لاشك أن مرض الإيدز عواقبه وانتشاره وظروف وقوعه .. كان من أهم
الأحداث التي هزت النصف الثاني من القرن العشرين .. وذلك نظرا لكثرة عدد
ضحاياه وللجو الجنسي الغامض الذي يحيط بولادته.. وإصابة الكثير من المشاهير
من نجوم الفن والمجتمع بأضراره. لكن هذا الطابع الجنسي المريب للمرض
«انتشاره الكبير بين أوساط الممثلين» وضع ستارا رقيقا حوله ومنع الكثيرين
من التصريح به .. لذلك انتشرت الشائعات الكثيرة حول سرعة عدواه وحول الشكوك
المتزايدة التي تحيط بالمصابين به. ولعل أول من تجرأ ومزق هذا القناع
الكاذب الذي تضافرت الهمسات والشائعات والأقاويل علي وضعه علي وجهه .. هو
الممثل الأمريكي الشهير روك هدسون الذي اشتهر بوسامته وعشق الجماهير
النسوية له والذي أعلن بصراحة ووضوح إصابته بهذا المرض. وتعالت الصيحات
والاعتراضات والهمسات وتوالت الاعترافات التي طالت نجوما ذوي شهرة صاخبة
كالراقص الروسي تورييف وعدداً آخر من الكتَّاب والمشاهير. الطابع الأخلاقي
وظلت السينما في هوليوود صامتة عن التعرض لظاهرة هذا المرض .. رغم تكاثر
الحديث عنه ووقفت حائرة بين الدفاع أو الهجوم نظرا كما قلت للطابع الجنسي
والأخلاقي الذي يصاحب عموما هذا المرض القاتل. إلي أن جاء فيلم «فيلادلفيا»
الذي تعرض بجرأة وصراحة لهذا المرض والدفاع عن المصابين به كما ظهر قبله
الفيلم الكندي «سقوط الامبراطورية الأمريكية» والذي قدم فيه العام ضمن
عشرات الشخصيات التي يعج بها الفيلم- مريضا بالإيدز نتعاطف معه أو نشفق
عليه. السينما المصرية تنأي بنفسها تماما عن هذا الموضوع الشديد الحرج ..
الذي يتناقض تماما مع اخلاقنا الصارمة ومفهومنا العام عن الجنس كان هناك
فيلم لشريهان مر مرورا عابرا وكانت البطلة فيه مصابة بهذا المرض العضال
ولكن بعد هذا الفيلم عم الصمت التام. رغم أن عدد الإصابات في مصر قد بدأ
يتزايد بشكل ملحوظ لانعدام الرقابة واسدال ستائر الصمت علي ظروف هذا المرض
وكيف يمكن تجنبه أو كيف يمكن مواجهته. المصاب به يصبح كالمصاب بالجزام أو
الطاعون ضحية للإهمال والاحتقار ويترك عاريا أمام الموت .. وقد تخلي عنه
الجميع بما في ذلك الأطباء الذين يعنون به. لذلك جاء فيلم «أسماء» وهو
الفيلم الطويل الثاني علي ما أظن لمخرج شاب يملك الموهبة والجرأة والاقتحام
.. هو عمرو سلامة بمثابة صرخة ضمير عالية كنا ننتظرها جميعا وذراع قوية
أطاحت بستائر الظلام الداكنة التي كانت تحيط بهذا الموضوع. جرثومة المرض
«أسماء» هي سيدة قروية أصيبت بالمرض بعد أن أصاب زوجها ولم يفصح الفيلم
تماما عن كيفية إصابة الزوج وإن كنا نستنتج بشكل عارض أنه ربما قد أصيب به
أثناء قضائه فترة عقوبة في السجن لتسببه دون قصد في مقتل تاجر أهان زوجته
التي يحبها. «أسماء» رغم إصابتها بالمرض .. تحمل من زوجها وتخشي علي الجنين
ولكن الطبيب يطمئنها وتكتم عن الناس جميعا خبر مرضها ولكن الأزمة تشتد
عندما تضطر لإجراء عملية استئصال حصوة في المرارة يرفض أغلب الأطباء إن لم
يكن كلهم اجراءها لها خوفا من العدوي. أسماء تحمل جرثومة الإيدز رغم أنها
لا تميتها تعمل جاهدة بعد موت زوجها علي إخفاء الأمر عن ابنتها وتضطر
لمغادرة القرية التي ولدت وعاشت بها لأن أهل القرية بدأوا يتجنبونها
ويخافون من الاقتراب منها بل بلغ بهم الأمر ألا أحد يأتي للعزاء في زوجها
الراحل وكأن هذا المريض الذي فقد الحياة مازال قادرا علي اخفاء العدوي.
