من بدايات الكون وما قبل البدايات، إلى ما بعد الموت والفناء
والنهايات الهادئة
أو الصاخبة للعالم... من أصغر الناس
وأكثرهم بؤساً إلى سيد الفاتيكان. ومن أصفى
العواطف وأنبلها إلى الرهان الفاوستي على السلطة والديكتاتورية... وكذلك،
من طفولة
السينما حين كانت، بعد، صامتة إلى راهنها وقد باتت هناك سلطات قمعية تريد
أن
تسكتها...
ومن الجسد البشري جثثاً وهدفاً للقمع إلى الجسد نفسه وقد
أضحى مكاناً للاختبار والثأر... ومن الأطفال إلى الطاعنين في العمر
والموت... من
كلّ هذه الأقانيم ومن عشرات غيرها نهلت السينما في العام الذي ينتهي هذه
الأيام
لتملأ أفلام العالم بالمواضيع والحبكات. وبالتجديد المدهش. خصوصاً بالتجديد
المدهش
في أعمال أثارت طوال العام نقاشات وسجالات تكشف عن حيوية هذا الفن، إن كانت
هذه
الحيوية لا تزال في حاجة إلى تأكيد.
ومع هذا، هو العام الذي أعلن فيه كثر
موت الشريط من مقاس 35 ملم الذي كان جوهر السينما وشكل وجودها وحاملها منذ
ولادتها،
أي منذ أكثر من قرن من الزمن. وهذا الإعلان لم يأتِ هذه السنة غُرابياً
ناعقاً
كالعادة، بل على غلاف واحدة من أبرز مجلات السينما في العالم الناطق
بالفرنسية («كراسات
السينما») كما في افتتاحية العدد الأخير لهذا العام من «صنوتها»
الإنغلوفونية «سايت أند صاوند».
والحال أنه حين تعلن مطبوعتان من هذا
المستوى أمراً ما، لا يكون علينا سوى الموافقة. ومهما يكن فإن ما يعلن ليس
موت
السينما، بالطبع، بل موت الحامل المادي الذي حمل الأفلام طوال كل ذلك
الزمن. أما
الأفلام نفسها، السينما نفسها كإبداع، فإنها تواصل حياتها محققة في عام
2011، قمة
ما وصله إبداعها مجتذبة كالعادة مئات ملايين المتفرجين إلى صالات العالم
وأكثر من
ذلك كثيراً إلى العروض المنزلية عبر الوسائل التي تحل أكثر وأكثر مكان
الشريط
الأسطوري 35 ملم.
غير أن الأهم من هذا، بالتأكيد، هو ذلك المنتوج الذي ضخ
أعين المشاهدين وأفئدتهم وحياتهم اليومية بتلك الأعمال التي تأتي لتقول مرة
أخرى،
إن الفن السينمائي يؤكّد من جديد أنه الفن الأكثـــر شعـــبية فـــي تاريخ
البـــشرية كما في حاضرها. ولكـــنه أيضاً الفن الذي يحمل أكثر من أي نتاج
آخر في
راهن البشر، هموم هؤلاء البشر وأحلامهم ومخاوفهم واحتـــجاجاتهم، ناهيك
بتاريخ
المميّزين أو غير المميّزين منهم. والحال أن استعراضاً لمواضيع مئات
الأفلام التي
أنتجت فـــي بلدان كثيرة وعرض أكثرها في الصالات وبعضها في المهرجانات ثم
كلّها على
الشاشات الصغيرة بكل أنــواعها، يضعنا من جديد وفي شكل أكـــــثر وضوحاً
وحدّة من
أي وقت مضى، أمام السينما وقد صارت - في شكل نهائي - ليس فقط مرآة العالم
وصورته بل
أيضاً بلورته السحرية في اقتراحاتها المستقبلية (وليس فقط من خلال أفلام
الخيال
العلمي، بل كذلك من خلال أمثـــولات فلسفية كما في الثنائي «شجرة الحياة»
و«ميلانكوليا») وخريطته الموجّهة وكتابه المطلّ ليس فقط على التاريخ بل
أيضاً على
التمعّن في دلالات هذا التاريخ (كما في «فاوست» وفق تفسير الروسي سوكوروف
لرهان
السلطة والديكتاتورية) سواء كان تاريخ الكون أو تاريخ الجمـــاعات البشرية
أو حتى
تاريخ الأفراد (من الراقصة تينا بوش كما صورها فـــيم فندرز، إلى مؤسس
الـ«إف بي
آي» هـــوفر كمـــا صـــوره كلينت إيستوود... بين آخرين). كـــل هذا بدا
حاضراً في
المشهد السينمائي العالمي لـــهذا العاــم... لكـــنه لم يكن وحده ما صنع
من 2011
عاماً استثنائياً.
