رفضت تفسيراته فى البداية، بل كدت أعتبرها مجرد تهويمات رجل من الزمن
الغابر.
لكن، بعد مغادرته، وعودتى إلى الفندق، أخذت تحليلاته تتسرب إلى عقلى،
وجدت فيها الكثير من المنطق، وبدت لى وجهة نظره على درجة عالية من الوجاهة،
وأنه رأى فى الفيلم معنى لم يخطر لى على بال.. كان هذا عقب عرض «إيلينا»
للمخرج الروسى أندريه زفيا كنتسوف فى مهرجان أبوظبى.. جلست على أريكة
بالقرب من الخليج أمام دار السينما جاء الرجل السوفييتى العجوز، عرفت أنه
يعمل، منذ سنوات طويلة، فى صيانة مواتير السفن، وهو يتمتع بثقافة أدبية
وفنية واسعة، فضلا عن رؤية سياسية متميزة خاصة، وتجلت فى حديثه عن «إيلينا»..
الفيلم الهادئ شكلا، الصاخب جوهرا، الذى ينساب كما لو أنه منسوج على منوال
أعمال تشيكوف، ولكن مضمونه يذكرنا بعنف دوستويفسكى. يبدأ بمناظر ساكنة داخل
شقة مريحة فى الصباح. «إيلينا»، امرأة خمسينية قوية البنيان، تستيقظ، تجلس
على حافة السرير قبل أن تتجه لسرير زوجها كى توقظه.
الزوج «فلاديمير» يبدو صارما برغم الشيخوخة التى غزت ملامحه. كل منهما
كان متزوجا من قبل. هو، له ابنة، تعيش على هواها بعيدا عنه. وهى، لها ابن
متزوج ويعول. بالأحرى، لا يعول أسرته لأنه كسول، لا يستمر فى عمل. يعتمد
على ما يأخذه من والدته. وبدورها، تعتمد على زوجها الثرى، الذى يدفع مرة،
ولا يذعن غالبا.
تتوالى المواقف فى الفيلم الذى يكاد يخلو من الأحداث.. إيلينا، حانية
على أسرة ابنها. تذهب لها حاملة زجاجات الحليب وعلب الطعام. تهدهد الطفل
الرضيع وتحاول البحث عن وسيلة لتدبير مصاريف إلحاق حفيدها الخائب فى جامعة
خاصة وإلا سيدخل الجيش.. حين تفاتح زوجها فى الأمر يرفض، بهدوء، رفضا باتا،
ويستنكر تحاشى دخول الجيش، ويهاجم نمط الحياة الخاملة التى يعيشها ابنها.
يتصاعد الخلاف بينهما، لكن الرجل يحسم الأمر حسب مفاهيمه الجادة. لاحقا،
يتعرض لأزمة قلبية، يتحملها بفضل متانة بنيانه. يقرر كتابة وصيته. ممتلكاته
لابنته ومعاشه لزوجته. إيلينا، تخفى غضبها. وبلا تردد ــ وهى الممرضة أصلا
ــ تعطيه جرعة كبيرة من دواء يودى بحياته. تستولى على رزم النقود التى
يحتفظ بها. تمزق مسودة الوصية، وتتصاعد موسيقى تجمع بين التوتر والنذير
وكأن حادثا مهولا سيقع. لكن المفاجأة أن الفيلم، بوقائعه، وشخصياته،
وعلاقاته، ينساب فى هدوء. أسرة ابن الزوجة، تترك شقتها الضيقة وتنتقل لتعيش
مع الأم فى رحاب شقة زوجها المغدور. وها هى الكاميرا، خارج الشقة، تتابع من
خلال زجاج شرفة، أفراد الأسرة التى تعيش فى وئام.
الفيلم مؤثر، محير، يدفع للتفكير فى أكثر من اتجاه، ويتحمل تحليلات
عدة، ومنها تفسير ذلك الرجل السبعينى الذى جلس على الأريكة بجوارى، وقال: «إيلينا»
فيلم سياسى بامتياز. يتحدث على نحو شفاف، غير مباشر، فى جريمة القضاء على
الاتحاد السوفييتى ممثلا فى ذلك الرجل الصلب، الجاد، الثرى، الذى توطأت
الظروف ضده، بما فى ذلك جيل عابث، مفتون بالحياة الناعمة، منصرفا عن
مسئولياته تجاه الذات، وتجاه الوطن ممثلا فى الجيش، يكاد يعيش على ميراث لم
يسهم فى صنعه.. أعترف: وجدت فى كلام الرجل قبسا من الحقيقة.
