فريد شوقي… فنان وإنسان عملاق، ظلّ تحت الأضواء سنوات طويلة فزادته تألقاً،
واستمرّ نجماً حتى الرمق الأخير من حياته، بعدما كسر كل قواعد النجومية من
شباب ووسامة وشعر مصفّف، ليصبح نجماً يكبر مع الزمن بحسن الأداء وعمق
التجربة الفنية وطيبة القلب وقوة الشخصية والسيطرة على الأضواء، التي
استطاع ابتلاعها ولم يتركها تبتلعه، فتحوّل من فنان كبير له تاريخ، إلى
أسطورة اتسعت وتعمّقت.
اعتادت الجماهير العربية أن تسمع أو تقرأ أو حتى تشاهد، تكريم من يعملون
بالفن، غالباً بعد رحيلهم، وقلة منهم يتم تذكّرها في الوقت الضائع، لتجد من
يُكرَّم منهم، يصطحبه أحد الشباب إلى منصة التكريم لعجزه عن المشي بمفرده،
أو يدخل من خلفية المسرح على كرسي متحرك، لأنه لم يعد قادراً على الحركة،
وإذا شاءت الأقدار وكُرّم أحد الفنانين وهو لا يزال قادراً على العطاء، فمن
المؤكد أنه أحد المحظوظين النادرين في دنيا التكريم والعرفان بالجميل.
هذا الكلام ينطبق بدرجات متفاوتة على كل أهل الفن منذ مطلع القرن العشرين،
حتى بداية الألفية الثالثة، كلّ وفق مكانته وتاريخه وعطائه، باستثناءات
قليلة جداً، مثل السيدة أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب والعندليب
الأسمر عبد الحليم حافظ، في الموسيقى والغناء ممن نالوا حقّهم في عنفوانهم.
أما في التمثيل فربما لم يكن هناك سوى فريد شوقي، على رغم أنه تتلمذ على
أيدي جيل، وُصفت غالبيته بـ «العمالقة الرواد»، أمثال نجيب الريحاني، يوسف
وهبي، أنور وجدي، إسماعيل ياسين، حسين صدقي، وغيرهم، فضلاً عن نشأته وخروجه
وسط جيل من أطلقوا عليهم «الكبار»، وهم لا يقلون عنه فناً وقامة، أمثال
شكري سرحان، يحيى شاهين، محسن سرحان، كمال الشناوي، رشدي أباظة، وآخرين،
غير أن الأقدار أبت إلا أن يكون وحده فريد شوقي الذي ينفرد بكل هذا الحب،
وكل هذه التكريمات، وكل هذه الفرص التي صنعت منه نجماً لامعاً فوق قمة
الهرم الفني. فهو ممثل، كتب لنفسه قصصاً وسيناريوهات بعض أفلامه (ما يقرب
من 22 فيلماً من تأليفه)، منتج له وللغير (أنتج حوالى 26 فيلما)، قام
ببطولة ما يقرب من 15 فيلماً للسينما التركية نالت نجاحاً كبيراً، أدى
بطولة ما يقرب من 18 مسرحية، كتب ومثّل أكثر من 12 مسلسلاً تلفزيونياً،
قدّم ما يقرب من 400 فيلم، ما بين تمثيل وكتابة سيناريو وإنتاج، بداية من
الأدوار الثانوية حتى البطولة المطلقة، حصل عنها على حوالى 92 تكريماً
وجائزة، من بينها وسام الجمهورية للفنون من الرئيس جمال عبد الناصر.
مرّت حياته الفنية بأكثر من خمس مراحل، تنقّل فيها بين الصعلكة والشر
والأكشن والكوميديا، ثم الدراما الاجتماعية والإنسانية. مثّل للسينما
والمسرح والتلفزيون… منحه الجمهور ألقاباً كثيرة منها: «وحش الشاشة، ملك
الترسو، زوربا المصري، أنتوني كوين الشرق، الملك»، عاش 78 عاماً، خصّص منها
60 عاماً للفن، تزوّج ثلاث مرات وأنجب خمس بنات سُعد جداً بهنّ، حتى أنه
على كثرة ما أُطلق عليه من ألقاب، لم يسعد إلا بلقب «أبو البنات».
شهرة ونجومية وتكريم ونجاح وتاريخ ومهارات، كلّها أمور لو تجمّعت في شخص
واحد لملأته غروراً… لكن ذلك لم يحدث مع فريد شوقي.
