شعرت ماري منيب بأن السماء تعوّضها عما فات من حياتها، على المستويين
الإنساني والفني، فلم ترَ سعادة في حياتها كالتي تعيشها هذه الأيام مع
زوجها فهمي عبد السلام، وأولادها الأربعة، كذلك أصبح اسمها كفنانة يناطح
أسماء كبار الفنانين، في المسرح والسينما، بل والإذاعة التي أرادت أن تنهل
من معين هذه الممثلة المتمكّنة الذي لا ينضب، فراحت تستعين بها في تقديم
أعمال درامية إذاعية، بل وفواصل كوميدية تتحدّث فيها مباشرة إلى الجمهور،
فضلاً عن أفلام كثيرة قدّمتها خلال عامَي 1943 و1944، حتى إن أجرها أصبح
يوازي أجر أبطال أفلامها، وهذا ما لم يتوافر لنجوم الصف الثاني من كبار
الفنانين.
كان 1945 عام ماري منيب السينمائي، إذ قدّمت فيه سبعة أفلام مثّلت تقريباً
ربع إجمالي ما قدّمته السينما المصرية في ذلك العام، فشاركت في أفلام:
«ليلة حظ، تاكسي حنطور، رجاء، ليلة الجمعة، الجنس اللطيف، ليلى بنت
الفقراء، وأول الشهر»، ولاقت جميعها نجاحاً كبيراً، وكانت ماري منيب إضافة
حقيقية الى هذه الأفلام، فمهما كان اسم البطل أو البطلة يحمل من نجومية، لم
يكن مشاهد واحد لينسى دور ماري فيها.
على رغم حرصها الشديد على احترام النص المكتوب في سيناريوهات الأفلام، أو
حتى الروايات المسرحية، إلا أن ماري كان لا بد من أن تضع بصمتها على كل دور
تقدّمه، بأن تصبغ كل شخصية تجسّدها بـ «لزمة» طريفة من مخزونها الإنساني،
سواء من خلال جملة حوارية أو حكمة تأتي على لسانها من أجواء الشخصية وموضوع
العمل، أو حتى مثل شعبي، وإذا لم يكن ذلك متاحاً تلجأ إلى توظيف قطع
أكسسوارات الشخصية سواء في الملابس أو الحلي، بحيث تقوم بما يمكن أن يطلق
عليه البعض «سرقة الكاميرا»، غير أنها لم تكن تتعمّد هذه الأمور مع
زملائها، بل تأتي بشكل تلقائي، فتقدّمها بطريقة لا يمكن أن تتكرّر من فيلم
الى آخر، فقد كانت تحرص ـ على رغم طريقة كلامها الواحدة والثابتة ـ على ألا
تكرّر الشخصية نفسها في كل عمل يُسند إليها.
هذا النجاح غير العادي أثار انتباه «أبو الكشاكش»، فقرّر تتويج نجاح ماري
السينمائي بجعل
الـ 1945 عامها المسرحي أيضاً، إذ عرض عليها أن تقاسمه للمرة الأولى، بطولة
مسرحيّته الجديدة التي سيقدّمها للموسم الصيفي آنذاك، وهكذا كان.
«إلا خمسة»
عندما شارك نجيب الريحاني بديع خيري كتابة مسرحية «إلا خمسة»، كانت ماري
منيب تقفز إلى ذهنه، فكان يضحك حتى يتوقّف عن الكتابة:
* أول مرة أشوفك بتضحك يا نجيب وإنت بتكتب… قد كده الراوية كوميدية؟
-طبعا تجنّن… وإنت تكتب حاجة وحشة يا بديع؟
* لا مش القصد… بش شايفك منفعل قوي في الكتابة وبتضحك؟
-أصل البنت ماري دي عاملة دور ما حصلش؟
* (مندهشا)… ماري مين… مفيش بنت في الرواية اسمها ماري؟
-لا يا أخي… أنا أقصد «الحيزبون التركية» أخت الباشا… مش عارف ليه كل ما
أكتب جملة حوار أشوف ماري منيب هي اللي بتنطقها، خصوصا الجملة اللي بتقعد
تكررها لسليمان لما بيروح يشتغل عندهم سواق وتسأله كل شوية: «إنتي جاية
تشتغلي إيه».
* أفهم من كده إنك اخترت ماري للدور ده خلاص؟
-أنا ما اخترتش… الشخصية هي اللي اختارت صاحبتها… شايفها قدامي بتتنطط ع
الورق.
* بس ماري مش صغيرة على الشخصية دي؟
-وأنا مالي… ما الشخصية هي اللي اختارت… وبعدين ماري دي بنت عفاريت.. تعمل
أي حاجة في الدنيا.
* أنا ملاحظ يا نجيب إنك في السنين الأخيرة مهتم شوية بماري.
-شوف يا بديع… مفيش كاتب ولا مخرج ولا صاحب فرقة ممكن يهتم بفنان بمزاجة
كده من الباب للطاق… إلا إذا أجبره الفنان ده على الاهتمام بيه… بالظبط زي
المدرس في الفصل مش ممكن يهتم بتلميذ بعينه إلا إذا كان التلميذ ده نبيه
وأجبر الأستاذ على كده.
* فينك يا ماري تيجي تسمعي الكلام اللي عمرك ما سمعتيه ولا هتسمعيه من أبو
الكشاكش؟
-لا بجد… ماري موهوبة جدا… وهيبقالها شأن كبير.