انفلاش
إن استثنائية العام تكمن أيضاً في ذلك
الانفلاش الجغرافي الذي باتت تعيشه النتاجات السينمائية ذات المعنى
والأهمية. إذ
صحيح طبعاً أن حصة الأسد من الأموال السينمائية في العالم لا تزال من نصيب
السينما
الأميركية تليها من بعيد سينمات جماهيرية أخرى كالهندية... ولكن صحيح أيضا
أن
أفلاماً تأتي من أنحاء كثيرة ومتنوعة من العالم باتت لها حصص ما هي
الأخرى... ففي
أيامنا هذه بات ثمة جمهور في صالات العالم، خارج المهرجانات وفيما يتعدى
جمهور
النخبة والهواة، لأفلام آتية من تركيا (كما حال «ذات مرة في الأناضول»)
أو من روسيا
أو من إيران (وآية ذلك النجاح الجماهيري والنقدي الكبير الذي كان ولا يزال
من نصيب
فيلم أصغر فرهادي «انفصال»... إنما خارج إيران!) أو فيلم للفنلندي آكي
كوريزماكي هو «لوهافر»
الذي صوّر في فرنسا، أو آخر للأخوين البلجيكيين داردين («الطفل ذو
الدراجة»). والحال أننا إن أضفنا هنا أفلاماً كثيرة تبدأ بـ «الفنان»
الفرنسي الذي
يتحدث عن السينما الأميركية الصامتة، أو «نبع النساء» لرومان ميهاليانو
الذي يتحدث
عن نساء عربيات مسلمات... فسنجدنا أمام تلك الكوزموبوليتية التي كانت
دائماً من
سمات بداوة فن السينما. هذه البداوة تحضر هذا العام أكثر مما حضرت في أي
زمن آخر.
ولنتذكر هنا الأميركي ستيفن سبيلبرغ وقد خصّ المراهق البلجيكي بطل الشرائط
المصورة «تان
تان» بفيلمه الأخير وبما سيليه من مغامرات سينمائية مقبلة على ما يبدو.
ولنفكر
أيضاً بالنيويوركي العنيد مارتن سكورسيزي وقد حقق فيلمه الروائي الأخير عن
صبي
فرنسي يكتشف الحياة والسينما معاً في باريس ما قبل الحرب العالمية الثانية
من خلال
جورج ميلياس أحد مؤسسي هذا الفن.
إنه للافت حقاً أن يتجه سكورسيزي، بعد
سبيلبرغ بالطبع، إلى الأطفال ومجابهة العالم بعيونهم في عام لا بد لنا أن
نقول إنه
كان عاماً تميّز بوفرة عدد أفلامه التي تتحدث عن الأطفال أو إليهم... وهي
ملاحظة
كانت فرضت نفسها علينا منذ عروض مهرجان «كان» الأخير على الأقل، حيث بدا
لنا مدهشاً
أن نرصد كيف أنه في الوقت الذي بدأ فيه الأطفال يختفون من السينما
الإيرانية التي
كانت جعلتهم كنايات ومفاتيح لفهم الراهن والمجتمع راحت تتخلى عنهم (بل
تجهضهم مثلاً
في فيلم محمد رسولوف الرائع «إلى اللقاء»!)، ليحضروا في سينمات أخرى
أحياناً بصفتهم
الجمهور الذي تتوجه إليه (ولا سيما بالأفلام الثلاثية الأبعاد التى يكاد
رواجها
يبدو أسطــورياً) وأحياناً أخرى بصفتهم مواضيع أفــلام للكبــار (كما في
«الطفل ذو
الدراجة» أو «لو هــــافر» أو «بوليس» أو «اندلــعت الحرب» أو عشرات غيرها
من أفلام
متــنوعة المــواضـيع والأهــداف...).
