انه الموعد الذي ننتظره ونحبّه ونشتاق اليه:
أواخر تشرين وبداية كانون من كل عام. نقصد به مهرجان السينما الاوروبية
الذي يحمل
الينا آخر انتاجات السينما التابعة لبلدان الاتحاد الاوروبي. قلنا الكثير
عن تلك
السينما وسنظل نقول. انها قضية قبل أن تكون متعة. بالتأكيد هي
الاثنتان معاً. وهذا
المهرجان، ربّى مدى السنوات الثماني عشرة لوجوده، الكثير من المتفرجين، على
مشاهدة
من نوع مختلف. بيد أن المختلف لا يعني في الضرورة الأفضل.
نحن أمام مهرجان تؤدي
فيه ضربة الحظ دوراً محورياً. ففي غياب الهمّ الفني، وتوزيع الحصص
السينمائية وفق
أجندات ديبلوماسية، يبقى أن نراهن على المصادفة لمشاهدة ما يجب فعلاً
مشاهدته. لذا
ثمة سؤال يفرض نفسه: هل هذا المهرجان هو فعلاً للسينما
الأوروبية أم انه مهرجان ما
تيسر من هذه السينما؟ وهل هو فعلاً واجهة لسينما تعاني أزمة الوصول الى
جمهور أوسع؟
بعيداً من هذه الهموم، تواصل بعثة الاتحاد الاوروبي في بيروت بثّ الثقافة
البصرية
الاوروبية في وعي المشاهد البيروتي.
عاماً تلو عام، استطاع القيّمون على هذا
اللقاء التأسيس لقاعدة جماهيرية لا بأس بها. دورة تلو دورة،
تبيّن ان ثمة من يرتاد
الصالات المظلمة لمشاهدة فيلم، لا لتسجيل موقف مما يُريه الفيلم من حوادث.
لم تتوقف
السفارات والهيئات الرسمية عن السعي الى الحصول على أفلام تمثل بلدانها.
طبعاً،
فعلت ما في وسعها لجلب اعمال ذاع صيتها خارج بلاد المنشأ، لكن
المهمة لم تكن سهلة
لأن مصالحها لا تلتقي دوماً ومصالح شركات الانتاج والموزعين، والمعروف ان
لبنان بلد
صغير وثمة حفنة من السينيفيليين والوجوه المعروفة هي هي في النشاطات
السينمائية
كلها.
اليوم يفتتح المهرجان دورة "سن الرشد" بفيلم "الفائز" للبولوني فيسلاف
سانيفسكي. في ضوء هذا الافتتاح، يمكننا ان نقول ان المهرجان عرف أياماً
اكثر تألقاً
من تلك التي مر بها في السنوات الماضية، وتزامنت مع بدء تخبطه في عناوين
غامضة
ومجهولة تماماً واسماء يصعب لفظها أو كتابتها. واذا كانت ثمة
دورات طموحة و"مثمرة"،
فدورات لاحقة لها بيّنت انها رهينة العجز في الاتيان بنخبة
الافلام الاوروبية التي
تنجز في فرنسا وايطاليا والمانيا واسبانيا وبريطانيا، الخ. فمن اتيحت له
فرصة
متابعة كل جديد في الصالات الاوروبية والمهرجانات التي تقام في القارة
العجوز، يعلم
تماماً ان القائمة التي يؤتى بها الى لبنان تحتاج للمزيد من الجهد كي تنطق
باسم
السينما الاوروبية.
هذه التظاهرة الثقافية ("متروبوليس"، أمبير ــ صوفيل، 24
تشرين الثاني ــ 4 كانون الأول) أشبه برمية نرد على طاولة السينما، تنفذها
بعثة
الاتحاد الاوروبي، فمرةً تصيب ومرةً تخيب. هذا النرد يصل
أحياناً الى حيث يجب أن
يصل. أما في أحايين أخرى، فيبقى في مكانه. كثيرة هي المرات التي يبلغ النرد
منتصف
الطريق، أي في هذا العالم الافتراضي حيث يتقابل منظّمو المهرجان بالجمهور
السينيفيلي الحقيقي الذي أعتاد أن يستنجد بال"دي في دي" ليشفي
غليله من انماط سردية
تبقى بعيدة من حسابات الموزعين، لألف سبب وسبب، ليس أقلها
تفاهة قلة الايرادات التي
تكون من نصيب كل فيلم لا يخاطب الجماهير الواسعة.