ابن السيدة زينب
كان فريد شوقي يذكر دائماً أنه من أصول تركية، غير أنه كان يفخر بمصريته
فغرق فيها حتى النخاع، يفخر بأنه من «محاسيب الست أم هاشم» وبأنه عاش ونشأ
بجوار السيدة زينب رضي الله عنها، فهو الإبن الأول أو كما يقولون «البكري»
بين ثلاثة أشقاء هم: فريد وأحمد وممدوح، وشقيقتين هما نفيسة وعواطف، للوالد
محمد عبده شوقي، الذي حمل بداخله كل مقومات الفنان الذي تمناه… وظل يحبسه
بداخله ولم يخرجه بسبب عادات وتقاليد ومناخ عصره، فلجأ إلى الوظيفة الميري،
كعادة الآباء والأجداد، حتى وصل إلى وظيفة «وكيل مصلحة الأملاك». راح يبذر
في ابنه «البكري» حلمه الضائع فزرع بداخله عشق الفن، ولم يتوقّف عند هذا
الحد بل راح يساعده على تحقيق هذا الحلم.
بعكس الأم التي أخذت من «أمينة زوجة سي السيد» الحب والحنان والطيبة، من
دون الخضوع والخنوع، فكانت أكثر حزماً وحسماً للأمور، بحنان لا يخلو من
القسوة أحياناً، خوفاً على مستقبل أولادها.
على عكس غالبية (إن لم يكن كلّهم) من عملوا بالفن في بداياته منذ مطلع
القرن العشرين تقريباً، وحتى قيام ثورة 23 يوليو وتبدّل نظرة المجتمع إلى
هذا المجال عموماً، وعلى عكس كل الذين واجهوا معارضة أهلهم وذويهم بمجرد
شبهة عملهم بالفن، وجد فريد شوقي ترحيباً كبيراً من والده الذي طار فرحاً،
كما لم يفرح سابقاً، حين حصل فريد على بكالوريوس معهد التمثيل، على رغم
حصوله قبلاً على دبلوم الفنون التطبيقية وتخرّجه مهندساً، فأخذه والده من
يده وقدّمه الى صديق عمره الفنان الكبير يوسف وهبي ليلحقه بالعمل في فرقة
«رمسيس».
رأى الوالد الحلم الذي طالما راوده يتحقّق في نجله، بعكس الأم التي لم تكن
ترحّب باتجاه ابنها الى التمثيل. وحين سألت إحدى المذيعات الفنان فريد شوقي
ذات مرة في لقاء تلفزيوني في مطلع التسعينيات، عن دور الأسرة في مسيرته
كممثل، وكيف استقبلت خبر عمل ابنها في التمثيل، راح فريد شوقي يحكي أمام
الكاميرات عن دور والده وتشجيعه له منذ الطفولة، ثم استطرد في حديثه وهو
يضحك ضحكته الشهيرة، مؤكداً للمذيعة مساندة والدته أيضاً ودعواتها الدائمة
له، وهنا قاطعته المذيعة بدهشة:
* بس يا أستاذ فريد حضرتك سبق وقلت قبل كده إن والدتك مكانتش مرحبة ولا
كانت تحب إنك تبقى ممثل..
= ده صحيح… كانت دايماً تلوم والدي الله يرحمه وتقوله انت اللي هتبوظ الواد
ده.ً. الواد مش هينفع في مدارس بسبب دلعك له.
* غريبة… طيب لما ده كان موقفها… منين بقى كانت بتساندك في حبك للفن
وبتدعيلك؟
= أصلها كانت كل ما تشوفني واقف قدام المرايا بمثل مع نفسي… كانت تقوللي:
«والله مسيرك هتتجنن»… ولما تشوفني لامم ولاد الشارع حواليه بمثل لهم كانت
تقوللي: «روح يا بني ربنا يفرج عليك خلقه»… وأهو ربنا استجاب لدعاها ومفيش
حد من مخاليق ربنا مبيتفرجش النهاردة على فريد شوقي.
بقدر ما أسعده هذا اللقاء، بقدر ما آلمه لقاء آخر قبيل رحيله بأشهر عدة،
لقاء لم يكن حاضراً فيه بجسده، وإن كان هو بطله الوحيد أيضاً كالعادة، ذلك
عندما بثّ التلفزيون المصري في العام 1998، وتبعته وكالات الأنباء العربية
والعالمية ـ خبراً على الهواء مفاده: «رحيل الملك فريد شوقي».
سمع فريد شوقي وهو على فراش المرض خبر رحيله، وشاهد بروفة لما يمكن أن
يفعله صدى خبر وفاته، فقد قامت الدنيا ولم تقعد.
شريط الذكريات
مات الملك فريد شوقي… انتقلت وكالات الأنباء والتلفزيونات العربية والدولية
إلى بيته للتأكّد من الخبر، الذي اتضح أنه كاذب، وراح التلفزيون المصري
يصحّح خطأه الجسيم بلقاء مع الملك وهو على فراش المرض يؤكد فيه أنه لا يزال
على قيد الحياة وأن هذا الخطأ غير المقصود بقدر ما أحزنه، بقدر ما أسعده.