ويحاول أحد معدي البرامج التليفزيونية الشجعان أن يلقي الضوء علي هذه
الأزمة القاسية وأن يقنع «أسماء» بالحديث عن مرضها وعن أزمتها ومواجهة
الرأي العام. عدوان اجتماعي أسماء في علاقتها مع ابنتها وابيها .. ورجل آخر
مصاب بالمرض نفسه أصابت عدواه زوجته وقتلتها بينما ظل هو علي قيد الحياة
«مشكلته كمشكلة اسماء تماما» يحاول أن يرتبط بها كي يقفا معا في وجه هذا
العدوان الاجتماعي الظالم. لكن أسماء الحائرة بين مأساتها الفردية وبين
ابنتها وبين المجتمع الذي يتابعها بلعناته وإهماله لا تدري من أمر نفسها
شيئا. الفيلم الذي كتب له السيناريو المخرج نفسه يربط بنجاح ورقة بين
المأساة الشخصية والمأساة العامة ويجدل خيطا رفيعا شفافا مليئا بالمشاعر
الإنسانية. ربما كانت شحنة الميلودراما في قصة «أسماء» زائدة عن الحد قليلا
لكن طبيعة مرض الإيدز نفسه طبيعة ميلودرامية جدرانها الكآبة والعزلة
ومنفذها الوحيد الموت. وقد نجح المخرج بقوة مثلا في أن يرسم خطوط العلاقة
بين اسماء وزوجها منذ أن ذهبت إليه في الحقل أمام الجميع وحتي زواجها منه
وحبها له وتعلقها الأعمي به ورفضها الانفصال عنه حتي بعد أن عرفت بسر مرضه
بل رغبتها العارمة في اقتسام هذا «الهم الكبير» معه ثم علاقتها بابنتها
واكتشافها أن هذه المراهقة الصغيرة تحب شابا في مثل سنها وتلتقيه سرا بعيدا
عن انظار الأسرة والمواجهة المدهشة بين الأم وابنتها في واحد من أفضل مشاهد
الفيلم وأكثرها قسوة وحنانا معا. وعلاقة أسماء بالصديق المريض ذلك يزيد من
قوة الخيوط الميلودرامية ولكنه في المقابل يعطي دفقة من الحنان والعذوبة
إلي العلاقات المتشابكة ورسم صورة شفافة لقلب امرأة وعذاب امرأة وكبرياء
امرأة في الوقت نفسه. العقدة المربكة الزمن هو العقدة المربكة في فيلم
«أسماء» . لأن أحداثه تدور علي مدي سنوات طويلة وجد المخرج لها حلا بالعودة
إلي الوراء في أكثر من مشهد مما وقف التدفق الدرامي أحيانا وضلل المشاهد
أحيانا أخري. لكن الحرارة والقوة اللتين استطاع المخرج أن يفرضهما علي
الكثير من مشاهده أعطي الفيلم عنفوانا خاصا زاده قوة أداء هند صبري اقناعا
وتأثيرا. هند «لبست » تماما حالة أسماء في كل تدرجاتها، فهي الهامسة وهي
المريضة وهي الأم الجريحة وهي المناضلة الصامتة وهي الثائرة الجريئة التي
أعطت هند «أسماء» كل ما تملكه وتختزنه من عواطف وانفعالات دخلت في جلدها
أحست برعشاتها تسللت إلي عينيها وحركتها هيمنت عليها وسيطرت تماما علي
أبعادها ولاشك أن المخرج والكاتب كان علي حق عندما أطلق علي الفيلم اسمها
لأنها هي حقا الفيلم كله بكل معانيه وتطلعاته وهدفه الإنساني النبيل ووقفته
الشامخة مع كبرياء الإنسان المجروح. ماجد الكدواني في دور المعد
