لأسباب عدة، يمكن القول دائماً إن مشاريع الأفلام التي لم يتمكن أصحابها من
تحقيقها خلال حياتهم، قد تكون أكثر قدرة من أفلامهم التي
حققوها بالفعل، على قول
طموحاتهم السينمائية. والحال أن ما ينطبق على فنّ السينما هنا، بين مجالات
الإبداع
الفني أو الأدبي الأخرى، من الصعب القول إنه ينطبق على هذه المجالات
الأخرى. وذلك
بالتحديد لأن فنّ السينما فنّ مركب، يبدأ بالفكرة ليصل الى
التصميم والسيناريو، قبل
أن ينجز المشروع على شكل سينمائي. ونعرف عادة، أنه لئن كانت المرحلة
التأسيسية
للفيلم (الفكرة والسيناريو) قادرة على أن تكون إبداعاً فردياً خالصاً، فإن
مرحلة
التنفيذ الحقيقي من تصوير وتمثيل وتوليف وتوزيع... وما الى ذلك، مهمة
جماعية تنتفي
فيها فردية المبدع وحريته، أمام تدخلات الآخرين وضغوط الظروف الخارجية، في
سلسلة من
تنازلات لا بد منها، مهما كان من شأن سلطة المخرج، الذي هو أصلاً صاحب
العمل،
وتمتعه بحرّية التصرف. وفي تاريخ السينما طوال القرن العشرين
وما بعده، ألوف
المشاريع من هذا النوع... لأفلام لم تنجز أبداً. وإذا كان النسيان يطوي
عادة القسم
الأعظم من هذه «الأفلام»، فإن ثمة مشاريع قليلة العدد في نهاية الأمر، ظلّ
تاريخ
السينما يذكرها – على رغم كونها أفلام شبحية – ويصنفها علامات في تاريخ
أصحابها،
وربما أيضاً في تاريخ السينما ككل.
في الأسبوع الماضي قدمنا هنا واحداً من أهم هذه المشاريع. وننتقل هنا الى
المشروع الأشهر والذي – على عكس «لتحيا المكسيك» (موضوع الحلقة
الفائتة) الذي عاد و
«تحقّق»
بعد عقود، إذ حقق مساعدو ايزنشتاين، صاحب الفيلم الأصلي، نسخة معاصرة منه
لا تشي بالطبع بعبقرية مخرجه - لم يوجد إلا على الورق. وطبعاً كذلك في
الذاكرة
الرائعة للفن السابع. ولعل أهم ما في الأمر هنا، ان هذا
«الورق» الذي ظل مطوياً نحو
أربعين عاماً، محفوظاً في أرشيف صاحب الفيلم، تحوّل الى كتاب ضخم في أجزاء،
صدر قبل
فترة، وفي لغات عدة، من منشورات «طاشن» الألمانية، واعتبر أغلى كتاب صدر عن
أي عمل
سينمائي في التاريخ: 500 جنيه استرليني، للكتاب الرئيس، و900
جنيه، للمجموعة
المؤلفة من هذا الكتاب الرئيس ومن تسعة كتب صغيرة ملحقة به. انه ثمن مذهل
لنسخة من
كتاب بالطبع. ومع هذا أفادت الدار الناشرة بأن الألف نسخة التي اقتصرت
عليها الطبقة
الانكليزية من الكتاب قد نفدت خلال أسابيع. أمر مدهش بالطبع، حتى في عالم
النشر.
لكن، أفلا يستحق نابوليون بونابرت، بتوقيع ستانلي كوبريك، كل هذا وأكثر؟
بالطبع، الحديث هنا هو عن الكتاب المتعلق بمشروع واحد من أشهر الأفلام –
الشبح،
في تاريخ السينما: «نابوليون»، الذي منذ ولد في ذهن كوبريك
أواخر ستينات القرن
الفائت، بقي هذا الأخير يهجس به، محاولاً تحقيقه حتى لحظات حياته الأخيرة،
في عام 1999.