عوّض المهرجان، عند انطلاقه
عام 1992، عن غياب الصالات التي كانت تأتي بأفلام صعبة
والـ"سينيه كلوبات" التي
كانت السبيل الوحيد للتعرف الى ما يصنعه الاوروبيون في مجال الصورة. فكان
دوره
رائداً في وقت من الاوقات، لعدم وجود البديل، ولأنه كان حينئذ أكثر قدرة
على تمثيل
سينما أوروبية حقيقية، جودة وفكراً ومدرسة اخراجية، فيما اتجه الميل العام
لاحقاً
الى تبني اعمال من الدرجة الثانية والتركيز على عدد قليل من
الاسماء المنتظرة فيما
اصبحت بقية البرنامج من مستلزمات تكملة العدد.
كتبنا أكثر من مرة ما يأتي: بعض
السفارات لا تبذل جهوداً مهمة لتقدّم ما هو أحدث عهداً. هناك
سفارات تكتفي بإرسال
نسخ بـ"الدي في دي". وحدهم الفرنسيون يأتون بأفضل ما لديهم. فالزمن زمن الـ"هوم
ثياثر" والفيلم صار عمره أطول لكن ليس على شاشة كبيرة، لذا ما الهدف من
استعادة
أفلام قديمة لم تعد في دائرة الحدث؟ لا شك ان التنظيم، بفضل السيدة بشرى
شاهين
ومعاونيها، كان مثالاً يحتذى في الدورات الماضية، لكن هناك بعض
الخربطة في
الاتجاهات الفكرية للمهرجان. اذ لا نعلم ما الهمّ المهيمن عليه: ارضاء
المشاهد أم
ارضاء ثقافة الدول التي ترسل الينا هذه الافلام؟
ثم السؤال الممكن طرحه لمناسبة
مرور 18 عاماً على بداية "المهرجان الاوروبي"، كما يحلو للبعض
تسميته: هل هو فعلاً
يلامس جوهر السينما الأوروبية؟ أم انه موعد انطلق من الحاجة لردم الهوة بين
العرض
والطلب؟ أياً يكن، وفي انتظار أن يغيّر جلده، فقد فتح هذا المهرجان ذراعيه
لجيل من
الشباب يغذّون صالة "متروبوليس" بأعمالهم الأولى والثانية،
وهذا، من حيث المبدأ،
عليه أن يطيح الخطوط الحمر الديبلوماسية، والمراعاة الثقافية التي يتلون
بها هذا
الحدث.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
33
فيلماً في عتمة "متروبوليس"
33
فيلماً روائياً
طويلاً هي المحصلة التي في انتظارنا هذه السنة في المهرجان. منها أفلام
تميزت وحازت
جوائز في أهم المهرجانات الدولية، دائماً مع التركيز على العملية الاخراجية
الأولى
أو الثانية لسينمائيين واعدين. في طبيعة الحال، هناك افلام،
أقل أهمية، عُرضت في
تلك المهرجانات من دون أن تترك اثراً كبيراً. واذا كان الافتتاح بولونياً
مساء
اليوم في حضور المخرج، اذ ينص الاتفاق على أن يتولى الافتتاح البلد الذي
يرأس
الاتحاد الاوروبي لحظة انعقاد الدورة، فسيكون الختام لبنانياً،
اذ سيُعرض فيلم جيد
للبنانية رانيا عطية اخرجته مع شريكها دانيال غارثيا، عنوانه "طيب، خلص
يللا" وفاز
بجائزة افضل فيلم روائي عربي طويل لمخرج جديد من العالم العربي في الدورة
الماضية
من مهرجان ابو ظبي، ومذذاك شارك في مهرجانات مثل كارلوفي فاري
وتسالونيك. انجز
الشريط بموازنة ضئيلة عن شاب طرابلسي يعيش مع أمه ويصعب عليه تأسيس حياة
لائقة
ومستقلة. لكن اللفتة الى السينما اللبنانية لن تقتصر على هذا فحسب، بل ثمة
تحية
ايضاً في ليلة الختام، ستوجه إلى الممثل اللبناني الراحل محمود
مبسوط، المعروف
بـ"فهمان"، من خلال عرض لقطات من بعض أفلامه، يليها فيلم قصير أدّى فيه
فهمان الدور
الرئيسي، وهو "بيروت بعد الحلاقة" لهاني طمبا ("سيزار" أفضل فيلم قصير 2006).