بعيداً من الواقعية
ما الذي
يجب علينا أن نفهمه حين يهرب بابا روما من
المنصب الذي انتخب لملئه في فيلم ناني
موريتي، أو حين يتجابه فرويد ويونغ علمياً
من أجل امرأة هستيرية، أو حين يقرر
المحقق في فيلم جيلان أن يغض الطرف عن
الحقيقة الجارحة بعد أن تنكشف الجثة والجريمة
والقاتل؟ ما الذي يجب أن نعمل الفكر فيه حين تتكاتف مدينة فرنسية بأكملها
في «هافر»
كوريزماكي كي تنقذ طفلاً أسود من الطرد موصلة إياه إلى أمه في لندن؟ وكيف
علينا أن
نفهم موقف الفتاة الحاضنة الصبي في «الطفل ذو الدراجة» وعشرات غيرها من
المواقف غير
المتوقعة في عشرات الأفلام الأخرى التي نالت حظوة حقيقية، نقدياً
وجماهيرياً طوال
هذا العام؟ هل ترى هذا كلّه يصوّر واقعاً نعيشه أو نرصده في كلّ يوم؟
ليس
بالضرورة... وليست أفلام هذه السينما
واقعية بأي حال من الأحوال بل هي أفلام تتحدث
عن كيف يجب على العالم أن يكون. لا أكثر ولا أقل. فالحال أن في هذا الزمن
الذي يصل
فيه العالم معنوياً وأخلاقياً إلى أسفل السافلين وتكاد فيه التغييرات، سواء
التلقائية أو التي تتحقق بفعل تضحيات كبيرة أو بفعل تقدم تكنولوجيّ أو ما
يشبهه،
تبدو القيم على اندثار تحت وطأة الفوضى السياسية أو الاقتصادية... كما تبدو
المؤسسات الفكرية أو الجامعية أو الأممية عاجزة عن فرض أية قيم جديدة – هذا
إن
أدركت ضرورة فرضها على أية حال! – وإذ يسيطر الإعلام وتخبطاطه على المشهد
اليومي
بكمّ الدماء السائلة فيه إلى جانب المواقف اللاأخلاقية وضروب العنف
واستغباء الناس.
وإذ ينزوي المفكرون والفلاسفة في الظلام يتخبطون غير قادرين على مبارحة
الحواجز
التي تمنع أفكارهم – مهما كان صوابها – من الوصول إلى الناس، ها هي السينما
تبدو
وقد حلّت مكان هذا كلّه، تحمل الأبعاد الأخلاقية والرؤى الفلسفية وتعبّر عن
المخاوف
لكنّها في الوقت نفسه تتنطح لاقتراح الحلول والمخارج. وهي في هذا العام
الذي ينتهي
والذي يبدو واحداً من أكثر الأعوام ارتباكاً في التاريخ البشري المعاصر،
تقول ما لم
يعد في الإمكان قوله في أي مكان آخر. وهي تقوله ليصل إلى كلّ مكان... وإلى
أيّ
مكان. تقوله وكأنها تستحوذ لمصلحتها وعلى طريقتها مقولة ماركس الشهيرة –
التي قالها
هو عن الفلاسفة في زمنه: «حتى اليوم نحا الفلاسفة إلى تفسير العالم والآن
بات عليهم
أن يغيّروه»... ترى أفلا يمكننا أن نقول عن السينما هذا القول نفسه اليوم
إذ نستعرض
خصوصاً توجهات أفلام العام... في وقت نتذكر فيه كيف أن آخر الأنظمة القمعية
في
العالم تضطهد السينمائيين أكثر ما تضطهد أي فريق آخر من المبدعين وتكاد
رقاباتها
وضروب منعها الأحمق تطاول الأفلام أكثر مما تطاول أية إنتاجات إبداعية
أخرى؟
معجزة السينما
إنه سؤال سبق دائماً أن طرح منذ صارت السينما
تفكّر، لكنه في هذا العام يطرح أكثر مما طرح في أي زمن آخر. وذلك
لأن عام الأسئلة الكبرى حول الوجود ونهاية الكون، حول الأخلاق ومصائر
القيم، حول
الطفولة والفن، حول الحقيقة والتاريخ وحول كل ضروب التفاوتات العرقية
والطبقية
والمتعلقة بالوعي، يشرئب اليوم بعنقه ليجابه العالم وقد أدرك أن ميدان
المجابهة لم
يعد سوى واحد من اثنين إما الميادين العامة وإما أمام الشاشات، مع العلم أن
تلك
الميادين العامة قد تسرق وقد يجعل السارقون من السينمائيين من أهلها أول
ضحاياهم،
أما الأفلام فإنها كالعصافير لها أجنحة توصلها إلى كلّ مكان وإلى أي مكان؟
ترى لولا
تلك الأجنحة أية معجزة كان يمكنها أن توصل، على سبيل المثال، الإيراني جعفر
