منذ أكثر من ثلاثة عقود يشتغل الكاتب والروائي والسيناريست البحريني
أمين صالح على ثقافة الصورة، باعتبارها مكونا رئيسيا للمعرفة، وتعبيرا عن
الروح الجمالية، ولديها «القدرة على استيعاب تطلعات الجماهير»، من دون أن
يغفل الاشتغال بالكلمة باعتبارها «إحدى أدوات النخبة». وإلى جانب الأعمال
الدرامية العديدة التي كتبها وتم إنتاجها، قدّم أمين صالح أعمالا قصصية
بدأها بـ«هنا الوردة.. هنا نرقص» عام 1973، وروائية بينها «رهائن الغيب»
عام 2004، كما اشترك مع مواطنه الشاعر قاسم حداد في كتابة نص مفتوح أسمياه
«الجواشن». على الصعيد السينما التي عشقها وشغف بها، كتب أمين صالح أول
فيلم بحريني بعنوان «الحاجز»، كما ترجم كتاب «السينما التدميرية» (1995)،
و«حوار مع فليني»، وألف «الملاذ»، وترجم كتاب «النحت في الزمن» للسينمائي
أندريه تاركوفسكي، وكان آخر أعماله قبل أسابيع كتابه المترجم «عباس
كياروستامي.. سينما مطرزة بالبراءة»، والذي صدرت الطبعة الأولى منه عن
المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، ووزارة الثقافة في البحرين.
يرى أمين صالح أن مفهوم «السينما كوسط ترفيهي يسعى إلى إمتاع المتفرج
وتسليته» يتجاور مع مفهوم «السينما كنتاج فني يطرح الفنان من خلاله رؤيته
الفكرية والفلسفية عن ذاته وعالمه»، وهو يقول مؤكدا «إنني تعلمت من
السينما، عن العواطف والمشاعر والعلاقات الإنسانية، أكثر مما تعلمته من
الحياة».
«الشرق الأوسط» التقت الروائي والكاتب البحريني أمين صالح على هامش
زيارته إلى الدمام في المنطقة الشرقية، وأجرت معه الحوار التالي..
·
عبر اشتغالاتك الثقافية المتعددة
من السرد وكتابة القصة والرواية، إلى الترجمة، وإلى السينما.. هل تجد أن
الفضاء يتسع لمثل هذا العنفوان، أم أن هذا التنوع قيد يحبس المثقف في عزلته
الثقافية؟
- القصة والرواية والسيناريو والمسرحية هي أشكال تنبع من المصدر ذاته:
الكتابة. عندما أمارس هذه الأشكال لا أشعر بأنني أتنقل بين أقاليم متنافرة،
مغايرة، وغير متجانسة أو متناغمة مع بعضها، بحيث يشكل الانتقال صعوبة أو
تحديا، أو يفضي إلى تشتيت الطاقة وإرباك الجهود. الانتقال يجعلني أشعر
بالحيوية لا التشوش.
أحب أن أعتبر أشكال الكتابة هذه حقولا متجاورة، لا تحدها تخوم شائكة،
أتنقل بينها بلا صعوبة، بلا عوائق، بل برشاقة. كل شكل أو نوع هو امتداد
للآخر، يتفاعل معه ويثريه. إذا كانت هذه الحقول ترحب بي، ككاتب جدير
بالانتساب إليها، وليس كشخص مدع وقليل الموهبة، فإنني أبذل جهدا مضاعفا لكي
أكون عند حسن ظن من يرتاد هذا الحقل.
في فضاء الكتابة مساحات رحبة للتعدد والتنوع. وغالبا ما يحلو لي القول
- عندما يسألونني عن تعدد المجالات - إن هذا يشبه وجودك في غرفة مليئة
بالنوافذ، إما أن تكتفي بنافذة واحدة تطل منها على الأفق، أو تفتح أكثر من
نافذة من خلالها تتعدد الآفاق، وتصبح رؤيتك أغنى وأكثر تنوعا وشمولية.
