"ماذا
تبقّى منك غير قصيدة الرّوح المحلِّق في
الدّخان قيامة
وقيامة بعد قيامة"
درويش
فيلم "Ghaza-strophe"
الوثائقيّ للمخرجين
العربيّين/الفرنسيّين سمير عبد الله (لبنانيّ) وخير الدين
مبروك (جزائريّ) هو أوّل
فيلم اعتنى بتوثيق آثار الاعتداء الإسرائيليّ على غزّة في جانفي 2009، وهو
أيضا
أوّل كاميرا تتخطّى معبر رفح لتصوّر كارثة أخرى، أو جريمة أخرى تنضاف إلى
جرائم
إسرائيل الكثيرة ضدّ الإنسانيّة، وضدّ الفلسطينيّين تحديدا،
بعد صبرا وشتيلا ودير
ياسين وجنين... هذا الفيلم عرض كاملا (95 دقيقة) في اليوم الاختتامي من
مهرجان
الفيلم المغاربي (الدورة الثالثة) بولاية نابل التّونسيّة. وقد كان عرض هذا
الفيلم
بمثابة تكريم لغزّة، وللمقاومة الفلسطينيّة، ولفلسطين الّتي
تستعدّ في هذه الأيّام
لإعلان الدولة الفلسطينيّة خلال الدّورة القادمة للجمعيّة العامّة للأمم
المتّحدة
في23 سبتمبر القادم، وبالتّالي الحصول على عضويتها الكاملة في مجلس الأمم
المتّحدة،
حتّى تصبح العضو 194.
لنذكّر في هذا
السّياق أنّ هذا الفيلم قد منع بثّه في جميع القنوات التّلفزيّة الأوروبيّة
بضغط
شديد من التّنظيمات اليهوديّة ذات النّفوذ في أوروبا، لأنّه فيلم قد كشف عن
بشاعة
جريمة، بله كارثة إنسانيّة. ولذلك تعتبر كلّ صورة، وكلّ لقطة، وكلّ مشهد،
وثيقة
إدانة، بل إنّ الفيلم بأكمله هو شهادة، أو قل اتّخذ شكل الشّهادة،
بالمراوحة بين
الصّورة والكلمة، أو بكليهما معا، لتوثيق هذه الكارثة. ليس
الشّاهد شخصا محايدا رأى
الوقائع، وروى ما جرى، ثمّ مضى، كما يمضي كلّ شاهد في المحاكم القضائيّة،
إنّما
الشّاهد في هذا الفيلم هو الصّورة ذاتها. فماذا تحتوي؟
كامل الفيلم هو جولة في
مناطق غزّة المختلفة من رفح، وكفر دارم ودير البلح وخان يونس،
إلى غزّة وجباليا
وبيت حانون مرورا بالمناطق الزّراعيّة ثمّ الصناعيّة فأحياء المدينة
وبيوتها. كامل
الفيلم مشاهد متشابهة من الدّمار والإبادة والخراب. كامل الفيلم هو كتابة
لقصيدة
"الأرض الخراب" لإليوت، ولكن على أرض غزّة. كامل الفيلم هو محاولة
لتحويل الكارثة
اللاّبشريّة الّتي لا تحتمل إلى تراجيديا تفسح، للّذين نجوا من الموت، مجال
الحديث
عمّا حصل بالكلام والشّعر والغناء أحيانا. و"ما حصل"، و"ما جرى" و"ما وقع"
قد سجّلت
الصّورة آثاره المرعبة. مشاهد لا نهائيّة من الدّمار. منازل قد هوت تماما،
وأخرى قد
بقيت أنقاضها، والكثير منها صار أثرا بعد عين. بعض من صوّرهم الفيلم من
الضّحايا
يحاول أن يتذكّر مواقع الدّيار القديمة. من تحت الأنقاض تخرج
صبيّة مبتسمة. كانت
تفتّش عن لعبها وثيابها. عثرت عليها مهشّمة ولكنّها لم تعثر على ذويها.