* أكبر من كده… دي بقت نجمة يا سيدي وخايفين منعرفش نكلمها بعد كده.
لم يتردّد الريحاني لحظة في أن يسند دور السيدة التركية العجوز المتصابية
الى ماري منيب، فهو يراها الآن أصبحت أكثر خبرة وحضوراً على خشبة المسرح
وما من أحد غيرها أنسب لهذا الدور.
رسم خيري والريحاني شخصية الهانم العجوز بدقّة أذهلت ماري نفسها، لدرجة
أنها بمجرد ظهورها من شباك صغير على خشبة المسرح حتى كان الجمهور يضجّ
بالضحك، فصدق حدس نجيب الريحاني، إذ كانت إلى جانبه سبباً في نجاح المسرحية
التي استمرّت وللمرة الأولى في المسرح المصري ثلاثة أشهر كاملة، من دون
تغيير وهذا يعدّ حدثاً مسرحياّ غير مسبوق في ذلك الوقت، حيث كانت كل الفرق
المسرحية، كبيرة أو صغيرة، تتراوح مدة عرضها للرواية الواحدة مهما بلغ
نجاحها، بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع.
في عام 1945، كانت الحرب العالمية الثانية قد ألقت بظلالها الثقيلة على
العالم عموماً، وعلى المجتمع المصري خصوصاً، فانعكس ذلك على الأوضاع
السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ زادت الأسعار بشكل مبالغ فيه،
وبالتالي قلّ إقبال الناس على المسرح، خصوصاً بسبب الغارات وأجواء الحرب
التي فُرضت على مصر رغماً عنها، ذلك لمشاركة الإنكليز فيها كضلع أساسي،
وتواتر المعلومات التي تفيد بوصول هتلر إلى منطقة العلمين في الساحل
الشمالي الغربي لمصر، وأنه سيفعل باليهود المصريين مثلما فعل بيهود ألمانيا
وأوروبا.
ذكاء الريحاني
ربما أهم ما كان يميّز الريحاني وجعله يستمرّ حتى في ظل هذه الأجواء، ذكاؤه
الشديد وسرعة بديهته وتفاعله مع الأحداث، وتطوير نفسه وفنّه بشكل دائم،
فقدّم للمسرح عملاً أكّد من خلاله أن وحدة المصريين لا يفرّقها دين، وأنه
على أرض مصر لا فرق بين يهودي أو مسيحي أو مسلم، طالما كانوا كلّهم مصريين.
كان هذا العمل المسرحي بعنوان «حسن ومرقص وكوهين»، الذي يدور حول ثلاثة
مصريين تجمعهم شراكة في تجارة واحدة، ويتعاملون على اعتبار أنهم شخص واحد.
فكّر الريحاني في تقديم الرواية نفسها للسينما، للأسباب نفسها، لكنه أرجأ
الفكرة إلى وقت لاحق، على اعتبار أنها لا تزال تُعرض في المسرح، فقرّر
الاستعانة بإحدى الروايات السابقة في مسرحه وتقديمها للسينما ليكون مواكباً
للأحداث.
كان الريحاني يشعر بأن عمره قصير، لذا كان يريد أن يعطي كل دقيقة من حياته
لفّنه، وعلى رغم حزنه على تراثه المسرحي الذي لم يخلد، وجد بديلاً مهماً في
السينما ليسجّل جزءاً من هذا التاريخ، فهو وإن كان لم يحب السينما كما عشق
المسرح، إلا أنه لجأ إليها من حين الى آخر ليخلّد بعضاً من تراثه، فقرّر
وبديع خيري أن يعيدا كتابة أشهر المسرحيات التي نجحت معهما وتقديمها
للسينما.
* فاكره «لعبة الست» يا ماري؟
-إلا فاكره… وهي دي رواية تتنسي… يا سلام يا سي نجيب… ده أنا من كتر حبي
فيها حافظاها مشهد مشهد.
* إيه رأيك نعملها تاني؟
-ياريت.. دي كانت تكسر الدنيا ويمكن كمان تبقى أحسن من «إلا خمسة»… بس
هتعملها بقى لموسم الصيف ولا العيد؟
* لا صيف ولا شتا… إحنا هنعملها للسينما.
-والله فكرة برضه… تسلم أفكارك يا أبو الكشاكش.
* أيوه… أفكار أبو الكشاكش اللى هتروح بلاش.
-يوه… كفى الله الشر… ليه بتقول كده؟
* أبداً… أهو كلام ما تخديش في بالك… عارفة يا ماري… أنا نفسي أعيد كل
الروايات اللي عملناها في المسرح ونقدمها للسينما… رغم تقل دم السينما
وشغلها المقرف… لكنها سحر بنت الإيه… ما هو لازم الناس اللي هييجو بعدنا
يشوفوا إحنا عملنا إيه بعد ما نموت… أمال هيحكموا علينا بالسمع بس.
-ربنا يديلك طولة العمر يا سي نجيب وتملا الدنيا كلها شغل وفن.
* أي والله إحنا محتاجين الدعوتين دول… المهم خلينا في الشغل… شوفي بقى،
أنا عاوز قرف الحماوات اللي في الدنيا دي كلها تحطّيه في شخصية «سنية جنح».