فقد جاء في وقته ليعرف فريد شوقي أن «خلق الله» لم يكونوا مجرد متفرجين
عليه فحسب، بل أحبوه كإنسان وفنان، أحبوه ورفعوه إلى مكانة استحقها، لم
ينلها أحد قبله… وربما بعده.
أطفئت الأنوار، أُغلقت عدسات الكاميرات، وانتهى اللقاء التلفزيوني مع «وحش
الشاشة» لتطمئن جماهيره العريضة وليبدأ هو باسترجاع شريط حياته من بدايته،
فقد أعاده هذا الخبر إلى «البغالة» ذلك الحي الذي وُلد فيه عام 1922،
بالسيدة زينب، بالقرب من قلعة صلاح الدين والأحياء الشعبية العريقة ذات
التاريخ، مثل الحسين والغورية وعابدين ومحمد علي وباب الخلق.
كذلك أعاده إلى مدرسة «الناصرية الابتدائية» عندما التحق بها وهو في
الثانية عشرة من عمره، وهي كانت إحدى أفضل المدارس آنذاك وأغلاها ثمناً، إذ
كانت تكلّف والده 15 جنيهاً في العام، مقابل عشرة جنيهات في بقية المدارس،
لذا كان تلاميذ هذه المدرسة في غالبيتهم من أولاد البكوات والباشوات، ولم
ينسَ فريد أنه أصرّ وقتها على أن تكون هناك سيارة تقلّه مثل بقية زملائه،
فهو ليس أقلّ منهم، فاستأجر والده «عربة حنطور» لتحضره إلى المدرسة ثم
تعيده في نهاية اليوم إلى بيته. كذلك لم ينسَ فريد ما قاله له والده في
اليوم الأول للدراسة:
* اسمع يا فريد… انت النهاردة بقيت راجل… دخلت المدرسة وكلها كام سنة وتبقى
راجل ملو هدومك ومعاك الابتدائية… مش عاوزك تخذلني… عاوزك ترفع راسي قدام
العيلة كلها.
= إن شاء الله يابابا… هتشوف ابنك فريد هيعمل إيه.
* مش بالكلام. أنا عاوز أشوف بالفعل… تذاكر دروسك أول بأول… وسيبك بقى من
اللعب في الشارع والكلام الفاضي ده… انت النهاردة بقيت من أهل العلم وإلا
إنت عارف…
= لا أرجوك يا بابا… بلاش وإلا دي.
* أيوااا… أي لعب وعدم مذاكرة هيبقى مفيش فسحة الخميس. يعني مفيش مسرح… لا
فرقة رمسيس ولا كشكش بيه ولا حتى مجرد المشي في عماد الدين.
* إطمن حضرتك يا بابا. أنا بوعدك أعمل دروسي وواجباتي. بس بلاش والنبي تمنع
المسرح… إعمل أي حاجة إلا المسرح.
= الشرط نور يا سي فريد… وآديك شايف الست والدتك بتقول إيه… متهماني إني
بدلعك وإنك مش هتنفع في مدارس… وريني بقى الهمة علشان لما آجي أخدك للمسرح
يوم الخميس يبقى بقلب جامد وبصدر منفوخ… وإلا انت عارف.
لقاء الخميس
كان موعد الخميس من كل أسبوع مقدساً بين فريد ووالده للذهاب إلى إحدى فرق
شارع عماد الدين، سواء فرقة «رمسيس» وبطلها يوسف بك وهبي، صديق الوالد، أو
فرقة «كشكش بك»، أو علي الكسار أو فاطمة رشدي، وبعد مرور الشهر تكون
الروايات قد تغيّرت فيعاودان المرور عليها مجدداً، بالترتيب نفسه.
تعوّد فريد على هذه الرحلة الأسبوعية منذ كان في السابعة من عمره، غير أن
الفرقة الأهم من بين كلّ تلك الفرق كانت فرقة «رمسيس» حيث الأداء الراقي
بالصوت الجهوري وجمل الحوار الممطوطة، والحكايات التي لا تخلو من الحكم
والمواعظ.
كان يجلس فريد صامتاً، مشدود القامة منتبهاً الى كل كلمة ينطق بها كلّ من
يظهر على خشبة المسرح، وليس بطل المسرحية يوسف بك فحسب، حتى أنه عندما كان
ينتهي الفصل الأول وينطلق وسط الجماهير باعة المسرح ينادون على بضاعتهم من
مأكولات ومشروبات، لم يكن يطلب فريد من والده شيئاً، بل ولا يلتفت إليهم،
فهو مشغول بمراجعة ما شاهده في الفصل الأول مستعداً لما سيراه في الفصل
الثاني، ولا مانع من أن يراهن نفسه ويخمّن ما قد يراه في الفصل الثاني.