·
لديك شغف بالسينما، في محيط لا
يزال غريبا عن الفن السابع، هل ذلك يعكس إخفاق التلفزيون في استيعاب همومك
ومعاناتك؟
- لا نستطيع القول إن السينما لا تزال غريبة عن محيطنا، نظرا إلى
شعبيتها وجمهورها الواسع، والكم الهائل من صالات السينما المنتشرة في دول
الخليج، إضافة إلى المهرجانات. أما من حيث الممارسة، فقد شهدت دول الخليج -
في السنوات الأخيرة - طفرة في الإنتاج السينمائي، خصوصا في مجالي الأفلام
الدرامية القصيرة والوثائقية.
عندما بدأت الكتابة للتلفزيون في الثمانينات، كنت وقتها أبحث عن بديل
يعوض غياب السينما كممارسة في واقعنا المحلي. وعندما سنحت لي الفرصة
للكتابة للسينما، في شكل سيناريوهات طويلة وقصيرة، لم أتوقف عن كتابة
الدراما التلفزيونية. لقد اكتشفت أن لكل وسط فني مزاياه وجاذبيته ومتعته،
وشروطه أيضا. وبالتالي، فإنني عندما أكتب للتلفزيون لا أشعر بأن هذا الوسط
لا يستوعب ما أريد أن أتناوله وأطرحه، بل أحاول أن أتكيف مع أجوائه
وإمكانياته وطرائقه وتقنياته، ومن خلال ذلك أسعى إلى تقديم قصصي.
·
بالنسبة إليك، كيف ترى السينما..
هل تتجاوز كونها وسيلة للترفيه؟
- مفهوم «السينما كوسط ترفيهي يسعى إلى إمتاع المتفرج وتسليته» يتجاور
مع مفهوم «السينما كنتاج فني يطرح الفنان من خلاله رؤيته الفكرية والفلسفية
عن ذاته وعالمه».. لكل فرد تعريفه الخاص للفيلم. بالنسبة لي، كلما دخلت
فيلما وجدت نفسي في حلم لا أشتهي أن أخرج منه.
أكرر هنا ما قلته سابقا، إنني تعلمت من السينما، عن العواطف والمشاعر
والعلاقات الإنسانية، أكثر مما تعلمته من الحياة. السينما، في تصوري، حياة
أخرى أعيشها لساعات معدودة لكنها حافلة بما هو آسر وفاتن.. ساعات أخرج فيها
من رتابة الحياة اليومية لأدخل عوالم تتجدد باستمرار، تأخذك كما الأحلام في
رحلات لا نهائية. وغالبا، أحرص على مشاهدة الأفلام التي تنمي وعيي وتوسع
مداركي وتنعش روحي وتعمق حساسيتي.
·
في كتابك الأخير «عباس
كياروستامي.. سينما مطرزة بالبراءة» (2011)، كما في ترجمتك لكتاب «النحت في
الزمن» للسينمائي أندريه تاركوفسكي، ما هو الهم المشترك، الذي يجمع
الكتابين، ويجمعك بهما؟
- في معظم ما ترجمت، كنت أحاول أن أعرف القارئ بسينمائيين كبار قلما
قرأ عنهم أو شاهد أعمالهم أو أتيحت له الفرصة للدخول في عوالمهم. هؤلاء
السينمائيون «تاركوفسكي، أنجيلوبولوس، فلليني، كياروستامي»، وغيرهم بالطبع،
أسهموا في إضافة الكثير إلى لغة السينما، وقدموا في أفلامهم رؤى عميقة على
الصعيدين الفكري والفني، كما مارسوا تأثيرا قويا على المخرجين في مختلف
بقاع العالم. أعمالهم هي تأملات عميقة في جوهر الأشياء والعلاقات، في مسألة
الهوية الذاتية ومعضلات الوجود والقضايا الأساسية التي تمس الفرد والمجتمع،
إلى جانب كونها - هذه الأعمال - استنطاقا مستمرا لعناصر السينما وجمالياتها
وتقنياتها وعلاقاتها بالمضامين والأشكال.