أدى الريحاني دور «حسن وابور الجاز» وأسند الى ماري منيب دور «سنية جنح» في
فيلم «لعبة الست» الذي قدّمه في عام 1946، وشاركته البطولة الراقصة تحية
كاريوكا في دور «لعبة» ابنة سنية جنح، وعبد الفتاح القصري بدور والدها
«إبراهيم نفخو»، ومعهما عزيز عثمان ممثلاً ومطرباً في دور «محمود بلاليكا»،
وبشارة واكيم في دور «الخطيب الشامي»، ثم اختار سليمان بك نجيب ليؤدي دور
اليهودي المصري طيّب القلب الذي يقرّر الهرب إلى جنوب أفريقيا خوفاً من
وصول الألمان إلى العلمين، فيضطر الى بيع محلّه لمستخدمه المسلم «حسن».
ظلّت أصداء نجاح هذا الفيلم تطارد ماري منيب فترة طويلة، في الشارع وفوق
خشبة المسرح، وكان الجمهور يناديها في أي مكان باسم «سنية جنح»، وعلى رغم
استمرارها في المسرح مع الريحاني، إلا أنها كان تشتاق دائماً الى العمل معه
في السينما، لأنها تعرف قيمة أن تقدّم ولو فيلماً واحداً في السنة، بشرط أن
يكون مع الريحاني، إلا أن الأخير لم يكن ليقبل كلّ ما يُعرض عليه، فيحاول
قدر الإمكان التنوّع في ما يختار خوفاً من الهاجس الذي سيطر عليه دائماً:
ماذا ستقول عنا الأجيال القادمة؟
رحيل الذكريات
كانت ماري منيب تستشعر أن الريحاني يستعدّ لعمل سينمائي ضخم، سيكون الفيصل
في حياته وحياة مَن سيعملون معه فيه، فقرّرت أن تنتظر هذا الفيلم، ووجدت
نفسها ترفض عشرات الأعمال التي تُعرض عليها بسبب هذا الفيلم المجهول، غير
أن انتظارها طال فقرّرت أن تقبل ما يُعرض عليها في السينما لحين عثور
الريحاني على ضالته، فقدّمت في أبريل 1947 مع المخرج محمد عبد الجواد فيلم
«المتشردة» وشاركها البطولة المطرب عبد العزيز محمود وحكمت فهمي وحسن
البارودي. وفي العام نفسه، قدّمت: «بياعة اليانصيب، النفخة الكدابة،
البريمو، حمامة السلام، وبنت المعلم»، وفي العام التالي قدّمت فيلم «ابن
الفلاح» من تأليف بديع خيري وإخراج عبد الفتاح حسن، وبطولة المطرب محمد
الكحلاوي والممثل اللبناني محمود نصر، وشرفنطح، ونبوية مصطفى.
كعادتها، وقّعت ماري عقود أكثر من فيلم ارتبطت بها في عام 1948، بدأتها بـ
«ابن الفلاح»، ولولا هذه العقود والارتباطات لاعتذرت عن بقية الأفلام
المعروضة عليها، فقد شهد منتصف ذلك العام رحيل الحبيب الأول والزوج الأول
في حياتها، والبطل الأول أمامها، ووالد ابنيها… رحل فوزي منيب فجأة بعدما
تراجعت أسهمه كفنان، وتوارى خلف طابور طويل من النجوم والممثلين بدأوا بعده
وتقدّموه كثيراً.
بكت ماري فوزي كثيراً، فلا يزال قلبها ـ على رغم كل ما حدث ـ يحمل الكثير
من الذكريات الجميلة واللحظات السعيدة التي باتت رغماً عنها جزءاً من
تاريخها، فلم يكن فوزي مجرد رجل عابر في حياتها، بل تعلّمت منه الكثير،
إنسانياً وفنياً، وترك مكاناً كبيراً في حياتها، شاءت أم أبت، ترك لها فؤاد
وبديع فوزي منيب، اللذين أصبحا رجلين مسؤولين بعد أن تزوّجا فور زواج ابنَي
خالتهما، فقررا إقامة سرداق كبير لوالدهما، غير أن عزاءهما كان وجود أب آخر
لهما هو زوج أمّهما فهمي عبد السلام، الذي قدّر هذا الوفاء والإخلاص من
ماري لرجل يدرك تماماً أن له عظيم الأثر في حياتها بدليل أنها لا تزال تحمل
اسمه حتى اليوم.
اضطرت ماري الى التغلّب على أحزانها لتفي بارتباطاتها الفنية، فقدّمت
فيلمَي «المليونيرة الصغيرة»، و»فوق السحاب». ثم أنهت العام 1948 بفيلم
«المجنونة» أمام ليلى مراد ومحمد فوزي والسيد بدير، ومن تأليف حلمي رفلة
وإخراجه.
في ليلة عرض «المجنونة» في 31 يناير 1949، عرفت ماري من ليلى مراد أن زوجها
أنور وجدي يستعدّ لتصوير عمل ضخم يحضّر له منذ فترة بعنوان «غزل البنات»،
وأن وجدي سيشحذ له كبار النجوم والممثلين، على رأسهم نجيب الريحاني ويوسف
بك وهبي والمطرب والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وسليمان بك نجيب وعبد
الوارث عسر، ومعهم فردوس محمد التي ستقدّم دور مربية ليلى.