هناك ايضاً فيلم روائي من كل من سويسرا والنروج، وهما ضيفا المهرجان هذه
السنة. الى ذلك، 20 فيلماً قصيراً أخرجها طلاب من عشرة معاهد للسينما في
لبنان. وفي
سياسة تشجيعية لهذه المواهب، يمنح المهرجان، وللسنة الحادية عشرة على
التوالي، ثلاث
جوائز للأفلام اللبنانية القصيرة. وسوف يكافئ المهرجان كلاًّ من الفائزين
بإتاحة
الفرصة لهم لحضور واحد من ثلاثة مهرجانات دولية بارزة للأفلام
القصيرة في أوروبا
وهي: مهرجان "بروميي بلان" في أنجي (فرنسا)، مهرجان أوبرهاوزن الدولي
للأفلام
القصيرة (ألمانيا)، ومهرجان السينما في كراكوفيا (بولونيا). تتألف لجنة
التحكيم من
مكلفين شؤون الثقافة في سفارات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ومراكزها
الثقافية في لبنان ومن نقاد سينمائيين لبنانيين.
يجوب مهرجان السينما الأوروبية
المناطق، بدءاً من طرابلس (1-4 كانون الأول)، وجونيه (2-8
كانون الأول)، وصيدا (8-10
كانون الأول) وزحله (13-17 كانون الأول) حيث سيعرض فيها عدد من الأفلام.
سيقدم العديد من الضيوف أفلامهم ويناقشونها في صالة السينما: لودوفيك بورس،
مؤلف
موسيقى "الفنان"، ومخرج الفيلم الروماني "مرحبا، كيف حالك؟". وتُعرض ايضاً
الاحد
المقبل الساعة الثامنة مساء، نسخة مرممة لـ"نوسفيراتو" مورنو (1922)، أحد
أعمدة
السينما التعبيرية الألمانية، علماً ان الفيلم الصامت هذا، سيرافقه عزف
موسيقي حيّ
تؤدّيه فرقة "المزيد من الغبار تحت السجادة".
من الأفلام المهمة التي تُعرض في
الأيام الاولى للمهرجان: "عامٌ آخر" لمايك لي، الذي شارك في
الدورة ما قبل الاخيرة
من كانّ، وكان متوقعاً ان يفوز بجائزة، الا ان ذلك لم يحصل. مخرج "أسرار
واكاذيب"
يعود الى السينما الدافئة التي يعرف كيف يطبخها، وكان مدعوماً هنا بتمثيل
خلاّق
للرائعة ليزلي مانفيل. الفيلم الايطالي "صدقنا"، هو الآخر قد يهمّ روّاد
المهرجان،
برغم طوله الذي يبلغ 165 دقيقة. مخرجه ماريو مارتوني شارك بعمله هذا في
مهرجان
البندقية دورة 2010، من دون أن يجذب انتباهاً كبيراً. بيد أنه
في زمن اشتعال
الثورات في العالم العربي، قد يطلعنا هذا الفيلم على الاخطاء التي ارتكبتها
الثورة
الايطالية انذاك. من خلال ثلاث شخصيات، بين عامي 1828 و1859، يأخذنا
مارتوني الى
حقبة أساسية في التاريخ الايطالي. في الدورة ذاتها من البندقية
عُرض ايضاً "ثلاثة"
للألماني الفذ توم تيكفر، وها انه يشق الطريق الى بيروت، حاملاً معه حكاية
مستفزة
وجميلة عن مثلث غرامي بين رجلين وأمرأة حيث الحابل يختلط بالنابل، الى أن
تصبح
الانثى حاملاً، ويبدأ مشوار معرفة من هو الأب!