·
رغم أن البحرين تسبق غيرها من
دول الخليج في وجود صالات السينما، فإن حركة الإنتاج السينمائي فيها
محدودة، بعكس التجارب السعودية التي لا تمتلك حتى صالات سينما.. كيف ترى
هذه المعضلة: السينما لا تنمو جنبا إلى جنب مع المجتمع؟
- نعم، إنها مفارقة. لكن الذنب لا يقع على الشباب العامل في مجال
السينما بالبحرين. هم شغوفون بالسينما ويرغبون بشدة في تحقيق أفلامهم التي
تعبر عن ذواتهم وواقعهم، لكن الفيلم ليس كالكتاب أو اللوحة، عملية إنتاج أي
فيلم، حتى لو كان قصيرا، تتطلب ميزانية وتمويلا. وهؤلاء أنتجوا عددا من
الأفلام على نفقتهم الخاصة، ولم يعودوا قادرين على إنتاج المزيد، فهم ليسوا
أبناء عائلات ثرية بل معظمهم من الموظفين الصغار أو من الطلبة. إنهم
يتوقعون من وزارة الثقافة أن تدعمهم ماديا ومعنويا، وأن تسهم بدورها في
تحريك عجلة الإنتاج السينمائي، وتفعيل المناخ السينمائي. القطاع الخاص؟ لا
يرون في السينما المحلية مجالا مربحا للاستثمار، لذلك لا يكترثون على
الإطلاق.
أما بشأن التجارب السعودية، فلا أعرف حقا من أين يحصل المخرجون الشبان
على الدعم، لكن في الآونة الأخيرة ظهر تقرير يرصد الإنتاج السينمائي
السعودي، وبين التقرير أن الإنتاج لعام 2011 قد تقلص بنسبة 38 في المائة عن
إنتاج عام 2010، وانخفض بنسبة 65 في المائة عن عام 2009.. وأخشى أن يصادف
المخرجون السعوديون الصعوبات ذاتها التي يواجهها أقرانهم في البحرين.
·
لماذا بقيت السينما خارج النسيج
الثقافي الخليجي؟
- هي خارج النسيج الثقافي العربي وليس فقط الخليجي. عدد كبير من
المثقفين العرب لا يزالون ينظرون إلى السينما كمجال ترفيهي بحت، لذلك لا
يأخذون بجدية ما تقدمه السينما العالمية من نتاجات، لا يعتقدون أن السينما
قادرة على تقديم أعمال راقية - فنيا وفكريا - تضاهي أعمال الأشكال الفنية
الأخرى، لا يبحثون عن أعمال مخرجين كبار مثلما يبحثون عن أعمال الكتاب
والرسامين الكبار، لا يعنيهم التعرف على تجارب سينمائية قيمة وغنية قد تثري
تجاربهم الخاصة. المثقفون في أنحاء العالم أدركوا مبكرا أهمية وثراء
السينما، بينما يظن الكثيرون هنا أن السينما ينتجها المراهقون لجمهور
مراهق.
·
لديك تجارب متعددة في الكتابة
الدرامية، وقديما كان تلفزيون البحرين متميزا في تقديم أعمال درامية نابضة
بالهمّ الاجتماعي.. حاليا، هل من أمل في ضخ الروح من جديد في مفاصل الإنتاج
الدرامي في التلفزيون والمسرح؟
- في السابق، كان تلفزيون البحرين الحكومي هو الذي ينتج الأعمال
الدرامية، وكان يحرص على إنتاج مسلسلين أو أكثر كل عام، كما كان يهتم بجودة
الأعمال. بعدها تغيرت السياسة الإنتاجية للتلفزيون، وصار يتفق مع منتجين
منفذين لكي يتكفلوا بالعملية، ولأن هؤلاء يهتمون أساسا بالربح، فقد مارسوا
التقشف والبخل في مختلف مظاهر الإنتاج، واستعانوا بالعناصر الرخيصة، بغية
التوفير، ولم يكترثوا بالجودة والخاصية ما دامت أعمالهم يتم تسويقها بيسر
لدى القنوات الخليجية. هذا أدى بالضرورة إلى انحسار الأعمال الجيدة وغلبة
الأعمال العادية المنفذة على عجل.