شعرت ماري بالغيرة، فقد كانت تنتظر هذا الفيلم وإذا بالريحاني يعطي دورها
لفردوس محمد. ارتأت أنه لا بد من أن تتحدّث معه في هذا الأمر، فربما كان
لها دور ولم يخبرها بعد، وحتى لو لم يكن لها دور فهو قادر على أن يخلق لها
دوراً:
* ما كنش العشم يا أستاذ نجيب… بقى مستنية كل ده على أمل إني اشتغل معاك في
الفيلم وبعدين ألاقي الدور يروح لفردوس محمد… هي فردوس أغلى منيّ عندك؟!
-بس بس… فيه إيه… فيلم إيه وفردوس محمد مين… أنا مش فاهم حاجة إنت بتتكلمي
عن إيه بالظبط؟
* عن غزل البنات اللي هتعملوا مع أنور وليلى.
-أيوه أيوه فهمت… وانت إيه اللي مزعلك كده.
* كنت عاوزه أشتغل معاك في الفيلم… وأديك شفت نجاح سي عمر ولعبة الست وأبو
حلموس، و…
-أيوه فاهم… بس اللي إنت مش فاهماه إن الفيلم مش بتاعي… ده ياستي أنور وجدي
شايل الليلة كلها على بعضها… إنتاج وتأليف وإخراج وتمثيل، واد جن مصور عاوز
يعمل كل حاجة في الدنيا… وإنت عارفه إننا مستغناش عنك واتمنى تبقي معايا في
كل شغل أعمله… لكن نعمل إيه ما باليد حيلة.
* بس أنا كنت عاوزة أشتغل معاك في الفيلم ده بالذات حتى لو أعدي من قدام
الكاميرا.
-يا ستي الله يجبر بخاطرك… بس اشمعنى الفيلم ده بالذات… ما الأفلام كتير.
* معرفش… وكمان ليلى قالتلي أنه هيبقى معاكم يوسف بيه وهبي وسي محمد بيه
عبد الوهاب وسليمان بيه نجيب، و…
-أيوه أيوه… الفيلم كله بهوات… مفيش فيه أفندي غيري.
بس تعرفي حاسس إن الواد أنور لاممنا كلنا في الفيلم زي ما يكون بيكرمنا… أو
بيدينا مكافأة نهاية الخدمة… بيقول دول خلاص بقى رايحين… لكن اللي زيك لسه
جاي وبيبدأ.
* أيوه يا خويا… كُل بعقلي حلاوة زي عوايدك.
لم تعرف ماري منيب سرّ هذا الإصرار العجيب منها على مشاركة الريحاني فيلم
«غزل البنات» تحديداً، فهي لم تفعل ذلك معه سابقاً، فهل لأنها تعوّدت على
العمل معه وتريد مشاركته كل أعماله؟ أو لأن الفيلم مهمّ وضخم توافرت له كل
إمكانات النجاح؟ أو لأنه ستشارك فيه صفوة النجوم الموجودين على الساحة
آنذاك؟
دوامة الأحزان
لم تعرف ماري الإجابة عن هذا السؤال إلا يوم عرض «غزل البنات»، فقد حضر
عرضه الأول كلّ من شارك فيه إلا نجيب الريحاني الذي كان قد رحل عن هذه
الدنيا.
كانت صدمة قاسية ومروّعة لماري، فلم تصدّق أن الريحاني قد مات… فبعد أشهر
قليلة من رحيل فوزي منيب، الرجل الأول في حياتها، غيّب الموت الريحاني الذي
جعلها تشعر بنفسها وفنّها وبقيمة ما تقدّمه، الرجل الذي علمها الكثير من
دون أن تطلب ذلك، رسم لها ملامحها الفنية ووضع الأطر الخارجية لكل الشخصيات
التي قدّمتها معه، وبقيت معها تلازمها حتى عندما كانت تضطرها الظروف الى
التحليق خارج فضائه.
رحل الريحاني قبل أن يكمل تصوير الفيلم فاضطر أنور وجدي الى إجراء تعديلات
في السيناريو.
انقطعت ماري عن المسرح والسينما وعن كل ما له علاقة بالفن، وانطوت على
أحزانها تجترّ ذكرياتها، وفشلت كل محاولات المقربين لإخراجها من هذه العزلة
الاختيارية، لدرجة أنهم أخفوا عنها خبراً آخر سيزيد آلامها وأحزانها، غير
أنها قرأته في عيونهم، فقد أبى عام 1949 أن يرحل قبل أن يأخذ معه رفيقاً
آخر في الدرب، وهو الفنان بشارة واكيم، ليكتمل عام الحزن لدى ماري، ففي
أقلّ من عامين غيّب الموت ثلاثة من حياتها، كان لهم عظيم الأثر عليها
كإنسانة وكفنانة.
كاد الحزن أن يقتل ماري بعدما حاصرها من كل جانب… وتحوّلت المرأة التي تملأ
الدنيا بهجة وضحكاً وتفاؤلاً، حتى في أحلك الظروف، إلى كتلة من الأحزان
مستسلمة تماماً… غير أنها مؤمنة بقضاء الله وراضية بضربات القدر.