ففي كل مرة كان فيها كوبريك ينتهي من تحقيق فيلم جديد له (على قلة ما كان
يحقق: 13 فيلماً خلال ما يقرب من نصف قرن)، كان يعلن أن مشروعه
المقبل سيكون عن
نابوليون بونابرت. ولكن لماذا عن هذا «الديكتاتور» الفرنسي الضئيل الحجم؟
لأسباب
عدة... لعل أبرزها وأكثرها واقعية، وفق كوبريك، أن نابوليون الذي كان يقول
دائماً «ان من شأن حكاية حياتي ان تشكل موضوعاً
لرواية كبيرة»، لو كان يعيش في زماننا
لأبدل عبارة «رواية كبيرة» بعبارة «فيلم كبير». والى هذا يضاف
ان كوبريك، الذي كان
يعرف جيداً ان «حياة» نابليون حوّلت الى أفلام كثيرة في تاريخ السينما، كان
يرى
ايضاً ان أي فيلم من تلك الأفلام، بما فيها رائعة الفرنسي آبيل غانس، لم يف
تلك
الحياة حقها، وبالتالي لا يزال نابوليون في حاجة الى الفيلم
الكبير! ثم، بعد هذا،
ألم يكن من الطبيعي لمخرج من طينة كوبريك، جعل من عبارة «في البدء كان
الجنون»
شعاراً لمتنه السينمائي (راجع حول هذا
الأمر، في مكان آخر من هذه الصفحة)، ان يصل
في «تأريخه» للجنون الفردي والجماعي، للجنون الأخلاقي أو
التقني... الخ، الى صاحب
واحد من أكبر «المشاريع» جنوناً في تاريخ أوروبا: غزو نابوليون للعالم كله
وإعادة
تكوينه من جديد؟
لهذا كله، ولأسباب أخرى، كان من الطبيعي، إذاً، أن يلتقي نابليون وكوبريك
ذات
يوم. ولئن كان اللقاء على الشاشة قد أخفق في أن يتحقّق بالفعل،
فإن اللقاء على
الورق تحقق وبأضخم مما كان في إمكاننا أن نعتقد.
مشروع «نابوليون» ظهر الى حيّز العلن في مسار ستانلي كوبريك، للمرة الأولى،
حين
كان هذا قد أنجز، بين 1967 و1968، تصوير وتوليف تحفته «2001
أوديسا الفضاء». وكان
قبل ذلك قد اشتغل، بتكتم، على المشروع طوال سنوات، قرأ خلالها عشرات الكتب
والروايات حول القائد الفرنسي... كما انه، وبتكتم أيضاً، كان قد صمم
الديكورات
والملابس، ورسم الملامح السيكولوجية للشخصيات الأساسية، ناهيك
بأنه – ومنذ البداية
أيضاً – وجد في جاك نيكلسون، الذي كان قد بدأ يظهر على الساحة السينمائية، «نابوليونه»، وإن كان آخرون سيؤكدون لاحقاً
ان اختياره الأول، كان دايفيد همنغز.
ومنذ البداية كان كوبريك يريد من فيلمه أن يصوّر، - في زمن عرض رأى انه لن
يكون أقل
من 3 ساعات -، نصف قرن تقريباً من حياة بطله: أي منذ ولادته في جزيرة
كورسيكا، حتى
رحيله. واللافت أن مستنده الأساس في هذا، كان نحو 15 ألف رسم
وصورة، جمعها في
أرشيفه لا تصوّر نابوليون وحده بل تصوّر ايضاً الحياة الاجتماعية والسياسية
خلال
الحقبة التي عاش فيها، ومنها صور لعامة الشعب وما الى ذلك. كان كوبريك يريد
أن يجعل
فيلمه تأريخاً كرونولوجياً، لتوالي الأحداث الفردية والجماعية
في حياة فرنسا، ولا
سيما خلال الحقبة الثورية وانعكاسها على حياة نابوليون وصعوده. لكنه كان في
الوقت
نفسه يتطلع الى أن يركز على المعارك الكثيرة والكبرى والمتنوعة التي خاضها
نابوليون، في مشارق الأرض ومغاربها، من سواحل البرتغال الى
مصر، ومن ألمانيا
وإسبانيا الى فلسطين، مروراً بموسكو وإيطاليا. والحال ان مخرجاً من طينة
كوبريك كان
يرى دائماً أن «إدارة» تصوير فيلم سينمائي، هي أشبه بإدارة معركة عسكرية.