القاعدة في
أيّام الحرب هي أن تستيقظ من نومك على دويّ القصف والقنابل والرّصاص، فلا
تعثر على
شيء سوى جثث العائلة وأشلائها ودمائها. معظم النّاجين هم بقايا عائلة من
الأطفال.
كانوا يرسمون على الأوراق ذكريات لا تروى بالكلام. تتحدّث طفلة عن رسومها.
هذا
أبوها، وتلك أمّها، وهؤلاء إخوتها وأخواتها... لم يبق منهم أحد حيّا.
حكايات
التّمزّق العائليّ كثيرة والتّشرّد والشّتات، ولكن أبشعها على الإطلاق هي
قتل
الأبرياء أمام منازلهم وعلى مرأى من الصّغار. لم يستثن العدوّ أحدا:
الشّيوخ
والأطفال وخاصّة الشّباب. كلّ من يقبض عليه تطلق عليه رصاصة أو
أكثر "بدم بارد"، في
الرّأس أو في الظّهر أو في الفخذ. وكان للطّائرات نصيب الأسد من التّدمير.
قصفت كلّ
شيء تقريبا بطريقة منظّمة. لم يبق شبر من غزّة سليما معافى عامرا. طريقة
القصف ليست
حربيّة، فهدف الطّائرات ليس الانتصار على العدوّ وإخضاعه ليستسلم. طريقة
القصف تعلن
عن نوع جديد من الحروب هو حرب الإبادة. كلمة "الدّمار الشّامل"
لها معنى حسّي في
هذا الفيلم إذ لا يوجد استثناء. فالقصف بالقنابل وبالفسفور الأبيض، وبكلّ
أسلحة
الدّمار الحديثة، قد أتى على الزّرع والضّرع، والأخضر واليابس، والعباد
والبلاد،
والجامد والمتحرّك. مشاهد البقرات الميّتة وخلوّ السّماء من
الطّيور، والأشجار
المجروفة تغني عن كلّ تعليق. لم يبق من الحيوان إلاّ ثغاء كبش، وكلب هزيل،
وجحش
أعرج قد جرحت رجله الخلفيّة، والحمام الّذي عاد إلى أطلال دياره القديمة.
لم يبق من
الطّيور إلاّ الحمام. لم يبق من النّاجين شيء سوى ذكريات الّذين ماتوا
وصورهم
المعلّقة وأسماؤهم. العدوّ أصاب كلّ شيء العقول والأحلام
والكلام. بعض الضّحايا
يتكلّم بوضوح ولكن سرعان ما "يهلوس" ويضطرب كلامه. شابّ في عتمة اللّيل
يتحدّث عن
أبسط الحقوق، حقّ الحياة. صارت أحلامه كوابيس يوميّة. يرى نفسه عاريا تماما
في
منامه، وجنديّ إسرائيليّ يخرجه من منزله ويضعه أمام مدفع، يطلق
عليه قذيفة فيموت.
هل هو الحلم بالحقّ في الموت بعد فقدان الحقّ في الحياة؟
أمام هذه الكثرة
الكاثرة من المشاهد القياميّة (نسبة من القيامة) شيء واحد لم يتهشّم، لم
يفلح
العدوان الإسرائيليّ في قهره وإبادته، هو هذا التّعلّق العظيم بالأرض، وهذه
الإرادة
الصّلبة الّتي لم تزدها الجرائم اليوميّة إلاّ صلابة وعنفا...
"إرادة الحياة".
ينتهي الفيلم بمشاهد البحر ومويجاته وقوارب الصّيّادين، وعودة الحياة في
الأسواق،
سوق الأنفاق بغزّة، حيث تباع السّلع المهرّبة وقد ارتفعت أسعارها أكثر من
مائتي
مرّة، واجتماع أبطال الفيلم في سمر ونكات ساخرة وخطاب الشّاعر
الغاضب...
تتخلّل مشاهد الفيلم،
من حين إلى آخر، مقاطع من شعر درويش من "حصار لمدائن البحر" وهو ينشدها
بصوته
العميق. يمكن أن نتساءل لماذا الشّعر؟ لنتذكّر أنّ درويش قد كتب إثر حرب
بيروت سنة 82
قصيدته العظيمة "قصيدة بيروت". يتلاعب فيلم
العنوان بسجّلين: الشّعر والكارثة.