البقية في الحلقة المقبلة
الجريدة الكويتية في
27/08/2011
مملكة الضحك (14):
ماري منيب… عادل خيري يعيد الروح إلى ماري ومسرح الريحاني
كتب: القاهرة - ماهر زهدي
ترك رحيل فوزي منيب وبشارة واكيم ونجيب الريحاني، حزناً عميقاً في قلب ماري
منيب، بل أعاد إليها ذكرى رحيل والديها وشقيقتها، ما عمّق من أثر الحزن
بداخلها وجعلها تشعر بالوحدة مجدداً في هذا العالم، رغم وجود زوجها المحامي
فهمي عبدالسلام الى جانبها، وانضمام أفراد جدد الى العائلة، هم زوج ابنة
شقيقتها كوثر، وزوجتا ولديها فؤاد وبديع، وزوجة ظافر ابن شقيقتها، والأهم
منهم جميعاً الأحفاد، فقد أصبحت ماري جدة للمرة الأولى وهي لم تكمل عامها
الخمسين بعد.
كان وجود هؤلاء جميعاً في حياتها عابراً ولحظياً، وكلّ منهم انشغل بحياته
الجديدة وعمله، وحرّمت ماري على أيّ منهم أن يمتهن مهنة الفن، فهي لا تريد
لهم أن يقاسوا ما قاسته أو يعانوا ما عانته، فأكمل كلّ من أولادها الأربعة،
دون تفريق بين ولديها وابنَي شقيقتها، تعليمه وعمل في مهنة بعيدة تماماً عن
الفن، غير أنها لم تكن تستطيع العيش من دون المقربين والمحبين، تشعر بهم
ويشعرون بها، ولشدة حبها لكل من حولها من زملائها سواء من يعملون معها في
المسرح، أو حتى في السينما، أو في فرق أخرى، الذين كانت تُسعد بصحبتهم،
تمنّت لو أن لديها بيتاً يتّسع لهم جميعاً ليعيشوا معها ولا يفارقونها لحظة
واحدة، ولأن هذا شبه مستحيل فقد لجأت إلى حيلة وجدت فيها سلوى وتسلية، وهي
العيش وسط الطيور والحيوانات، لتجد من تمنحه حبها وحنانها من دون مقابل…
قرّرت ماري منيب أن تطلق على الطيور والحيوانات الأليفة التي تقتنيها أسماء
من تحبّهم من الأصدقاء والمقربين، فهناك ببغاء كبير فصيح اللسان يتحدّث
طوال الوقت، أطلقت عليه اسم «كشكش»، و{ديك» بلدي منفوش الريش يمشي مزهواً
بنفسه وبألوان ريشه الزاهية أطلقت عليه اسم يوسف بيه وهبي، وديك رومي طويل
الرقبة فارع الطول عريض المنكبين أطلقت عليه اسم سراج منير، وبطة سمينة
ممتلئة غير أنها رشيقة تمشي فرحة بنفسها أطلقت عليها اسم «ميمي شكيب» زوجة
سراج منير، وذكر حمام أبيض الريش أطلقت عليه اسم «بوش بوش» أو بشارة واكيم،
وديك «شركسي» من دون ريش حول رقبته قليل الحجم ضعيف، لكنه لا يهدأ لحظة،
أطلقت عليه اسم «شرفنطح».. وإوزة بلدي معتدّة بنفسها أطلقت عليها اسم فاطمة
وأحياناً كانت تدلّلها «طماطم»، أي فاطمة رشدي.
هذا بخلاف القط الذي لم يكن يفارقها حتى في السرير أثناء نومها والذي أطلقت
عليه اسم سعد، وأنثى الكلب الخاصة بحراستها والتي أطلقت عليها اسم «لايكا».
لم تكتف ماري بإطلاق هذه الأسماء على طيورها وحيواناتها، بل كانت تجلس
بينها غالبية وقتها وتتابع حركاتها ومعاركها معاً، وتفضفض معها ما يضيق به
صدرها، وتحكي لها مشاكلها، غير أنها كانت تعاتب من يعتدي على الآخر:
* بس يا سي كشكش بيه… وزي ما إنت شايف كده… من يوم ما سبتنا مبقاش فيه حاجة
لها طعم… كل حاجة بقت شبه بعضها… حتى الأيام بقت شبه بعض… النهارده ما
يفرقش عن إمبارح وبكره أكيد هيبقى شبه النهارده… إيه… فين أيامك يا سي
نجيب؟
ثم فجأة تنتبه الى الديك الرومي وتنهره:
* بس… بس… شايفة يا ميمي سراج بيعمل إيه في يوسف… اختشِ يا سراج عيب ده
برضه يوسف بيه… ما تقوله حاجة يا أبو الكشاكش.
يطير ذكر الحمام الأبيض ليقف فوق كتفها، فترحّب به وتأخذه في حنان:
* تعالى يا بشارة ماتخافش… إنت خايف من شرفنطح… ما تخافش هو كده غلباوي ع
الفاضي.
عودة الريحاني
هؤلاء الذين جمعتهم ماري في بيتها في شكل طيور وحيوانات تعشقها، التفّوا
حولها بشخصياتهم الحقيقية وذهبوا واحداً تلو الآخر، أفراداً وجماعات إلى
بيتها يطالبونها بالعودة الى المسرح والى فنها، غير أن أكثر من أثّر فيها
وكان لكلامه عليها فعل السحر هو الكاتب والمخرج بديع خيري:
* إنت عارفه… أنا مش بكلّمك علشان ترجعي تشتغلي معايا… إنت فنانة كبيرة…
وأي فرقة تتمنى تشتغل معاها ماري منيب.
