مخرجٌ ألماني كان يعتبر ان مشاهدة الفيلم يجب أن
تكون تماماً كما لو أنك تنتعل حذاء فيه بحص، اي ان تشكّل مصدراً للازعاج.
وهذا ما
نشعر به لدى قراءة الكتاب مرة جديدة في ضوء عصرنا الجديد. سواء أمعنّا فيه
أو رحنا
نتسكع داخل أروقة البلاغة البروسونية، أو حتى دخلنا الى كنفه كما ندخل دار
قديس
ناسك، فالمفاجأة خلف كل بابّ، وكل فكرة، وكل ايحاء، وكل رمز.
حسناً فعلت "دار
الجديد" عندما تولت نشر نسخة مترجمة الى العربية لكتاب روبير بروسون
الوحيد،
"مدونات حول السينماتوغراف"، وضعها الاستاذان الجامعيان محمود أمهز
وفادي اسطفان.
فهذه الخواطر للمعللم الفرنسي الذي كان يفضل كلمة "سينماتوغراف" ("طريقة
جديدة في
الكتابة، اذاً في الشعور") على "السينما"، نصائح موجهة الى مَن يعرف الفنّ
السابع
تمام المعرفة ويريد التعمق فيه تعمقاً فلسفياً، فكرياً، ايديولوجياً. كما
انه يُمكن
هذه النصائح أن تولّد الرغبة لدى عابر السبيل في معرفة المزيد. انها
اجتهادات مفخخة
بشاعرية جائعة ومحبطة، تأملات شخصية في السيناريو والاخراج وادارة الممثل،
بتوقيع
واحد من أكبر الخلاقين في القرن العشرين، صاحب نظرية "السينما
تولد من المواجهة
والضد" و"نقّح الواقع بالواقع". جمل مقتضبة تجيء أحياناً من دون فعل، اسطر
شحيحة،
ألغاز، أفكار معلقة، تفسير قليل، لكن هذا كله يجعلك تقلق وتستنفر، حاملاً
نفسك الى
فهم آخر للسينما.
صحيح ان الوقت قد مضى والسينما تغيرت، وان التطور طوى عدداً
ليس بقليل مما يأتي في الكتاب، من هموم وهواجس كانت تؤرق
السينمائي الكبير آنذاك،
لكن قيمة هذه الهواجس في ذاتها، وفي كونها شكلت خلاصة دوغما سينمائية فذّة
وتحريضية، وهذه الشبه الديانة البروسونية تُعتبر مصدر إلهام
لعدد لا يحصى من
السينمائيين حول العالم، ويمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال، أقربهم الينا:
عباس
كيارستمي وايليا سليمان.
ينسج بروسون خواطره على شكل نصائح، لكن هذا ليس سوى
فخّ. فقراءة متأنية للكتاب، بلغته الفرنسية خصوصاً، تضعك أمام حقيقة أخرى
وهي ان
بروسون لا يفعل الا التفكير بصوتٍ عال.
نظرياته تنم عن شيء من الانطباعية. نعم
انطباعية، لأنها كُتبت أو سُجّلت كيوميات، وفي معظم الأحيان أثناء التصوير
والعمل.
من الذهاب والاياب بين التنظير والتطبيق،
يولد سحر الكتاب الذي صار مرجعاً من مراجع
السينيفيلية العالمية.
يأتي الكتاب في قسمين: يمتد الأول من عام 1950 الى 1958
في 76 صفحة، أما الثاني فيحمل تأملات اربعة عشر عاماً (1960 ــ 1974) وذلك
في 18
صفحة، مما يعني ان الكتاب يعبّر أكثر عن الجزء الاول من مسيرة بروسون أكثر
منه عن
سنوات النضج.