لم يكن فريد ينتبه هذا الانتباه كلّه الذي يصل إلى حدّ حفظ الحوار، إلا
لسببين، أولهما ليرسخ الحوار في ذهنه كي يستطيع استرجاعه عند اللزوم، ولا
مانع من بعض الإضافات التي كان يراها مناسبة لتجاوز بعض مصاعب روايات يوسف
بك وهبي، سواء في اللغة أو المواقف. أما السبب الثاني والأهم هو ذلك
الامتحان الذي كان يجريه له والده فور انتهاء العرض وخروجهما من المسرح،
والذي كان يستمرّ طوال المسافة التي تقطعها عربة «سوارس» من شارع عماد
الدين حتى السيدة زينب، فكان يتمنى فريد لو أنه يغمض عينيه ويفتحهما ليجد
الطريق قد انتهى، إذ كانت أسئلة الامتحان تنحصر جميعها في ما رآه تلك
الليلة، والأهم من الامتحان هو العقاب نتيجة الرسوب فيه:
* بقى انت سبت الرواية كلها ماعجبكش فيها غير أنه كان بيسحر للستات كلها
وبعدين ياخدهم يخنقهم ويموتهم؟
= لا يعني… هي الرواية كلها عجبتني… وخصوصاً الحته الأخيرة لما يوسف بيه
كان بيخنق آخر واحدة وكان بيقولها موتي عليك اللعنة بعدد القبور التي فتحت
من عهد آدم إلى الآن.
* يا سلام… دا إيه ده كله… وحفظت الجملة دى لوحدك… ده انت ممثل «نص لبه»
وبعدين هو يوسف بيه كان بيقولها كده زي ما يكون عيان… دا صوته كان مجلجل
وبيرج المسرح.
= لا ما أنا ممكن أقولها زيه بالظبط… بس لما نروح علشان ابقى واقف واتكلم
براحتي.
* لا واقف ولا قاعد… انت بتبقى قاعد مش منتبه للرواية… الخميس الجاي أجيب
أخوك أحمد بدالك… أحمد نبيه وبياخد باله.
= علشان خاطري يا بابا… آخر مرة… والله الرواية اللي جاية هاحفظها كلمة
كلمة.. وبعدين أحمد أخويا مش بيحب المسرح.. ده بينام أول ما تبدأ الرواية.
لم يكن أي عقاب يلقاه فريد يساوي عقابه بالحرمان من رحلة الخميس إلى شارع
عماد الدين، ليس لأنه سيُحرم من «الفسحة» والخروج في نهاية الأسبوع فحسب،
بل لأنه سيحرم جمهوره الخاص من رواية جديدة، فهو تعوّد أن يأتي إليه كل يوم
جمعة بالرواية التي شاهدها مع والده بالأمس.
المدهش أن جمهور المسرح في كل الدنيا يدفع نقوداً ليشاهد ممثّليه المفضّلين
وهم يقدّمون له أحدث الروايات، إلا جمهور فريد بن محمد عبده فهو الوحيد
الذي يتلقى مقدماً ليشاهد روايات ممثّله ومخرجه وكاتبه الوحيد، إذ حين كان
يحصل فريد على مصروفه صباح يوم الجمعة، وقيمته «قرش تعريفه» ـ وهي جزء من
مائتي جزء من الجنيه ويعد مبلغاً كبيراً كمصروف طفل في ذلك الوقت ـ حتى
يصرف المبلغ إلى خمسة مليمات، وكل مليم إلى «نكلتين»، بعدها يبدأ بالمرور
على أفراد الجمهور، كلّ في بيته، يطلق صيحة بفمه أسفل بيت كلّ منهم، كإشارة
متّفق عليها في ما بينهم، ليكون التجمّع في الحديقة الصغيرة أسفل بيت فريد،
عقب صلاة الجمعة. بعدها، كان يبدأ توافد جمهور فريد شوقي من أبناء الشارع
واحداً تلو الآخر، فيقف فريد أمام باب المنزل، وكلما حضر واحد من الجمهور
مدّ يده وناوله «نكله» ثم يأخذ مكانه في صالة العرض، التي كانت عبارة عن
عدد من الصحف القديمة التي انتهى والده من قراءتها، فيفرشها على الأرض
ليجلس عليها جمهوره، وما إن يكتمل النصاب، يعتلي «دكة» قديمة ـ طاولة من
الخشب ـ يضعها في حديقة المنزل، ويبدأ التمثيل، حيث يختصر أشخاص الرواية
التي شاهدها الليلة السابقة إلى شخصين فقط، يرى من وجهة نظره أنهما أهم ما
في الرواية، بل إن دوريهما يلخّصان أحداث الرواية، التي يكون الجمهور على
يقين وثقة أنها من بنات أفكار صديقهم الفنان، الذي ظلّ يوم الخميس وليلة
الجمعة يؤلّف ويحفظ مشاهدها ليشخّصها لهم في اليوم التالي.