باناهي
إلى «كان» في الجنوب الفرنسي بأحلامه وأفلامه وابتسامته الساخرة من جلاديه،
في
الوقت الذي كان هو يقبع في شقته في طهران مكبّلاً بألف قيد وقيد؟
الحياة اللندنية في
23/12/2011
10
أفلام مميّزة لعام حافل
لا شك في ان العام المنقضي بدأ من الناحية السينمائية بداية واعدة،
على صعيد
العروض العالمية في شكل عام. ولا شك ايضاً في ان السينما الأميركية بدت
مستعيدة
ألقاً اجتماعياً في الأفلام التي حققت نجاحات كبيرة من الناحيتين النقدية
والجماهيرية... ومن المنطقي القول هنا ان ترجيحات جوائز
الأوسكار ثم طبيعة الأفلام
التي نالت هذه الجوائز، اتت داعمة لهذا التوجّه العام... غير ان هذا كله ما
لبث ان
أخذ حجمه الحقيقيّ بالتدريج مع مرور الأسابيع والشهور، الى درجة انه ما إن
اطلت
المهرجانات العالمية – الأوروبية بخاصة – حتى تبيّن ان سينمات
غير اميركية او
اميركية هامشية هي التي تحتل الساحة ، نوعياً على الأقل. ولعل هذا ما
يمكننا ان
نشدد عليه من خلال اللائحة التالية التي نتابع فيها هنا، تقليداً كنا
بدأناه قبل
سنوات بوضع لائحة تضم الأفلام العشرة التي نرى انها الأفضل بين ما شاهدنا
خلال
العام. وفي لائحة عامنا المنصرم هذا، سيلفت بالتأكيد غياب اي
فيلم سينمائي عربي
وكذلك قلة عدد الأفلام الأميركية، مع ملاحظة جديرة بالذكر هي ان ثمة في
لائحتنا
فيلماً يعتبر «اميركياً» (هو «منهج خطير») لكن موضوعه اوروبي ومخرجه كنديّ،
وإنتاجه
انكليزيّ. كما ان الفيلم الأكثر اميركية، موضوعاً وأجواء
وأسلوباً (وهو «الفنان»)
ليس في حقيقته سوى فيلم فرنسي! اما الأميركيان الخالصان، فإن اولهما («شجرة
الحياة») لمخرج هامشيّ جداً... وثانيهما اوروبي الهوى في شكل او في آخر!
وهنا
اللائحة.
>
في المقام الأول يأتي الفيلم الذي عاد به تيرينس مالك الى
الشاشة بعد غياب
سنوات. وهو طبعاً «شجرة الحياة» الذي يمكن القول انه قسم المتفرجين والنقاد
في شكل
حادّ منذ عرضه الأول في دورة هذا العام لمهرجان «كان» حيث فاز بالسعفة
الذهبية.
فيلم مالك الخامس خلال اكثر من ثلث قرن بدا شديد الخصوصية والاختلاف عما
كان يمكن
توقعه: فيه حكاية الخليقة والوجود والأسئلة الإنسانية والموت والحياة، انما
من طريق
حكاية عائلة اميركية بسيطة في الخمسينات من القرن العشرين. ما تميّز به
الفيلم
ايضاً لغة سينمائية احتفالية واستخدام خلاق للموسيقى ولتيار
الوعي – من جانب الراوي
-
والتصوير بحيث ان هذا كله جعل المتفرجين يتذكرون تحفاً سينمائية سابقة مثل
«2001
اوديسا الفضاء».
>
بعد «شجرة الحياة» مباشرة – وهذا الالتقاء بدأ منذ عرض الفيلم
الذي نتحدث
عنه مع فيلم مالك في «كان» ليتنافسا على الجائزة الكبرى ثم ليكتفي فيلمنا
هذا بأقل
منها - يأتي فيلم «ميلانكوليا» (الكآبة) للدنماركي لارس فون ترير. هو الآخر
فيلم
كبير أساسي وتأسيسي موضوعه نهاية العالم ولكن بأسلوب ولغة وعمق تختلف
تماماً عما
تتسم به معظم افلام نهاية العالم التي تصنعها السينما
الأميركية. فلا رعب هنا ولا
ضخامة ولا دمار... بل فقط حكاية شقيقتين تقسم الفيلم قسمين. في الأول عرس
الشقيقة
الصغرى، وفي الثاني انتظار الشقيقتين معاً لكوكب آت من الفضاء الخارجي
ليصطدم
بالأرض ويفنيها. وكل هذا في جوّ يبدو اقرب الى «موسيقى الحجرة»
الحميمة منه الى
السيمفونية الضخمة. وليست الاستعارة من الموسيقى هنا صدفة، لأن الفيلم كله
مبني على
مستوى موسيقي أسوة بحال فيلم تيرنس مالك الذي يبدو، في نهاية الأمر
متكاملاً
معه.