جزء من أهمية الكتاب في عدم تجانسه. فهو يتضمن احجية لا يُمكن رصد
علاقتها المباشرة بالسينما. مثلاً: "في الطقس الكنسي للروم
الكاثوليك، يُقال:
تنبّهوا!". مقابل هذا تجد بروسون أكثر خفة تجاه نفسه. افضلية المرور لدى
بروسون هي
للانسان وليس للفنان. ما يجعله رقيقاً. هذه التعليقات تجعل منه متنوراً،
رأسه في
السماء ورجلاه على الارض. وعندما يمنح عامل الزمن الكلمة
الفصل، نراه تخلى عن تاج
المثقف المتسلط. عندئذ نجده يكتب: "لن تعرف الا بعد مرور الزمن ما اذا كان
فيلمك
يستحقّ ما تكبّدته من جهود". أما أحكام من مثل "بمرور الزمن تَبَرجَز
المسرح،
والسينما دليلٌ على ذلك"، فيمكن أن تشكل نقاطاً خلافية. على النفس الصدامي
عينه
يتموضع ما يقوله عن النقد والنقاد متحاملاً عليهم بشكل أو بآخر، أو على
الاقل يلدغ
حيث الجراح: "كم من ناقد لم يتوصل الى رسم حدود فاصلة بين السينما
والسينماتوغراف.
واذ يفتح العين، بين حين وآخر، على حضور
الممثلين وأدائهم غير الملائم، سرعان ما
يغمضها. فهو مضطر الى ان يحبّ، بالجملة، كلّ ما يُعرض على
الشاشات". نظريات
دوغمائية أخرى تبدو اليوم محسومة وأكثر بعداً من الواقع، وتحاول ان تموضع
الفيلم في
جمود غير محبب، ومنها عندما يكتب أنه يجب عدم استخدام أي موسيقى في
السينما، لأن
الموسيقى عنصر معدّل للصورة، وكل شيء يعدّل يفسد، ولأن
الموسيقى "تأخذ كل المكان في
العمل".
على ارضيات متحركة وأحياناً متناقضة، يذهب الكتاب الى الأمام. بعيداً
من العلم الدقيق والاكاديمية، يلجأ بروسون في خواطره البديعة
الى اللقية اللماعة،
والحسّ الشاعري والجنون والانفلات من المنطق المنظّم. يجب ألاّ نتغاضى عن
أن بروسون
كان في 1975، عندما انهى تأليف الكتاب ونشره، قد أنجز ثلاثة أرباع أعماله،
وبات
المجد الذي لم يبحث عنه يوماً، خلف سنواته الثماني والستين.
وفي كلماته، بعض من صمت
أفلامه. قسط من تجربة فنية لم تساوم اطلاقاً ولم يعترض طريقها اي مكروه.
وليس هناك
افضل مما كتبه في هذه الجملة ليردّ الاعتبار اليها، والى ما يُمكن اعتباره
مساراً
نموذجياً: "احفر احساسك. انظر الى ما في داخله. فلا تحلله
بالكلمات. ترجمه الى صور
متآخية، الى أصوات مترادفة. وبقدر ما يكون الاحساس نقيّا، يترسخ اسلوبك
(...). ليكن
فيلمك شبيهاً بالذي تراه عندما تغمض عينيك".
لقي الكتاب قسطاً من الاحتفاء لدى
صدوره في فرنسا عام 1975، لا سيما في الأوساط السينمائية. مع الزمن تعززت
مكانته
كأداة لطرح رؤية مختلفة عما هو سائد. استعان منه غودار ببضع جمل ونشرها في
فيلمه.
مثل بروسون ظلّ غودار يفضل تسمية على أخرى، مقحماً انصاره في سجالات تكاد
تكون غير
مجدية حول الفرق بين "السينماتوغراف" (التسمية الأمّ) و"السينما" (الاسم
المشتق)،
التي كانت في نظر بروسون أقرب الى المسرح منها الى الصورة الفوتوغرافية.
ولئن تعاطى
مخرج "فرار محكوم بالإعدام" مع الفنّ التشكيلي بقوة، فتعاطيه مع السينما هو
من
منطلقات استيتيكية في مجمل الأحوال. بالنسبة الى بروسون، لا قراءة ممكنة
للسينما
بمعزل عن الفنون التي تربّت في حضنها، وصولاً الى حالة التمرد
التي كانت للسينما
على الفنون الأخرى. انه مانيفست للسينما ولكل ما يفصلها عن الرسم والأدب
والمسرح،
وخصوصاً المسرح الذي بدا الأكثر التصاقاً بالسينما، كون الاثنين يتشاركان
الحوارات.
في النهاية، ليس "مدونات حول السينماتوغراف" الا احتفاء بالسينما وكيفية
انجاز
فيلم. انها زيارة الى عقل سينمائي يعتبر ان كل فيلم يجب ان يُبنى "على
البياض
والصمت والسكون" وعلى المخرج أن يساوي بين الاشياء جميعها.
