لم يكن قد مضى من عمر السينما إلا ما
يقارب السنتين فقط، عندما قام المخرج/ جورج
ميليه بتحقيق حزمة من الأفلام التي عقدت
القران مبكراً، فيما بين السينما والحرب؛ حينها انشغل هذا المخرج الرائد
بإنتاج
وإخراج أربعة أفلام عن حوادث جرت في الحرب اليونانية، وعن انفجار المدرعة «مين»،
في
مرفأ هافانا سنة 1898، الذي أشعل فتيل الحرب الإسبانية الأمريكية، وذلك قبل
أن
ينتهي إلى إخراج فيلمه الأشهر «قضية دريفوس» عام 1899، ليضع الحرب
وملابساتها على
طاولة التناول السينمائي.
وخلال العقدين الأولين من عمر السينما، سوف تولد
مجموعة أخرى من أهم الأفلام في تاريخ
السينما العالمية، التي لا تكاد تبتعد عن
الحرب والمحاربين، بدءاً مما اقترفه المخرج الرائد "ديفيد غريفيث"، ما بين
العامين
1915- 1916،
في فيلميه «مولد أمة»، و«التعصب»، وصولاً إلى رائعتي المخرج الكبير
سيرغي ايزنشتين في «الاضراب» عام 1925،
و«المدرعة بيوتمكين» عام 1926، وسيصبحا من
أشهر كلاسيكيات السينما.
سيبدو من المثير حقاً أن العلاقة ما بين السينما
والحرب، أو حضور موضوعة الحرب في السينما،
راسخة إلى حدّ أنها لازمت عمر السينما
العالمية، منذ أفلامها الأولى، وحتى اليوم؛
وسواء أكانت الأفلام روائية أو وثائقية،
فإن الحرب لا تكاد تختفي من أهم أفلام السينما، بل إن أهم قصص الحب
والبطولة
والشجاعة، وحكايات الوفاء والإخلاص، أو الخيانة والخديعة، في تاريخ
السينما، غالباً
ما أتت في خضم الحروب، سواء أكانت الحرب في واجهة الأحداث، أو تشكل
الخلفية، أو
البيئة..
قبل أن
تظهر الحروب الافتراضية بزمن طويل، كانت السينما منشغلة بموضوعة الحرب التي
جرت أو
تجري في الواقع حقيقة.. وإذ استلهمت السينما حكايات أفلامها من روايات وقصص
أدبية،
أو من سير شخصيات حقيقة.. فإن وقائع الحرب بذاتها، أو حكايات من ذهبوا إلى
الحرب
ولم يعودوا، أو من ذهبوا إلى الحرب وعادوا منتصرين، أو من ذهبوا إلى الحرب
وعادوا
منكسرين، بقيت موضوعات أساسية في أفلام أكثر من أن تعد وتحصى..
وفي وقت برزت
نزعة أفلام نحو إدانة الحرب، وتبيان آثارها المدمرة على الإنسان والطبيعة،
فقد تمّ
توظيف طائفة من الأفلام في سبيل الدعاية لمصلحة طرف ضد آخر!.. فخلال الحرب
العالمية
الأولى قدمت السينما أفلاماً حاول صانعوها إثبات شرعية الطرف الذي ينتمون
إليه،
وإبراز تفوقه، مقابل فضح همجية الطرف الآخر وعدوانه.. هكذا كانت الأفلام
الإنجليزية
والفرنسية تظهر الألمان في صورة المجرمين الأجلاف، في حين ركزت أفلام
السينما
الألمانية على التفوق والانضباط العسكريين، وعلى شجاعة الجندي الألماني
وصلابته في
مواجهة أعدائه.. وستعاد الأسطوانة ذاتها في الحرب العالمية الثانية، ولكن
بدخول
السوفييت والامريكيين واليابانيين والايطاليين.. هذه المرة!..
كان من الممكن
أن تبقى الحرب مرصودة للسينما الوثائقية، ففيها من قوة الصورة ما يغني عن
الحكاية،
إن لم تكن هي الحكاية ذاتها.. ولكن رغبة عدد من السينمائيين، خاصة أولئك
الذين
ذاقوا ويلات الحرب أو خبروها بأنفسهم، وعنايتهم بأن يعيدوا علينا سرد ما
يفوق
الخيال، هو ما فتح المجال أمام الحرب لتلج الفيلم الروائي من أوسع أبوابه..