>
الفيلم الثالث، بدوره، يأتي من دورة «كان» الأخيرة وهو فيلم
تركي. هو العمل
الجديد لنوري بلجي جيلان، المخرج الذي اعتاد ان يحوز جائزة وأكثر عن كل
فيلم يحققه
ولا سيما في مهرجان «كان». هنا ايضاً نجدنا امام عمل يكاد يكون حميمياً على
رغم
اتساع رقعة موضوعه الجغرافية، ويبدو في نهايته مضيئاً مشعاً
بالإنسانية والعمق على
رغم ان ثلاثة ارباع مشاهده تصوّر في العتمة. كأننا امام عمل لتشيكوف
وحوارات لآرثر
ميلر... ومع هذا يبدو الفيلم تركياً خالصاً... اما «حكايته» فتدور في الريف
من حول
جريمة عاطفية والتحقيق حولها بدءاً من البحث عن جثة القتيل في
اجواء تذكّر القارئ
العربي بكتاب توفيق الحكيم «يوميات نائب في الأرياف».
>
في المرتبة الرابعة ايضاً فيلم من «كان» هو «الفنان» لميشال
هازانوفيسيوس،
وهو الفيلم الذي ثار من حوله إجماع مدهش، اولاً لغرابته (فهو عمل بالأسود
والأبيض،
صامت، مصوّر على طريقة عشرينات القرن الفائت في زمن الأبعاد الثلاثة وما
يتجاوز
الدولبي صاوند!!)، وبعد ذلك لأن مخرجه اشتغل عليه بإتقان غير
متوقع ولا سيما في
مجال ادارة ممثليه. والفيلم هو كذلك فيلم عن السينما وعن زمن انتقالها من
الصامتة
الى الناطقة من خلال ممثل شهير يعيش رعب ذلك الانتقال في وقت يعيش فيه
غراماً صعباً
مع فتاة كورس كان ساعدها لتصبح نجمة ولسوف تساعده هي كي يستعيد مكانته ...
ولكن في
السينما الناطقة هذه المرة.
>
كان يمكن ثلاثة افلام من ثلاثة مخرجين مخضرمين وشديدي
الأوروبية ان تتقاسم
المركز الخامس، لكن هنة من هنا او خيبة من هناك جعلت – بالنسبة الينا -
واحداً من
الثلاثة يحتل المكان وحده. فمن بين «صار لدينا بابا» لناني موريتي و «الجلد
الذي
اسكنه» لبيدرو المودوفار و «مذابح» لرومان بولانسكي، كان لا بد
لنا من ان نختار
الأول وكأنه بموضوعه ولغته وجرأته وكونه يتناول موضوع السينما نفسها في شكل
موارب،
يمثل الفيلمين الآخرين ايضاً. هو فيلم عن انتخاب رأس للكنيسة الكاثوليكية
سرعان ما
يجد نفسه بعد انتخابه مرعوباً امام المسؤولية ومهمات المنصب
فيهرب ويؤتى له بمعالج
نفسي يحاول انتشاله من رعبه وإعادته الى مركزه السامي.
>
لو كان فيلم الروسي الكساندر سوكوروف الجديد «فاوست» قد عرض في
الدورة
الأخيرة لمهرجان «كان» - كما كان معلناً ومتوقعاً - لكان في امكاننا ان
نقول ان
غالبية الأفلام المميّزة لهذا العام انما مرّت في «كان». لكن «فاوست» عرض
في
البندقية وفاز بالجائزة الكبرى هناك. وهكذا خرجنا من «كان» مع
هذا الفيلم الذي اتى،
من ابداع مخرجه ليستكمل الرباعية التي كان سوكوروف قد بدأها بثلاثة افلام
تحدث في
كل واحد منها خلال السنوات الأخيرة عن واحد من ديكتاتوريي القرن العشرين:
هتلر في «مولوخ»، ولينين في «طوروس» وهيروهيتو في
«الشمس»... هنا في الرابع يعود بنا المخرج
الى مسرحية غوته ورواية توماس مان عن شخصية فاوست ليضعنا امام
الرهان الشيطاني
لفكرة السلطة، مستخلصاً دروس الأفلام الثلاثة السابقة في عمل هلّل له
النقاد كثيراً
وإن كان اثار لغطاً وسجالات في روسيا.