- ده بس من ذوقك يا سي بديع.
* دي حقيقة مش مجاملة يا ماري. وإذا كان نجيب الريحاني مات… فرقته مش لازم
تموت.
- عليه رحمة الله بس آدي الله وآدي حكمته هنعمل إيه. اللي كان بيشغل الفرقة
وعمودها الأساسي مش موجود.
* إنتو موجودين… إنت وميمي شكيب وعباس فارس وسراج منير، وعدلي كاسب، وكمان
هيبقى معاكم الشباب الجديد نجوى سالم ومحمد شوقي وسعاد حسين وأديب
الطرابلسي والباقي كله لازم فرقة الريحاني تقف من تاني على رجليها وتقدم
للناس فنها اللي عمره ما هيموت.
- أيوه بس إنت سيد العارفين… كله دول الجسم… ومفيش جسم من غير راس… فين بطل
الفرقة؟ فين اللي ممكن يقف مكان الريحاني؟
صمت بديع خيري قليلاً ثم أطرق برأسه ونظر إلى ماري نظرة حائرة، قائلاً:
* طبعا هو مفيش اللي يسد مكان الريحاني… لكن كل أعضاء الفرقة اختاروا واحد
أنا شايفه كويس… بس مشفق عليه من التجربة، لأن التجربة صعبة جدا… مش عليه
هو تحديدا على أي حد يقف مكان الريحاني.
- هو مين بسلامته؟
عادل بديع خيري… ابني.
صمتت ماري وحوّلت عينيها بعيداً عن عيني بديع… غاب صمتها قليلاً ما زاد قلق
بديع خيري وتوتّره، وظنّ بأنها ترسل إليه رسالة واضحة. لم يشأ أن يضغط
عليها أكثر من ذلك، بل فضّل أن ينصرف من دون أن يسمع تعليقاً منها، وما إن
هّم بالوقوف حتى نظرت ماري إليه وقالت:
- مش هنعمل مسرحيات جديدة… عادل أحسن واحد ممكن يقوم بأدوار الريحاني في
مسرحياته.. ولو عاوز أنا أبصم بالعشرة على كده… قول للفرقة تجهز… يلا على
بركة الله.
لم يكن عادل، نجل الكاتب والمخرج بديع خيري، قد تخطّى عامه العشرين إلا
بأشهر قليلة، وبقي على تخرّجه في كلية الحقوق عام فقط، لكنّه لم يكن يفكّر
بالعمل في المحاماة، بل أراد فحسب الحصول على ليسانس الحقوق لتكون معه
شهادة عليا، في حين أنه وُلد وعاش وتربى في كواليس فرقة الريحاني، بل إنه
شارك من خلال فريق تمثيل الجامعة في كثير من المسرحيات، وكانت غالبيتها
مسرحيات الريحاني التي شارك والده في تأليفها مع الريحاني.
على رغم قصر قامة عادل خيري وضعف بنيته، إلا أنه كان يتمتّع بذكاء حاد
وسرعة بديهة، يحمل مقوّمات القيادة، حاضر الذهن على خشبة المسرح، يحفظ كل
أدوار المسرحية وليس دوره فحسب.
قرّر عادل خيري أن يبدأ موسم فرقة الريحاني الجديدة بمسرحية قدّمها
الريحاني على خشبة المسرح في صيف العام 1930، أي قبل أن يولد عادل بأشهر
عدة، كي لا يكون في ذاكرته شيء من أداء الريحاني في هذه المسرحية، ومن
ناحية أخرى يكون قد مّر عليها 20 عاماً تقريباً ونسيها الجمهور، فلا يعقد
مقارنة بينه وبين الريحاني في أول عمل له مع الفرقة.
قدّم عادل خيري أول مسرحية لفرقة الريحاني بعنوان «أحب حماتي» أمام ماري
منيب وحسن فايق وسعاد حسين ونجوى سالم، وأخرجها والده بديع خيري، وأدّت
فيها ماري دورها المعروف: «الحماة النكدية».
نجحت المسرحية نجاحاً لم يصدّقه بديع خيري، لدرجة أن الفرقة قررت تقديمها
مرّتين في اليوم الواحد، ماتينيه وسواريه، نظراً الى الإقبال الجماهيري
عليها، ما شجّع عادل خيري على إعادة تقديم مسرحيات الريحاني قريبة العهد:
فكانت على التوالي: «الشايب لما يدلع، كان غيرك أشطر، لو كنت حليوة، ياما
كان في نفسي، قسمتي، واستنى بختك»، ونجحت كلّها نجاحاً كبيراً أعاد اسم
فرقة الريحاني مجدداً إلى الصدارة .