زاد من
ذلك اتكاء بعض الأفلام على أعمال أدبية، من روايات وقصص ومذكرات.. وتوفر
الامكانيات
الانتاجية لإعادة تجسيد مشاهد حربية مذهلة.
يمكن هنا أن نشير
إلى أمرين اثنين: أولهما أن الفيلم الحربي، وهو المفترض به أن يتناول الحرب
سينمائياً، قد تداخل مع الفيلم السياسي، وهو المفترض به أن يناقش علاقة
السيطرة
السائدة في المجتمعات، والموقف منها.. وهذا التداخل شوَّش هوية كل منهما..
وصار من
المتعذر تحديد التخوم الفاصلة بينهما، ومعرفة أين ينتهي الفيلم السياسي،
وأين يبدأ
الفيلم الحربي.. وانتقل هذا ليشوش على الفيلم النضالي، أو الفيلم الوطني،
أو أفلام
الكفاح التحرري، والثورات، والانتفاضات، والهبات الشعبية، وحتى تمردات
العامة، أو
التمرد الفردي، والفوضوي.. ولتتصل بأفلام الكاوبوي، والعصابات، والمافيات..
ونرى
أنه من الضروري جداً التدقيق والتمييز،
هنا!..
ثانيهما: أن حالة الاشباع السينمائي من
تناول الحروب الواقعية، التي جرت عبر
التجربة البشرية، منذ بدء الخليقة حتى اليوم..
وازدياد الخشية من مدى الضراورة التي وصلت إليها البشرية، وقدرتها
المتزايدة على
تدمير ذاتها، دفع إلى نشوء تيارات من أفلام تتناول الحروب الافتراضية
القادمة، سواء
بين البشر ومخلوقات من الفضاء، أو البشر وما أنتجوه من أسلحة وآلات..
انتهاء بالبشر
أنفسهم.. مما يكشف حالة الخوف من رعونة الإنسان نفسه..
يبقى أنه من المؤسف أن السينما
العربية، وحتى اليوم لم تستطع امتلاك روايتها لأي من الحروب
التي مرت بها الأمة
العربية.. تماماً كما فشلت في بناء
الوثيقة.. لقد فشلت السينما العربية في تحقيق
فيلم حربي يتحدث بشكل مؤثر عن نكبة 1948، أو نكسة 1967، أو اجتياح 1982، أو
غزو
العراق 2003، أو العدوان التي تتالت على لبنان وغزة.. وبين هذا وذاك، ضاعت
حرب
تشرين 1973، مع الوعودات الكثيرة بالفيلم المظفر الذي من المفترض أن يأتي
ليحكي
حكاية حرب كان من الممكن أن تُكتسب..
الجزيرة الوثائقية في
08/08/2011
مئة عام سينما في متحف السينما الإيرانية
محمد رضا الفرطوسي
لو كنت حاصلاً على أكثر من ألفي جائزة سينمائية
دولية منها السعفة الذهبية لمهرجان كان والدب الذهبي المهرجان برلين والأسد
الذهبي
لمهرجان البندقية والفهد الذهبي لمهرجان لوكارنو ... أين كنت ستحتفظ بكل
تلك
الجوائز النفيسة؟ "متحف السينما الإيرانية" هو المكان الذي
اختارته السينما
الإيرانية للاحتفاظ بكل تلك الجوائز وذكريات أخرى، حصلت عليها طوال أكثر من
مئة عام
من تاريخها الحافل.
هذا المتحف السينمائي تأسس في عمارة تاريخية جميلة كانت إحدى
قصور "محمد شاه" من ملوك السلسلة القجرية، يبلغ مساحة العمارة
444 مترا، و تقع في
شارع وليعصر في شمال العاصمة طهران. أصبحت العمارة بعد الثورة محل لتعليم
السينما
للطلاب و المهتمين، ثم تحولت في سنة 1996 الى متحف للسينما الإيرانية و
افتتحها
حينها الرئيس السابق محمد خاتمي.
العمارة تضم متحف السينما إلى جانب صالتين
لعرض الأفلام ومقاهي و مكتبه، والمتحف بدوره يشتمل على تسعة معارض مختلفة
تروي
لزائرها المسير الذي مرت به السينما الإيرانية خلال تاريخها الطويل.