هنا فحسب، بعيداً عن عينيّ والده، وفوق هذه «الدكة» المتهالكة، كان يستحضر
فريد شخصية يوسف بك وهبي وروحه، فيلوي لسانه وتأخذه «الجلالة» ويصدح صوته
يجلجل:
* موتي… عليك اللعنة… أنت ملعونة بعدد القبور التي فتحت من عهد سيدنا آدم
إلى الآن.
ثم يطبّق يديه على بعضهما، ويضعهما أمام مقدّمة رأسه التي عاد بها إلى
الخلف، على طريقة يوسف بك وهبي الشهيرة في رواياته، ويثبت على هذا الوضع
صامتاً للحظات، فمن المفترض أن هذه هي النقطة التي يصل فيها الفنان إلى
الذروة، بعدها يجب أن يصفق الجمهور ويُسدل الستار معلناً انتهاء العرض… لكن
جمهوره حديث العهد بالمسرح، وليس متمرّسا فيه مثله، لا يفهم هذا البرتوكول
غير المكتوب بين صالة العرض وخشبة المسرح، وهنا كان لا بد من أن يلفت
انتباههم… فاضطر الى قطع هذا الاندماج للحظات ليلفت نظر الجمهور:
* ما تصفق ياد انت وهو… الرواية كده خلصت.
بعدها عاد فريد سريعاً إلى حالة الاندماج التي كان عليها، ليستقبل تصفيق
الجمهور، ثم يعتدل في وقفته ويرسم ابتسامة عريضة على شفتيه، وينحني انحناءة
مبالغاً فيها يكاد يسقط معها من فوق «الدكة» ليرد تحية الجمهور له.
ينزل فريد من فوق المسرح أو «الدكة» ليبدأ تلقّي التهاني من الجمهور بشكل
مباشر، ويكون من نصيب المهنئين الأوائل من جمهوره ما تبقى معه من «نكلات».
وفي إحدى المرات، انصرف الجمهور كلّه إلا ولد واحد هو أشرف بن عبد التواب
أفندي، باشكاتب في دائرة «الأتربي باشا»، ظنّ فريد أن أشرف يريد نصيبه من «النكلات»
الأخيرة التي وزّعها في نهاية العرض، غير أنه فاجأه بطلب آخر، وهو أن يعيد
هذا العرض غداً في منزله، وعلى رغم تخوّف فريد من القيام بهذا الطلب بسبب
قسوة وحزم عبد التواب أفندي والد أشرف، إلا أنه أدخل السعادة إلى قلبه،
وأشعره بالفخر والاعتزاز، وأنه أصبح ممثلاً له قيمته، والجمهور يطلبه
بالإسم في حفلات خاصة، حتى لو كان هذا الجمهور هو هذا الصديق فحسب.
البقية في الحلقة المقبلة
الجريدة الكويتية في
31/07/2011
الملك الأسطورة (2):
فريد شوقي… رصاصة في صدر صديق المدرسة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي
قد ينسى فريد شوقي أي موعد، أو أي شيء، إلا أنه لا يمكن أن ينسى موعداً
متعلّقاً بالتمثيل أو المسرح، شعر بأنه في امتحان خاص أمام هذا الصديق الذي
سيكون وشقيقته كلّ جمهوره، ولكن ما العمل إذا وقع في يد والد هذا الصديق،
من المؤكد سيكون عقابه «علقة موت»، ومع ذلك كلّه يهون من أجل التمثيل.
ظل فريد طوال الليل يسترجع أحداث ومشاهد إحدى روايات يوسف بك التي حضرها
سابقاً ليكون جاهزاً لحفلة الغد، وعلى رغم لهفته وشوقه لهذا اللقاء، إلا
أنه حرص في الصباح على ألا يهرول إلى صديقه ويطالبه بالوفاء بوعده، بل على
أن يظهر أمامه غير مهتم، بل ولا مانع من أن يتظاهر بالنسيان، كي يعيد
الصديق العرض عليه، بل ويلحّ في طلبه:
- إيه يا فريد انت نسيت… مش احنا متفقين تيجي تلعب معايا النهاردة عندنا في
البيت؟
* يا بني ده مش لعب… ده تمثيل بجد… انت ما بتسمعش عن يوسف بيه وهبي، وكشكش
بيه نجيب الريحاني، وعلي الكسار… أهو أنا بقى ممثل زي دول.