الشروق المصرية في
29/10/2011
إلى أين؟
كمال رمزي
إخفاء الصورة لا يعنى إلغاء الحقيقة، بل ربما يؤدى إلى رواجها.. وهذا
بعض ما جرى يوم الأحد الدامى، فثمة مشهد فظيع، سجلته أكثر من كاميرا،
وعرضته عدة قنوات، أجنبية وعربية، ومنها إحدى القنوات الحكومية. المشهد،
أعاد إلى الأذهان صورة العربة السوداء المصفحة، وهى تدهس بجنون، ثوار 25
يناير. ولكن بشىء من تفاصيل لبست بذى بال، فالعربة، فى هذه المرة، كانت
صفراء، صعدت بقوة وكفاءة فوق رصيف فى نهر الشارع، تحاول ملاحقة واصطياد
متظاهرين يحاولون، بذهول وذعر، الفرار منها.. قد يرجع الذهول إلى أن أحدا
لم يتوقع ظهور العربة القاتلة، بمثل هذه السرعة بعد اختفاء زميلاتها
المريب، بشهور قليلة، وبذات التكتيك فى المناورة، بالرجوع للوراء،
والدوران، والاقتحام. ولا شك أن أسباب الذعر متوافرة ومفهومة، فالعربة
المصفحة التى لا تعرف الرحمة، تملك طاقة قتل من الصعب تبديدها.. اللقطات،
تشرح نفسها بنفسها، ولا تحتاج لتحليل أو تعليق، والواضح أن عرضها أزعج من
يهمهم إخفاء الحقائق، لذا أوقف بث هذا المشهد، وصرح أكثر من واحد: انظروا،
القنوات العربية تعيد عرض هذا المشهد، بهدف تأليب الرأى العام ضدنا، إنهم
لا يريدون الاستقرار لنا.. هكذا، كما لو أن هذه القنوات هى التى صنعت تلك
اللقطات الفاجعة، وكأن المشهد روائى، وليس وثائقيا.
حدث ما حدث، وحققت المصفحة نصرا رخيصا، جبانا، ودهست العشرات، مخلفة
وراءها وأمامها مصريين فى عمر الزهور، سواء من أبنائنا الجنود أو
المتظاهرين.. كلهم، دم واحد، من نسل واحد، يليق بنا وبهم أن نحزن من أجلهم
جميعا.. إنهم، من قبل ومن بعد، مجرد ضحايا مذبحة كاملة الشروط، قد تكشف
الأيام عمن خطط لها، لهدف أشد لؤما وخسة من إزهاق أرواح أولادنا.. لكن فى
نوبة من نوبات خفوت الحس الإنسانى، فى قنواتنا التليفزيونية، أعلنت عن
الحصاد المر لما جرى: ثلاثة شهداء من الجنود، وسبعة عشر قتيلا من
المتظاهرين.. وبهذه التفرقة الرعناء من الذين صاغوا الخبر يكونون قد
اقترفوا عدة آثام فى جملة واحدة، فأولا المعركة لم تندلع بين أعداء،
فالجندى كان من المحتمل أن يكون من ضمن الغاضبين، والمتظاهر كان أو سيصبح
جنديا، لكن العديد من العوامل جعلت منهم جميعا ضحايا.. وثانيا، تكشف
«الجملة» عن غبن زنيم للمتظاهرين، من أقباط ومسلمين.. وهى ثالثا، وليس
أخيرا، توغر القلوب ضد بعضها بعضا.. بعبارة موجزة: كلهم شهداء.. وكلهم
ضحايا.
فى أعقاب الأحد الدامى، أعلنت القنوات أن رئيس الوزراء سيلقى بيانا..