يتضمن
المتحف، وفقا للمعلومات الواردة في موقع المتحف، 40000 صورة تضم الكثير من
مشاهد
الأفلام، أو وراء الكواليس الأفلام الشهيرة أو صور لفنانين
السينما الإيرانية. كما
تجد في المتحف أكثر من 3000 عقد من العقود السينمائية إلى جانب الكثير من
المستندات
و المكاتيب التاريخية، أكثر من 5000 نسخة من منشورات سينمائية من مختلف
العهود
التاريخية، 350 جهاز سينمائي، 2500 بوستر و ايضا 4000 سيناريو.
المعرض
الازرق
يعرض في بداية المتحف، بدايات السينما الإيرانية،
من أول كاميرا دخلت إيران، على يد "مظفر الدين شاه" القاجار إلى أول
الأفلام
الإيرانية وأول الوسائل و الأدوات السينمائية تم استخدامها في البلاد وأيضا
مقتطفات
من تلك الأفلام وأجنحة خاصة لرواد الحركة السينمائية في إيران مثل "أفانس
أوهانيان"
و "عبد الحسين سبنتا"
معرض
الوسطي
يضم مجموعة فريدة من صور الأفلام و الكواليس و أدوات
المكياج و ملابس الممثلين و الممثلات مثل ملابس ممثلة فيلم "بنت لر" اول
فيلم ناطق
في السينما الإيرانية و أجنحه خاصة تشمل صورا و أوراقا وتذكارات من مخرجين
شهيرين
مثل "رخشان بني اعتماد"، "سهراب شهيد ثالث"، "علي حاتمي"،
"ابوالفضل جليلي" و "كيومرث
پور احمد".
معرض
الجوائز
يعتبر المعرض الأكثر جاذبية للزوار و يشتمل على أهم
الجوائز السينمائية العالمية ما عدا جائزة الأوسكار التي رشحت لها إيران
مرة من
خلال فيلم "أطفال الجنة" لمخرجه "مجيد مجيدي". و طبعا تلتفت الأنظار في هذا
المعرض
إلى أهم جائزة حصلت عليها السينما الإيرانية و هي السعفة الذهبية لمهرجان
كان التي
حصل عليها المخرج الشهير "عباس كيارستمي" عن فيلم "طعم الكرز" وهي في جناح
خاص
لجوائز كيارستامي والذي تجد فيه أيضا لوحات رسمها المخرج الياباني الشهير
"كوروساوا" ثم أهداها لكيارستامي . و أيضا هناك جناح لجوائز "جعفر
بناهي" و أيضا
"عائلة مخملباف" و هي مجموعة جوائز لمحسن و سميرة وحنا مخملباف ومرضية
مشكيني وهي
مفروشة بنفس السجادة الإيرانية التي كانت في فيلم مخملباف الشهير "كبه".
من
الممكن أن تشاهد في هذا المعرض بضعة أشياء، من الصعب أن تجدها
في أي متحف في العالم
منها الفهد الذهبي والفضي والبرنزي لمهرجان لوكارنو في مكان واحد.
معرض
الصالات السينمائية
مجموعة صور ومعدات تروي لك تاريخ أهم صالات
العرض في إيران، كما يمكنك هناك مشاهدة مقتطفات من أهم أفلام تاريخ السينما
العالمية على الشاشة العريضة.
معرض الدبلجة و
الصوت
يعرض أدوات و أجهزة الدبلجة و هندسة الصوت و أيضا موسيقي
الأفلام و صور من مهندسين الصوت والملحنين الاكثر شهرة في
السينما الإيرانية.
التراث
السينمائي للأرمن في إيران
يضم المتحف قسم خاص للأرمن في
السينما الإيرانية، منهم مخرجين كبار مثل "ساموئل خاجيكيان" و"واروج كريم
مسيحي" و "افانس
اوهانيان" و... و يروي دورهم و تأثيرهم البارز في انجازات السينما في إيران.
هم صنعوا أول أفلام السينما الإيرانية و
أسسوا أول مدرسة سينمائية في طهران.
معرض الدفاع
المقدس (أفلام الحرب)..
هذا الجانب المهم من السينما الإيرانية
بعد الثورة الإسلامية خُصص له قسم خاص فيه تجد صور وملابس وإكسسوارات من
أهم أفلام
سينما الحرب في إيران، و تعريف بأهم الأفلام والمخرجين و أيضا جناح خاص
للوثائقي
الشهير "مرتضي أويني" الذي يعتبر أهم مخرج أفلام وثائقية في
الحرب الإيرانية
–
العراقية.