نعم، هكذا قال بروسون في
احدى آخر صفحات الكتاب، ضارباً بسيزان المثل: "سيزان يصوّر بالعين نفسها
وبالروح
نفسها طبق الفواكه، وابنه، وجبل سانت فيكتوار".
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
مُخرج المواجهة يثير الحرج!
بروسون بالنسبة الى السينما الفرنسية، هو ما هو
دوستويفسكي للرواية الروسية، وموزار للموسيقى الألمانية، والكلام هذا
لغودار، الذي
كان دوماً أكثر المهللين لمنجز مخرج "بيكبوكيت".
12
سنة مرت على رحيل المخرج
المؤسس لنمطية سينمائية شرّعت الأبواب أمام أهم معالم الحداثة في الجزء
الثاني من
القرن العشرين، ولا يزال تأثير أعماله في الوجدان العالمي كبيراً إلى حدّ
انه يبعث
على الاستغراب أحياناً. لكنه استغراب غالباً ما يقترن بتدارك
سريع لمنطقه الفريد في
التعاطي مع الأمور، والذي لم يلف وجهه بالتجاعيد على رغم مرور الزمن. اذ،
حتى بعد
مضي أكثر من ربع قرن منذ تقديم آخر أفلامه، "المال"، لا تزال فيلموغرافيته
ملأى
بألف درس لفهم السينما فهماً عضوياً، فهماً أفضل، أي فهماً فلسفياً أكثر
ايماناً
بالوسيط السينمائي.
مارغريت دوراس كانت تعتبر انه وحده يمكن أن يختصر السينما
كلها. كان بروسون من القلائل المنتمين الى جيلي الأربعينات
والخمسينات الذين غازلهم
اعضاء "الموجة الجديدة"، معتبرين اياه استاذاً كبيراً. كثيرون يعترفون
بتأثيره في
شغلهم: كيارستمي مثلاً. شأنه شأن ستانلي كوبريك الذي سبقه الى الموت ببضعة
اسابيع
في عام 1999، تقتصر تركة بروسون على 13 فيلماً نموذجياً جعلت
منه السينمائي الفرنسي
الأكبر. رئيس التحرير الأسبق لمجلة "دفاتر السينما" جان ميشال فرودون يعتبر
بروسون
في كتابه "مخرجاً يثير الحرج"، وهذا التصنيف يليق الى حدّ بعيد به.
لم يكن
بروسون سينمائياً رائداً فحسب، بل أيضاً أحد المنظّرين لحداثة بصرية،
ومبتكر كلمة
"سينماتوغراف"، التسمية الاولى للفن الذي اخترعه الاخوان لوميير. انها
ايضاً مبادرة
للعودة الى أصل الكلمة، لعلها تساعد على انقاذ السينما من قبضة المسرح
والفن
التشكيلي والأدب، علماً ان بروسون، وعلى رغم عدائه للاقتباسات، نقل الى
الشاشة
برنانوس ودوستويفسكي وتولستوي، وأعلن: "الأفكار التي نستقيها
من القراءة هي أفكار
تليق بالكتب. اذهبوا الى الشخصيات والأشياء مباشرة بلا وسيط". هذا التعصب
لـ"السينماتوغراف" هو رغبة في قلب المفاهيم، وفي قول ما لا تستطيع أن تقوله
الكلمة
أو أن يوحي به اللون. وهذا ما يتأكد في كتابه المرجع حيث يطرح رؤيته لصناعة
الفيلم
مدوِّناً ما يجوز اعتباره خواطر يمكن الانطلاق منها لبيان
تأسيسي حديث
النبرة.
فيلماً بعد فيلم، صنع بروسون لنفسه هالة سينمائية تصعب إطاحتها، قوامها
الصفاء. نوع من سينما خالصة تجهد في البحث عن الحقيقة وإسقاط
الأقنعة. من أجل
التوصل الى هذه النقاوة التي كان ينتصر لها، كانت لبروسون نمطية معينة لم
يزح عنها
طوال حياته، بدءاً من اختياره ممثلين غير محترفين وصولاً الى ايلائه
التفاصيل
الأهمية المطلقة، ايماناً منه بأن "هذه هي" الطريقة المثلى
للوصول الى فضيلة
سينمائية وحقيقة موثوق بها. وهو من القلائل على سبيل المثال استخدموا
الكاميرا
الخفية (في "بيكبوكيت") لسرقة لحظات حقيقية. لكن هذا كله لم يمنعه من أن
يترك باباً
مشرعاً أمام كل مفاجأة تدخل الى موقع التصوير أثناء عملية التقاط المشاهد.