ومن هنا
أراد أن يجمع «الادارتين» معاً... فهل سندهش، هنا، إن عرفنا
انطلاقاً من هذا كله ان
كوبريك زار نحو 15 ألف موقع للتصوير وصوّرها خلال ما لا يقل عن ثلاث سنوات؟
وأنه،
بعد الاتفاق مع ستديوات «متروغولدوين ماير»، من ناحية مبدئية، زار رومانيا،
حيث كان
تقرر أن تصوّر فيها المعارك والمشاهد الضخمة، وتوصّل الى اتفاق
مع الجيش الروماني
ليضع هذا الأخير في تصرفه نحو 20 ألف جندي لمشاهد المعارك الضخمة؟ وهل
سيدهشنا بعد
هذا ان يكون كوبريك زار مصانع العدسات في ألمانيا، لصنع عدسات خاصة لتصوير
المعارك
الليلية - سيستخدم بعضها لاحقاً في «باري لندون»، كما اتفق مع
مصانع للورق لتصنيع
ثياب للجنود... بكلفة ضئيلة؟
من الفيلم المستحيل الى المسلسل المنسيّ
حسناً... كلّ هذا يبدو هنا أقرب الى الحكايات الأسطورية... لكنه كله صحيح.
ولئن
كان ستانلي كوبريك، قد راح يتحرك بكلّ حرية في مجال الإعداد
لفيلمه هذا، فإنما كانت
حركته الحرة مستندة الى النجاح الاسطوري الذي كان في ذلك الحين من نصيب
«2001
أوديسا الفضاء»... وبدا الأمر أشبه بحلم، بالنسبة الى ذلك المبدع الأميركي،
الذي
كان قد اختار منذ سنوات أن ينفي نفسه، وعمله، الى بريطانيا...
كان اشبه بحلم من
النوع الأميركي... غير أن الحلم سرعان ما انقلب كابوساً، حين قررت شركة
«مترو» في
عام 1969، ان تتوقف عن إنجاز الفيلم. ولم تكن الضربة موجهة الى كوبريك،
بقدر ما
كانت موجهة الى النوع التاريخي، حيث ان فشلاً متعاقباً، لثلاثة
أو أربعة أفلام
تاريخية في شكل متتابع، جعل الشركة في ذلك الحين ترتعب وتطلب من كوبريك أن
يبحث لها
عن مشروع آخر، أكثر معاصرة وأقل كلفة، لكن الرجل رفض وتوجه الى شركة
«الأخوان
وارنر»، فأثنت هذه على مشروعه، لكنها طلبت منه أن يؤجله بعض
الشيء، ريثما يتضح مصير
النوع. وهو، إذ لم يجد أية شركة أخرى تقتنع منه الآن بجدوى مشروعه، هدأ
قليلاً...
وانصرف الى قراءة نص للكاتب انطوني بارغس
عن «نابوليون»، فافتتن بأدب هذا الانكليزي
«الغامض»،
وراح يقرأ بقية أعماله، حتى وصل الى روايته «البرتقال الآلي»، التي فتنته
بدورها، واعتبرها تتكامل مع «2001 أوديسا الفضاء» من ناحية بعدها
المستقبلي، ورأى
فيها، أيضاً، جنوناً نابوليونياً. وهكذا وضع «نابوليون»
جانباً، ليحقق بين 1970-1971، فيلمه عن «البرتقال الآلي»... وهو اعتاد بعد ذلك، كما أشرنا، على
القول
ان «نابوليون» سيكون مشروعه التالي، بعد إنجاز كل فيلم من أفلامه اللاحقة.