هناك ايضاً "اذا اردت أن أصفر،
سأصفر" لفلورين سربان. الروماني كان قد خطف قلب لجنة التحكيم
في برلين العام الماضي
فاستحق جائزتين: الأسد الفضي، وجائزة لجنة التحكيم الكبرى. تماشياً مع
روحية
السينما الرومانية الحديثة، يقحمنا سربان في مقاربة متقنة لكيفية وقوع شاب
في شباك
العنف، بالرغم من انه كان خرج حديثاً من السجن. في سياق متقارب ومتباعد في
آن واحد،
ومن مهرجان برلين ايضاً، يأتينا فيلم ياسمين سامديريللي "ألمانيا"، الذي
ينطلق من
سؤال "من أنا، ألماني أو تركي؟" يطرحه على نفسه سينك، ابن السادسة، عندما
يجد نفسه
وقد رُفض الانضمام الى كل من فريق المانيا وتركيا لكرة القدم. يبقى التنويه
ايضاً
بأفلام كـ"جندي صغير" للدانماركية أنيت أوليسن، و"غرفة
الانتحار" للبولوني يان
كوماسا، واعمال أخرى ستأخذنا في مغامرات يومية داخل عتمة "متروبوليس".
للاطلاع على البرنامج الكامل وجدول
العروض:
http://eeas.europa.eu/delegations/lebanon
هـ. ح.
أونوريه ومايوان وداردين بعيداً من التسطيح
في دورة
لملمت أفلاماً من كل المصادر الاوروبية، تشكل ثلاثة اعمال ناطقة بالفرنسية
دليلاً
فعلياً على ان هناك سينما، في بقعة جغرافية تجمع فرنسا وبلجيكا، شبّت ونشأت
واكتملت
شخصيتها، وهي بالفعل نتاج التعددية والتنوع، ونجحت في كسر الحواجز الموضوعة
بينها
وبين الجمهور الذي اعتاد اللغة السينمائية المبسطة والمسطحة
الى حدّ الالغاء
والاختفاء. في هذا الخيار تتميز فرنسا بعض الشيء عن جارتها ذات الرصيد
الاكثر فقراً
والانتاج الاكثر محدودية والتقليد البصري الاكثر انتماء (مع بعض
الاستثناءات) الى
واجبات ثقافية. هذا بغض النظر عن ان المهارة الفرنسية في اشاعة
مناخات لا تقارَن
الا مع المارد الاميركي.
¶ "المحبوبون": يضيء كريستوف أونوريه سماء السينما
الفرنسية برونق همومه الفنية وعودته الى ماض سينمائي حافل بالذكريات
الجميلة، من
حقبة الاختبارات تلك التي أنجبت الرواد. سينماه ملامحها عصرية جديدة، لكن
كيف لا
نفكر بمجرد أن نرى قياس الكادر عنده، وايضاً المناخ الوجودي
والايديولوجي، في سينما
أوستاش وغاريل، بلمساته العفوية التي تقلب السير الدرامي رأساً على عقب.
طبعاً، ليس
في الامكان أن ننتظر إلاّ سينما حميمية من كل هذه المعادلة بين السيناريو
والبناء
الدرامي والاخراج والقصة. اذ معظم افلامه تدور بين غرفتين
وحمّام وشرفة. يبرع
أونوريه في جعل الاخراج لامعاً، بلا ادعاءات، فيمزج الانفعال بما هو طريف
وسلس. قد "يُكرع"
الفيلم ككأس من النبيذ، ويترك بعض الاثار الجانبية هنا وهناك، بعض السكّر
اذا توخيتم ما اقصده، وايضاً يترك انطباعاً بأننا أمام مخرج
يعرف كيف يعطي شخصياته
مساحة للحراك، لا يمسكهم من أيديهم ويجعلهم يرتكبون ما تمليه عليهم
استيهاماته.
