جميعها ماعجلت بالقيام بالثورة
وتحقيق الانتصار للإبداع الجماهيري من جانب الثوار.. فكان فوز الإبداع
الانترنتي والفيسبوكي المعاصر في مواجهته لفلول أصحاب الجمال والحمير عند
قدومهم من أزمنة التخلف والغباوة. الثورة مستمرة وبقدر تعاظم ارتكاب
الحكومات المباركية المتعاقبة للمفاسد السياسية ، وتجاهلها جميعاً لمطالب
الناس والبعد عن مجالستهم ، وللأسف امتداد تلك الحالة من التجاهل والتعامل
البطيء مع مشاكلهم إبان الحكومات الانتقالية في الفترة الأخيرة ، وافتقاد
لغة للتعامل مع مطالب وأحلام شباب الثورة والرموز المناضلة علي أرض الميدان
وشوارع الثورة الجانبية، وأيضاً في تعاملها مع المطالب الشعبية (والتي
يطلقون عليها الفئوية للتقليل من قدرها)، ماجعل الثوار في ميادين الحرية
يعلنون أنهم ماضون في ثورتهم بإبداعات وحلول جديدة ، ويؤكدون أن وحدة الصف
في المرحلة القادمة ضرورة حتمية ، لمواجهة قوي يتعاظم دورها في مقاومة
استمرار حالة الإبداع الثورية علي أرض الوطن ، بعد أن خاطبوا في الناس
أثناء الاستفتاءات والانتخابات حالة اليأس كجماعة سياسية ، وغازلوا حالة
بؤسهم كجماعة دينية تطرح حلول الرحمة والتعاطف. من بيرم التونسي إلي أبو
زيد البيومي في الذكري الخمسين لرحيله هل لنا أن نتذكر الشاعر بيرم التونسي
(التونسي- المصري وكأنه الأيقونة التي يمكن أن تمثل شرارة انطلاق نسمة
الحرية والربيع العربي) .. يقول الشاعر فاضحا الحكومة: أربع عساكر جبابرة
يفتحوا برلين / ساحبين بتاعة حلاوة جاية من شربين / شايلة علي كتفها عيل
عينيه وارمين / والصاج علي مخها يرقص شمال ويمين/ إيه الحكاية يابيه؟ / قال
خالفت الجوانين/ اشمعني مليون حرامي في البلد سارحين / يمزعوا في الجيوب
ويكسروا الدكاكين / أسأل وزير الشئون ولا اكلم مين؟! ومع تصاعد دراما
الأحداث في ميادين التحرير، وكسر كل حواجز الخوف كان فتح الأبواب للإبداع
والمبدعين، بعد سنين طويلة تاه فيها الشباب مع ميوعة غناء ومسرح وموسيقي
شباب حجبوا عن الناس إبداعات الرموزالكبار مثل الحجار والحلو ومنير وأنغام
.. لقد رفض ميدان الوطن طرب من لم يشاركوا يوماً في ازدهار الفن الوطني
المصري ، وقدم الميدان نجوم طرب وموسيقي وألحان جدد بعد أن أعطي الملك محمد
منير إشارة البدء بأغنيته الوطنية الرائعة " إزاي ". وكان من بينهم الشاب
الرائع رامي عصام ومن بين ماغني " طاطي طاطي " للشاعر أبو زيد البيومي
ليتواصل بعد كل هذه الحقب مع أشعار بيرم التونسي كحلقة جديدة من حلقات
الإبداع المصري.. طاطي طاطي / إنت في وطن ديمقراطي/ لما تكون شغال بذمة /
خايف علي مصلحة الأمة/ شغلك يطلع من غير لازمة / علشان ما بيعلاش غير واطي
/ طاطي طاطي / إنت في وطن ديمقراطي/ شقاك يصبح مش ليك / فقرك سد السكة
عليك/ ولما الجهلة يبقوا أمامك / أو فوقك ماسكين في دماغك / ولما يسوقك علي
الهلكة إمامك / ولما حاميها يكون حراميها/ وبلاده ورا ضهره راميها / طالع
نازل واكل فيها/ طاطي طاطي / إنت في وطن ديمقراطي. لقد كان للوحة والفنون
الكاريكاتيرية الساخرة والجداريات والخطوط واللافتات والرسوم علي الوجوه
والأجساد ، إضافة للخيارات البديعة لكلمات الهتافات في ميادين التحرير ،
إشراقات ثورية إبداعية لن يغفلها تاريخ الوطن ، بل سيوثقها باعتزاز. وقال