توقع البعض أن يأتى البيان من باب «المهيصة»، على طريقة رئيس الوزراء
السابق أحمد شفيق، يوم اعتذر عما جرى فى موقعة الجمل.. ولكن عصام شرف
فاجأنا ببيان يفوق فى خوائه أشد الخيالات جموحا.. بدأ الرجل متداعيا، مفكك
الأوصال، متلعثم الكلام.. ففيما يبدو أنه، وهو يلقى بيانه الخائب، أدرك مدى
تهافت محتواه، وبُعده من مقتضيات الأمور، فبينما لم تجف دماء الضحايا، أخذ
الرئيس يقول: الفتنة نائمة، لعن الله من يوقظها. وعندما أعيد البيان، لم
يكترث له أحد.. والآن نحن، إلى أين؟
الشروق المصرية في
15/10/2011
البورصاوية
كمال رمزي
انضممت إلى الفلاحين الجهلة فى مسرحية «مركب بلا صياد» التى كتبها
الإسبانى أليخاندرو كاسونا. الفلاحون، حاولوا معرفة سر الثراء الفاحش عند
الرجل الغريب الذى وصل، تائها، إلى قريتهم.. قال لهم إنه تاجر قمح. وعندما
سألوه عن حجم مخازنه التى لابد أن تكون بالغة الضخامة، أدهشهم بإجابته التى
أكدت أنه لا يملك أى مخازن، ذلك أنه يعمل فى بورصة الغلال، يشترى شحنة
القمح وهى على مراكبها، ويبيعها وهى لا تزال فى عرض البحر، ومن الممكن أن
يشتريها ويبيعها مرة أخرى، من دون أن يراها.
ضرب بعض الفلاحين كفا بكف، وانصرفوا إلى حقولهم وهم فى حالة عدم تصديق
للتاجر الذى لم يلق نظرة على بضاعته التى يجنى من ورائها الكثير.
«البورصة»، بالنسبة لقطاع من جيلى ــ وأنا منهم ــ تمثل لغزا قاتما،
أمامه علامات تعجب واستفهام.. فى بداية الخمسينيات، حين كنا أطفالا، سمعنا
عن الذين ضاعت آمالهم وأفلسوا وانتحروا، بعد انهيار ثمن القطن، عقب انتهاء
الحرب العالمية الثانية. وغالبا، ينتهى الرواة بما يشبه التحذير من التعامل
مع تلك «المؤسسة»، الأقرب لكازينوهات القمار، ويهيمن عليها عتاة اللعيبة
الدهاة، الأعمق والأوسع خبرة فى التهام الأخضر واليابس وبلع الأسماك
الصغيرة، النزقة، التى تزج بنفسها فى بحار الحيتان.
بعد سنوات من ثورة يوليو، ألغى عبدالناصر البورصة المصرية، فى القاهرة
والإسكندرية، ودشن القرار بمقالات مؤيدة، تتحدث عن إنشاء أول بورصة مصرية،
فى الثغر السكندرى، عام 1883، ولم يكن قد مضى أكثر من عام على الاحتلال
البريطانى، وهيمن عليها الأجانب، وخربت بيوت المصريين.. اقتصرت علاقتنا
بالبورصة، فيما نشاهده فى ذيل نشرات الأخبار، عما يجرى من ارتفاعات
وانهيارات، فى بورصات طوكيو ونيويورك، حيث الأرقام تتغير بسرعة، داخل عشرات
المربعات على شاشات كبيرة، وزحام شديد من شباب يرتدى القمصان البيضاء، نصف
كم، يرفعون أحد أصابع الكف، ثم أصبع آخر، وأحيانا يحرك أحدهم عقلة صباع
وأحيانا عقلتين.. هكذا، بلا صوت. ثم يظهر، على الشاشة الصغيرة، أحد
الجهابذة البورصاوية، ليشرح ما حدث، من دون أن أفهم منه شيئا.
مع سنوات الانفتاح الكاذب، وتوابعه الفاجعة، أعيد افتتاح البورصة،
واندلعت شائعات تزعم أن السهم الفلانى، ارتفع ثمنه من عشرة جنيهات إلى
أربعين.. وسبحانه، موزع الأرزاق ــ وأن السهم العلانى، بعد أن كان ثمنه
أربعين جنيها، تجاوز المائة الآن. واندفعت الأسماك الصغيرة، إلى بحار
التماسيح المفترسة.. وفى مشهد ينتمى إلى «التراجيكوميديا»، حيث تمتزج
المأساة بالمسخرة، تجمع عدة آلاف من أهالينا، أمام مقر بورصة القاهرة، عقب
انهيار أسهمهم، وهم يهتفون «دى مش بورصة.. دول حرامية».. وظلوا على هذه
الحال، أياما متوالية، إلى أن جاء الأمن المركزى ليفرقهم بالتى هى أسوأ..