سينما نضرة بقدرتها على قول أشياء كثيرة من
دون اشتكاء، شبابية شكلاً ومضموناً.
فالحياة هكذا، يوم حلو وعشرة مرة، والاستسلام لهذا الواقع قد يكون أكثر
نفعاً من
النضال والتصادم المجانيين. اذاً، اهلاً وسهلاً بكم في هذا العالم الخاص
بالانهزاميين.
¶"بوليس": صوِّر الفيلم بطريقة الريبورتاج مع كاميرا ثابتة
حيناً ومحمولة في أحايين كثيرة، مع كل ما يتضمن هذا الاسلوب من حركية تمنح
الفيلم
غنى اسلوبياً وواقعية استطاعت المخرجة توجيهها في المكان الصحّ
والمثمر. على مدار
128
دقيقة يقحمنا الفيلم في داخل مقر للشرطة التي تتولى حماية القاصرين من
الحوادث
التي يتعرضون لها. نتابع يوميات اعضاء الشرطة، ولقاءاتهم مع المتهمين
والجناة
والتحقيقات التي تدور حولهم، وتقنياتهم المستخدمة.
هذا هو الفيلم الثالث توقّعه
الممثلة والمخرجة مايوان، المولودة لأم فرنسية وأب جزائري.
شريطها الأول كان "سامحوني"
والثاني "حفل الممثلات الراقص". بيد ان "بوليس" (النحو الذي يُكتب فيه
العنوان بالفرنسية يعتبر خليطاً بين كلمتي "شرطة" و"جلد طريّ")، من طينة
أخرى لا
يرتقي اليها أيٌّ من الأفلام التي انجزتها مايوان في حياتها الى الآن،
علماً انها
تبتعد هنا عن النمط الجماهيري الذي ارتكز عليه عملاها الاول والثاني، وإن
لم يكن
هذا في مصلحتها لأن جمهور العملين السابقين لن يكون في الضرورة
جمهور جديدها
البديع.
"بوليس" صفعة حقيقية تلقاها المشاركون في الدورة الأخيرة من
مهرجان
كانّ فور مشاهدتهم هذا الفيلم، لكنها صفعة تشبه الحياة بحلوها ومرها،
وبيومياتها
العابقة بالأمل والألم والقسوة واللامبالاة. بمعنى آخر: لا تنجرّ مايوان في
نصها
خلف بكائيات جامدة، بل تختار ان تستقي المأساة من قلب الحوادث
اليومية، والروتين
الاداري الجاف، لتذهب الى اللحظة التي ستمسك فيها المصيبة بضلوع الفيلم،
ولن يكون
هناك عودة الى الوراء، من تلك اللحظة وصعوداً.
أكثر من أي شيء آخر، تجيد مايوان
كيف تدير ممثليها، من مارينا فويس الى كارين فيار، مروراً بجوي
ستار. أما مشاركتها
في الفيلم في دور المصورة التي تحضّر ريبورتاجاً عن هذا الوسط، فإنها ترمز
الى
المرأة، العاشقة، الفتاة الباردة الاعصاب، التي ترى وتدوّن وتسجل يوميات
الشرطة من
دون أن تثير فيها المشاهدات تلك اي فتنة. الفتاة هذه ليست
"المكان" الوحيد حيث نجد
شذرات من عدم الاكتراث والطرافة، ذلك أن الفيلم برمته مشيّد على فكرة
التعايش بين
غضب وقهقهات، بين سلام وضجيج. انها اسلوبية واقعية، تنتقيها مايوان من بين
غيرها من
الانماط الحكائية، وفيها قدر عال من الامانة والصدق.