جبرتية الثورة ووثقوا أحداث أيامها وبالفعل كان الشروع في التوثيق حاضراً،
وبتزامن مع مرورالأيام الينايرية وتتوالي الإصدارات الموثقة للأحداث برؤية
إبداعية، منها علي سبيل المثال ما أبدعه الروائي الكبير ابراهيم عبدالمجيد
عبر صفحات كتابه " يوميات الثورة المصرية ". يذكرعبد المجيد "والشرطة تحيط
بالميدان وكأنها تحرس المتظاهرين، وبعض المتظاهرين من الفتيات يقدمن الورد
للجنود والضباط لكن أعداد المتظاهرين تزداد بشكل كبير اندفاع الحشود.. بعد
قليل ذهبنا إلي الميدان، الذي تجاوزت الحشود فيه الخمسين ألفا، وتزداد لحظة
بعد لحظة، إذ تتواتر الجماعات من كل مكان إذن سيمضي اليوم طيبا كانت
الهتافات «عدالة، حرية، كرامة إنسانية»، «مش حنخاف مش حنطاطي إحنا كرهنا
الصوت الواطي»، «صحي الخلق وهز الكون، إحنا بلدنا مش حتهون»، «ثورة في كل
شوارع مصر»، ثورة في تونس ثورة في مصر، «الشعب يريد إسقاط النظام».. دخل
إلي الميدان، كثير من الكتاب» والفنانين، كانت الأخبار السيئة تأتي من
السويس،التي استخدم فيها البوليس القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي
فتسبب في قتلي وجرحي، وكذلك الأمر في الإسكندرية". وفي تجربة إبداعية أخري،
كان إصدار كتاب " أيام الحرية في ميدان التحرير" للكاتب الصحفي محمد الشماع،
والذي نشرت فصولاً منه جريدتنا " القاهرة " إبان تلك الأيام المجيدة..
وأتوقف عند تلك الفقرة من صفحات الكتاب الرائع ..".. إن ما حدث في ميدان
التحرير وكل ميادين مصر هو انقلاب في المفاهيم، فلم يعد شباب الفيس بوك قوة
مهمشة تتجادل في أحقية عمرو دياب بلقب الهضبة أو تامر حسني بلقب نجم الجيل،
لم يعد النقاش مقتصرًا علي أيهما أحرف أبو تريكة أم شيكابالا، توارت
الرسائل الرومانسية والعاطفية، وشكلت حركة 6 أبريل وخالد سعيد وشباب
الإخوان والوفد والجبهة الوطنية للتغيير وجدان الشباب الذي ثار. خرجنا
لنستنشق رحيق الحرية، انهار جدار القلق الأمني، وعبر المصريون الخط المنيع
المسمي قديمًا "الخوف". لم تثبت النظرية الأمنية نجاحها بل أثبتت نظرية
الحق في التعبير والإصلاح والتغيير قوتها، فهتف من هتف وصمت من صمت. لقد
أمضيت أيامًا هي الأهم في حياتي، تحت وابل القنابل المسيلة للدموع والطلقات
المطاطية والرصاص الحي أحيانًا، واجهتُ ورصدتُ أعنف مواجهات شهدها الشارع
المصري، ويا ليتها مواجهات كلامية وفكرية فقط ، بل كانت مواجهات بالأيدي
والأسلحة والبغال والنوق والخيول. لقد شعرتُ بالخوف والقلق علي حياتي وحياة
من كانوا بجانبي، لكني كنت مطمئنًا لأن مصر تغيرت، نعم هي تتغير الآن وقت
كتابتي لهذه السطور، تتغير بسرعة لم نعهدها في العصر الحديث، وعلينا أن
ننتظر لنجني ثمار التغيير.." الحلم الينايري في فضاء مابعد الثورة الذي
نأمله رحباً وسيعاً.. انشد مواطننا السلفي المسلم الطائع بإيمان أناشيد
وتعاليم السلف الصالح بكل أريحية وقناعة.. رتل ورنم مواطننا المسيحي
الآبائي التوجه والطائع بإيمان لأقوالهم ومستخلصات سيرهم العطرة الروحية
بكل تبتل وسعادة، مادمتما لا تقتربان من مساحات حرية الإبداع الإنساني دون
فرض ماترونه ولا يرونه هم من أفكار. وغرد في دنيا الثورة والثوار مطربنا
المصري .. واصدحت مطربتنا المصرية علي مسارح الإبداع الغنائي مع أعذب
إبداعات النغم والألحان في عالم الطرب الأصيل والخفيف والشعبي والساخر.