في السنوات الأخيرة توقف التلفزيون عن الإنتاج ولم يعد يتعامل حتى مع
المنتج المنفذ، فغابت الدراما وصرنا نعتمد كليا على منتجي البلدان
المجاورة.. تلك هي القصة الحزينة للدراما في البحرين.
·
كيف ترون انحسار الحركة المسرحية
البحرينية التي كانت في طليعة المسرح الخليجي؟
- هناك عدة عوامل تسهم في انحسار حركة ما، كالحركة المسرحية، منها
ضآلة الدعم المادي والمعنوي، وانعدام مصادر التمويل، وتفشي النزوع
الاستهلاكي عند قطاع واسع من جمهور يبحث عن التسلية والترفيه وينأى عن
الأعمال الجادة، واليأس المبكر الذي يعتري شباب المسرح بسبب غياب الجمهور
والدعم فيتجه إلى التلفزيون أو الاعتزال، وضمور العمل التطوعي. لكننا نتمنى
أن يتجاوز المسرح محنته.
* «الجواشن» وقاسم حداد
·
كيف هي علاقتك مع مواطنك قاسم
حداد، حيث نعلم أن مشروعا مشتركا جمع بينكما هو «الجواشن»، فهل هناك «تيمة»
معينة تجمع بين أمين صالح وقاسم حداد.. أم أن «الجواشن» يمكنها أن تتكاثر؟
- قاسم حداد هو الصديق الحميم الذي تعرف جيدا أنه سيكون هناك، حين تزل
قدمك وتوشك على الوقوع، ليسندك بقلبه قبل يديه، ويحميك من أي صدمة. أيضا
تستطيع أن تأتمنه على أحلامك وأنت مطمئن.
في بداية السبعينات، من القرن الماضي، جمعتنا زمالة الأدب. كان يكتب
القصيدة، وكنت أكتب القصة. ببطء وعمق نمت الصداقة بيننا وتوطدت كما تتوطد
صداقة الريح والمرفأ، حتى صار بإمكاننا أن نكتب نصا مشتركا بعنوان
«الجواشن». لم يكن هذا النص نتاج حلم مشترك، رؤية مشتركة، لغة مشتركة فحسب،
بل أيضا نتاج صداقة حميمة لا أنانية فيها، لا غرور فيها، لا تسلط فيها ولا
استبداد. لم يحاول أحدنا أن ينسب لنفسه الفضل أو الأهمية. كنا نكتب معا كمن
يلهو، كمن يحلم.
هل سنكتب معا نصا آخر؟ لا أدري. ربما. لم نفكر في هذا بعد.
* البحرين عاصمة الثقافة
·
مع احتفال البحرين بكونها عاصمة
الثقافة العربية للعام الحالي 2012، كيف ترى المشهد الثقافي في البحرين؟
- أغلب الراصدين للمشهد الثقافي يرون أن المنامة جديرة بأن تكون عاصمة
للثقافة العربية لهذا العام، نظرا لجدية الحركة الثقافية، وزخم الفعاليات
الأدبية والفنية على مدار الأعوام السابقة، إضافة إلى استمرارية حركة الطبع
والنشر بتفعيل من وزارة الثقافة.
·
كيف تقيم الفعاليات والاستعدادات
لاحتفال البحرين كعاصمة للثقافة؟
- من السابق لأوانه، ونحن في مستهل العام، أن نقيم الفعاليات، أما
بشأن الاستعدادات فلا شك أن وزارة الثقافة تسعى جاهدة لأن تعطي للعاصمة
زخما لافتا وحضورا مضيئا. وشخصيا، أتمنى أن تولي الوزارة عنايتها للأنشطة
الفنية كأن تشجع - ماديا ومعنويا - إنتاج العروض المسرحية المحلية، وأن
تدعم ماديا العاملين في السينما لإنتاج الأفلام، لكي تعرض هذه الأعمال ضمن
الفعاليات الثقافية الأخرى.