حماة فنيّة فحسب
لم تنكر ماري منيب أن هذا الشاب صغير السن حديث العهد بالانضمام الى فرقة
الريحاني، أضاف إليها نجاحاً فوق نجاحها، بعدما أصبحت القاسم المشترك في
هذه المسرحيات كافة، وتقاسمت معه البطولة. حتى أصبح اسمها الأشهر بين كل
الفرق المسرحية، وليس فرقة الريحاني فحسب، كذلك الحال في السينما، حتى أنه
لم تعد تُذكر أدوار الحماة القاسية النكدية، أو الأم الحريصة على أولادها
لدرجة الاختناق، إلا ويُذكر اسم ماري منيب معها، بدرجة أثارت دهشة الجميع،
خصوصاً المقرّبين الذين يعرفون ماري عن قرب، وشخصيتها، وكمية الحنان والحب
اللذين تتمتع بهما. فزوجتا فؤاد وبديع، ولدَي ماري، تريانها أماً حنوناً،
لم تتعمّد يوماً أن تنغّص عليهما حياتهما، ولم تتدخّل في شؤون حياة ولديها،
بالأمر أو حتى الرجاء، ولم تزر بيتَيهما إلا في الأعياد والمناسبات
السعيدة، وحين كان يزورها أولادها وزوجاتهم والأحفاد، يجدون كل ترحاب وحب،
ما جعل زوجة فؤاد تسألها عن سرّ ذلك التناقض بين الشاشة وخشبة المسرح وبين
الواقع الذي يعيشونه:
* صحيح يا ماما… إزاي بيحصل ده؟
- الله… كلمة ماما طالعة من بقك زي السكر.
* لا بجد… إيه السر في كده؟
- أبداً يا بنتي لا سر ولا حاجة… المسألة كلّها أكل عيش… ماهو التمثيل زيه
زي أي شغل… تعملي شغلك كويس ربنا يديلك ويحبب الناس فيكي.
* أيوه بس اللي يشوفك في السينما أو على خشبة المسرح يقول إن الست دي محدش
يقدر يعيش معاها… وده غير الحقيقة خالص… جبتي الكلام ده منين؟
- من الدنيا والحياة… الدنيا بتعلم الناس كتير… وطول من البني آدم مننا
عايش ياما بيشوف ويتعلم… اسأليني أنا… أنا.
* يعني إنت شفتي قدامك حاجات زي كده.
- ياما شوفت وجربت… وبعدين الباقي بيجي بالخبرة وتوفيق ربنا… طب أنا هقولك
على حاجة… عارفة أنا في الأول في بداية شغلي بالمسرح… كنت أروح أتفرج على
مسرحيات يوسف بيه وهبي… تصدقي إني كنت بخاف منه وخصوصاً في رواية
«راسبوتين» كنت بخاف أبصّ في عنيه… وفي مرة صحّيت أختي أليس الله يرحمها
معايا طول الليل خايفه لراسبوتين يجيلي في الحلم.. وفضلت كده لحد ما تعرفت
على يوسف بيه وبقينا أصحاب… ما قوليكيش على خفة الدم والحنية والحب لكل
اللي حواليه… بقولك إيه… ما تاخدي تكسري الجوزة دي بسنانك علشان أنا سناني
واجعاني.
إن كانت أدوار الحماة النكدية قد شاعت عن ماري منيب، وكانت سبباً في رفع
اسمها عالياً في المسرح الذي انحصرت غالبية مشاركاتها فيه، فإن السينما
كانت أكثر رحابة وأكثر تنوعاً أمامها، إلا أن اسمها في كل الحالات أصبح
«ماركة مسجلة» في خفة الدم والكوميديا، لدرجة أن المخرجين الجدد كانوا
يعتمدون عليها في السينما لضمان نجاح أعمالهم، وهذا ما شجّع أحد هؤلاء أن
يطلب ماري للعمل في فيلمه الأول، وإن كانت له شروط أراد أن ينبّه إليها
ماري لما عرفه عنها بعدم الالتزام حرفياً بالحوار المكتوب:
* شوفي يا ست ماري… أنا طبعا عارف اسمك وتاريخك وعارف أنا بشتغل مع مين
علشان كده أنا اخترتك تعملي البطولة مع الأستاذ حسين رياض، وهيكون معاكم
فاتن حمامة وكمال الشناوي.
- أنا قريت السيناريو… وعجبني بس ربك والحق أنا قلبي انقبض في الأول.. بس
لما جيت للنهاية عجبني قوي… وكمان اسم الفيلم حلو «بابا أمين»… يلا ربنا
يوفقك يا بني.
* مرسي قوي… بس معلش اسمحيلي أنا لي طلب صغير عند حضرتك.
- اتفضل تحت أمرك.
* أنا طبعا يشرفني أشتغل مع حضرتك… بس لو سمحتي أنا كنت عاوز حضرتك تلتزمي
بالحوار المكتوب في السيناريو.
- إنت قولتلي اسمك إيه…
* ما سبق وقولت لحضرتك… اسمي يوسف شاهين.
- أيوه صحيح افتكرت… شوف يا يوسف بيه.. أنا بعرف أقرأ وأكتب وبتكلم فرنساوي
بلبل كمان… بس أنا بحب أسمع الحوار من مساعد المخرج وبعدين أعمل المشهد
بطريقتي… وأنا مش هغير الطريقة دي علشان أي حد… لكن علشان خاطرك أنا هعمل
المشهد ولو إنت شايف إنه مش هو اللي إنت عاوزه ممكن أعيد حتى عشر مرات لحد
ما تاخد اللى إنت عاوزه.