فكلمة "strophe"
الواردة في عنوان الفيلم "Ghaza-strophe"يمكن
أن تترجم بطريقة
كنائيّة بعبارة "قصيدة غزّة" هذا إذا استحضرنا أنّ لفظ
"strophe"
يعني في اللّسان
الفرنسيّ مجموعة من الأبيات المنظومة في نسق محدّد. ويمكن أن
نترجم عبارة العنوان "Ghaza-strophe"
بـ"غزّة الكارثة" هذا إذا استحضرنا لفظ "catastrophe"
الّذي يعني
في أصله الإغريقي جولة (stroph?)
إلى الأسفل (katá).
وليس الأسفل في سياق هذا
الفيلم سوى غزّة، أو استعارة غزّة كما يقول المخرجان، أو عالم غزّة
السّفليّ، هذا
العالم المسالم الّذي قلبته الحرب رأسا على عقب، بالدّمار
والخراب والموت.
تتصارع في الفيلم "الكارثة" و"القصيدة" في تحدّ عجيب لقول أدورنو،
فيلسوف
فرنكفورت، "لا شعر بعد أوزفيتش" هذا المعتقل الشّهير الّذي أبيد فيه
اليهود. هذا
الصّراع يؤكّد بعنف أن "ليس بعد الكارثة إلاّ الشّعر". فكلّ الجرائم مهما
تكن
فظاعتها الّتي لا تحتمل ليس لها من أفق آخر لإدانتها سوى "الشّعر"، وليس
لها من أفق
لفضحها سوى "الصّورة". بهذا الاعتبار نعتبر فيلم
"Ghaza-strophe"
فضيحة لجريمة لا
تغتفرن وإدانة لكارثة لا تحتمل.
الجزيرة الوثائقية في
15/09/2011
وثائق سينمائية فلسطينية.. لم تتحوّل أفلاماً
بشار إبراهيم
عندما وقف القائد الفلسطيني فؤاد زيدان (أبو
العمرين)، ليقول: «أيها الرفاق أرجو الموافقة على البدء
ببرنامجنا لتنفيذ العمليات
ذات الطبيعة العسكرية الخاصة؛ العمليات الانتحارية»، لم يكن يدري أنه سيلقى
حتفه،
خلال أقل من شهر، بحادث سير لازال يثير شيئاً من الغموض، ولكنه بالتأكيد
كان يدرك
أنه يرمي حجراً ثقيلاً في بئر الكفاح الفلسطيني.
كان ذلك في الاجتماع الدوري
للجنة المركزية للجبهة الشعبية/ القيادة العامة، الذي انعقد
بتاريخ 14 شباط/ فبراير
1974، حيث طلب حقَّ الكلام، وقال: «لقد انتهينا من
تشكيلات «فرق الرواد»
الانتحارية، وأريد أن أسجل أننا لم نلجأ إلى ذلك عن يأس، فنحن نؤمن بأن
النصر لن
يكون إلا حليف شعبنا وقضيتنا وأمتنا العربية، ونحن نؤمن بأن النضال ما هو
إلا شعلة
تُسلَّم من جيل إلى جيل».
إذاً، في بداية آذار/ مارس 1974 سقط الرجل؛ القائد
العسكري الفلسطيني، بحادث سير، ولكن ليس قبل أن يميط اللثام عن إنجاز كل
الترتيبات
لتجهيز «فرق الرواد»، إذ كانت القيادة العسكرية في الجبهة، قد أعدَّت برامج
خاصة
للتدريب، وأنجزت ابتكار «الحزام الناسف»، وطوَّرته عدة مرات،
بحيث يصبح «جاهزاً
للعمل بلمسة صغيرة، لا تسمح للمباغتة، ولا تفسح مجالاً للعدو للاقتناص».
يومها،
لم يكن أحد أبداً على اهتمام بتسمية تلك العمليات، هل هي «انتحارية»، أم
«استشهادية»؟!..