وللأطفال
نصيب
هو معرض
تجد فيه كل
ما يتعلق بسينما الأطفال من بوستر الأفلام، صور الممثلين و الممثلات إلى
الرسوم
والدمى الموجودة في الأفلام الشهيرة، منها الفلم الشهير"جبل
النور" لمخرجه "عبد
الله عليمراد"، الذي حصل علي عدة جوائز عالمية وعرض في كثير من
البلدان.
معرض نفق من
التاريخ
مجموعة صور ورسوم تاريخية حول أول تجارب الشرق في
السينما وفن التصوير من ابن الهيثم الى فن التصوير في كتاب شاهنامه
للفردوسي..
إن المتابع و المهتم بالسينما الإيرانية لا يستغني
عن زيارة هذا المتحف الصغير والجميل الذي يحاول أن يختصر بين جدرانه تاريخا
يمتد
لأكثر من قرن.
الجزيرة الوثائقية في
07/08/2011
ليلة الوفاء بثُلاثية سينمائية إفريقية
أحمد بوغابة
ذكرت في مقالين سابقين، نشرتهما في موقع الجزيرة
الوثائقية، عن الدورة الأخيرة لمهرجان السينما الإفريقية بـ "خريبكة" بأن
من
الفقرات المُضيئة فيه هي التي تجمع الجميع في سهرات سينمائية / ثقافية
مفتوحة تبدأ
بعد منتصف الليل بقليل لتمتد إلى ساعة متأخرة جدا حيث لكل ليلة
موضوعها الذي يشكل
جزء من الاهتمام الجماعي، وله طبعا علاقة بالسينما الإفريقية ورجالاتها
ونسائها؛
تغص القاعة بالمخرجين والممثلين والتقنيين والنقاد والصحفيين وكذا المهتمين
بالشأن
السينمائي من الجمهور المحلي.
نتوقف في هذا النص عند إحدى تلك الليالي التي
يمكن أن نسميها ب"ليلة الوفاء" لأسماء سينمائية صنعت مجد السينما
الإفريقية؛ لكن
الموت خطفها بعد أن أعطت الكثير لفنون السينما، وهذه الأسماء التي احتفل
بها مهرجان
السينما الإفريقية بـ "خريبكة" في دورته الأخيرة هي: التونسي
الطاهر الشريعة (توفي
يوم 4 نوفمبر 2010 عن 83 سنة) و المغربي أحمد البوعناني (توفي يوم 11
فبراير 2011
عن 73 سنة) والغابوني شارل مينسا (توفي يوم 3 يونيو 2011 عن 63 سنة). كلهم
غادرونا
بعد الدورة الأخيرة التي إلتأمت في صيف السنة الماضية.
نور الدين الصايل: أحمد
البوعناني
أدار الجلسة الأستاذ نور الدين الصايل، رئيس مؤسسة
المهرجان والمدير العام للمركز السينمائي المغربي، الذي جمعته بهم علاقة
صداقة،
وأيضا علاقة مهنية وثقافية ومسيرة مشتركة غنية، فتحدث عن المخرج المغربي
أحمد
البوعناني (كان من المقرر أن يدلي بشهادة في حق الراحل مخرج
آخر وهو علي الصافي
الذي تخلف عن الحضور بسبب سفر عمل إلى البرازيل.
ونشير إلى أن "علي الصافي"
ينجز فيلما وثائقيا حول "أحمد البوعناني" حيث صور معه أيام عديدة وهو الآن
بصدد
المونتاج، وقد عرض مقتطفات منه في مناسبات التأبين والتكريم لـ "أحمد
البوعناني" في
عدد من المهرجانات المغربية آخرها بالعاصمة البريطانية لندن).
تحدث الأستاذ/ نور الدين الصايل عن "أحمد
البوعناني" السينمائي وأيضا المثقف والشاعر والروائي والمفكر وصاحب
المبادرات
السينمائية في الزمن الصعب، دون إغفال حلقات النقاش في مقاهي الرباط
العاصمة التي
كانت تجمع مختلف الحساسيات الثقافية والفنية والسياسية جنبا
إلى جنب بكل ديمقراطية
في حق الاختلاف والاجتهاد.