التليفزيوني يثبت كفاءة عالية أحسست بها أكثر من مرة في أكثر من فيلم ظهر
فيه في الفترة الأخيرة .. إنه يلعب دوره بنفس القوة التي لعبت فيه هند
الدور بدمها وأعصابها. كما تجدر الإشارة بقوة إلي هاني عادل ولا أدري أي
جانب منه تفوق علي الآخر الممثل أم الموسيقي أم أن الصنفين أصبحا متكاملين
لدرجة تلفت النظر وتجعلنا دون تردد نطلق علي أدائه الداخلي صفة الترنيم
الموسيقي المؤثر. نبرة عالية عمرو سلامة في هذا الفيلم ينطلق سينمائيا فذا
يعرف ما يريد أن يقول ويركز علي ما يقوله بصوت ونبرة عالية حتي لو كان
الأمر يحتاج أحيانا إلي الهمس والمفاجأة ولكنها صفة المخرجين الموهوبين في
أفلامهم الأولي يعتمدون علي الصرخة العالية الصادرة من قلب مكلوم أكثر من
اعتمادهم علي النظرة النابعة من الشرايين الحارقة أو المهمشة التي تكاد لا
تسمع . في أسماء أكثر من مشهد قوي اختيار ذكي لاماكن التصوير إدارة بارعة
للممثلين كافة.. حس درامي متنام وإيقاع مؤثر ساحر خصوصا في الجزء الأخير من
الفيلم وقدرة علي رسم الجو بتفاصيل دقيقة مؤثرة وبحس فني ناضج. كلها صفات
تبشر بولادة مخرج شاب نحن بحاجة إلي موهبته وجرأته واقتحامه وذكائه في
اختيار مواضيعه واعتماده علي موهبة نادرة كموهبة هند صبري ليضع هذه «الماسة
المتلألئة» في الإطار الحقيقي الذي يليق بها. وجه هند صبري المضيء والمشرق
والطافح بالأمل والكبرياء والذي يملأ الشاشة بعد أن خرجت أسماء من دائرة
الصمت واعترفت بصوت عال أمام جماهير مصر كلها بطبيعة مرضها وأهمية مواجهته
.. رسالة حقيقية يرسلها عمرو سلامة إلي كل من يعتقد أن «الصمت» هو ضمان
الأمان.. وأن الشفاء لا يمكن أن يتم دون أن تواجهه ونخرج القبح منه. رسالة
سامية لا تمس مرض الإيدز وحده قدر ما تمس كياننا ووجودنا كله وموقفنا أمام
كل الخناجر السوداء التي تحيط بنا وتهددنا.
جريدة القاهرة في
20/12/2011
أهم الأفلام المصرية في 2011
بقلم : أسامة عبد الفتاح
من الممكن أن يكون لك - مثلي - ملاحظات فنية علي فيلم "أسماء"، للمخرج
والسيناريست عمرو سلامة، لكن من الصعب أن تختلف علي أهميته، خاصة في هذا
التوقيت التاريخي الذي يخوض فيه المصريون معركة تقرير المصير، ورسم ملامح
المستقبل، والذي يخوضون فيه أيضا عدة اختبارات تتعلق بمدي قدرتهم علي قبول
الآخر، والأهم: مدي قدرتهم علي مواجهة ومصارحة أنفسهم بأزماتهم ومشكلاتهم
وعقدهم النفسية التي تراكمت عبر سنين من القهر والخوف. "أسماء" ليس مجرد
فيلم عن امرأة مصابة بمرض انهيار المناعة المكتسبة (الإيدز) وتسعي للحصول
علي حقها في العلاج، سواء منه أو من آلام المرارة المبرحة، بل ينطلق سلامة
من هذه القصة البسيطة التي يقول التتر بوضوح إنها قائمة علي واقعة حقيقية،
ليطرح أسئلة أعمق وأشمل عن المجتمع الذي تعيش فيه هذه السيدة، بدءا بأسرتها