بل إنه
صار من عادته أن يتحدث عن هذا «الفيلم» وكأنه موجود... ليصل ذات مرة لأن
يقول من
حديث طويل له مع الناقد الفرنسي ميشال سيمان، انه وصل، أخيراً،
الى قناعة مفادها
بأن الساعات السينمائية الثلاث التي كان يفترض ان تضم أحداث نصف قرن من
حياة
نابليون، لا تكفي أبداً، لذا قرر ان يحوّل المشروع الى 20 حلقة تلفزيونية،
على أن
يتولى دور نابوليون في الحلقات، آل باتشينو، وعلى أن تصوّر
«الحلقات ببطء وعلى
امتداد سنوات، كي نسير بالتوازي مع بلوغ آل باتشينو الخمسين من عمره!».
وطبعاً نعرف ان مصير «المسلسل» كان كمصير «الفيلم»، بل أسوأ إذ ان حكاية
المسلسل
اختفت ونسيت تماماً، بينما ظلت للفيلم مكانته كواحد من أبرز
الأفلام – الشبح، في
تاريخ الفن السابع.
الحرب وعبثيتها مكان مفضل لجنون
الإنسان
الجنون
والعبثية كما يتعامل معهما ستانلي كوبريك في سينماه، هما عصب «سترة
معدنية كاملة» (1986) الفيلم الذي به ساهم هذا المبدع في
الحديث عن حرب فييتنام.
فهذا الفيلم ينقسم الى قسمين، شبه متساويين، في الأول نشهد عملية تجنيد
وتدريب
المجندين الذين سيلحقون بالحرب الظالمة والعابثة التي تخوضها القوات
الأميركية في
الهند الصينية (فييتنام تحديداً). هنا لدينا الجنون المطلق، في
العلاقة بين المدرّب
(وهو
من قدامى حرب فييتنام) وبين المجندين. وهذا الجنون يتبدى، خصوصاً، في
اللغة،
لغة التخاطب بين الملازم والجنود، لغة قارصة عنيفة مبتذلة، مهمتها ان تحوّل
الشبان
الآتين حديثاً من أجوائهم العائلية ومن مدارسهم الثانوية الى
قتلة أشرار. هذه اللغة
هي التي تدفع واحداً من الجنود الى الانتحار في المرحاض بإطلاق رصاص
بندقيته على
نفسه. وهذا الجنون يستبق الجنون الآخر الأكبر: جنون الحرب نفسها، هذه الحرب
التي
يقدم لنا كوبريك في القسم الثاني من الفيلم جانبها العبثي من
خلال المعركة الوحيدة
التي نشهدها وتشغل النصف الثاني من الفيلم كله.
هل نحن هنا، حقاً، أمام معركة من معارك حرب فييتنام؟
لقد صوّر المشهد بأكمله في مصنع نصف مهدّم، متوقف عن الانتاج في الضاحية
اللندنية. والمعركة العنيفة التي يخوضها جنود أميركيون مدججون
بالسلاح، سينكشف في
النهاية أنها معركة ضد مقاتل فييتنامي واحد، والأدهى من هذا سيتبين ان
المقاتل،
امرأة.
من جديد، الجنون يقود في سينما كوبريك الى العبثية، والمعركة تنكشف على
حقيقتها:
أدواتها وثمنها أكبر بكثير من غايتها ونتيجتها. عندما عرض «سترة معدنية
كاملة» دهش
الكثير من النقاد أمام قسمين للفيلم يبدوان لا علاقة عضوية بينهما. ولكن
تماماً كما
أن أجزاء «أوديسا الفضاء» تبدو منطقياً غير ذات علاقة في ما
بينها، ها هي الأمور
تكشف بالتدريج: إن المقدمات تؤدي الى النتائج. ستانلي كوبريك أراد أن يقول
– مثلاً –
إن كل هذا الإعداد وكل هذه الجهود لتحويل
المراهقين الأميركيين الى جنود، حولتهم
الى قتلة عابثين عبثيين. وهذا التفسير هو الوحيد الذي يمكنه أن
يبرر ربط كوبريك
لقسمي الفيلم.