كما تطرق إلى بعض الأعمال السينمائية لـ /أحمد
البوعناني التي شكلت محطات بارزة في السينما المغربية عند نشأتها، مُركزا
خاصة على
فيلميْه الشهيرين "الذاكرة 14" الوثائقي، و"السراب" الروائي، وأنه يجمع
بفنية كبيرة
بين الإخراج والمونتاج في السينما مثلما يجمع بين الشعر والرواية في الأدب؛
فيضيف
الأستاذ/ نور الدين الصايل بأن الراحل "أحمد البوعناني" هو معادلة صعبة في
السينما
المغربية لكونه منظرا للصورة ولجماليتها وموقعها في الفيلم بحيث كان هَم
"أحمد
البوعناني" في تساؤله المستمر عن كيفية تزويج لقطتين مختلفتين مع بعضهما
بشكل صحيح
ومنطقي، فتعكس هذه الرؤية شخصيته المركبة التي عكسها بتفوق كبير في فيلمه
الروائي
الوحيد الذي أخرجه "السراب" سنة 1980. وكان قد برهن – حسب "نور الدين
الصايل" –
قيمته كمخرج مؤلف في فيلمه "الذاكرة 14" الذي اعتمد فقط على الأرشيف لبناء
فيلمه
الوثائقي متفوقا في صياغته التاريخية والفنية معا لتجعل من الفيلم نفسه
"وثيقة".
بلوفو بكوبا كانديا: شارل
مينْسا
أما المخرج "بلوفو بكوبا كانديا" من الكونغو ( شارك
في المهرجان كعضو في لجنة التحكيم) فقد تحدث عن المخرج
الغابوني الراحل شارل مينْسا
الذي تحمل مسؤولية رئاسة فيدرالية السينمائيين الأفارقة وبالتالي تربطه
علاقة مع
الجميع حيث هو الذي تجتمع عنده كل مشاكل إفريقيا السينمائية وحتى خارجها
وما
أكثرها.
بدأ "بلوفا بكويا" بسرد لقاءه الأول مع الراحل شارل مينْسا سنة 1989
بمهرجان "فيسباكو" حيث اكتشف فيه أنه كان متقدما كثيرا عن من سبقوه ومن
كانوا من
جيله إذ يُعد في نظره بأنه أول سينمائي إفريقي وعى بضرورة التخلي عن الشريط
التقليدي بـ35 ملم والمرور إلى الفيديو ثم الرقمي.
كما أشار أيضا إلى شخصيته
الهادئة وقدرته على استيعاب التناقضات من حوله والتعامل معها بمرونة؛ وحيى
أيضا لما
قدمه للسينما في بلده الغابون حين تحمل مسؤولية إدارة مركزها السينمائي.
"أحمد
بوغابة": الطاهر
الشريعة
وساهم كاتب هذا النص – أحمد بوغابة – في هذه الليلة
بالوفاء لأستاذه الطاهر الشريعة حيث ألقى كلمة مكتوبة جاء فيها:
لا أحبذ
كثيرا الحديث عن الأشخاص الذين أحبهم وأحترمهم بصيغة الماضي حتى ولو حملهم
الموت
بعيدا عنا ولم يعد بالإمكان اللقاء المباشر معهم؛ فإسمحوا لي
أن أذكركم بأننا في
مهرجان سينمائي، والمهرجان يعني الفرح والفرجة الجميلة لأفلام جيدة وجميلة
ومتنوعة،
وما تخلقه من نقاشات.
وعليه،
فـ "الطاهر شريعة" هنا بيننا...نعم..هنا.. من خلال
هذا الامتداد السينمائي الإفريقي والأفلام الإفريقية التي لم
تتوقف عن الوجود رغم
صعوبة الإنتاج في قارتنا؛ ولا أظنه سيقبل بأن نتحدث عن الموت بل عن الحياة
التي
تعطيها السينما باستمرار، وبالتالي لن أتحدث بدوري عن الموت احتراما له.
وبما
أننا نتحدث حاليا والآن عن "الطاهر شريعة" ونستحضره في هذا المهرجان
الإفريقي يعني
أنه موجود بيننا... ببعده الرمزي وبسيادة أفكاره السينمائية، ومهرجان
السينما
الإفريقية بـ"خريبكة" من المهرجانات التي عايشها "الطاهر
الشريعة" بمعرفته
السينمائية وأحبه وسانده وواكبه.
لا يمكن القول بموت "الطاهر شريعة" ونحن نشاهد
أمامنا ما أسسه وناضل من أجله... ليس في بلده تونس فقط بل في
القارة الإفريقية التي
دافع عن إنتاجها السينمائي وحقها في الوجود كصور وأصوات وحق الإنسان
الإفريقي في
مشاهدتها.