الصغيرة ووصولا إلي الوطن الكبير.. وبدا ذلك واضحا في النهاية، حين تفرغ
بطلة المأساة (هند صبري) من مواجهة كل المصريين في برنامج "توك شو" فضائي،
لتعود إلي مجتمعها الصغير وتواجه أسرتها وجيرانها الذين تحلقوا حولها
بنظرات الذهول والدهشة، فيما ارتسمت علي وجهها ابتسامة أمل من الممكن وصفها
بأنها يائسة. ومن فرط وضوح رسالة الفيلم والغرض الحقيقي من صنعه، بعيدا عن
قصة مريضة الإيدز، من الممكن اتهامه بأنه مباشر، حيث توجه البطلة حديثها
إلي المشاهدين، خلال البرنامج الفضائي، قائلة: "لو مت، فلن أموت من المرض
الذي أعانيه، بل من المرض الذي تعانونه أنتم"، في إشارة للخوف والأنانية،
والهروب من مواجهة الذات، والتواطؤ الجماعي علي رفض كل آخر، ونبذ كل
مختلف.. ويحفل الفيلم بالإشارات إلي هذه الأمراض المجتمعية، حيث يرفض جميع
الأطباء والمستشفيات إجراء عملية المرارة لها خوفا من انتقال العدوي، كما
يرفض زملاؤها في العمل بقاءها وسطهم لنفس السبب، مما يؤدي لفصلها. تعبير
بليغ وقد أعجبني المشهد الذي تلقي لها فيه إحدي الزميلات بمبلغ من المال،
تم جمعه لمساعدتها، علي الأرض خشية ملامستها.. والمعتاد - كلاسيكيا - في
مثل هذه المشاهد أن ترفض البطلة قبول المال بإباء وشمم وتنصرف، إلا أن
سلامة يختار ما هو أفضل، حيث تنحني "أسماء" لتلتقط النقود، إلا أنها تقرر
أن تشتري بها كلها مسكنات من إحدي الصيدليات، في تعبير سينمائي بليغ عن أن
مساعدة المجتمع الشكلية لمثل هؤلاء المصابين قد تكون مسكنا مؤقتا لآلامهم،
لكنها لا تكفي لحل مشكلاتهم، ولا تعد مساندة حقيقية لهم. تأثر عمرو سلامة
في بناء جزء كبير من فيلمه ببناء فيلم الأوسكار الشهير "المليونير
المتشرد"، للمخرج داني بويل الذي يقوم علي استعراض أجزاء من حياة البطل
أثناء خوضه مسابقات النسخة الهندية من البرنامج التليفزيوني "من سيربح
المليون"، مما يتطلب الكثير من مشاهد العودة للماضي (فلاش باك)، وهو ما
يحدث بالضبط في "أسماء"، حيث تتم العودة كثيرا لمشاهد من ماضيها أثناء
استضافتها في برنامج التوك شو، بل ان الفيلم يقوم بشكل عام علي "الفلاش
باك".. والمشكلة أن ذلك لا يتم بالدقة المطلوبة في بعض المشاهد التي تسبق
البرنامج، مما يجعل المتفرج في حيرة من أمره، يتساءل: هل ما يراه يحدث في
الحاضر أم الماضي؟ وكما يستعرض "المليونير المتشرد" كواليس "من سيربح
المليون" ويجعل من مذيعه شخصية أساسية تشارك في تحريك الأحداث، يحدث الشيء
نفسه في "أسماء"، حيث ندخل كواليس البرنامج الفضائي مع مذيعه (ماجد
الكدواني) الذي يتحول إلي شخصية محورية تساهم في كسر عزلة البطلة، ويكون
أحد عوامل إقناعها بالظهور في البرنامج لمواجهة الناس والإعلان عن مأساتها.