«سترة
معدنية كاملة» كان رابع فيلم يحققه ستانلي كوبريك عن الحرب، بمعنى ان
الحرب، في شكل عام، شغلت ثلث مساره السينمائي: من الحرب العالمية الثانية
(في «خوف
ورغبة») الى الحرب العالمية الأولى (في «دروب المجد») الى
الحرب النووية الجنونية
–
حرب المستقبل – (في «دكتور سترانجلاف») الى حرب فييتنام، أخيراً. فما الذي
فتن
كوبريك الى الحد الذي جعله يخص الحرب بهذا العدد من أفلامه؟
بالنسبة الى كوبريك، الحرب هي المكان الذي يبدو فيه الجنون البشري معطوفاً
على
العبثية، في أبشع صوره وأكثرها عادية. وهنا علينا ألا ننسى بأن
واحداً من المشاريع
التي كانت على الدوام عزيزة على كوبريك، كان مشروعه المجهض، عن نابوليون
وحروبه.
ويروي الناقد الفرنسي ميشال سيمان، الذي
يعتبر من أكثر نقاد العالم خبرة بسينما
كوبريك ومعرفة به، ان هذا الأخير كان لا يفتأ في كل مكالمة
هاتفية بينهما، يطلب منه
معلومات عن نابوليون وحروبه، وعن رأي المؤرخين الفرنسيين به. طبعاً، بموت
ستانلي
كوبريك انطوى هذا المشروع في شكل نهائي. ومن المستحيل معرفة الكيفية التي
كان
كوبريك سيعالج بها هذا الموضوع. ومع هذا لدينا هنا إشارتان:
أولاهما ان كوبريك كان
كثيراً ما يشبه عمله على فيلم من أفلامه بتحضير نابليون لمعركة من معاركه.
وهو لم
يكن أبداً يخفي إعجابه الشديد بهذا القائد الفرنسي، وثاني الإشارتين يمكننا
استخلاصها من نظرة كوبريك في شكل عام الى الحروب، وفحواها انه
ربما أراد دائماً أن
يقول، ان الحروب أمر عبثي وإن أول ضحاياها، هو جلادها.
نابوليون هو الضحية
الأولى لحروبه ولتطلعاته؟
إن في إمكاننا الوصول الى هذا الاستنتاج، ان نحن تفحصنا، من جديد، لعبة
الجلاد
والضحية في أفلام كوبريك، أو في أبرزها على الأقل. ففي
«لوليتا» يقع هومبرت ضحية
لولعه بالصغيرة المراهقة، وهو في قتله لمنافسه على قلبها، كلار كويتلي،
إنما يضع
نهاية لحياته نفسها. وفي «دكتور سترانجلاف» يقع بيتر سيلرز الذي يمثل أربعة
أدوار
رئيسية (الرئيس والعالم وضابط الجيش... إلخ) ضحية لجنونه
ورغبته في اللجوء الى
استخدام القنبلة. وفي «باري ليندون» يختلط الضحية والجلاد في شخصية هذا
الأخير
ويتمكن بالتالي، ابن زوجته المراهق من أن يوصله الى الجنون والى إدراك
عبثية كل
الصعود الاجتماعي الذي حقّقه. وفي «البرتقال الآلي» تدجّن
السلطات أليكس دي لارج،
بعد أن يزرع القسم الأول من الفيلم رعباً وعنفاً، وتجعل منه ضحية وديعة
لتجاربها
العلمية. وفي «2001 - أوديسا الفضاء» يفلت الكومبيوتر هال 9000 من عقاله،
ويجن
ويقضي على رواد الفضاء فيكون مصيره التفكك والزوال. وفي
«إشراق» ينحدر جاك تورانس
الى جنونه والى الجريمة، لكنه هو العاجز عن كتابة روايته، يعجز عن القضاء
على
ضحاياه، فتكون النهاية العنيفة نهايته بدلاً من أن تكون نهاية الضحايا. وفي
«سترة
معدنية كاملة» يقضي المجندون الأميركيون على المقاتلة
الفييتنامية الشابة، لكنهم لن
يفلتوا من انهيارهم هم الذين تأخذهم الحرب في طاحونتها... الخ.