العصا.
ثورة يناير، كنست أشياء، وفضحت أشياء وكشفت مناطق الوهن فى اقتصادنا
المنهوب، ولعل من مظاهره ما يحدث فى البورصة من أمور غامضة، ففجأة يقال
إنها خسرت، فى يوم واحد، ثلاثة مليارات جنيه، فمن، وأين، تلك الحيتان التى
التهمتها.. نسمع كلاما غامضا، لكن رائحة النصب والتدليس هى الأوضح.
الشروق المصرية في
12/10/2011
فادى السعيد.. نجم الافتتاح
كمال رمزي
فى نهاية حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية السينمائى، باغتنا المخرج خالد
يوسف بموقف يليق به، ويليق بهذه الدورة التى ولدت بعناء، ويليق بإهدائها
لروح شهداء ثورة يناير.. بعيدا عن كلمات الشكر، واسترجاع ما حدث، وهجاء
العهد البائد، نظر خالد يوسف لعين الحاضر، ورصد، بشجاعة تلك المنطقة
السوداء التى من الممكن أن تتسع وتزداد إظلاما.. تحدث بهدوء، ولكن بمرارة،
عن شاب فى مقتبل العمر، اسمه فادى مصطفى السعيد، من طلبة معهد السينما، تم
القبض عليه أثناء تصويره لأحداث السفارة الإسرائيلية، وزج به فى أحد
المعاقل العسكرية، وتجدد حبسه خمسة عشر يوما جديدا، ولا يزال تحت تحقيق
غامض، لم يعلن عنه بوضوح، الأمر الذى لا يمكن السكوت عنه، ذلك أن هذا
السكوت يصبح بمثابة تآمر بالصمت على وضع ينذر بأوخم العواقب، خطورته تمتد
لكل المستويات، فهو ــ الصمت ــ يدشن أسلوب القبض على أشرف شبابنا الوطنى،
بالإضافة لتغييبهم فى أماكن غير معلنة مما يثير حفيظة الناس، ويؤدى
بالضرورة إلى تآكل بقية رصيد المجلس العسكرى الذى لم يبق له إلا أقل
القليل.. كلمات خالد يوسف، الموجزة، الواثقة، النابعة من القلب والعقل،
جعلت للأمسية معنى أعمق وأشمل من افتتاح مهرجان يعقد، بشجاعة، فى ظروف
صعبة.
شاهدت الحفل، تليفزيونيا، ورأيته متسما بالانضباط، من دون فوضى ولا
ارتجال. مذيعة ومذيع، من الوجوه المشرقة، فقرات تتوالى سريعا، مع استعراض
جميل الفكرة، لعصام الشماع، تعتمد على الربط بين الصورة السينمائية ــ
المأخوذة من كلاسيكيات الأفلام المصرية: «مصطفى كامل» لأحمد بدرخان 1952،
«بين القصرين» لحسن الإمام 1964، «شىء من الخوف» لحسين كمال 1969 ــ
والعنصر البشرى متمثلا فى فرقة استعراضية تعبر فى لوحاتها عن الثورة،
بهتافاتها، وحركة شبابها.. لكن المسافة الإبداعية كانت جد واسعة بين قوة
ورسوخ المشاهد السينمائية، وتخبط وارتباك الفرقة التى من الواضح أنها لم
يتم تدريبها بوقت كاف، وبالتالى بدا أداؤها الحركى تعوزه الوحدة، وما أزاد
العرض حرجا انعدام التوافق بين مخارج كلمات الفرقة وصوت «البلاى باك»،
بالإضافة للفتور الفجائى فى الأداء الذى يصيب البعض، وهرجلة الخروج من خشبة
المسرح إلى الكواليس.. عموما، لا بأس.