أُكتب شاعرنا بالفصحي والعامية وحتي بالحلمنتيشي بعد ثورة يناير أبيات الحب
والغزل والهيام في المحبوب، كان محبوبك فينوس الأحلام أو بنت الجيران، أو
في الولع بمصر الوطن التي حرسها القديرفي أزمنة الصحو والانتفاض والثورة.
وهانحن مواطننا السينمائي والمسرحي والتشكيلي والأوبرالي والإعلامي علي
عتبات دور الخيالة وننتظر سقوط الحائط الرابع وضربات بداية عروض المسرح ،
وافتتاح معارض النحت والرسم والخزف وإبداعات الصورة ، وعتمة قاعات العرض
السينمائي لتضئ العقول وتنير الوجدان بحكاوي الفلاح المصري الفصيح الأصيل.
لا إقصاء لأحد .. لاتصنيف لأحد نعم الفضاء الإبداعي وسيع ورحب للجميع، لا
إقصاء لأحد.. لاتصنيف لأحد.. لاتكفير لأحد بعد ثورة مدفوعة الثمن من قبل
فلذات الأكباد.. أرواح شهداء وعيون شباب الوطن تم تقديمها علي مذابح حب
الوطن العظيم.. وهذا ما خلص إليه المجتمعون في الاجتماع الهائل بنقابة
الصحفيين لرموز التنوير والإبداع ، أطلقوا علي نشاطهم وتجمعهم "جبهة
الإبداع المصري". لقد تمنيت أن يغنوا للوطني النبيل الشاعر صلاح جاهين في
حضور تاريخهم الإبداعي، وتلك اللحظة الوطنية البديعة " صورة.. صورة.. كلنا
كده عايزين صورة "، وإلي من يشوهون الثورة، أذكرهم إذا كنتم لم تشاركوا في
الثورة، فلا ينبغي أن تشاركوا في جريمة الإساءة لدم الشهداء وضحايا ثورة
شعب قرر أن يثور لنيل الحرية، وإقامة العدالة الاجتماعية ، وعودة الإحساس
بالكرامة الإنسانية.. ولي أمل أن يوقع كل مبدع علي أي منتج إبداعي بفخر
مُنتسباً لعضوية الجبهة، ليعلم من يناهضوا الإبداع في مصر المحروسة وجودنا
بطول البلاد وعرضها.