- عارف عارف… ماشي يا سيدي تيجي تلعب معايا تمثيل بجد عندنا في البيت بكره؟
* بس أنا خايف من باباك… ده صعب قوي… إذا كان الكبار بيخافوا منه… ده لما
بيشوفني واقف معاك في الشارع بيبقى يوم أسود… ده مره يا يبني شخط فيا شخطه
خلاني كنت هطير من قدامه.
- متخافش… متخافش… ماهو النهارده بعد الضهر خارج هو وماما رايحين عند عمتي
في المغربلين… يعني هيبقى قدامنا وقت كبير أنا وانت وأختي الصغيرة… نلعب
ونعمل مسرح براحتنا.
* إذا كان كده ماشي… بس بشرط.
- شرط إيه.
* تمثلوا معايا انت وأختك.
وقف فريد فوق السرير مثل «الداير» الملفوف حول عمدانه، ليشبه في شكله خشبة
المسرح بالكواليس، ووقفت أمامه الطفلة الصغيرة شقيقة صديقه أشرف، بينما جلس
أشرف على كرسي أمامهما باعتباره الجمهور. اندمج فريد وعاش دور يوسف وهبي،
وأمامه بطلة رواياته الفنانة أمينة رزق، وراح يلف يديه حول رقبتها:
* بتخونيني يا زينب. بتخونيني يا خاينة. مصير أمثالك لا بد أن يكون الموت.
الموت للخائنة… عليك اللعنة… موتي عليك اللعنة.
ما كاد فريد يكمل عبارته التي استعارها من إحدى روايات يوسف وهبي، حتى سمع
هو وصديقه وشقيقته، صوت المفتاح يدور في الباب… فقد حضر والد صديقه، أو كما
كان يُطلق عليه «البعبع»، وقبل أن يلتفت فريد ليسأل صديقه ماذا يفعل؟ وجده
اختفى من أمام عينيه هو وشقيقته، فلم يجد أمامه سوى الاختباء أسفل السرير
في انتظار مصيره، وما سيحدث له في هذا اليوم المشؤوم. كان يمكن لفريد أن
ينجو كما خطّط، ببقائه أسفل السرير حتى ينام عبد التواب أفندي ثم يخرج هو
بهدوء، لولا حظّه العاثر الذي جعل عبد التواب يطلب من زوجته أن تساعده في
خلع حذائه… وكانت الكارثة عندما شاهدته زوجة عبد التواب أسفل السرير وصرخت:
- حرامي… حرامي.
لم يدرِ فريد بما يحدث له، لطمات ولكمات من هذا القاسي، من دون أن يمنحه
فرصة للكلام، بينما حاول فريد أن يفلت من بين يديه وهو يصرخ:
* أنا فريد ياعم عبد التواب… فريد بن محمد عبده… أنا مش حرامي… أنا كنت جاي
أمثل مع ولادك.
ظنّ فريد أنه عندما يذكر لعبد التواب أفندي حقيقة موقفه، يصحّح سوء الفهم
الذي نجم عن الموقف، غير أنه زاد «الطين بلة» من دون أن يدري، فيا ليته كان
لصاً كما ظنّت زوجة عبد التواب، ربما كان رحمه وتركه لحال سبيله، ولكن ما
إن سمع عبد التواب عبارة «جاي أمثل مع ولادك» حتى انفجر الدم في عروقه،
فاصطحبه من يده لوالده كي يوبّخه على هذه الفعلة الشنعاء، ليس الاختباء
أسفل سريره في حجرة نومه، بل لأن فريد سيتسبّب في إفساد ولديه فتح عيونهم
على «التشخيص» وهذا الكلام الفارغ وقلّة الأدب!
لعنة «المشخصاتية»
غضب والد فريد غضباً شديداً، ليس من ابنه، بل من هذا المتعجرف سليط اللسان،
الجاهل بأهمية التمثيل ودوره، بينما كان لوالدته رأي آخر:
* شفت يا سي محمد آخرة دلعك في الواد… آدي اللي كنت عامله حسابه… الولد باظ
خلاص.
= ماتكبريش الموضوع يا سمية دي هواية الولد بيقضي فيها وقت فراغه.
* هواية… دي هواية إيه المهببه دي… مشخصاتي!! ابني أنا مشخصاتي… ويفرج
علينا الناس كده في الحته.
= يا ستي ماهو ابني أنا كمان هو ابنك لوحدك.