أقسام المهرجان، حسب المعلن عنها، متعددة، متنوعة، للشباب نصيب كبير
فيها، وهو أمر جيد، يساعد على إبداع سينما جديدة، مأمولة.. وفى كلمته، أشار
رئيس المهرجان، الناقد نادر عدلى، إلى ضرورة التفات السينما المصرية، إلى
الاهتمام بالثورة، وقضاياها، وأبطالها.. وأحسب أنه كان يليق بالمهرجان أن
يخصص أحد أقسامه لأفلام الثورات، فهناك أكثر من مائتى فيلم تعرضت للثورة
الفرنسية، وأكثر من مائتى قدمت بانوراما عريضة عن الثورة الروسية، وبعضها
تدخل فى باب «المراثى» للنظام القيصرى.. وعشرات الأفلام، تعالج من منظورات
مختلفة، الثورة الكوبية.. وثمة عدد لا يستهان به من أفلام تسجيلية، ترصد
تفاصيل حركة شباب العالم المحتج، عام 1968.. ربما، لو أقيمت بانوراما، أو
حلقة أبحاث، تتعلق بهذا الشأن، لكان إنجازا ثمينا يضاف للمهرجان الذى اعتبر
أن الغائب الحاضر، فادى مصطفى السعيد، هو نجمه الأثير.
الشروق المصرية في
08/10/2011
إنقاذ مهرجان الإسكندرية
كمال رمزي
ما إن اندلعت الثورة حتى توقفت المهرجانات، كما لو أن المهرجانات لا
تليق ببلد يشهد ويعيش ثورة. ثم حدث ما يسمى بالانفلات الأمنى فارتسم على
وجوه الرافضين لإقامة المهرجانات سمات الحكمة، كما لو أنهم يطلبون منك
الاعتراف ببُعد نظرهم ونفاذ بصيرتهم.. وسط هذه الأجواء الحبلى بكل
التوقعات، فاجأ الناقد النزيه، نادر عدلى، الجميع بأنه مصرٌّ على إقامة
مهرجان الإسكندرية السينمائى.. ليلتها، اعتبر كلامه من باب الهرطقة، وعدم
إدراك عواقب الأمور، وبدأت رحلة تكسير المجاديف. قيل له: لن يحميك أحد من
البلطجية وشذاذ الآفاق، وأن فى الإسكندرية قطاعات واسعة ضد السينما
والفنون، وأن أحدا لن يأتى من الخارج، بالإضافة، أخيرا وأولا، لا يوجد
تمويل للمهرجان.
وبدلا من أن تثنيه هذه العقبات والتحديات والتحذيرات، انطلقت إرادة
نادر عدلى، مع صوته العالى، مفندا ما سمعه، فقال إن أشباح البلطجية تتحاشى
الظهور تحت الأضواء، وتبتعد عادة عن التجمعات وإنها ليست بالقوة أو
الخطورة التى يظنها البعض.. وفى الإسكندرية التى شهدت مولد السينما المصرية
على يدى إبراهيم وبدر لاما، والتى جاء منها يوسف شاهين وتوفيق صالح وعمر
الشريف، وقدمت، من خلال لوحات محمود سعيد وسيف وأدهم وانلى ــ فى
الإسكندرية، كما فى كل مكان، من تتفتح عقولهم وقلوبهم للفن، وسيعتمد
المهرجان عليهم، وعلى مجموعة النقاد السكندريين.. وذكر عدلى أنه أجرى
اتصالا بالملحق الثقافى التركى الذى وعده بتقديم بعض الأفلام التركية
وإحضار بعض النجوم الأتراك، على نفقة تركيا.. أما عن مسألة الرعاية
والتمويل، فإن محافظ الإسكندرية المستنير، أسامة الفولى، وعد بتقديم كل ما
يمكن تقديمه، معنويا على الأقل، وأن المهرجان سيبتعد تماما عن الفنطزة
والفشخرة، وستكون تكاليفه فى أقل الحدود الممكنة.
مع العزيمة والإصرار، انضم لنادر عدلى شباب الإسكندرية المثقف، الواعى،
فضلا عن مجموعة لا يستهان بها من المتمرسين فى العمل بالمهرجانات، وأعضاء
«جمعية نقاد وكتاب السينما» وعلى رأسهم رئيس الجمعية، ممدوح الليثى.. ووقف
عمادالدين أبوغازى الداعم الدائم للفكر والثقافة، قبل وبعد أن أصبح وزيرا
ــ إلى جانب المهرجان، بكل قواه وقدراته.