جريدة القاهرة في
24/01/2012
«بلد
الغريب».. من زمن الحصار إلي
زمن الثورة
بقلم : هيثم الغيتاوي
لم تكن صدفة، تلك التي اختارت مدينة السويس لتكون موطنا لأول شهداء
ثورة يناير، وإنما هي تصاريف القدر التي تصر علي أن تضع "بلد الغريب" في
صدارة المشهد دائما، حين يتعلق الأمر بالفداء والتضحية والمقاومة والشهادة،
حتي عندما تكون بعيدة "جغرافيا" عن مسرح الأحداث. تماما كما حدث في الثورة
التونسية، عندما أبهرت مدينة "سيدي بوزيد" المحللين السياسيين كافة، بأن
تنطلق ثورة شعبية تخلع الحاكم في غضون أيام، بعيدا عن العاصمة. لولا صمود
ثوار السويس في الأيام الأولي للثورة لما اكتملت ثورة يناير، وتلك حقيقة لا
ينكرها إلا جاحد، إذ كان سقوط الشهيد مصطفي رجب محمود عبد الفتاح، في
السويس، في أول أيام الثورة، واستمرار المواجهة هناك، بمثابة "قبلة الحياة"
التي أعادت الحياة لصدر ثوار باقي المحافظات، بعد قسوة المواجهة في أول
ليالي الثورة في المحافظات كافة، بعد أن ظن البعض أن الأمر سينتهي عند حد
انتفاضة شعبية "قصيرة النفس" كما حدث في أحداث 17 و18 يناير من العام 1977
. سحرٌ ما في السويس يعيد إنتاج تاريخها من فترة لأخري، جيل أبطال المقاومة
الشعبية ومنظمة سيناء العربية، عبدالمنعم قناوي وكابتن غزالي ، والشهيدان
مصطفي أبوهاشم وسعيد البشتلي، والذين حرموا إسرائيل من استكمال مكاسب
"الثغرة" باحتلال السويس، لينقذوا مصر كلها من الوقوع في فخ "احتلال مقابل
احتلال". تبعهم جيل جديد، انقذ مصر كلها أيضا من فخ إعادة إنتاج انتفاضة
الخبز بـ"نفسهم الطويل". "وجوه علي الشط"، سجل الخال عبد الرحمن الأبنودي
صمودها علي شاطئ القنال طوال سنوات الاستنزاف، إذ فاجأنا الفلاحين في حي
الجناين بقدرتهم علي مواجهة الحرب بزرع الأرض علي خط النار، وبعد 40 عاما،
فاجأتنا السويس أيضا بوجوه أخري في الميدان، تزرع الأمل في مواجهة يأس
النخبة. بفقر أحياء الجناين وزرائب وكفر أحمد عبده، ورغد العيش في الأحياء
التي يسكنها مهندسو شركات البترول وعمال هيئة قناة السويس، تلمس تجسيدا
لقول الأبنودي: "إحنا شعبين شعبين شعبين.. شوف الأول فين والتاني فين..
وآدي الخط ما بين الاتنين بيفوت". تماما كما هو حال مصر كلها في ظل التفاوت
المستفز في الدخل، المحرض علي الغضب والثورة بطبيعته.. لذلك فنحن هنا في
هذا الملف حين نتحدث عن السويس.. قد "نلخّص" مصر الثورة. قسم شرطة
الأربعين.. شيء من دراما المكان الزمن: يناير 2012 مشهد من دراما المكان،
يجسده حال قسم الأربعين اليوم. الجانب الأيمن منه مهجور تماما، ولا تزال
آثار حرقه في جمعة الغضب 28 يناير من العام الماضي باقية علي كل تفاصيله،
بينما تحوّل الجانب الأيسر لقسم الشرطة نفسه، إلي مسجد ببوابة خارجية مفتوح
لأي عابر سبيل، ويحمل اسم: مسجد الشهيد، لتتجاور البوابتان، في مشهد لا
يخلو من الرمزية، بوابة قسم الشرطة بكل ما كانت ترمز له من جبروت السلطة
وظلمها وقهرها، وبوابة المسجد بما ترمز له من قدرة الله علي رد الظلم علي
الظالم، وتغيير الدنيا من حال إلي حال بكلمتين: كُن فيكون. .."فلاش باك"
الزمن: الثانية من ظهر يوم جمعة الغضب 28 يناير الماضي الآلاف يحاصرون مبني
قسم الشرطة، بهتاف "يا حاكمنا بالمباحث، كل الشعب بظلمك حاسس". مدرعات
الأمن المركزي وجنوده ملتصقون بسور القسم. وبمنتهي الغرور والمكابرة يتحرك
أمامنا ضابط برتبة عقيد، حاملا قنبلة غاز مسيل للدموع في كف يده، ويتحرك
خلفه عسكري أمن مركزي ضعيف البنية، يحمل بدوره بندقية "أقصر منه قليلا"
معدة خصيصا لإطلاق ذلك النوع من القنابل. يحاول البعض تهدئة الموقف، ومنع
الشباب الغاضب من إلقاء الحجارة علي القسم ومن يحمونه، "دول إخواتنا يا
ولاد". غرور العقيد وحركته المسرحية بين الصفوف، تستفز المتظاهرين لقذف
المزيد من الطوب، "فاكر القنبلة هتحميك يا ابن الـ...". من دون مقدمات،
تشتد الهتافات، تتصاعد الاحتكاكات "الحذرة" بين صفوف هؤلاء وأولئك، تنطلق
قنابل الغاز من داخل سور القسم، مزيد من الاستفزاز للجموع الغاضبة، لا
يملكون سوي هتاف و"حجارة". تظهر فجأة زجاجات المولوتوف من خلف صفوف
المتظاهرين، تطير لتضرب مصدر قنابل الغاز من داخل سور القسم، تحرق إحداها
جزوع النخل المزروعة في حديقة القسم، وأخري تضرب شباك مكتب المأمور. ينفجر
الموقف فجأة دون سيناريو واضح. ترتبك صفوفنا، يبتعد البعض خوفا من الحرائق،
ويقترب آخرون، تهرب صفوف الجنود والضباط بشكل جماعي من أمام القسم، يتركون
بواباته، تلاحقهم "حجارة" المتظاهرين. يقفز جنود الأمن المركزي من السيارات
العشر "المركونة" أمام القسم، تاركين خلفهم "بطاطين ومعلبات تونة وخبز..