>
الفيلم الذي نال القدر الأكبر من النجاح في ما يتعلق بلائحتنا
هذه، كان «البجعة
السوداء» الذي يحتل لدينا المركز السابع وإن احتل المركز الأول في اوسكارات
بداية العام. الفيلم من اخراج دارن ارونوفسكي... لكنه، وهذا
امر لا يقلّ اهمية، من
بطولة ناتالي بورتمان في دور كان يمكن ان تحلم به اية ممثلة في اي مكان من
العالم،
دور راقصة باليه صبية وقلقة ونزيهة، يطلب اليها ان تقوم بدوري البجعتين
البيضاء
والسوداء في باليه تشايكوفسكي «بحيرة البجع» فتضحي ذات ازدواج
في الشخصية
مدمّر.
>
بعد هذا، هناك في لائحتنا فيلم ايراني...ايراني لكنه ليس
سياسيا او فيلم
اطفال او فيلما «معارضا» حقّق في الخارج. هو فيلم ايراني من الداخل يتناول
قضية
الزوجين والمجتمع. انه فيلم «انفصال» لأصغر فرهادي الذي كان بالتأكيد إحدى
مفاجآت
العام الكبرى. الفيلم الذي قال الكثير عن امكانية تحقيق ابداع
يقول كلّ الجمل
الاعتراضية ومأساة المرأة والمجتمع في عالم يزداد تزمتاً وانغلاقاً عاماً
بعد عام،
من دون ان يبدو عليه انه يفعل ذلك. في اختصار، يشعر المعنيّ - سينمائياً
وسياسياً
واجتماعياً - انه هنا امام تحفة سينمائية حقيقية.
>
تحفة ايرانية ايضاً، ولكن من وجهة اخرى. العنوان هذه المرة
يقول كلّ
الحكاية «هذا ليس فيلماً»... اما اسم المخرج، فإنه يضيف الكثير الى الحكاية
نفسها:
جعفر باناهي. فمن المعروف ان باناهي هو في
وطنه ايران قيد الإقامة الجبرية لأسباب
سياسية طبعاً. لكنّ الأقسى من هذا هو ان السلطات الإيرانية
منعت باناهي من صنع
افلام لمدة عشرين سنة. فما العمل؟ ببساطة يتعاون باناهي وهو معتقل في بيته
مع صديق
سينمائيّ له، ليصورا حواراً طويلاً يحكي فيه باناهي عن السينما، عن
اعتقاله، عما
يحدث في الخارج، ولكن بخاصة عن الفيلم الذي كان يريد تحقيقه
فمنع من ذلك... وهذا
كله صار عنوانه «هذا ليس فيلماً»... «الفيلم» عرف كيف يتسرب الى خارج ايران
وعرض في «كان» ثم في اماكن كثيرة وتمكن من ان يقول -
مع انه ليس فيلماً!! - كل ما يمكن قوله
عن ايران في الزمن الراهن... بأناقة وقوة تعبير وسخرية هادئة.
>
وأخيراً في المركز العاشر نضع فيلم الكندي دايفد كروننبرغ
الجديد، «منهج
خطير»، وربما لموضوعه اكثر مما لأية تجديدات فنية فيه. فعبر كلاسيكية واضحة
– بدأت
تطرأ على سينما كروننبرغ منذ «تاريخ من العنف» – يتناول هذا المخرج الذي
كان
التحليل النفسي يشكل دائماً خلفية افلامه، حكاية الصراع
والانشقاق بين مؤسس هذا
التحليل وتلميذه الأبرز كارل يونغ، مركزاً على دور ما للمرأة في الخلاف
الحادّ
بينهما والذي طبع تاريخ التحليل النفسي ككل.