* مسؤولية المثقفين البحرينيين
·
أي دور يتحمله المثقفون
البحرينيون في تجاوز آثار المرحلة الماضية، وماذا ينقصهم للنهوض بهذا
الدور؟
- هي ليست مرحلة «مضت» وتركت آثارا يمكن اقتفاؤها وطمرها أو طمسها، بل
هي «حاضرة» بقوة، قاطنة في النفوس والعقول. وأنا، مثل الكثيرين، أقف حائرا
إزاء ما آلت إليه الأمور. ثمة انقسام - أحيانا نسميه شرخا - حاد ومخيف بين
مكونات المجتمع.. طائفيا واجتماعيا وثقافيا ونفسيا. لم يعد هناك ذلك
التواصل الحميمي. صارت الريبة هي التي تحكم العلاقات، والكذب أيضا بات
شائعا وتراه الأعين المجردة. كل الأطراف تكذب عندما تدافع عن نفسها وعندما
تهاجم خصومها. الكراهية ليست مضمرة أو مموهة، إنها معلنة وتسفر عن وجهها
عند كل مواجهة. صرنا نشم الكراهية عن بعد. العنف البدني واللفظي أصبح رائجا
ويتم تسويغه بأرق الألفاظ. لم يعد هناك أي حوار، أي مكاشفة صادقة مع النفس
ومع الآخر.
لست يائسا إلى حد اللامبالاة، ولست متشائما إلى حد العجز.. فأنا أؤمن
بأن التعايش قدرنا ومصيرنا، وأن الأطراف ستعود إلى رشدها لا محالة، لكن حتى
يتحقق هذا أخشى أن تنحسر الحكمة وتسود الضغينة لفترة تكفي لأن يصل النصل
إلى أعماق الجرح.
·
كيف انعكست الانقسامات في
المجتمع البحريني على النخبة الثقافية؟
- حتى المثقفون انخرطوا في تعميق الانقسام وذلك عبر تبني شعار أو فكرة
بغيضة تقول «من ليس معنا فهو بالضرورة ضدنا».. تجاهلوا المبدأ الأسمى
للديمقراطية، وهو حق الاختلاف، وتشبثوا بكم هائل من الكلمات السامية
«الحرية، الديمقراطية، الحق، العدل، الوطنية.. إلخ» من دون أن يستوعبوا
جوهرها، فراحت - هذه الكلمات - تتبخر وتتداخل وتتكثف لتشكل ضبابا يخفي
الواحد عن الآخر. ولم تعد النخبة قادرة على التمييز بين الصواب والخطأ.
الغالبية من المثقفين انشطروا إلى نصفين، كل نصف تمترس وراء جبهة أو
طائفة أو عقيدة أو مبدأ. تركوا فضيلة الحوار والإصغاء والاحترام، وراحوا
يتراشقون بوابل من مفردات التخوين والتهميش والازدراء والتضليل.
·
ما علاقة ذلك بالحراك الثقافي..
فحتى قبل الأزمة الأخيرة، لم يكن هذا الحراك في أحسن أحواله، خاصة على
الصعيد الإبداعي؟
- لا، لم تكن الصورة داكنة إلى هذا الحد. حركة الطبع والنشر لم تتوقف،
الفعاليات الثقافية كانت متواصلة وإن بنسب أقل، وبغض النظر عن مستوياتها أو
حيويتها. ربما اعترى الخمول الحركة التشكيلية والمسرحية، التي لم تعد تحمل
ذلك الزخم والحيوية والفعالية.
هناك أصوات شعرية وقصصية جديرة بالاهتمام، لكنها تحتاج إلى وقت لكي
تجد نتاجاتها صدى إيجابيا لدى القراء والنقاد معا، فتعبر الحاجز المحلي
بيسر وثقة.
الشرق الأوسط في
22/01/2012
السينما الخليجية.. الواقع والتحديات
أمين صالح
بداية، أريد أن أبدي تحفظي على مفهوم أو مصطلح «السينما الخليجية» لأنه
مصطلح غير دقيق جغرافيا، هل هي السينما المنتجة في دول مجلس التعاون
الخليجي، أو الدول التي تقع حول الخليج، أو الدول العربية المطلة على
الخليج؟!