وقنابل غاز سليمة". سيارات الشرطة تحترق، وأخري يحفر عليها المتظاهرون
بالحجارة "نجمة داوود"، وكلمات عميقة المعني، خطيرة المغزي.. "أهلنا حرروا
قسم الاربعين من يهود إسرائيل في حصار 73، وإحنا حررناه من يهود مبارك
النهاردة". وهتاف في الخلفية "حررناكي خلاص يا سويس، وبكره نخلع الرئيس".
كنت أصور المشهد من داخل إحدي ناقلات الجنود التي هرب منها مجندو الأمن
المركزي، خرجت منها بهدية تذكارية "قنبلة مسيلة للدموع" لم تستخدم بعد،
يجوز هنا أن أقول "القنبلة لا تزال في جيبي". وفي اليوم التالي.. وبعد أن
تحوّلت أخشاب القسم إلي رماد، دخلت إلي حجرات القسم الذي تحوّل بين ليلة
وضحاها إلي "مزار ثوري"، لفت نظري عشرات التعليقات علي الحوائط "كل ظالم له
نهاية"، وثلاث كلمات كتبها أحدهم علي حوائط القسم من الداخل، باستخدام قطعة
خشب متفحمة، "أبويا انضرب هنا"! أعادتني تلك الجملة إلي جيل آخر من أبناء
السويس، مر من هنا، قبل نحو أربعين عاما. لم ىُضرب في قسم شرطة الأربعين
بهدف الإهانة، لكنه قاتل هنا، واستشهد هنا، في المكان ذاته، في معركة من
أشرف معارك المقاومة الشعبية في تاريخ مصر الحديث. .. فلاش باك "تاني"
الزمن: 24 أكتوبر 1973أول أيام حصار السويس في السادسة من صباح ذلك اليوم،
ضرب الطيران الإسرائيلي كل شوارع مدينة السويس، إلا شارع الجيش، الذي يقع
فيه مبني قسم شرطة الأربعين. بعدها دخل السويس نحو 36 مدرعة ما بين دبابة
وسيارة مجنزرة لاحتلال المدينة. إلا أن أبطال المقاومة الشعبية نظموا
أنفسهم في عدد من الأكمنة علي طول الطريق، من بينها كمين بجوار "أجزخانة
هلال" الواقعة أمام مبني قسم شرطة الأربعين مباشرة، لضرب طابور المدرعات
الذي يحاول احتلال السويس. بعد معركة طويلة، دمر فيها الفدائيون غالبية
مدرعات العدو، اضطر بعدها الجنود الإسرائيليون للاختباء داخل قسم شرطة
الأربعين، ودارت معركة عنيفة من أجل اقتحام القسم عليهم، استشهد خلالها
الفدائيان أشرف عبدالدايم وفايز حافظ في مدخل القسم، بينما استشهد "عريس
شهداء المقاومة" إبراهيم سليمان، عند محاولته اقتحام القسم بالقفز من علي
السور، فظلت جثته معلقة علي سور القسم حتي فجر اليوم التالي. مكان واحد..