في عام 1950، قامت ماري ببطولة أول فيلم للمخرج يوسف شاهين، ولاقى نجاحاً
كبيراً، وفي العام نفسه قدًمت أيضاً عدداً آخر من الأفلام، وإذا كان شاهين
قد نجح في إبعادها عن دورها المحبّب لها وللجمهور، فإن بقية المخرجين
أعادوها بسرعة إليه، فقدّمت، خلال عام 1951 أفلام: «مشغول بغيري، ليلة
الحنة، آدم وحواء، شبك حبيبي، وخد الجميل»، وختمت العام بفيلم ظلّ لأسابيع
عدة حديث الصحافة ويُكتب عما فعلته ماري منيب بهذه النوعية من الأدوار،
وكان بعنوان «حماتي قنبلة ذرية» كتبه أبو السعود الإبياري وأخرجه حلمي
رفلة، وقامت ماري ببطولته أمام إسماعيل ياسين وتحية كاريوكا، والمطربة
الشابة شادية، وعبد الفتاح القصري.
روح جديدة
في موسم عام 1952 الصيفي، كانت سعادة ماري لا توصف، ليس فحسب لأنه لم تكن
ثمة دار عرض وإلا ويُعرض فيها أحد أفلامها، بداية من «صورة الزفاف، بنت
الشاطئ، مسمار جحا، حضرة المحترم» وصولاً إلى «الأسطى حسن» الذي شاركت فيه
فريد شوقي في أول بطولة مطلقة له مع زوجته هدى سلطان، وغيره الكثير، بل
أيضاً لأن مصر تخلّصت أخيراُ من عهود الظلام، وعصر القهر والظلم، بقيام
ثورة 23 يوليو بقيادة «البكباشي» جمال عبد الناصر، ومعه الضباط الأحرار
يتقدّمهم اللواء محمد نجيب.
شعرت ماري آنذاك، ككل المصريين، بأن ثمة روحاً جديدة تولد في مصر، روحاً
مختلفة يملؤها التفاؤل بمستقبل مزدهر، وغدٍ أفضل، وكان هذا الإحساس مسيطراً
على الجميع، في المجالات كافة، إضافة إلى أن الثورة أولت اهتماماً خاصاً
بكل أنواع الفنون، السينما والمسرح والإذاعة، التمثيل والموسيقى والغناء،
والأدب والشعر.
لم تشعر ماري ببقية سنوات الخمسينيات التي مرت سريعاً، وقدّمت خلالها
أفلاماً سينمائية كثيرة رسّخت أقدامها، ليس باعتبارها إحدى أهم نجمات تلك
الفترة فحسب، بل لأنها أحد رواد فن التمثيل في المسرح والسينما، فلم يخلُ
عام من سنوات تلك الحقبة من أربعة أو خمسة أفلام لماري منيب، شاركت خلالها
غالبية نجوم ونجمات جيلها والأجيال التالية لها، ذلك في أفلام: «بيت
الطاعة، ابن للإيجار، بنت الهوى، الحموات الفاتنات، المرأة كل شيء، حميدو،
عفريتة إسماعيل ياسين، المحتال، علشان عيونك، الحياة حلوة، اوعى تفكر، كدبة
أبريل، مملكة النساء، كابتن مصر، تار بايت، عرائس في المزاد، الكيلو 99،
سامحني، هذا هو الحب، أحلام البنات، حماتي ملاك»، وختمت تلك المرحلة بأحد
أهم أفلامها «أم رتيبة» الذي اضطرت في نهايته الى أن تجسّد للمرة الأولى
دور رجل في السينما، وقد شارك في هذه الأفلام عدد كبير من النجوم والنجمات
من بينهم: أنور وجدي، كمال الشناوي، عماد حمدي، فريد شوقي، فاتن حمامة، هند
رستم، شادية، ليلى مراد، مريم فخر الدين، وغيرهم.
لم تكن السينما أقلّ أهمية من المسرح لدى ماري منيب، فقد كانت تحاول بشكل
كبير التوفيق بين عملها في السينما وعملها اليومي على خشبة المسرح، وإن
كانت السينما أخذتها إلى حدّ ما من المسرح، إلا أنها رفضت رفضاً قاطعاً
العمل في التلفزيون، وقد وافقت مرة واحدة على الظهور من خلال شاشته، والتي
كانت سبباً في مقاطعة ماري التلفزيون في ما بعد، بعدما اضطرت الى الجلوس
ساعات عدة في انتظار ضبط الكاميرات وأجهزة الإضاءة والصوت.
لم تتخلّ ماري يوماً عن عملها في المسرح، وكانت حريصة على التواجد فيه قبل
موعد رفع الستار يومياً، كعادتها منذ ما يزيد على 30 عاماً، ما كان سبباً
في نجاح «ربيرتوار» مسرحيات الفرقة التي أدى بطولتها نجيب الريحاني، من
خلال عادل خيري، مثل «30 يوم في السجن، حسن ومرقص وكوهين»، حتى قرّر عادل
إعادة تقديم المسرحية الأهم والأشهر، «إلا خمسة»، بعد مرور ما يقرب من 18
عاماً على تقديمها مع نجيب الريحاني. وعلى رغم حبّ ماري للمسرحية وللمسرح
عموماً، ولعادل خيري خصوصاً إلا أنها رفضت رفضاً قاطعاً أن تعيد تقديم هذه
المسرحية تحديداً، فدُهش عادل من هذا الرفض، وأصرّ على معرفة أسبابه.. حتى
ولو لم تقدّمها ماري معه بعد ذلك.
البقية في الحلقة المقبلة
الجريدة الكويتية في
28/08/2011 |