بل سيبدو من الواضح، وكما تفصح الوثائق المكتوبة، أو المُصوَّرة،
أن تسميتها بعمليات «انتحارية»، كان هو السائد الاستعمال، دونما أيّ تردّد،
وكان من
الشائع أن ذاك الطراز من العمليات إنما تنفذها «فرق الروّاد الانتحارية».
وما انتبه
أحد حينها إلا إلى التأكيد إنها «ليست تعبيراً عن يأس»،
وبالتالي فهي أسلوب كفاحي،
كان على الفلسطينيين الاضطرار إلى انتهاجه، كلما ضاقت بهم السبل.
وبالعودة إلى
التفاصيل الأولى، نجد أنه في يوم 11/4/1974، اقتحمت مجموعة من مقاتلي
الجبهة
الشعبية/ القيادة العامة، مستعمرة «كريات شمونا»، القائمة على أراضي قرية
«الخالصة»،
شمالي فلسطين، وسيطرت على مدرسة وبناية، واحتجزت عدداً من الرهائن.
عندها تقدّم الفدائيون بطلب الإفراج عن
مائة من الأسرى الفدائيين المعتقلين في
السجون الإسرائيلية. رفضت سلطات الاحتلال مطالب الفدائيين، ثم
شنّت هجوماً على
المبنى، الذي يُحتجز فيه الرهائن. وجرت معركة عنيفة بين مقاتلي «الوحدة
الانتحارية»، وقوات العدو. وقد نفذّ الفدائيون إنذارهم، وقاموا
بتفجير المبنى..
فكانت تلك أول عملية من نوعها، يقوم بها الفلسطينيون!..
مع نمو «سينما الثورة
الفلسطينية»، واتساعها، بادرت فصيل من فصائل الثورة إلى تشكيل قسم للإنتاج
السينمائي، خاص به. وهو القسم الذي كان من المفترض به العمل
على إنجاز بعض الأفلام
التسجيلية والوثائقية، التي تدور غالباً حول العمليات الفدائية، والأحداث
التي كانت
الثورة تمرّ بها.. وهكذا فقد تمّ تصوير بعض الوثائق السينمائية حول «عملية
الخالصة».
وعلى الرغم من أنه كان من المنطقي أن يقوم أحد المخرجين السينمائيين،
بالاشتغال على هذه الوثائق، وتحويلها إلى فيلم سينمائي، إلا أن الأحداث
المتسارعة،
عقب ذاك، لم تفسح المجال لذلك. فبقيت «وثائق سينمائية».
أهمية هذه الوثائق
السينمائية أنها تتضمن وصايا «شهداء الخالصة»، التي تلوها قبل المضي في
عمليتهم،
وهم يعلمون أن لا عودة ممكنة لهم.
نتأمل في تلك الوثائق، فنجد وصية الشهيد
الفلسطيني «منير المغربي»، وكان مما قاله: «الآن أعيش قمة
سعادتي، لأنني سأفتدي بعد
قليل وطني.. لأنني سأدكُّ إسفيناً في الكيان الصهيوني.. أمضي الآن، ولن
أعود.. يا
رفاقي، ما ألذَّ طعم الموت حين يمتزج بتراب بلادي.. نموت اليوم، ليس هرباً
من
الحياة، ولا لأننا يائسون.. الموت في سبيل الهدف، حياة جديدة
رائعة.. لنناضل في
سبيل شعبنا، وفي سبيل الوطن».
بينما كان مما قاله الشهيد السوري «أحمد الشيخ
محمود»: «بعد ساعات، سأمضي في طريقي.. طريق الشهادة.. الطريق
إلى حياة جديدة، تحتضن
طموحي، في وطن محرر.. أمضي الآن في الطريق الذي اخترته بكل فخر وسعادة،
لأنني من
خلاله سأحقق أمنياتي.. ليس الموت هو النهاية أبداً. إنه البداية؛ بداية
لحياة جديدة
زاخرة في السعادة لكل شعبي، ونهاية لأعدائه».