في المحصلة، تأتينا مايوان
بفيلم مُقنع يسعى الى لملمة شيء من الحقيقة في الوجوه الكئيبة.
صحيح أن افلاماً عدة
تطرقت الى عالم الشرطة، مثل "الملازم الصغير" لكزافييه بوفوا و"أل 627"
لبرتران
تافيرنييه، لكن أهمية هذا الفيلم على الصعيد الشكلي، تكمن في انه يضعنا في
جوّ من
الخفة لا توحي بالكثير. لكن مايوان تعرف كيف تجعلنا نستعد للأسوأ والأشد
ايلاماً في
حمأة خلافات عناصر الشرطة وهمومهم. من هذا المكان تحديداً،
المزدحم بالأوراق
والبيروقراطية، تنبعث روحية العمل الذي يمنح الانسان المكان الأبرز. تنجح
مايوان في
رهانها الأهم: تعرية رجال الشرطة ونسائها وجعل آلية عملهم شفافة حدّ
الاختفاء
أحياناً. من هذا الواقع، تستل ما سيقودها الى طريق اللاعودة.
طريق الحسم، طريق
الانهيار الأخير، التي ستختارها واحدة من اللواتي لن يكون في مقدورهن
الذوبان في
قِدر الواجب اليومي المتكرر.
¶ "صبي الدراجة": جديد الأخوين البلجيكيين جان
بيار ولوك داردين (جائزة لجنة التحكيم الكبرى في كانّ الأخير)، انه عن هذا
الصبي
الذي في الثانية عشرة، كان يبحث عن والد رحل ولم يعد حين يجد
سامنتا (سيسيل دو
فرانس) التي تقبل أن تؤويه في منزلها في عطلة نهاية كل اسبوع. بيد ان سيريل
سيحتاج
الى أن يعرج على الخطيئة الاولى والجنحة كي يعرف معنى أمومة لم تلامس قط
إحدى
فخذيه. خلافاً لعادتهما في تعزيز السوداوية في افلامهما، يشرع
صاحبا "روزيتا" نافذة
مفتوحة على الأمل من خلال انقاذ الصبي من الموت الذي كان في انتظاره.
النهار اللبنانية في
24/11/2011
(أزهار
الشر) العمل الأوّل لديفيد دوسا.. عليك
تعلّم الكذب من الصغر لتفعل ما تشاء
فيصل عبد الله
يختبر ديفيد دوسا، المجري الولادة
والسويدي الإقامة، دور وسائل الاتصال الحديثة في حياتنا
المعاصرة في عمله الأول
(أزهار
الشر)، (سلة عروض عالمية المدرجة ضمن فقرات مهرجان أبو ظبي الأخير). وسائل
باتت أدواتها، العابرة للحدود المحلية والقافزة على سلطة الرقابات
التقليدية، صنواً
لعولمة تقنية واسعة الآفاق. فما أتاحه اليوتيوب و الفيسبوك
والتويتر، مثلاً، من
ممكنات هائلة في التواصل الاجتماعي، غدت ثورة حقيقية سجلها العقد الأول من
القرن
الحادي والعشرين
من دون منازع وببراءة اختراع. ولكن هل نجح دوسا في
مسعاه؟ سؤال لم يحسمه، على الأقل، ما تحقق على الشاشة، ولا إجابات المخرج
المترددة
في مؤتمره الصحافي. صحيح أن حبكة (أزهار الشر)، استعار الشريط
عنوانه من مجموعة
الشاعر الفرنسي شارل بودلير الشهيرة، وهو تحد كبير، غايته اقتفاء تناقضات
الحياة
اليومية خصوصاً في المدن الكبرى.