وغير دقيق فنيا لأنه يوحي بأن هناك، في دول الخليج، سينما ملتحمة عضويا،
لها ملامح فكرية وفنية وجمالية واضحة وملموسة، في حين أنها مجرد محاولات
وتجارب فردية، متباينة المستوى والقيمة، طرحت نفسها في فترة قصيرة زمنيا..
لا توحدها سمات معينة أو ملامح خاصة أو شخصية متفردة تميزها عن السينما في
أقطار عربية أخرى.. لا من حيث الأشكال والأساليب، ولا المضامين التي
تطرحها.
الأفلام المنتجة في دول الخليج لا تزال - تاريخيا - في طور النشوء والتكون.
لقد أنتجت دول الخليج، منذ السبعينات - من القرن الماضي - وحتى الآن عددا
قليلا جدا من الأفلام الدرامية الطويلة، أما الأفلام القصيرة فكانت تنتج في
فترات متباعدة وبوسائل متواضعة إن لم نقل فقيرة، ولم تتزايد وتنتعش إلا منذ
سنوات قليلة.
فنيا، أغلب هذه الأفلام لم ترق إلى المستوى الذي نحلم به أو نطمح إليه، أي
تلك التي تتناغم فيها الرؤية العميقة للواقع وللحياة، مع الأبعاد الجمالية
التي تحققها عناصر فنية بارعة وواعية. كانت محاولات فردية، بجهود ذاتية
طموحة وتكاليف بسيطة، لم تستطع أن تؤسس لحركة سينمائية قادرة على أن تفرض
نفسها على الواقع، وأن تخلق كوادر فنية مؤهلة، وأن تستقطب التمويل اللازم،
سواء من الحكومات أو القطاع الخاص لدعم هذه الفعالية أو حتى للاستثمار في
هذا المجال.
هذا لا يعني أن تلك المحاولات ساذجة وبدائية ولا قيمة لها. بالنظر إلى كل
محاولة كحالة مستقلة، كفيلم قائم بالعناصر الفنية المتاحة والإمكانات
المادية المتواضعة، يتحتم علينا القول بأنها محاولات شجاعة، جريئة، جديرة
بالثناء والإعجاب. وفنيا، هي لا تخلو من ومضات والتماعات لافتة، قدمها شباب
شغوفون بالفعل السينمائي.
في السنوات الأخيرة شهدت أقطار الخليج طفرة في إنتاج الأفلام القصيرة
والوثائقية، وهذا ما لاحظناه بجلاء من خلال مشاركات المخرجين الشباب في
المسابقات والمهرجانات، حيث شاهدنا العشرات من الأفلام القصيرة ذات
المستويات المتباينة فنيا وتقنيا، المتنوعة في مواضيعها، والتي تتفاوت في
الجودة والضعف، العمق والسطحية، الجدة والاستسهال.
من المؤكد أن هذه الطفرة هي نتاج المسابقات المحلية والخليجية، حيث إن هذه
المسابقات تشكل دوافع وحوافز تشجع السينمائيين على الإنتاج والمشاركة، كما
أنها توفر مناخا حيويا يتحرك فيه الشباب بحماسة ظاهرة. لقد ساهمت
المهرجانات في إبراز مواهب عدد من السينمائيين الشباب في مجالات الإخراج
وكتابة السيناريو والتصوير والعناصر الفنية الأخرى، هذه المواهب قدمت عددا
من الأعمال الجيدة واللافتة، على مستوى الموضوع أو الشكل الفني الجمالي،
بلغة بصرية متقنة.
لكن المهرجانات عادة هي فعالية تهدف إلى إقامة مسابقات، وتسويق الأفلام، مع
الاهتمام بتظاهرات معينة وإتاحة الفرصة للسينمائيين للالتقاء بالجمهور
والنقاد والصحافيين، لكن لا يمكن للمهرجان أن يعوض عن النقص الأكاديمي، أو
يكون بديلا عن غياب المعهد أو الثقافة السينمائية.