الحياة اللندنية في
23/12/2011
الوجه الآخر للهجرة غير الشرعية
دمشق - ابراهيم حاج عبدي
يحفل تاريخ السينما بأفلام تتناول قضايا الهجرة غير الشرعية من زوايا
مختلفة،
وفي المثال العربي نجد أن السينما المغاربية، إذا جاز التعبير، باتت تركز
بإلحاح في
السنوات الأخيرة على هذه الثيمة. ويمكن سوق الكثير من الأمثلة حول أفلام
مغاربية
تعالج مسألة الهجرة. واللافت أن جل هذه الأعمال يبحث في
الأسباب والدوافع التي ترغم
المهاجر على الرحيل عن بلاده، والمحن والمآسي التي يتعرض لها وصولاً الى
«أرض
الأحلام» الموعودة التي غالباً ما تظهر مناقضة لآمال المهاجرين. ولعل أحد
أبرز
الأفلام التي ترد على البال سريعاً، هنا، هو «عدن في الغرب»
لكوستا غافراس.
وإزاء هذه الوفرة في الأفلام التي تتحدث عن التوق الى الهجرة، كباب
للخلاص،
والمعاناة التي يعشيها المهاجر في ديار الغربة والمنافي البعيدة، ثمة أفلام
قليلة
تحاول رصد الوجه الآخر للهجرة غير الشرعية، أي رصد تأثيرات الهجرة على سكان
تلك
البلاد والشواطئ التي تستقبل جموع المهاجرين، وهذا ما ينقله
المخرج الإيطالي
ايمانويل كرياليس عبر فيلمه «تيرافيرما».
السؤال الصعب
يضع الفيلم أبطاله أمام مأزق أخلاقي صعب يتمثل في هذا السؤال: هل لك
أن تدع
شخصاً يغرق، وأنت قادر على إنقاذه؟ للوهلة الأولى، يوحي هذا السؤال بأننا
إزاء فيلم
ذي مضمون فلسفي، يتوه في الكيمياء المعقدة للنفس البشرية. لكن هذا الايحاء
ليس
صائباً، فالفيلم أبسط من ذلك بكثير، على رغم إشكالية هذا
السؤال الوجودي. يستعرض
الفيلم الحياة الهادئة البسيطة لأسرة ايطالية تعيش في إحدى الجزر الصقلية.
جزيرة
معزولة صغيرة لا وجود لها على الخريطة، تعتمد في معيشتها على الصيد، وقد
اكتسب
سكانها عبر السنوات تقاليد وقيماً إنسانية رسختها زرقة البحار
الشاسعة، وكأن رحابة
البحر جعلت صدورهم رحبة أمام الوافدين. غير أن هذه القيم راحت تتعرض، في
السنوات
الأخيرة، لامتحان صعب. فإما الالتزام بأعراف البحر وتقاليده التي تراكمت
عبر
القرون، أو الانصياع للقوانين التي سنتها «المدنية الحديثة»
حفاظاً على مصلحة
البلد، والتي تتنافى مع أخلاق البشر ومشاعرهم العفوية الصادقة. وهذا الصراع
الاخلاقي بين أعراف شفاهية محفوظة في القلوب، وقوانين جائرة مدونة في الكتب
والمجلدات، يحدث شرخاً بين سكان تلك البلدة تعبر عنه شخصيات
الفيلم، ففي حين يتمسك
الجد العجوز ارنستو، وحفيده فيليبو بالصيد كجزء من هويتهم على تلك الجزيرة،
وبالتقاليد المتوارثة عبر الأجيال، نجد ان ابن العجوز قد هجر الصيد وراح
يحتفي
بالسياح الذين يتوافدون على الجزيرة وينظم لهم رحلات سياحية
وسط أجواء احتفالية
مرحة تعبر عن استيائه من رتابة حياة الصيد ونمطية العيش، بينما تتطلع أرملة
ابنه
الثاني (والدة فيليبو) الى جني بعض المال عبر استئجار منزلها للسياح، ومن
ثم السفر
مع ابنها نحو مستقبل أفضل في مكان آخر.
الانعطافة الكبرى في الفيلم تأتي مع ظهور عدد من المهاجرين الأفارقة
على متن
قارب مهترئ بالقرب من الشاطئ، وهم يعانون من الاعياء والتعب، ويستغيثون
للنجدة.
وبعدما يبادر الجد العجوز إلى إبلاغ
الشرطة، يندفع، كصياد خبر أهوال البحر، إلى
إنقاذهم والسير بهم نحو الشاطئ حيث يفر بعض المهاجرين خوفاً،
بينما تمكث مهاجرة
حامل على مركبه، فيضطر الجد الى ايوائها الى أن تلد. وبإقدامه على انقاذ
هؤلاء
المهاجرين غير الشرعيين سيخسر العجوز مركب الصيد؛ مصدر رزقه الوحيد،
وسيتردد حفيده،
لاحقاً، في حادثة مماثلة في انقاذ مهاجرين آخرين طلبوا
المساعدة، في إشارة غير
صريحة الى أن القوانين الرسمية التي تفرض العقوبة على من يخالفها، راحت
تحل، شيئاً
فشيئاً، محل أعراف البحر.