و3 مشاهد.. في 3 أزمنة .. تدفعنا للتساؤل: كيف نجح نظام مبارك وترسانته
الأمنية في خلط الأوراق أمام جيل جديد من أبناء السويس، حتي بات لا يفرّق
تقريبا بين نجمة داوود، ونجمة علي كتف ضابط شرطة في "وزارة داخلية العادلي"؟
تُري، لو وقف أحد أبطال المقاومة الشعبية الذين لا يزالون علي قيد الحياة،
أمام قسم الأربعين بعد احتراقه مؤخرا، ماذا يقول في نفسه؟ وبأي مرارة سيقرأ
الفاتحة علي أرواح زملائه الذين ماتوا علي أسوار قسم الأربعين، لتحريره من
اليهود قبل نحو أربعين عاما؟ زمنا الحصار والثورة أنا صاحي يا مصر أنا
صاحي.. سهران وفي حضني سلاحي. واللي "يقلل من قيمتي".. واللي يكسّر عزيمتي
يحرم عليه صباحي. كان أبطال المقاومة الشعبية في السويس، يتغنون بتلك
الكلمات العنيدة خلال فترة حرب الاستنزاف، ثم خلال مائة يوم حوصرت السويس
فيها بدءًا من 24 أكتوبر 1973 . "التقليل من القيمة" كما ورد بكلمات
الأغنية، كان تعبير "مطاط" يتسع لرصد أكثر من وجه وممارسة وفعل وإجراء، من
شأنه التقليل من قيمة وتأثير وفضل هؤلاء أبطال السويس، الشهداء منهم
والأحياء. أحاول هنا تكثيفها، في رصد ثلاثة أوجه فقط، للتشابه بين حصار
السويس، وصمودها في زمن الثورة، بالإشارة إلي ما تعرضت له مقابر شهداء
الحصار، وما يمارس علي أراضي تلك المقابر حاليا، باعتبار ذلك من قبيل عدم
تقدير هؤلاء الشهداء حق قدرهم. وحتي من بقي من أبطال المقاومة الشعبية،
تعرضوا هم أيضا، وما زالوا، لما لا نتخيله من تجاهل وجحود وعدم تقدير معنوي
أو مادي ملموس، حتي الآن، رغم انتهاء مرور نحو 40 عاما علي صمود المدينة في
حصارها. ثلاث شهادات لفتت نظري في كتاب للمؤرخ "الشعبي" إن جاز الوصف،
الكاتب الصحفي محمد الشافعي، بعنوان: شموس في سماء الوطن، رصد خلاله شهادات
أبطال المقاومة الشعبية في بورسعيد والإسماعيلية والسويس. الملحوظة الأولي:
الفدائي عبدالمنعم قناوي، أحد أعضاء منظمة سيناء العربية، وبطل حصار
السويس، الذي يعمل حاليا "سائق ميكروباص"، قال في شهادته لمحمد الشافعي،
بين سطور كتابه، إن أول تكريم لأبطال المقاومة كان في أول عيد قومي للسويس
بعد الحرب، في 24 أكتوبر من العام 1974، حيث زارت جيهان السادات السويس
ومنحت كل فدائي شهادة استثمار بعشرة جنيهات. والتكريم الثاني كان في العام
1982علي يد اللواء بكير محمد بكير محافظ السويس وقتها، ورغم أنه كان يعرف
أبطال المقاومة فردا فردا ويعرف حجم بطولاتهم بحكم أنه كان قائدا للقطاع
الريفي في السويس خلال حرب الاستنزاف، إلا أن التكريم لم يزد عن شهادة
استثمار أخري.. بعشرة جنيهات أيضا. وعلي سبيل التغيير، في العام 1995 قرر
اللواء مصطفي صادق محافظ السويس وقتها، أن يكرّم الفدائيين هذه المرة بعيدا
عن عادة شهادات الاستثمار، إذ منحهم "شيك" بمائة وخمسين جنيها "حتة واحدة".