إنه الإنحدار الى الجحيم بالتأكيد..
غير ان النهايات التي تأتي على هذه الشاكلة، لا تنضوي في سينما ستانلي
كوبريك،
ضمن إطار رغبته في أن يجعل من أفلامه دروساً في الأخلاق.
شخصياته ليست شريرة في
طبعها لكي تستحق هذه النهايات. بل ليس ثمة شرّ في الأمر على الإطلاق. ربما
يكون
أليكس دي لارج (في «البرتقال الآلي») والجنرال والعالم سترانجلاف (في
«دكتور
سترانجلاف») شخصيتين عنيفتين، لكنهما في نهاية الأمر ليسا أكثر
من نتاج لظروف أكبر
منهما وأكثر عمومية، ظروف تجعل من الصعب اعتبار القرد مسؤولاً، مهما كان
جنونه، عما
يقترفه. إنهما في هذا مثل جاك تورانس في («إشراق») الذي توصله الى جنونه
عزلته في
الفندق وعجزه عن إنجاز روايته، وربما سأمه بالحياة العائلية
التي تتناقض مع حياة
الابداع. وهما أيضاً مثل باري ليندون الذي لا يمثل هنا نفسه الفردية بقدر
ما يمثل
صعود البورجوازية الهجينة في صراعها مع الرأسمالية وأخلاقها. وكذلك مثل
الجنود
الأميركيين الذين، في «سترة معدنية كاملة» لم يختاروا أن
يكونوا جنوداً أو قتلة.
ومن المؤكد هنا ان نابوليون، في المشروع الذي لم يتحقق، ما كاد ليشذ عن هذه
القاعدة
بين يدي كوبريك...ولعل قراءة بعض فصول الكتاب المذكور أعلاه تكفي للتيقن من
هذا.
*
من دراسة طويلة في كتاب «سينما الإنسان» لإبراهيم العريس
الحياة اللندنية في
19/05/2011
البحث عن هوية في الطريق إلى
«الرباط»
أمستردام - محمد موسى
في كل من الأفلام الهولندية التي تقدم قصصاً عن مهاجرين مغاربة من أبناء
الجيل
الثاني والثالث، وصارعددها أربعة أفلام طويلة في السنوات
الثماني الماضية، هناك
رحلة يقطعها أبطال تلك الأفلام الى بلد الآباء في المغرب. هذه الرحلات،
التي تبدو
كسبيل للبحث عن خلاص من أزمات ذاتية وانغلاق الافق وتردي العلاقات مع
المحيط
الاجتماعي، ستؤدي بالأبطال ذاتهم الى ضفة أخرى غير متوقعة
أحياناً، فبطل أول أفلام
هذه المجموعة من الأفلام («شوف شوف حبيبي»، الذي عرض في عام 2004)، يختار
القرية
الجبلية المغربية التي غادرها والده قبل أربعين عاماً لغلق جراح حياته
الهولندية.
لكن الشاب الذي كان يسير على حافة السقوط في عالم الجريمة، سرعان ما يكتشف
أن
القرية التي اعتاد أن يزورها مع أهله في إجازات الصيف السنوية، لا تملك
الأجوبة على
اسئلة حياته الحادة، وبأن عليه ان يعود الى هولندا ليبحث من هناك عن مستقبل
ما
يناسب الهوية التي يمكن ان تكون خاصة له ولجيل كامل من أبناء
المهاجرين، هوية لا
تصطدم بالضرروة بتقاليد بلد الأجداد او تلك التي تخص البلدان الجديدة.