أما الشهيد العراقي «ياسين موسى
الموزاني»، فكان مما قاله: «لسوف أقوم بعملي هذا من أجل تغيير
الوضع السياسي في
المنطقة، ورفع الروح المعنوية للمقاتل العربي. نحن ماضون في هذا الطريق،
لأننا سوف
نقوم، ونستمر بنضالنا».
أهمية «عملية الخالصة» تتمثل أولاً: في أنها أول
عملية «انتحارية» تقوم بها المقاومة الفلسطينية، فكانت غير مسبوقة في
مجالها،
ولكنها أطلقت العشرات العمليات من طرازها على طريقها. وفي هذا
الصدد يذكر بيان
الجبهة الشعبية/ القيادة العامة، في الذكرى السنوية الأولى للعملية، بتاريخ 11/4/1975: «لقد
كانت عملية الخالصة الانتحارية ليس فقط تصعيداً للعمل العسكري
والنضالي للمقاومة الفلسطينية، بل كانت أيضاً نهجاً جديداً في
النضال رسمت في تاريخ
مسيرتنا الفلسطينية والعربية. شعلة لا يمكن أن تنطفئ. شعلة التضحية بالذات،
وتعميد
النضال بالدم، بحيث فرضت حقيقة موضوعية، على نهجها ثارت قواعد المقاومة لكي
تقوم
بعدد من العمليات الانتحارية. وهكذا جاءت عملية أم العقارب،
وبيسان، وترشيحا، وتل
أبيب، وسينما حن.. وسوف يستمر هذا النهج الذي حفر في التاريخ طريقاً
تحريضياً
استقطب ثقة الملايين في الأمة بالقدرة الكفاحية العالية في مواجهة الأعداء
والتي
تصل حدّ استعمال الأحزمة الناسفة، والتضحية بالذات».
كما تتمثل أهميتها، ثانياً:
في أنها فتحت الطريق، منذ البدء، أمام الجدل حول طبيعة هذه العمليات. وفي
هذا
المجال نلتفت إلى حديث أمين عام الجبهة، حين يقول: «بعد العملية بشهر، أو
يزيد،
جاءنا بشكل سرّي وفد من العلماء اليابانيين. جاؤوا ليدرسوا
الظاهرة، ليفسروها
ويسبروا أغوارها. قالوا: بالنسبة لنا، كيابانيين، عمليات الانتحار ليست
بدعة. إنها
من أصول معتقداتنا الدينية، وتربيتنا الاجتماعية، وبالتالي ليست بدعة. نحن
نؤمن
بالتقمص وبالحلول، ولهذا كانت فرق بكاملها، إبان الحروب، تقوم
بعمليات، ضد أعداء
بلادنا، ذات طبيعة اتنحارية. وغير ذلك قد يكون الانتحار لدينا تعبيراً عن
موقف أو
احتجاجاً، أو مجرد عودة لأصول معتقداتنا الدينية، أما أنتم فدينكم يمنع
الانتحار.
يمنع قتل النفس، إذن هل الانتحار وسيلة، أم ظاهرة تعبر عن اليأس؟.. نرجوكم
ضعوا بين
يدينا كلماتهم. رسائلهم. خطوطهم. نحن نريد أن ندرس أبطال «الخالصة»؛
نفسياتهم،
ونجتمع إلى رفاقهم إن أمكن، وإلى بعض من سوف يقوم بعمليات
مماثلة.. وكان لهم ما
أرادوا.. سمحنا لهم لنؤكد أن اليأس ليس هو الدافع..
وحين انتهى وفد العلماء
من دراسته التي استمرت وقتاً ليس بقصير قالوا:
-
إن أبطال الخالصة ظاهرة جديدة
لا يمكن احتواؤها تحت عنوان، كما يحدث في اليابان، أو لدى بعض أتباع ديانات
معينة.
-
لا يمكن القول إن الدافع كان يأس «فتيان الخالصة»، فالأبطال في سن
الشباب، ومهما كان الوضع فإن سن الشباب هو سن الأمل في الوقت
ذاته.
-
الحالة
الاجتماعية، بشكل عام، لعائلات الأبطال ليست سيئة، ولكنها بالقياس لا تقل
عن غيرها
من العائلات.