سينمائي المواجهة لكن بهدوء (ألم يقل يوماً أمام مجموعة تلامذة "إذا أردتم
أن
تنجزوا أفلاماً، فعليكم أولاً أن تكونوا ضد شيء ما"؟)، كان
دائم البحث عن المصادفة
الخلاّقة لإعطاء الحقيقة جسداً تنام عليه أفكاره. معه، ثمة منحى كان يهيمن
دائماً
على غيره من المناحي: جعل المُشاهد يشعر بأنه يرى الأشياء للمرة الاولى،
وذلك
ببساطة تامة. هذه البساطة التي اعتُقد ذات زمن انها مرادف
للسهولة، بدت في ما بعد
امتداداً لنمطية تسعى الى البحث عن الصفاء. وكما نعلم، كلما زادت البساطة
زادت
التعقيدات.
كان بروسون في بداياته يريد اعتناق الفنّ التشكيلي، لكنه قرر
الاستغناء عن هذا الفن والتوجه الى السينما، مستبدلاً اللوحة
البيضاء بشاشة. أنجز
فيلمه القصير الاول عام 1934، وكان ينبغي انتظار عقد كامل من الزمن كي
ينكبّ على
انجاز فيلمه الطويل الأول، "ملائكة الخطيئة"، عام 1943، فيما كانت بلاده
فرنسا تحت
الاحتلال النازي، علماً انه شارك في الحرب العالمية الثانية قبل أن يتعرض
للاعتقال.
وبعدما نال تشجيع معاصريه، لم ينتظر طويلاً قبل الانطلاق في مغامرته
الثانية، "سيدات
غابة بولونيا"، المستوحى من نص لديديرو، كتب له الحوارات جان كوكتو،
والأخير
كان يجلّه ويعتبره "حالة خاصة في مهنة فظيعة". مني الفيلم بفشل جماهيري
ذريع، على
رغم الاستحسان الذي لقيه فيلمه الأول، وهذه اللعنة في ملاقاة الجمهور ظلّ
يجرجرها
من فيلم الى آخر، حتى صرّح ذات يوم: "الجمهور لا يعرف ما يريد.
عليك أن تفرض عليه
رغباتك".
وكان ينبغي انتظار مطلع الخمسينات من القرن الفائت، كي تتشكل ملامح مَن
كان سيتحول في العقود اللاحقة مؤسسة اخراجية. وجاءه التكريس
الفعلي والنهائي بشريط
واحد هو أفلمة لرواية برنانوس، "يوميات خوري القرية"، الذي كان يحمل توقيع
صاحبه
الصارم. على رغم ذلك، فإن هذه الأفلام الثلاثة المذكورة، كانت على أهميتها،
عرضة
للانكار من جانب مخرجها، ما ان دخل مرحلة أكثر نضجاً من مساره.
ثم جاء "فرار
محكوم بالإعدام" (1956) الذي قال الكلمة الفصل في ما سيكونه بروسون بدءاً
من
الستينات. هذا الفيلم دفع بالطريقة البروسونية الى مناطق جديدة
وغير مظنونة من
تجربته، آخذاً المخرج الكبير الى ما سيكون شغله الشاغل في أفلامه اللاحقة:
رد الفعل
بدلاً من الفعل. بدءاً من هذا الفيلم ايضاً أخذت تتوضح اتجاهاته
التيماتيكية
المفضلة، وأهمها كيفية صمود الروح الانسانية أمام عذابات ظالمة
تنزل بالجسد. بطله
يقبض عليه المصير الجماعي من حيث لا يدري. بلغ بروسون من خلال أفكاره
الروحانية،
وإن بدت في بعض الاحيان كاثوليكية ودينية، صميم الروح الانسانية، في أفلام
مثل
"الشيطان على الارجح" (1976) و"موشيت" (1967) و"محاكمة جان دارك"
(1962) وغيرها. في
مقابلة مع هاتاي وانغ، قال: "اريد أن اتوصل الى ابعد من مجرد
اظهار اجساد متحركة
على الشاشة. أود ان احرك احاسيس هذا الشيء المتسلط والحاضر دائماً فوقنا
والذي يدعى
الله".