ميراث الخوف وبعد أن طلبت "أسماء" إخفاء وجهها خلال البرنامج تحت وطأة
الخوف التقليدي من "كلام الناس" وتأثير الفضيحة علي أسرتها، تثور علي ميراث
الخوف عندما تدرك أنه وصل لابنتها - التي تتصل بالبرنامج وترفض الإفصاح عن
شخصية والدتها - وتطلب من المذيع إضاءة وجهها، في دعوة مباشرة للخروج إلي
النور ومواجهة مشكلاتنا، والتخلص إلي الأبد من النعامة الشهيرة التي تدفن
رأسها في الرمال. ويجعلني مضمون الفيلم أعتبره أهم عمل سينمائي مصري في
2011، ولا يعني ذلك أنه الأفضل، وليس من الضروري أن يكون الأفضل، فالمهم أن
رسالته جاءت في الوقت المناسب الذي يحتاج خلاله المصريون إلي وقفة صادقة مع
النفس، وإلي تعلم قبول الآخر، حتي لو كان "علمانيا كافرا" من وجهة نظر
المتأسلمين، أو "إرهابيا متطرفا" من وجهة نظر الليبراليين. قدم عمرو سلامة
فيلما متماسكا إلي حد كبير، وإن أهمل الرسم الجيد لبعض الشخصيات، خاصة الأب
الذي لا توجد مبررات درامية كافية لردود أفعاله، ولم ينقذ الشخصية سوي
الأداء الجيد للممثل سيد رجب.. وهناك شخصيات زملاء البطلة في الجمعية
الأهلية التي تساعدهم علي تقبل المرض والتعايش معه، والذين يبدون جميعا
وكأنهم قطعوا من أشجار، من دون أي عمق أو أبعاد إضافية.. كما عاب الفيلم
اللجوء إلي دراما الصدفة في العديد من المواقف، مثل اكتشاف البطلة علاقة
ابنتها الغرامية بأحد الشباب أثناء سيرها في الشارع. حكم صائب أما هند
صبري، فبذلت مجهودا كبيرا وملحوظا في أداء الشخصية، ولعل ذلك ما دفع
الكثيرين إلي ترشيحها لجائزة أفضل ممثلة في مهرجان أبو ظبي السينمائي
الأخير.. والحق أنه يصعب علي المرء أن ينتقد أداءها بعد أن بذلت هذا
المجهود، لكن الحقيقة أن الشخصية أفلتت منها في العديد من المشاهد، حيث
أدتها بأكثر من أسلوب وأكثر من طبقة صوت وأكثر من إحساس.. صحيح أن الشخصية
تمر بأكثر من مرحلة وأكثر من تحول، لكن ذلك لا يعني أن ينفصل أداء كل مرحلة
تماما عن المرحلة التي تليها، بل يفترض أن يكون هناك إحساس واحد يربط بين
كل المراحل.. ويدفعني ذلك إلي القول بأن حكم لجنة تحكيم أبو ظبي صائب، رغم
أنني لم أشاهد أفلام مسابقة المهرجان الأخري، لأن أداء هند في هذا الفيلم
لا يستحق جائزة في أي مهرجان. والحكم الصائب الآخر لهذه اللجنة يتعلق بماجد
الكدواني الذي فاز بجائزة أفضل ممثل عن جدارة واستحقاق، فقد أدي باقتدار
دور مذيع برنامج التوك شو الفضائي، ولم تفلت منه الشخصية لحظة واحدة، حيث
حولها إلي شخصية من لحم ودم، من دون أن يتأثر أو يقلد طريقة مذيعي البرامج
الفضائية المتواجدين علي الساحة كما يفعل العديد من الممثلين.
جريدة القاهرة في
20/12/2011
«السيدة»
.. أُفلام حقوق الإنسان
تغزو شاشات العالم
بقلم : د. صبحي شفيق
في العديد من دور العرض بشتي أنحاء العالم، يعرض فيلم «السيدة» «The
Lady» وهو يدور حول رحلة كفاح مرير، رحلة أونج سو- كيو، رائدة حركة حقوق
الإنسان في بلدها، وأحد مؤسسي حركة حقوق الإنسان علي مستوي العالم هل بطريق
الصدفة يجيء عرض هذا الفيلم مع زيارة هيلاري كلينتون وزيرة خارجية الولايات
المتحدة لبورما منذ أسبوعين؟ لنبدأ القصة من أول خيوطها.. أصوات متضاربة
كان عمرها عامين عندما استيقظت من نومها علي أصوات متضاربة صراخ وطلقات
نارية، وأم تندفع نحو سرير الطفلة تحتضنها، كأنما دفء صدرها هو درع يحميها
من بطش الطغاة. الطغاة هم حكام بورما وقتذاك، وقد ولدت الطفلة في يونية
1945 وأول ما تفتح عليه وعيها هو اغتيال والدها عام 1947 . لقد تغلغلت