واذا كانت الرحلات الفعلية والمجازية حاضرةً ايضاً في «دنيا وديزي» (2008)،
و
«ضربات»
(2007)، فهي ستكون الأساس الذي يستند إليه سيناريو فيلم «الرباط» الذي يعرض
في الصالات الهولندية حالياً. إن الرحلة «الفعلية» بالسيارة من العاصمة
الهولندية
امستردام الى مدينة الرباط المغربية، ستأخذ معظم وقت الفيلم،
ولن يحتاج بطل الفيلم
الشاب الى قضاء كثير من الوقت في المدينة التي هاجر منها والده قبل عقود،
فالدراما
والمكاشفات الذاتية تتواصل هنا على طول ساعات السفر الطويلة، وستستمر حتى
أعتاب
المدينة المغربية.
النوايا الخفية
تبدأ رحلة السفر الطويلة مبكراً جداً من وقت الفيلم، فعندما يكشف البطل
(نادر)
لاثنين من أصدقائه (عبد وزكريا) عن رغبته بإيصال التاكسي القديم الذي اشتغل
عليه
والده لسنوات في هولندا الى احد اصدقاء الأخير القدماء في مدينة الرباط،
يصرّ
الصديقان على مرافقته في رحلة ستمر بعدة دول أوروبية، قبل ان
تصل الى سواحل «الاطلسي»
في جنوب إسبانيا، والذي يفصلها عن افريقيا. يخفي البطل النية الحقيقية من
سفرته الى «الرباط»، وهي الزواج من ابنة صديق أبيه، والتي لم يقابلها في
حياته،
البطل أخفى ايضاً خبر حصوله على وظيفة في أمستردام، وهو الامر
الذي يعني تخليه عن
مشروع مشترك متعثر مع الصديقين لفتح مطعم للأكلات السريعة في امستردام. هذه
الاسرار
لن تكون الاسباب الوحيدة للبرود الذي يقترب الى الجفاء الذي يصبغ تعامل
البطل مع
رفيقيه، فالصداقة نفسها تقترب من نهايتها، وسيواجه الاصدقاء
الذين يقتربون من عقدهم
الثالث وتربطهم ذكريات طفولة وحياة صاخبة في الحي الشعبي الواحد، أسئلةَ
«النضج»
والحياة «الحقيقية» لاول مرة في حياتهم.
وككل أفلام الطريق، توفر التقاطعات بين ابطال فيلم «الرباط» والغرباء الذين
يصادفونهم في رحلتهم البرية الطويلة، الفرصةَ لفهم الخلفيات
النفسية لشخصيات الفيلم
الاساسية. لكنها بالمقابل تمنح اهتماما اقل، على خلاف الاتجاه العام لأفلام
الطريق
المعروفة، لأولئك العابرين الذين يمرون على الشاشة، فالفيلم يختار التركيز
فقط على
تلك التفاصيل التي تسللت الى علاقة محيط اوروبي مع الابطال
الشباب كنموذج لعلاقة
أوروبا مع مهاجريها المسلمين، وما اعترى تلك العلاقة من أضرار فادحة، منذ
تفجيرات
الحادي عشر من سبتمبر، مروراً بصعود الاحزاب اليمينية الأوروبية، الى
العمليات
الارهابية التي ضربت اوروبا. لكن الفيلم لم يتجه سريعاً الى
قبول نتائج مبسطة، بل
قدم في المقابل تفاصيل تلقي المسؤولية على الجميع، فالإهانة التي تعرّض لها
«عبد» و «زكريا»، عندما رفض حارس النادي الليلي
الاسباني السماح لهما بالدخول، لا تبرر
أبداً
الضربَ الوحشي الذي تلقاه هذا الحارس من الشابين انفسهما عندما صادفوه
وحيداً