كنت أرى أن مرضا ما ظل ملازما مهرجان الإسكندرية، منذ مولده، من أكثر
من ربع قرن، تتغير مظاهره عاما بعد عام.. لكن هناك فرق بين القضاء على
المرض والقضاء على المريض.. وأحيانا، يغدو إبقاء المريض حيا، هدفا فى حد
ذاته.. لذا، فإن كل من ساهم فى انتشال المهرجان من الفناء، يستحق التحية
والتوقير، ويعطى أمثولة للآخرين، الذين ينهنهون على مهرجانات أصيبت
بالسكتة، كى يتحركوا، ويتصرفوا، ويفعلوا.
الشروق المصرية في
05/10/2011
زهرة العلا.. زهرة فى القلوب
كمال رمزي
فى دورته التى يجرى الاستعداد لها، قرر مهرجان الإسكندرية السينمائى
تكريم زهرة العلا، وهو قرار صائب تماما، يعبر عن نزاهة الاعتراف بدور فنانة
مرهفة، تشغل مساحة مضيئة بألوان ناعمة، على خارطة السينما المصرية، وجسّدت،
خلال عشرات الأفلام، مدرسة تكاد تكون مستقلة، فى الأداء التمثيلى. يستحق،
بجدارة، تلمس بعض معالمه.. زهرة العلا، تتلمذت على يد زكى طليمات، حين
انخرطت فى المعهد العالى لفن التمثيل العربى، فى أواخر الأربعينيات، والعمل
تحت قيادته، فى «فرقة المسرح الحديث» ابتداء من العام 1951. توافقت طبيعتها
الهادئة مع تعليمات طليمات بضرورة الابتعاد عن صخب الانفعالات الخارجية،
والاقتصاد فى الحركة، ومراعاة الأخذ والعطاء مع بقية الممثلين.
لم تدخل زهرة العلا عالم السينما مدعومة بصوت غنائى، على طريقة ليلى
مراد أو صباح، ولا تجيد الرقص كتحية كاريوكا أو سامية جمال.. وهى ليست ذات
جمال صارخ وجسد بارز المقاييس، ولكن اعتمدت فى حضورها على تقاطيع وجه
متسقة، رقيقة، دقيقة، متناغمة، أوضح ما فيها صفاء العينين، تكشفان عما
يعتمل داخلها من مشاعر، وبابتسامة صغيرة، تنقل إحساسا بالإشراق، وبتقطيبة
بين الحاجبين، تبين بجلاء عن مدى الكدر الذى تعانى منه. إنها، ذات جمال
روحانى إن صح التعبير، وبالتالى، أصبح من المألوف أن تطلع بأدوار الابنة
الحانية على والديها، والأخت المتعاطفة مع شقيقها والصديقة المحافظة على
أسرار صديقتها، والزوجة القادرة على غفران أخطاء زوجها. وحين تقدمت بها
السن، قدمت دور الأم، على نحو يعد امتدادا لنزعة النبل التى توفرت عندها،
منذ البدايات. إنها، لم تمارس الشر، على الشاشة، ولو مرة واحدة وهذا لا
يعنى التقليل من شأن شريراتنا الموهوبات، فى أفلامنا.
موهبة زهرة العلا، وعملها، جعلاها لا تتقيد بأغلال النمطية، فغالبا،
تجد لمسة، فى طريقة الأداء، أو فى تسريحة الشعر أو فى الملابس، تميز هذا
النموذج عن ذاك. وإذا كانت زهرة العلا عملت مع معظم مخرجى عصرها، فإنها
وصلت إلى أعلى المستويات مع شاعر السينما، هنرى بركات، حيث توافق أسلوبهما
مع بعضهما بعضا، فقدما بامتياز، وعلى نحو يستحق وقفة: «هنادى» فى «دعاء
الكروان» 1959، و«سامية» فى «فى بيتنا رجل» 1961، فضلا عن دور «درية»
الأخاذ فى «الوسادة الخالية» لصلاح أبوسيف 1957 المتوائم تماما مع قدراتها.