الحادثة في مسارب نفس الطفلة وكلما كبرت في السن كانت تلك الذكري تتحول إلي
رغبة في عمل شيء ما في إيقاف المجازر التي ترتبكها مجموعة من العساكر قاموا
بانقلاب عسكري وتربعوا فوق قمة الهرم الاجتماعي كل من يعرفهم يتعرض للتصفية
الجسدية. فلا قضاء ولا قوي سياسية تضرب بجذورها في قاع المجتمع.. الأغلبية
وتكبر الطفلة وتقفز بسرعة هائلة درجات الوعي والنضج عرفت أن والدها قد
اغتيل لأنه كمحام كرس نفسه لقضية شعبه وبحثت سوكي عن مصدر الحركات السرية
التي توزع المنشورات في الخفاء وتستخدم حوائط المباني لكتابة برامج التطوير
نحو الديمقراطية. والتحقت بتنظيم سري وهي الآن في نهاية المرحلة الثانوية
لكن العسكر لا يهدأ إلا إذا سحقوا بكل من يقاومهم ويقبض علي سوكي وتعرف ما
يدور في السجون: تعذيب، اغتصاب، وحشية جنود تحركهم ميكانيزمات الجنون
الجنسي متعتهم في تمزيق أي فتاة تقع تحت براثنهم لعجزهم عن ممارسة الجنس في
حياتهم اليومية وهذه هي سيكولوجية أي ديكتاتور. أصداء واسعة إلا أن ما يحدث
في بورما كانت له أصداء واسعة في لندن ففي انجلترا ساهم المحامي الشاب
مايكل أريث في تكوين حركة الدفاع عن حقوق الإنسان علي المستوي العالمي
ووصلته أنباء هذه الشابة، التي أصبحت من زعماء حركات التحرير وإرساء أسس
الديمقراطية، فنظم حملة واسعة ولكي «يبيض» العسكر صورتهم من الخارج، ولابد
من ذلك لأنهم سماسرة الشركات المتعددة الجنسية ولو ساد مناخ قائم علي الذعر
والإرهاب سوف يسحب المستثمرون رءوس أموالهم. ولفظ النظام نفس الحدوتة التي
تحال أينما وجد نظام عسكري لقد قبض علي الشابة عن طريق الخطأ وها قد حررت
الأوامر بالإفراج عنها. ورأت حركة الدفاع عن حقوق الإنسان بدلا من أن تلتحق
الفتاة بجامعة اكسفورد تاركة بورما لهمومها. وبنفس روح المثابرة والصمود
أقبلت سوكي علي الدراسة بجامعة اكسفورد وكللت جهودها بالنجاح وفي الوقت
نفسه أصبحت عضواً منتسباً لحركة الدفاع عن حقوق الإنسان وخلال المناقشات
التي تدور بين أعضاء الحركة تكونت لدي الشابة استراتيجية واضحة المعالم
تقوم علي تنظيم مسيرات سلمية مع انتشار الحركة في الأقاليم وكانت ترسل إلي
من تعرفت إليهم في بورما وترسل إليهم بين الحين والآخر ما يرسم من الخطوط
العريضة لحركة مقاومة شعبية تبدأ بالاحتجاجات السلمية. هذا هو الخارج
بالنسبة للشابة، أما الداخل فهو نوع من المشاركة الوجدانية بينها وبين
مايكل أريث سرعان ما تتحول إلي عاطفة إنسانية متأججة توجت بالزواج، ثم
أنجبت سوكي أول أطفالها وبعد عامين طفلة، وإلي هنا يمكننا لو أخرجنا فيلماً
علي الطريقة الهوليودية أن نكتب «النهاية»
THE END
أو تقوم الصديقات بإطلاق الزغاريد لو كنا إزاء فيلماً مصرياً. لكن لا......
رغم كل ما تستشعره المناضلة الشابة من سعادة كان التزامها بحقوق أبناء
شعبها وبدورها في تفتيح وعي بسطاء الناس يدعوها إلي العودة إلي بلدها بورما
فالظروف كانت ملائمة لتأسيس حزب جديد. وفي عام 1988 عادت سوكي إلي بورما
وتم بالفعل تأسيس حزب جديد هو «التجمع القومي من أجل الديمقراطية». كان
النظام في بورما مستمراً في إضفاء ديمقراطية شكلية تصنع داخل أروقة
المخابرات وذلك لكيلا تهتز صورة البلد في نظر الاستثمار الأجنبي وتقرر
إجراء انتخابات برلمانية. وكانت فرحة غامرة بالنسبة لجماهير الشعب وللصفوة
من القادة الشرفاء وكانت صدمة بالنسبة للنظام هل سيؤدي ذلك إلي اقتلاعهم من
رئاسة بورما؟ وثرواتهم؟ بل هل من الممكن ان تطالب الأغلبية بمحاكمات لمن
تسببوا في فساد البلاد؟ لمن نهبوا لا ثروات بورما فحسب بل مستقبل أبنائها.