-
إن «الوسامة» التي يتمتع بها شباب الخالصة، تؤكد أن ما قاموا به
هو لجعل الحياة حرة للآخرين، وليس عن عدم حب للحياة».
ولم يكد يمر شهر واحد
على وقوع «عملية الخالصة»، حتى ضجّ العالم بأنباء عن عملية انتحارية أخرى،
قام بها
هذه المرة فصيل فلسطيني آخر، ينتمي إلى طراز مختلف تماماً من حيث
الأيديولوجية،
والفكر، والسياسة. ففي يوم 15/5/1974، نجحت مجموعة فلسطينية
تابعة للجبهة
الديمقراطية لتحرير فلسطين، مكونة من ثلاثة فدائيين، في التسلل، ودخول
منطقة
معالوت/ ترشيحا، شمالي فلسطين، في تأكيد على أن هذا السبيل من الكفاح،
سيتكاثر
رواده، ويتتابعون على دربه، من مختلف فصائل الثورة!..
وتذكر رواية الجبهة
الديمقراطية لوقائع العملية، أن فدائييها دخلوا مدرسة «نتيف مئير»،
واحتجزوا 105
تلميذاً، و10 مدرسين، رهائن. وكان غالبيتهم من مدرسة صفد الثانوية، الذين
حضروا الى
مدرسة معالوت، في إطار نشاطات الشبيبة الإسرائيلية. ولقد طالب الفدائيون
باطلاق
سراح 20 أسيراً فلسطينياً محتجزين في السجون الإسرائيلية، وإلا
فإنهم سيقومون
بتفجير أنفسهم مع الرهائن. وتؤكد الجبهة أن القوات الإسرائيلية لم تستجب
لمطالب
المقاتلين، واقتحموا البناية، فما كان من المقاتلين إلا تفجير المبنى، وقتل
العشرات.
فيلم «أيار..
الفلسطينيون»، الذي أخرجه اللبناني رفيق حجار، عام 1974، وهو فيلم وثائقي
متوسط
الطول (مدته 41 دقيقة)، شاء أن ينطلق من مقولة إن شهر أيار يرتبط بالنكبة
التي حاقت
بالفلسطينيين، كما يرتبط بنضالات الطبقة العاملة، وفي ذاك
القول محاولة للربط بين
النضال الطبقي والكفاح الوطني، بما يتوافق مع الفكر الماركسي اللينيني الذي
كانت
الجبهة الديمقراطية قد تبنته بوضوح. دون أن يغفل الفيلم عن حقيقة أن شهر
أيار/ مايو
1973، شهد مناوشات فلسطينية لبنانية مبكرة. وفي خضم
ذلك كله يمرّ الفيلم على عملية
(ترشيحا/
معالوت) الفدائية نموذجاً للكفاح، وتأكيد على دور الجبهة في هذه المسيرة.
وبالتالي فما احتواه هذا الفيلم عن العملية
كان بضعة لقطات أرشيفية أو وثائق
سينمائية، لم تتحوَّل إلى سياق فيلم عن العملية.
ولم يكد يمرّ شهر آخر على عملية
ترشيحا/ معالوت، حتى عادت الجبهة الشعبية/ القيادة العامة
لتنفيذ عملية انتحارية
جديدة، في مكان آخر، ففي يوم 14/6/1974، قامت مجموعة فدائية بتنفيذ عملية
ضد كيبوتز «كفار شامير»، الواقع شمال شرق فلسطين في
موقع «أم العقارب»، في سهل الحولة. وتقول
الجبهة إن مجموعة الهجوم، المكونة من فدائيين، اقتحمت
الكيبوتز، وتمكنت من احتجاز
32
رهينة من سكانه في المطعم، وعندما حاول العدو اقتحام المطعم، نفذّ
المقاتلان
إنذارهما، وفجّرا نفسيهما مع الرهائن.
ولم تتخلف حركة فتح، كبرى الفصائل
الفلسطينية، عن الانغماس في هذا السياق، إذ جاءت العملية التي
قادتها «دلال
المغربي»، عنواناً بارزاً في مجالها.