وبعيداً من الانسياق وراء تفاصيل الأحداث، فإن ثمة مفارقتين أساسيتين
يظهرهما
الفيلم، تتمثل الأولى في ذلك التناقض الصارخ بين القوانين التي وضعتها
السلطات
الإيطالية، بل الأوروبية عموماً، والتي ترمي الى مكافحة الهجرة غير
الشرعية، وجعل
البر الأوروبي مغلقاً أمام موجات الهجرة (وهو ما يلمح إليه
عنوان الفيلم «تيرافيرما»
الذي يعني بالإيطالية البر المغلق)، وبين قناعات أولئك البحارة البسطاء
الذين تأبى قيمهم أن يتركوا شخصاً يغرق طالما هم قادرون على
إنقاذه... تلك شرعة،
غير معلنة، صاغتها أمواج البحار عبر السنوات وأصبحت عرفاً سارياً يصعب
التخلي عنه.
أما المفارقة الثانية، فتتمثل في أن تلك
الجزيرة النائية غدت مسرحاً لـ «صراع
طبقي»، فهي تستقبل، من جهة، السياح الأثرياء المرفهين الذين
يبحثون عن المزيد من
البهجة والمرح، ومن جهة أخرى هي محطة لاستقبال أولئك المهاجرين البائسين
الفارين من
القمع السياسي والفقر والحرمان، فيغامرون بأرواحهم للوصول الى الفردوس
الأوروبي
المفقود، إذ يغرق بعضهم خلال الرحلة القاسية، وآخرون ينجحون في
الوصول أحياء لكن
الخيبات الكثيرة تكون بانتظارهم.
اجواء المتوسط
وإلى جانب هذه النزعة الإنسانية التي يصوغ بها المخرج وقائع فيلمه،
ثمة مشهدية
بصرية غنية تستكشف تلك الطبيعة الجميلة؛ الغافية على ضفاف المتوسط، فمن
أزقة ودروب
تلك البلدة الإيطالية الوادعة إلى جدران البيوت وهي تروي حكايات الماضي الى
شواطئ
البحر ومشاهد مراكب الصيد وهي تلتقط رزقها، الى جموع السياح
وهم يصطادون لحظات
الفرح... الى ذلك المشهد «الفانتازي» الذي يعبر عن احتجاج أهل البلدة على
مصادرة
المسؤولين المحليين مركب «البحّار المنقذ»، إذ يغرق الأهالي مخفر البلدة
بأسماك
السردين في مشهد احتجاجي بليغ، وصولاً الى اللقطة الأخيرة التي
تظهر الحفيد الشاب
وهو يسعى الى مساعدة اللاجئة الأفريقية من خلال مركب يمخر عباب البحر
ويتوسع المشهد
شيئاً فشيئاً فيبدو وكأنه لوحة فنية تؤذن بنهاية الفيلم.
لا يسعى المخرج عبر فيلمه إلى تقديم درس في الأخلاق أو تقديم المواعظ
والوصايا
في صورة مباشرة. إنه يقدم تلك البلدة الايطالية المنسية كنموذج للقارة
الأوروبية
التي باتت تضيق بالغرباء والمهاجرين، على رغم الشعارات التي ترفعها عن
الديموقراطية
وحقوق الانسان. لكن أياً كانت المقولة التي يسعى الفيلم إلى
تصديرها، فإن ما يغفله
الفيلم يكمله المشاهد في ذهنه عبر الاسترسال في العودة إلى أوطان أولئك
المهاجرين،
وكيف أن تلك الانظمة القمعية، المستبدة استحوذت على كل شيء، ولم يبق أمام
المهمشين
والبسطاء سوى المغامرة بالأرواح، والفرار نحو أرض لطالما قيل لهم بأنها
توفر الراحة
والطمأنينة والرخاء التي حرموا منها في بلدانهم، لكن هذه
المفردات تظل أحلاماً
تتلاشى عند أول صخرة على الضفة الثانية للمتوسط.
الحياة اللندنية في
23/12/2011 |