* أيوه لك حق… ما هو انت اللي مشجعه على كده… بدل ما تقوله التفت لدروسك…
تاخده كل أسبوع علشان يتفرج على الكلام الفاضي ده
= انت هتعملي زي الراجل الجاهل ده وتقولي على التمثيل كلام فاضي… ده فن
راقي ومواهب ربنا بيخص بيها ناس معينة… ماهو البلد مليانة دكاترة
ومهندسين.. لكن كام واحد ربنا خصه بالموهبة دي؟
* أهو ده اللي بناخده منك… بدل ما تقوله كلمتين علشان ياخد الابتدائية
ويشتغل موظف أد الدنيا… ولا يكمل علامه وياخد دبلوم ولا بكالوريا… تشجعه
على الكلام ده.
= بكره يا ستي يبقى أحسن من كل دول… وتشوفيه حاجة كبيرة قوي إن شاء الله.
* أهو عندك أهه… ابنك وانت حر فيه.
شعر فريد بأنه تسبّب بحرج كبير لوالده سواء من كلام هذا الجاهل بالفن، أو
حتى بالعلاقات الإنسانية، أو من خلال لوم والدته لوالده أنه السبب في ما هو
فيه، فقرر الابتعاد خلال فترة الدراسة عن الحفلات المسرحية التي كان يقيمها
في حديقة منزله، والظهور قدر الإمكان أمام والدته بصورة المجتهد الذي لا
يفكر إلا في دروسه وحسب، كي لا يكون لكلامها تأثير على «الفسحة» الأسبوعية
إلى المسرح مع والده، والاكتفاء بممارسة هذه الهواية في أوقات الفراغ
بالمدرسة، وهذا يستلزم البحث بين زملاء الدراسة عمن يمكن أن يشاركه هذه
الهواية ويمارسها معه.
اللعب بالنار
بعد البحث والتقصّي والاختبارات، استطاع فريد إيجاد أربعة زملاء آخرين في
المدرسة، يمكن بالتدريب أن يشاركوه تقديم بعض الروايات المسرحية أمام بقية
تلاميذ المدرسة، غير أنه اكتشف أن أحد هؤلاء الأربعة مولع بفن آخر غير
المسرح، وقد اصطحبه والده لمشاهدة ذلك الفن الجديد الذي أصبح له مكان في
الحياة الفنية آنذاك، وهو فن السينما، إذ شاهد فيلماً إنكليزياً استطاع فيه
البطل أن يجهز على كل أفراد العصابة ويقتلهم جميعاً بمسدسه، وراح يحكي بعض
تفاصيل الفيلم.
لمعت الفكرة في رأس فريد، فراح يستوحي من فكرة الفيلم عملاً مسرحياً يمكن
تقديمه في فسحة اليوم الدراسي، أمام بقية التلاميذ، وقبل أن ينتهي اليوم
الدراسي كانت الفكرة قد اختمرت في رأسه فراح يشرحها لهؤلاء الأربعة ويشرح
دور كل منهم ليكون جاهزاً لعرض الغد، وهنا أصرّ هذا الزميل الذي شاهد
الفيلم، على أن يقوم هو بدور البطل الذي يطارد العصابة وليس فريد، باعتباره
هو من شاهد الفيلم، وأنه أقدر على تجسيد دوره كما رأه، وقد أيّده في ذلك
بقية الزملاء، فاضطر فريد الى الموافقة نزولاً عند رغبة الغالبية.
انتصف اليوم الدراسي في اليوم التالي، ودقّ جرس «الفسحة» وكانت إشارة البدء
من فريد، تجمّع التلاميذ لمشاهدة العرض، استعدّ فريق الممثلين، وبدأت أحداث
الرواية كما خطّط لها فريد.
فجأة أخرج التلميذ الذي سيقوم بدور البطل مسدساً من حقيبته، ليفاجئ الجميع،
بل ويصيبهم بالرعب، فصُعق فريد:
* إيه ده يا حمزة… لعبه ده ولا حقيقي.
= لا حقيقي… ده المسدس بتاع بابا.
* وجايبه ليه معاك… هتعمل بيه إيه؟
= يا بني مش قولتلكم إن البطل في الفيلم خلص على العصابة وموتهم كلهم
بمسدسه.
* أيوه بس ده ممكن يموت بجد.
= ماتخافش يا بني ده فاضي… بس قلت أجيبه علشان العيال اللي هيتفرجوا
يصدقوا.
* لا لا… بلاش يا حمزة… الحاجات دي خطر وممكن تعمل مشكلة… وكمان لو شافه
معاك سيد أفندي ممكن ياخده منك وأبوك يضربك.