عبقري مؤسس لا يقبل الجدل بحسب بعضهم، ومثير للملل بحسب بعضهم الآخر،
عُرف بروسون بنظرياته الخلاّقة بقدر ما عُرف بمنجزه، لأنه سيد
حرفة وتأمل في آن
واحد. كان يكرر مثلاً أن تعظيم المواقف ودعمها بالنفس الدرامي، من الأشياء
التي لا
ترتاح اليها سينماه، مصراً على مسألة انه كلما كان تلقائياً وأوتوماتيكياً،
خرج من
دواخله فيض من الاحاسيس المتجانسة. بالنسبة اليه، هناك نوعان من الأفلام:
الأول
يستعمل الكاميرا وأدوات المسرح لإعادة انتاج أو تسجيل ما يقدّم
الى العدسة؛ والثاني
يستل آلة التصوير مستعيناً باللغة السينماتوغرافية لإنجاز ما كان يسمّيه
بروسون
خلقاً. علاوة على انه كان يريد لدورة الحياة في أفلامه أن تبدو طبيعية،
بعيداً من
التصنع، وهذا ما يفسر لجوءه الى "موديلات" بدلاً من الممثلين،
ونظريته في هذا الشأن
كانت معروفة: "في الحياة عندما تحرّك يدك، لا تفكر، بل تفعل ذلك من تلقاء
نفسك".
من هذا التفاوت بين فنّ سينمائي مملوء بالتقليد والكيتش والميل الى اعادة
انتاج الحياة بتكرار بليد، وفنّ يمجد الصفاء ويوظف فلسفة معقدة
جداً لبلوغ الخلق،
ولدت عظمة بروسون. على الأرجح ان في هذا الخطين المتوازيين، اللذين لا
يلتقيان
البتة، يكمن الفرق، كل الفرق، بين السينما والسينماتوغراف.
هـ. ح.
لوكليزيو: هذه الكلمات ندوب واشارات ووجع وجواهر
لوكليزيو، الحائز جائزة نوبل للآداب عام 2008، تحدث في مقدمة الكتاب عن عمل
بروسون الذي "يتخطى مجرد الكشف البسيط عن الحواس"، انطلاقاً من
مدوناته...
"سنة
بعد سنة، يطرح روبير بروسون الأسئلة نفسها. أسئلة تتعلق بالممثل والموديل،
تتعلق
بكيفية استخدام هذا الفن الذي لا يزال جديداً، الذي يسميه
الآخرون السينما، فيما هو
يطلق عليه اسم السينماتوغراف الصعب (...). فهل الأسئلة هي التي صنعت
الأفلام؟ أم
الأفلام هي التي استنبطت هذه الأسئلة؟ وما هو مجال استخدام الأسئلة؟ انها
تستخدم
للتحريض، والتفكير والبحث عن الحكمة. وتُستخدم لاستنباط لغة
جديدة وبلوغ الكمال. (...)
في يومياته، أو قُل مدوناته، سجل بروسون اكتشافاته، في بضع كلمات. كل ما
يصنع
رجلاً، ما يستسيغه، ما ينفر منه، بخاصة تقزّزه من الغرور وادعاء الثقافة
والتقليدية. ميله الى الصدق، الى الطبيعة. ميله الى الاقتصاد
والدقة في الفنّ.
الجوهر، مواجهة الظاهر، أي الموديل، المقابل للممثل. ما نكتشفه هنا في
ملاحظته
المرمية كما لو كان الأمر سهواً، هو جوهر هذه المغامرة،
المعيشة بكامل فيضها، حتى
المعاناة القصوى احياناً، هذا الجوهر هو الذي أوصل بروسون الى قمة الابداع
السينماتوغرافي. ففي تقشف هذه الكلمات وحيائها، نشعر بميله الى الحقيقة،
وبهاجس
الكمال لديه، كما ندرك مدى معركته المتواصلة في وجه التسويات
والابتذال وسلطة
المال. فكيف لا نفهم الشجاعة كلها والعناد كله الضروريين لبروسون في نضاله
منذ
سنوات عدة من أجل أن يحقق مشروع فيلمه "سفر التكوين"؟ "الحقيقيّ لا يقلّد،
الزائف
لا يحوَّل". في نظر بروسون، الفن هو الملاذ الوحيد لمواجهة مرارة العجز،
لكن الفنّ
ابعد من ذلك بكثير. فهو يكتشف الجزء الوحيد المرئي من الواقع، وجهه الظاهر.