إن كل فيلم إفريقي يجول في القارة هو بمثابة صورة لـ"طاهر شريعة" في
جولاته... واستمرار الإنتاج الإفريقي هو بمثابة استحضار له.
وبالتالي، سأتحدث عنه
بصيغة الحاضر.
"الطاهر
شريعة" سينمائي إفريقي ومحاميها في وقت كان صعب الدفاع
عن هذه الخصوصية أمام قوة الهيمنة السينما الغربية عبر شركات
التوزيع؛ لقد كانت
التهمة جاهزة حينها ضد كل من تجرأ على الكلام بصوت عال عن الهيمنة الغربية؛
والتهمة
هي الانتماء لليسار والشيوعية، وهو ما تعرض له فعلا "الطاهر شريعة" في بلده
تونس
تحت هذه التهم الواهية التي كانت لها امتداد من الخارج.
لقد حاربوه بكل ما
يملكون من سبل وخدع وتواطؤ ومؤامرات ولكنهم لم ينتصروا، فقد تحداهم بصموده
واقفا
شامخا نحو تحقيق آرائه؛ وهذا التشبث بما يقتنع به من آراء هو
الذي جعلهم في النهاية
يعترفون به وله وما قدمه رغم أن ذلك كان في آخر عمره.
مر إسم "الطاهر
الشريعة" أمام عيني مرارا كإسم مسؤول في تونس بالشأن السينمائي خاصة في ما
يتعلق
بالأندية السينمائية نظرا لما كانت تشكله هذه الجمعية أيضا في
المغرب، إلا أن أهم
لقاء لي بـ "الطاهر الشريعة"، كان في بداية الثمانينات، من خلال هدية توصلت
بها من
أحد أصدقائي، تجسدت تلك الهدية في كتاب لـ "طاهر الشريعة" بالفرنسية كان قد
صدر له
سنة 1978 بعنوان
Ecrans d’abondance ou le cinéma de libération en Afrique
عشت زمنا طويلا في مرحلة من حياتي حيث كان الوقت
مُتاحا لي في فضاء الزنزانة المغلق لقراءة الكتب في زمن قياسي، لكن لا يعني
ذلك
قراءة متسرعة، كان فضاء الزنزانة الضيق جدا يضعني أمام الكتاب وجها لوجه
دون رفيق
أو أنيس فيصبح بالتالي هو العنصر الوحيد أمامي الذي يُسمح لي
بالحديث معه، فكان لي
نقاش معمق مع "الطاهر الشريعة" من خلال كتابه ذاك حيث نبشت في تفاصيله
فتجاوبت في
النهاية مع صاحبه لأنه أجاب عن أسئلة كنت أبحث عنها من بعيد لفهم خريطة
التوزيع
السينمائي في العالم الثالث.
هكذا تعرفت على "الطاهر شريعة" وأفكاره وأصبح من
الأسماء التي وضعتها في لائحتي لكي ألتقي بها في مكان أرحب حتى
أستمع إليها، وكان
من ضمن برنامج الحرية. تحقق اللقاء... بل لقاءات متعددة سواء هنا في
"خريبكة" أو
تونس.
جميل أن تلتقي بحرية مع شخص حر في أفكاره وممارساته
وله وجهة نظر واضحة في ما يقوله ويسعى إليه دون لف أو دوران أنا الذي كنت
في عنفوان
أفكاري المثالية الساعية إلى تغيير العالم والكون بجميع الوسائل الممكنة
منها
الثقافة أيضا.. والسينما بالأخص.
ذاع صيت "الطاهر شريعة" في العالم أكثر بكثير
من أسماء بعض المخرجين التونسيين أو الإفريقيين لأنه رافق السينما بالنقد
والتنظير
والتأطير الإداري، وفسح لها مجال المشاهدة في كل مكان ممكن، سواء كان معها
أو ضدها،
لأنه يدافع عن حق الفيلم في الحياة بغض النظر عن الإعاقات التي
قد تشوبه، وأن
للجمهور الحق في الكلمة والحكم عليها حتى لا يبقى ذلك حكرا على النخبة
ليتمخض عن
ذلك سينما جديدة تراعي مختلف المكونات دون التنازل عن حق المخرج في تشكيل
فيلمه
بالأسلوب الذي يسعى إليه، بمعنى آخر كان ضد الرقابة، إدارية
كانت أو مجتمعية أو
ذاتية من لدن المؤلف نفسه.