لقد ساعدت التقنيات الحديثة، وخصوصا كاميرا الديجيتال، في تطوير العملية
السينمائية، سواء في ما يخص التصوير أو المونتاج أو تسجيل الصوت، وحلت
مشكلات كثيرة، وهي متوفرة بسهولة. ومع أنني أشجع استخدام مثل هذه التقنيات،
إلا أنني أربط استخدامها بضرورة وجود رؤية حديثة أيضا، فهذه الرؤية هي التي
تحدد للمبدع ما يريد أن يقول.
عندما يلجأ الشباب، في الخليج كما في بقاع أخرى من العالم، إلى استخدام
كاميرات الفيديو للتعبير عن ذواتهم وواقعهم، عن مشاعرهم ومواقفهم، فإنهم لا
يؤخذون بجدية، بل يواجهون وافرا من صيحات الاستهجان والسخرية لأنهم لا
يستخدمون كاميرات السينما.
عند الحديث عن الأفلام المنتجة في دول الخليج، كيف يمكن أن نقيم - نقديا -
تجارب سينمائية (تشمل الأفلام الطويلة والقصيرة معا) لا تزال تعيش
طفولتها.. طرية وهشة لا تزال (رغم أنها تعد بالكثير).
هل يمكن لهذه التجربة، محاطة بما لا يحصى من عقبات وعراقيل ومشكلات، أن
تصمد أمام نقد صارم لا يكترث بالمبررات والمعطيات، بل بالنتائج، بما هو
معروض على الشاشة كعمل منجز، منته، مكشوف أمام النقد والتقييم، أمام
استجابات وردود فعل الجمهور والنقاد على سواء؟
لكن، من جهة أخرى، هل حداثة التجربة وطراوتها، بحكم البدايات، تشفع لمنتج
الفيلم (أعني من يحقق الفيلم) كل أخطائه وشوائبه ونواقصه؟ هل تكون ذريعة
للتغاضي عن ضعف عمله أو سلبياته؟
إذا كان النقد الصارم عاملا حاسما في إلحاق الضرر بمنتج العمل، وربما تدمير
موهبته الغضة التي لم تتبلور وتتقو وتتماسك بعد، ألا يمكن للنقد المتساهل،
المتعاطف، المتغاضي عن الأخطاء، أن يمارس الضرر نفسه؟
أخيرا، عندما نلاحظ حجم المشاركات من النتاجات المحلية في المهرجانات،
نكتشف أننا إزاء ظاهرة جديرة بالتقدير والاهتمام، وأننا إزاء جيل شجاع يعرف
كيف يتحدى، وكيف يجسد أو يصوغ أحلامه بالصورة والصوت والضوء، وإزاء حركة
سوف تفرض حضورها في الفضاء السينمائي.
لا بد أن هؤلاء الشبان، منتجي الأفلام، يتمتعون بروح عالية من الشغف بالفن
السينمائي من جهة، ومحاولة فرض أنفسهم وأفلامهم، وإثبات حضورهم في الساحة
الثقافية، وانتزاع اعتراف الآخرين بهم. وهم يعلمون جيدا أن أمامهم طريقا
طويلا وشاقا من النضال.
والمطلوب، دعم المواهب الشابة، وتحفيزهم على فتح آفاق جديدة في التعبير
والاتصال، وتحريضهم على اكتساب المعرفة النظرية في الثقافة السينمائية،
ودراسة الأفلام عبر المشاهدة والتحليل، والمعرفة العملية والتطبيقية، وذلك
من خلال ورش العمل المختلفة، والدورات التدريبية المكثفة.. وأن تتاح لهم
حرية العمل بلا كوابح أو محاذير.
* مقتطفات من ورقة ألقاها الكاتب في ندوة أقيمت الاثنين (16-1-2012) في
جمعية الثقافة والفنون بالدمام (شرق السعودية) بعنوان «الفيلم القصير:
الواقع والمأمول».-
الشرق الأوسط في
22/01/2012 |