الدفاع المحرك وفيما كان يعزم الدفاع المحرك للنظم العسكرية، عملوا علي أن
يندس وسط الجماهير الفرق التي تربت في قلب أجهزة الأمن مع إعطاء رتوش
تعطيهم صفة حزب معارض جديد، يقف في مواجهة حزب التجمع الوطني من أجل
الديمقراطية. ثم وصل النظام العسكري إلي قمة اليأس فبدأ «يفبرك» قضايا
وهمية، يتهم أعضاء حزب التجمع بإحداث الشغب ويطلب من القيادة إعلان حالة
الطوارئ، وتبدأ حملات اعتقال واسعة للمناضلين الشرفاء. ولأن سوكي تحمل
جنسية انجليزية وزوجة شخصية عامة في انجلترا، فقد صدرت الأحكام بأن تحدد
إقامتها في بيتها تحت حراسة مشددة. كان ماكيل أريث في لندن عندما وصلت
أبناء ما حدث في بورما وعبثاً يحاول اللحاق بزوجته ولم يسمح له بزيارة
زوجته وأبنائه إلا خمس مرات طوال 15 عاماً. وفوجئ النظام بمنح سوكي جائزة
نوبل للسلام ومع ذلك لم يسمح لها بالسفر إلي السويد لاستلام الجائزة وظلت
المناضلة الشابة في سجن بيتها مع أولادها حتي عام 2005 عندما سقط النظام
العسكري، سقط بعد أن اجتاحت البلاد موجات متوالية من الاحتجاجات والسخط
والاعتصامات والإضرابات العامة. سقط لأن الأجيال الجديدة أكملت مسيرة سوكي
ولأن شعلة الحرية لا تنطفيء أبداً مهما فعل «العسكر». تلك هي الخطوط
العريضة لفيلم «السيدة»
THE LADY
الذي يعرض منذ نهاية نوفمبر في شتي أنحاء العالم. تكوينات تشكيلية قصدت أن
أبدأ الحديث من آخر خيوط شبكة السينما الملتزمة وهي ليست محاضرات أو خطباً
لشخصيات سياسية، بل هي نفاذ إلي مآرب النفس البشرية وإسقاط إلي الخارج
معاناة شعب بأكمله. إننا نري حياة المناضلين من الخارج كم هي إنسانية مشاهد
الفيلم التي تجسد العلاقة بين المناضل الإنجليزي مايكل اريث، وبين المناضلة
الرومانية أوضحت أن ما يربطهما هو مشروع حياة، حياتها وحياة شعب بورما
وحياة حركة الدفاع عن الحقوق الإنسانية لكل شعوب العالم. يعيد لنا الفيلم
التكوينات التشكيلية لحركة «التعبيرية الألمانية» التي ظهرت في العشرينات
حيث نجد الألوان في تباين والمعمار يطل علينا علي خلفية غابات وأراضي
زراعية، طبيعة تتفتح كاشفة عن جمالها تنادي يد الإنسان ليهذبها ويزرع ما هو
يابس ويشيد طرازاً جديداً من المعمار. طبيعة تنادي الإنسان فإذا بإنسان آخر
تجرد من إنسانيته يصيبه الفزع عندما يري الناس وقد تفتح وعيهم مع تفتح
الحياة حولهم ولأنه يدرك جيداً أنه اغتصب حياة شعب بأكمله فيلجأ إلي
الإبادة، ويقلب الأوضاع: من يطالبون بحقهم في الحياة يطلق عليهم النظام
صفقة الإرهابيين وهنا يشيعون الإرهاب كي يسود الذعر ويحكمون. فيلم «السيدة»
هو آخر أفلام المخرج لوك بيسون
LUC BESSON
والفيلم امتداد لسلسلة من الأفلام التي تدور حول «ميكانيزما» النظم
السياسية الفاشية.
جريدة القاهرة في
20/12/2011 |