في هذا
المعنى يقترب بروسون من كبار الرسامين، وتحديداً من
الانطباعيين وهنري ماتيس. عند
قراءة يومياته، لا يسعنا الا ان نفكر في الفنّ الشرقي، في أعمال الياباني
هو كوزاي
التصويرية، المشبعة بفلسفة الزن البوذية. هنا، نجد المعنى نفسه لمفهوم
الاقتصاد في
الوسائل، والنزوع نفسه الى ما هو حسيّ، اللعب نفسه مع تموجات
الحواس. الحياة تسير
على غير هدى، جارفة معها كل شيء في مدّها القوي غير المتوقع. الصور
والأصوات تجعل
الواقع مدركاً للحظة: "ترجمة الهواء غير المرئي بالماء الذي ينحته أثناء
مروره".
هكذا يعلم بروسون فنّ المفاجأة، أي السعادة التي تلتقط فريستها حية. "كن
جاهلا بما
ستلتقطه بقدر ما يكونه صياد عند طرف قصبته".
النهار اللبنانية في
25/08/2011
هاري بوتر والمقدّسات المميتة - الجزء الثاني
محمد رُضا
إخراج: ديفيد ياتس
تمثيل: دانيال ردكليف، إيما وتسون، روبرت غرينت، ألان ركمن، رالف
فاينس
الولايات المتحدة/ بريطانيا | النوع: فانتازيا.
الجزء الثاني من القصّة السابعة الذي هو الجزء الثامن من المسلسل
الشهير أفضل من غالبية الأجزاء السابقة من سلسلة هاري بوتر لسبب مهم:
الدراما فيه محدودة والغلبة للمعارك. إنه فيلم معارك من أوّله إلى آخره
وهذا يعني أنه فيلم مؤثرات أكثر من معظم الأجزاء التي توالت من العام 2001
إلى اليوم. فيه مشاهد من القتال الفردي، وأخرى من القتال الجماعي. فيه
دهاليز مخيفة وباحات مدمّرة، ومخلوقات متوحّشة وتنين يهرب من معتقله وأفعى
تتحوّل إلى شذرات حين تموت، وقذائف حارقة والكثير من القتل. موت فردي وموت
جماعي. لقد وصل جميع المشاركين فيه، وفي مقدّمتهم هاري بوتر (ردكليف)
وصديقاه (غرينت ووتسون) إلى الحلقة الأخيرة التي على كل الأخيار مواجهة كل
الأشرار. ولأن الأخيار ليسوا متساوي القوّة او القدرة على استخدام السحر،
فإن العبء الأكبر -مشهدياً على الأقل- ملقى على كتفي بوتر الذي يكتشف أنه
جلب إلى مدرسة السحر المعروفة الكامنة في قلعة هوغوورتس الدمار وإلى
التلامذة والأساتذة فيها الموت عندما حاولوا حمايته والدفاع عنه. لكن
اللورد فولدمورت (راف فاينس) ورجاله أقوى من أن يتم إيقاف زحفه. الأخيار
سينشرون منظومة ضد القذائف النارية التي يرميها الأعداء (مظلّة بالونية
تغطّي المدرسة) ويطلقون محاربين من صخور، لكن فولدمورت سيدمّر المنظومة
وسيدخل القلعة ولابد لبوتر من مواجهته.
الساعة والنصف السابقة لذلك، هي تمهيد لذلك اللقاء بين المتحاربين
الأساسيين وارتقاء له. خلال سيواصل هاري بوتر سعيه لكشف اللثام عن بعض ما
كان تبقى من ألغاز بعد سبعة أفلام أرست السلسلة التي جمعت حتى الآن أكثر من
بليوني دولار من الإيرادات. خلال الفترة لابد من ملاحظة كيف أن شخصية هاري
المنقلبة هي محور كل شيء حتى وإن لم نصدّق أن الشرير الكبير الذي يمسك
بيديه مصير عالم السحر لم يستطع حتى الآن (وخصوصاً في الفيلم رقم 7)
التخلّص من شاب هارب من سطوته. النقطة الثانية هي كيف أنه في الوقت ذاته
الذي يمر فيها هاري بوتر، كما في السابق، بتطوّرات عاطفية ونفسية، يبقى
صديقاه هارمويني (وتسون) ورون (غرينتس) مسطّحان مثل رغيف خبز عربي كبير.