هنا، زوجة تحب زوجها، عبدالحليم حافظ، بقلبه المعلق بحب آخر، لم يعد له
وجود مادى، فمن كان يحبها ــ لبنى عبدالعزيز ــ تزوجت من رجل مهذب ومحترم
ــ عمر الحريرى ــ ويصبح على زهرة العلا أن تخوض معركة قلوب كى تشفى زوجها
من شبح الحبيبة الأولى، الذى يتراءى له وجهها على الوسادة.. زهرة العلا
تعبر بوجهها عن لمسة حزن لا تفصح عنه، ممتزجا بدرجة ما من الشفقة على زوجها
التائه فى الوهم. وحين يذهبان لزيارة الحبيبة الأولى، تقع اسطوانة من يد
عبدالحليم على الأرض وتنكسر. عندئذ، باقتصاد، وفى لحظات قصيرة، يلتمع فى
عينى زهرة العلا انفعالا مزدوجا، متباينا، تحس بالحرج لانكسار الاسطوانة،
وفى ذات الوقت، تحس بالشفقة تجاه زوجها المضطرب، وتكاد تحتضنه، وتهدئ من
روعه، بنظرتها.. ومع مشاهد النهاية، وبينما وجهها يتفصد عرقا، إثر العملية
الجراحية التى اجريت لها، تمد أناملها وهى على فراش المرض، كى تتلمس كف
زوجها، فلا تجد دبلة الحبيبة الأولى التى يحتفظ بها فى اصبعه. تدرك أنها
انتصرت، فى معركة القلوب، فتبتسم ابتسامة وديعة، نابعة من الروح، برغم
إعياء البدن.
فى «دعاء الكروان»، الفيلم العلامة فى السينما المصرية الكلاسيكية،
عشرات التفاصيل الموفقة، جسدتها زهرة العلا بمهارة واقتدار، وفى إجابتها عن
ثلاثة اسئلة جوهرية، وجّهها لها السينمائى الكبير، إبراهيم الموجى، نتبين
عمق إدراكها لأغوار الشخصية التى تؤديها.. سألها عما كان يدور فى خاطرها
أثناء انتظار قدوم الخال لقتلها؟.. أجابت «يائسة.. محطمة بسبب الشقاء الذى
سببته لأمى وأختى».. وسألها «ألم تحقدى على المهندس».. وبرحابة أفق، وفهم
لمناطق قد تبدو غامضة، قالت: «كنت أحبه. ولم أوجه له اتهاما أو لوما. هو
أيضا كان يحمل لى ذكرى طيبة ولم يعاملنى كساقطة، عاملنى كإنسانة.. ظهر هذا
عندما حدثته آمنة عنى..»، وإذ يلاحظ الموجى، بخبرته، ذلك الحوار الصامت بين
«هنادى» وأمها ــ أمينة رزق ــ حيث بدا له أن الأم تسألها «هل تعرفين
مصيرك.. وأنت تجيبين: نعم أعرف.. الموت».. علقت زهرة العلا «أنا كنت ميتة
فعلا.. فى انتظار الدفن.. كنت قد ودعت الدنيا.. بعد أن حصلت على نصيبى من
الفرح.. نصيب قليل ولكنه يكفى».. هكذا تفهمت فنانتنا، بعمق وشمول، أبعاد «هنادى»
وعالمها القاسى، الذى لا يعرف الرحمة.
مع بركات، تؤدى زهرة العلا، بطريقتها الآسرة، شخصية «سامية»، فى «فى
بيتنا رجل»، إحدى أفراد أسرة من الطبقة المتوسطة، شبه مخطوبة لابن عمها
التافه، المشكوك فى نزاهته «عبدالحميد» ــ رشدى أباظة ــ وهى، مثل معظم
بنات تلك الأيام ــ وهذه الأيام أيضا ــ ترنو إلى الزواج من شاب ليس على
شاكلة «عبدالحميد».. لذلك فإنها حين تتعرف على الجانب الآخر، الخفى،
البطولى، عند ابن عمها، حيث يتحمل وطأة تعذيب قلم البوليس السياسى، ولا يشى
بالفدائى، بل ويرفض المكافأة المالية المرصودة لمن يرشد عنه، يتجلى فى
عينيها كل معانى الطمأنينة، والراحة، والأمل.. زهرة العلا، هى زهرة فى كل
الأفئدة.
الشروق المصرية في
01/10/2011 |