ذلك بين الإقامة المؤقتة للطالبة الجامعية
أناهيتا (الممثلة الفرنسية الصاعدة أليس بلعيدي ذات الأصول
الجزائرية) في باريس،
وتعرفها على الشاب رشيد (الممثل الجزائري الفرنسي الولادة رشيد يوسف)، ينسج
المخرج
حبكة شريطه. من طهران قدمت أناهيتا، ومعها من الأسباب ما يجعلها تشعر
بالقلق على
مصير من تركتهم وراءها. وقرار استقرارها في باريس جاء استجابة
لرغبة عائلتها
الميسورة، بعد تصاعد حركة الاحتجاجات الشبابية إبان الانتخابات الرئاسية
قبل حوالي
العامين. تلك التي واجهتها سلطات بلدها بحملة اعتقالات طالت الأصوات
المطالبة
بالتغيير والإصلاح، أو كما أطلق عليها الثورة الخضراء. شابة
تمتلك من الوعي السياسي
والثقافي، وتحمل ذاكرة مليئة بالقهر والتمزق والتطلع إلى حلم يداعب مخيلة
أقرانها
من الشباب الإيراني بالتغيير.
فيما تدور يوميات رشيد، العامل في فندق، حول عزلته
في شقته الصغيرة المطلة على تقاطع طرق. وألعابه البهلوانية في القفز
والرقص،
وتسجيلها على اليوتيوب. وفرح بـ (حريته)، تلك التي يكررها أكثر
من مرة في الشريط،
عبر التخفف من الاهتمام بالعالم الخارجي سواء العائلي منه أو السياسي. لم
يكمل
تعليمه. وهو أقرب إلى اللقيط. عالمان مختلفان في سلم الأولويات والتطلعات.
إذ تجد
أناهيتا موزعة وقتها بين متابعة أخبار التظاهرات، ومصائر
أصدقائها عبر اليوتيوب
والفيسبوك والتويتر، ورغبتها في اكتشاف معالم باريس الساحرة من خلال الشاب
رشيد
الذي تقع في غرامه في النهاية. وهنا يأخذ الشريط منحى آخر، وعبر حوارات عن
معنى
الحياة، والحلم، والأمل، والحرية....مروراً بشعر عمر الخيام
المحتفي بالحياة، مقابل
قصائد بودلير الذي أهدت أناهيتا نسخة قديمة من ديوانه إلى رشيد.
على وقع تلك
القصائد، وشمعة، وفي لحظة وجدَ تعترف أناهيتا بما هو أقرب إلى الحكم القاسي
على
ثقافة بلدها. بقولها "في إيران عليك تعلم الكذب من الصغر، لكي تفعل ما
تشاء، وعليه
تحتاج إلى عدد من الأرواح". لحظتها تتخلى وقتياً عن شارتها الخضراء، رمز
الثورة،
ولتسقط آخر دفاعاتها وهي في أحضان رشيد. لكن الأخير سرعان ما يلتقط
الإشارة، فيقرر
ربطها على معصمها. وفي الوقت ذاته يقرر السفر، ربما للحاق
بأناهيتا. طعم دوسا شريطه
بالكثير من وقائع المظاهرات الحية التي تناقلتها وسائل التواصل الحديثة، من
ضمنها
المقطع الفيديوي المؤثر لمقتل الشابة المصورة ندا أغا سلطان على يد الشرطة،
والتي
غدت رمزاً للثورة. وعلى المنوال نفسه، وظف الموسيقى القادمة من
"الآي فون" الذي
يحمله رشيد وهو يراقص أناهيتا. ومثلها نصوص التويتر المبثوثة على الشاشة.
بينما جاء
تصوير الشريط عبر كاميرا رقمية عالية الجودة. ومع ذلك، لم يوازن دوسا بين
حبكته
المبنية على اغتراب شخصياته، سواء تلك القادمة من بلد مثل
إيران بهم سياسي، أو من
قبل رشيد المتخفف من وطأة إلزامات الوطن، وبين دور وسائل الاتصال الحديثة
في
حياتنا. محاولة جمعت بين دفاتها أفضل ما يمكن أن يتوافر لعمل أول، ولكنها
أثقلت
بالقضايا الجانبية على حساب فكرته الأساسية.
المدى العراقية في
24/11/2011 |