"الطاهر
الشريعة" إفريقيٌ حتى النخاع، إذ لا يتردد في
مد يده إلى كل فيلم أنتجته القارة السمراء. كما يستجيب بالحضور
إلى كل التظاهرات
التي تٌقام حول السينما الإفريقية، ألم يواكب تظاهرة "خريبكة" منذ البداية؟
ودافع
عنها إلى جانب الأستاذ نور الدين الصايل بكل ما أوتي من معرفة؟ هاهي الآن
قد نضجت
وترسخت وبالتأكيد هو سعيد بها وبما حققته.
في كتابه "أيام قرطاج السينمائية؟ ...
فيها وعليها" الذي صدره سنة 1998، أي 20 سنة بعد كتابEcrans
d’abondance، حيث
يُعَرِّفُ بنفسه كاتبا في ظهر الغلاف بأن "الطاهر الشريعة" ولد
بصيادة في الجمهورية
التونسية بإفريقيا الشمالية أو المغرب العربي... لم يستصوب
موتا... فلم يمت بعد...
وهو الذي لم يكن يحب الحديث عن نفسه بقدر ما يحول النقاش دائما إلى السينما
وفي
اتجاه الأفلام، ففي نظره هي التي تستحق النقاش وليس غيرها.
بما أن أيام قرطاج
السينمائية ارتبطت به كإسم ومؤسس لها إلى حد التماهي بينهما فقد أصدر
الكتاب
المُشار إليه الذي هو تاريخ نقدي لأيام قرطاج ممزوجا بالسيرة
الذاتية للطاهر
الشريعة نفسه، وبذلك نتعرف على التظاهرة والطاهر والفواصل التي تجمعهما أو
تفرقهما
وكأن الكتاب وصية سينمائية مبكرة، ومكتوب ببلاغة جميلة زاوج فيها بين اللغة
العربية
التقليدية العتيقة كما هي عند إبن خلدون وابن رشد واللغة الحديثة التي
تتطلبها
السينما كفن جديد، إنه متعة حقيقية، لأن الكتاب يجعلك تتابعه
بدون ملل فتسافر في
تاريخ السينما التونسية والإفريقية وأيام قرطاج وفي عمق مُخيلة الطاهر
الشريعة.
يقوم في هذا الكتاب بتشريح دقيق لتاريخ أيام قرطاج السينمائية بعلاقتها
المباشرة مع السلطة الحاكمة في تونس عبر ثلاثة عقود.
فهو وثيقة لأول تظاهرة
سينمائية في إفريقيا التي تحولت مع الزمن لحلبة الصراع المفتوح والخفي.
قوة
تحاليله السينمائية للأفلام تكمن في غنى مرجعياته الفكرية: الأدبية
والفلسفية وكذا
السياسية، ومعرفته بمحيط الإنتاج السينمائي العالمي، فيحلو الإنصات إليه
لأن كل
حديث معه هو بمثابة درس سينمائي يتجدد في كل مرة.
إنه من الصعب حقا أن
تصمد أكثر من 8 عقود... بمعنى أكثر من 80 سنة... تقريبا قرن... متشبثا
بالمبادئ
التي هي مقياس فعله وممارسته وأفكاره دون السقوط في فخ السلطات
المتعاقبة. ويرفض
التنازل عن الجوهر وبما يؤمن به. أليس رمزا من رموز الصمود والمقاومة في
المجال
السينمائي في هذه القارة التي تُغتال يوميا بكل أشكال القتل.
وكم سعدت حين وجدت
قاعة بهذا الفندق تحمل إسمه والتي يتعلم فيها الشباب أبجديات السينما
وتقنياتها ضمن
ورشة مُنظمة من المهرجان. معطى آخر إذن يؤكد وجوده بيننا بكل
ثقله وأشكر إدارة
المهرجان على هذا الإخلاص النادر.
إن ما أشرت إليه في كلمتي هاته هو مجرد
تلميح عابر لمسيرة غنية في مضمونها التاريخي والسينمائي للطاهر الشريعة
الذي سيبقى
رمزا من رموز السينما الإفريقية هنا في "خريبكة" وفي تونس وفي كل قطر من
أقطار
إفريقيا.
الجزيرة الوثائقية في
07/08/2011 |