في وقت متاخر من المساء نفسه. صحيح ان نظرات الريبة التي تلاحق الشبان عند
دخولهم
محطات تزويد الوقود لها ما يبررها، خاصة ان احد الأبطال
الثلاثة كان يصر على سرقة
بضائع من تلك التي تقدمها محلات البضائع الملحقة بتلك المحطات، لكن اكثر
مشاهد
الفيلم قساوة، والتي تندرج في سياق العلاقة المضطربة بين أوروبيين من اصول
عربية
ومجتمعاتهم الاوروبية، لم تكن من افعال ناس عاديين، بل افراد
من السلطة نفسها،
فعندما يوقف البوليس الاسباني سيارة التاكسي التي يستقلها أبطال الفيلم قبل
وصولها
الى الميناء الذي تنطلق منه السفن الى المغرب، تبدأ سلسلة من المشاهد
المرعبة حقاً،
من عنف وإهانات قاسية يتعرض لها الشبان الثلاثة من دون أي
أسباب أبداً، إضافة الى
تعمد رجلي الشرطة الإسبان إعطاب أحد مصابيح السيارة، في سلوك يستند الى
حوادث
حقيقية متفرقة ينقل بعضها الإعلام الهولندي بين حين وآخر.
تطوّر عميق
لا تعاني حياة «نادر» الحدة والتمزق اللذين تحملهما شخصيات أفلام المهاجرين
المغاربة الأخرى، او هكذا تقترح المشاهد الافتتاحية، لكن
التطور العميق في أداء
الممثل نصر الدين إدشار، الذي لعب دور (نادر)، والإخراج المتمكن لمخرجي
الفيلم
فيكتور بونتين وجيم تايهوتي، يحيلان مشروع الزواج التقليدي للشاب الهولندي
المسلم،
الى رمز مؤثر لنهاية حلم وانكسار لاسلوب حياة أقرب الى جوهر البطل، من آخر
كان
سيبدأ بزواج مرتّب، وسيؤدي على الغالب الى تعميق المسافة بين
«الفردية» ونقيضها، إذ
عندما يدرك «نادر» فداحة الخطوة التي يقترب من القيام بها، ينفجر الكثير من
غضبه
الخفي، في مشاهد رائعة، أبرزها تلك المشاجرة بين الشبان الثلاثة على الساحل
القريب
من مدينة الرباط، والتي تميزت بتوليفها المتفجر والأداء البارز
للأبطال الثلاثة.
في خضمّ هذا كله، يبقى الأمر اللافت في كل أفلام المهاجرين المذكورة، هي
صور
المغرب والمغاربة التي تطل من تلك الأفلام، فالكثير من
الاهتمام اتجه الى أجزاء
الأفلام التي صورت هناك، وبتقديم شخصيات إنسانية، متوازنة، معقدة، مغرقة
أحياناً
بالحزن، كالمشهد المؤلم للفتاة المغربية التي كانت تتوسل بطل فيلم «شوف شوف
حبيبي»،
الذي اختار اختها الصغرى للزواج والالتحاق به في هولندا،
لتعديل رأيه والزواج منها،
وإلا ستبقى في قريتها البعيدة من دون تعليم او فرص للزواج. وتلك التي تخص
عائلة
فتاة فيلم «الرباط» التي تنتمي الى الطبقة الوسطى المغربية، والتي بدت
مهتمة كثيراً
بمستقبل ابنتها، غير مأخوذة بالعريس القادم من أوروبا. حتى
المغاربة الذين يمرون
بسرعة في تلك الأفلام، ويقترب بعضهم من الشخصيات الكاريكاتورية، يمكن
تقبلهم كجزء
من نسيج المجتمع المغربي الذي يملك نسق حياته الخاص، والذي يعجز في الغالب
عن توفير
حلول ناجعة لأزمات ابنائه المهاجرين.
الحياة اللندنية في
19/05/2011 |