صحيح أنهما يمضيان الوقت هنا، كما في السابق، في الظهور متعجّبين ومندهشين،
إلا أن هذا الظهور ليس تطويراً بل مجرد تكرار مواقف معهودة.
بعض الدراما تحاول أن تلعب كعامل نفسي. إذ أن بوتر موجود في دم
فولدمورت، كما أن بعض بوتر يستطيع سماع عدوّه ومعرفة ما الذي سيقوم به
تبعاً لحالة من الإمتزاج الذي يسمح لبوتر ببعض التمثيل. فنتيجة لذلك نراه
يتعذّب كثيراً، وتدهمه بعض الآلام التي من الصعب التفريق بينها وبين تلبك
المعدة. هذا قبل تلك المواجهة التي ستنتهي.... تعرفون لصالح من؟ لكن هذا
القدر المحدود من مشاهد التأوّه والعذاب، لجانب قدر محدود آخر من مشاهد
الخوف والقلق، هو كل ما سيرمز إلى الدراما. أما الباقي، ومن حسن حظ الفيلم،
فإنه ليس أكثر من مواجهات وتصفية حسابات كان لابد منها بسبب وصول حكاية
الكاتبة رولينغ إلى آخرها. كذلك هي النهاية التي انتظر الوصول إليها ملايين
البشر ممن شاهدوا السلسلة وأحبّوها.
ولن تخيب الظن لكنها لن تأتي بسهولة. على ذلك، فإن العقد الطويل من
الأفلام شهد تطوّراً كبيراً في بناء شخصية هاري بوتر. إذ نتذكّره صبياً
بريئاً في الحادية عشر، يبتسم تلقائياً (ربما لأنه أدرك أنه سيصبح أغنى صبي
في عمره بفضل تمثيله هذه الحلقات) نواجهه الآن وقد أصبح شخصية متأثرة
وممزّقة. تعاني من متاعبها إذ وجدت نفسها تواجه عدوّاً كامناً في نفسه كما
خارجه، حالما ازدادت رغبته لمعرفة من قتل والده ولأي سبب.
هناك أم هاري أيضاً، التي نراها بعينيها البنّيتين.... في الوقت الذي
يذكّره فيه البعض بأنه يشبه والدته كثيراً .... بعينيه السوداوين!
في حصار المدرسة المبنية فوق قلعة ضخمة، بعض التذكير بسلسلة سيد
الخواتم، وهو تذكير لا يعمل لصالح هذا الفيلم. شتّان بين قوّة المخيّلة عند
رواية ج ر ر تولكين وتلك التي عند ج ك رولينغ، وشتّان أكبر بين قدرة المخرج
بيتر جاكسون التنفيذية المبهرة، وتلك التي عند ديفيد ياتس مخرج هذا الفيلم.
وحين يقترب
ªهاري
بوتر´ من النهاية، نجد الشخصية المعذّبة تقف عند حافة تطل على الوادي
الكبير وفي يدها العصا التي تستطيع أن تمنحه القوّة الخالدة إذا ما احتفظ
بها، لكنه يكسرها ويرميها. أليس هذا ما حدث لفريدو (ألايجا وود) في سلسلة
ªسيد
الخواتم´ أيضاً؟ كان عليه أن يقرر ما سيفعل بذلك الخاتم الذي قد يقوى عليه
او يقع تحت تأثيره وفي النهاية قرر أن يستعيد إنسانيّته ويرمي سحر القوّة
بعيداً.
المخرج ديفيد ياتس يبقي الفيلم متحرّكاً بإيقاع سريع وبأجواء داكنة لـ
99 بالمئة من الوقت (هناك مشهد أخير طبيعي الإضاءة) ويُحسب له أنه يسرد
الخلاصة النهائية للمغامرات السابقة بيسر ويمسك عناصر التشويق بين يديه
جيّداً. في فيلمه السابق (الجزء الأول من هذا الفيلم) عانى من العكس
تماماً، لذلك هي مفاجأة طيّبة أن يتخلّص من تلك الوقفات الطويلة التي لا
يقع فيها ما يذكر ويحشد في المقابل كل هذه المفارقات المتوالية في هذا
الجزء.
فارييتي العربية في
25/08/2011 |