مصادر حركة فتح تذكر أن العملية كانت
انتحارية الطابع، ومع ذلك تسابق الشباب على الاشتراك فيها،
وكان على رأسهم دلال
المغربي، التي تم اختيارها رئيسة للمجموعة. في يوم 11 آذار/ مارس 1978،
نجحت دلال
المغربي وفرقتها الانتحارية بعملية الإنزال، والوصول إلى الشاطئ، والسيطرة
على باص
والتوجه إلى تل أبيب. قامت وحدات من الجيش الإسرائيلي بملاحقة الباص إلى أن
تم
إيقافه وتعطيله. وهناك اندلعت مواجهة انتهت بأن فجّرت دلال
الباص بركابه الجنود،
قبل أن تلقى مصرعها. وبقيت في الذاكرة وصية دلال المغربي: «أنا دلال،
ومستعدة للموت
من أجل وطني فلسطين».
سنوات قليلة إثر ذلك، وكانت المياه التي تجري في نهر
الثورة الفلسطينية قد غيّرت الكثير من ملامحها العامة، وإن لم تختلف في
التفاصيل.
تغيرت الأقوال والتعابير، وإن لم يتغير الكثير في جوهر الفعل. ستذكر
الوثائق: «إن
الجبهة الشعبية/ القيادة العامة قد قصَّت شريط العمليات الإستشهادية في
الخالصة عام
1974، حين ذهب ثلاثة من الأبطال وصنعوا ملحمة في
الخالصة، ثم فجروا أنفسهم بالأحزمة
الناسفة بعد نفاذ ذخيرتهم، ورفضوا أن يرفعوا أيديهم ويستسلموا
للعدو».
وهكذا ما
بين العام 1974 والعام 1987 اختفى تعبير «العمليات الانتحارية» تماماً،
وغدا
مرفوضاً ومرذولاً، من ناحية، كما غدا بمثابة الشتيمة، من ناحية أخرى!.. صار
الذين
يؤيدون هذا الطراز من العمليات يسمونها «استشهادية»، وصار
الذين يرفضونها يسمونها
«انتحارية».
ربما يجد البعض ذلك نتاج التحولات الفكرية العميقة التي حصلت، على
الأقل في الساحة الفلسطينية، وربما يكون ذلك بسبب طبيعة الاصطفافات الجديدة
التي
نشأت وكان أبرزها صعود القوى الإسلامية، التي بدأت تأخذ موقع الصدارة. فمن
قام
بعملية «الخالصة» معتداً بطبيعتها الانتحارية، عام 1974، لن
يتوانى في العام 1987،
عن القول: «عملية قبية الإستشهادية أعطت ماكان يُراد لها كاملاً, وهذه
العملية
البطولية الفريدة, تشجع المجاهدين من الفصائل الأخرى والأحزاب الإسلامية
والوطنية
اللبنانية والفلسطينية على تصعيد الكفاح المسلح.. نحن نعتقد أن
عملية قبية
البطولية, التي ساهمت ولو بشكل متواضع بانطلاقة الانتفاضة الشعبية
المباركة, ستبقى
في ذاكرة شعبنا وأمتنا وكل الأحرار في العالم, مشعلاً مضيئاً سيظل مدى
الأيام
والسنين, وإن الشهداء الذين سقطوا في هذه العملية سيكون مكانهم
جنات الله وفردوسه
وسيبقون خالدين بيننا».
تغير منطق الكلام، ولكن لم يتغيّر جوهر الفعل، فما فعله «خالد أكر» هو أنه اقتحم موقعاً للجيش
الإسرائيلي، وخاض حرب مواجهة، كان من العبث
مناقشة إن كان سينجو منها. بل إنه قبل العملية كان قد سجل
وصيته ورسائله، في وثائق
سينمائية مصورة، كعادة ما يفعل الذاهبون إلى حتفهم، دون أدنى شك.. بل وكما
سيفعل من
سيأتون بعده، وإن لم يعودوا يرتدون مثله زيّ الفدائيين، ولم يتدربوا في
المعسكرات
على حمل السلاح وخوض المواجهات.
الجزيرة الوثائقية في
15/09/2011 |