الملحوظة الثانية: وهي تخرج من رحم الملحوظة الأولي، إذ يعلّق قناوي علي
"افتعال" دور للشرطة في الدفاع عن السويس أثناء الحصار، بقوله إن الشرطة
كمؤسسة لم تفعل شيئا في ذلك الوقت، لكن علي مستوي الأفراد لا يمكن أن ننسي
بطولة نقيب الشرطة حسن أسامة، الذي رفض أوامر رؤسائه بقبول تسليم السويس
حينما اشتد الحصار، فخلع رتبته العسكرية أمام مدير الأمن شخصيا، وانضم
إلينا في المقاومة الشعبية. (هل مازلتم تذكرون الرائد أحمد شومان الذي كرر
المشهد نفسه في قلب ميدان التحرير ببدلته العسكرية أيضا؟). في مقابل تلك
البطولة، من رجل شرطة في أكتوبر 74، نذكر موقفا مغايرا تماما، وردت بين
سطور شهادة الفدائي أحمد العطيفي. إذ يقول: بعدما حوصر الجنود الإسرائيليون
داخل مبني قسم الأربعين، ولم يجدوا سبيلا للخروج، حرروا إحدي الرهائن وكان
عسكري شرطة، وأبلغونا رسالة من خلاله، بأنهم يطلبون التسليم بشرط أن نضم
لهم حياتهم، إضافة إلي شرط آخر، وهوأن يأتي لهم الرد من خلال العسكري نفسه،
دون غيره. وحين وافقنا علي استسلامهم حقنا لدماء زملائنا، خاف عسكري
الشرطة، ورفض العودة لإبلاغ الرسالة، بما اضطرنا إلي إكمال القتال، لنخسر
المزيد من الشهداء. لكن الفضيحة الأكبر، جاءت علي لسان نقيب الشرطة البطل
حسن أسامة نفسه، في شهادته التي سجلها كتاب الشافعي، إذ يقول إنه كتب
تقريرا بكل ما فعله خلال الحصار وقدمه لوزارة الداخلية والمخابرات العامة
ومحافظ السويس، لأبرر موقفي حين خلعت الرتبة العسكرية وانضممت للمقاومة
الشعبية، لأفاجأ بعد ذلك بضغوط رهيبة من بعض الجهات الرسمية لإجباري علي
التراجع عمّا سردته في تلك التقارير من أنها تصرفات شخصية، دون أي تعليمات
رسمية من رؤسائي، وإجباري علي الادعاء بأن ما فعلته كان بحكم عملي كضابط
شرطة، ينتمي لوزارة الداخلية، بل ومحاولة إجباري علي تضمين تلك التقارير
بعض أسماء بعينها. وحين رفضت ذلك، تعرضت لأقصي معاني الذل والظلم في وظيفتي
فيما بعد، حتي أنهم تجاهلوني بعدم التكريم في احتفالية عيد الشرطة 1996،
التي قالوا فيها إن "الشرطة كمؤسسة كان لها دور في حماية السويس وقت
الحصار". الملحوظة الثالثة: الشيخ حافظ سلامة، بطل المقاومة الشعبية والأب
الروحي للفدائيين وقت الحصار، يحكي في تفاصيل كتاب الشافعي، عمّا دار بينهم
كفدائيين، وبين الدولة ممثلة في المحافظ "اللواء" محمد بدوي الخولي، ومدير
الأمن محمد خفاجة، وقت حصار اليهود للسويس. يكفينا من تفاصيل تلك الشهادة
أن نعرف أن "المحافظ العسكري ومدير الأمن" وافقا علي تسليم السويس، بحجة
"حقن الدماء"، وقلة الطعام والماء والسلاح وقلة عدد الفدائيين ومحدودية
قدراتهم القتالية، وهو ما رفضه الفدائيون بشدة، بحسب شهادة الشيخ حافظ، وهو
حي يرزق، أطال الله عمره. ومن مئذنة مسجد الشهداء، أعلن الشيخ حافظ حينها،
سقوط سلطة المحافظ ومدير الأمن، وأن للسويس "شعب" يحميها، معلنا إدارة
المحافظة من "بيت الله"، لا من بيت المحافظ ومكتبه! ما يعني أن السويس
صمدت، شعبيا، لا رسميا، في زمن الحصار وفي زمن الثورة أيضا. صمدت بفلاحيها
وعمالها وفدائييها وشيوخها وطلابها وفقرائها ومعدميها، بينما جنح
"الرسميون" إلي "التسليم كافة" كعادتهم دائما في كل زمان ومكان. الثورة
مستمرة.
جريدة القاهرة في
24/01/2012 |