= احنا هنخلص أوام أوام… وأحطه في الشنطة من غير محد يشوفه.
* بلاش يا حمزة أرجوك أنا بخاف من الحاجات دي.
= إيه الجبن ده يا بني… أمال عايز تمثل وتبقى شجيع إزاي؟
أصرّ حمزة على استخدام المسدس في التمثيل، فلم يجد فريد بداً من الموافقة
بعد إلحاح بقية الزملاء لخلق جوّ من الإثارة والتشويق.
بدأ العرض… راح حمزة يطارد أفراد العصابة والمسدس في يده، ثم راح يهدد فريد
كي يستسلم ويسلّم نفسه وإلا أطلق النار عليه… ركض فريد هارباً من البطل…
اندمج حمزة وضغط على الزناد، وكانت الكارثة، فلم يكن المسدس فارغاً، بل
خرجت منه رصاصة، وبدلاً من أن تصيب أحد أفراد العصابة داخل الرواية، استقرت
في صدر أحد الزملاء من المتفرجين، فمات فوراً!
سادت لحظة صمت، تسمّر الجميع في مكانهم قبل أن ينفجروا في صراخ وبكاء
هستيري، بينما وقف حمزة في ذهول ينظر الى المسدس والى زميله الذي خرّ
صريعاً. انقلبت الدنيا رأساً على عقب، ولم يدر فريد بما حدث في ما بعد فقد
نقله زملاؤه إلى بيته مغشياً عليه، غير أنه علم لاحقاً أن العقاب نزل بوالد
حمزة بالسجن، وبحمزة بخروجه من المدرسة.
عقدة السينما
لم يكره فريد التمثيل بسبب ذلك الحادث الأليم، لكنه كره ذلك الفن الذي
يطلقون عليه السينما، وكره هذا التمثيل الذي يستخدم العنف والمسدسات، بخلاف
المسرح الذي أقصى ما يمكن فعله فيه أن يلفّ يوسف بك وهبي يديه حول رقبة
السيدة أمينة رزق متّهماً إياها بالخيانة، وسرعان ما يُسدل الستار ثم يصطف
جميع الممثلين أمامك يردون تحية الجمهور من دون أن يصيبهم مكروه… فهذا هو
التمثيل فوق خشبة المسرح وليس كما ظنّ زميله في السينما.
ترك الحادث أثراً عميقاً في نفس فريد، لدرجة أنه لم يعد يتحدّث في التمثيل
أو المسرح في المدرسة، غير أنه لم يطق أن تستمر به الحال هكذا…
وجاء الفرج، حيث قرّر والده أن ينتقل الى شقة أوسع ومكان أرقى، فسكنت
الأسرة منزل رقم (2) في شارع «الوفائية» بمنطقة الحلمية الجديدة، التي لا
تبتعد كثيراً عن حي السيدة زينب، فوجد فريد الفرصة سانحة مع انتقاله إلى
السنة الرابعة الابتدائية، لينتقل من مدرسة بالسيدة زينب، إلى مدرسة جديدة
يمضي فيها السنة المتبقية له، غير أن المدرسة الجديدة كانت أكثر حسماً
وحزماً، ولا يوجد فيها من يتجرأ ويذكر كلمة «تشخيص»، فقد كان ناظر المدرسة
«معمماً» مثل مدرس اللغة العربية، الذي ما إن نما إلى علمه من أحد الزملاء
أن فريد محمد عبده شوقي، لديه موهبة التشخيص، حتى بدأ يأخذ منه موقفاً
عدائياً، ويتعمّد أن يكون أول من يبدأ بسؤاله في أي درس، حتى جاءت اللحظة
الحاسمة في الامتحان الشفوي لإتمام مرحلة الدراسة الابتدائية. جلس فريد،
ولسوء حظّه كان ضمن لجنة الممتحنين هذا الأستاذ المعمّم، فشعر بأنه راسب لا
محالة، وهذا سيحقّق ظنّ والدته، ويخيّب آمال والده. شعر فريد بالخطر، من
نظرات التربّص في عيني الأستاذ المعمم، فلا بد من أن يتصرّف وينجح بأي شكل،
وإلا النتيجة ستكون الحرمان إلى الأبد من عشقه الأول التمثيل، وقبل أن ينطق
الشيخ المعمم بسؤاله الأول في قواعد اللغة العربية من نحو وصرف، رفع فريد
يده وفاجأ لجنة الامتحان بطلبه:
* لو سمحت يا أفندي… أنا مش عاوز أسقط.
= ولماذا سترسب إذا أجبت عن الأسئلة؟
* يبقى حضرتك ممكن تسألني في المحفوظات.
= هو على مزاج حضرتك… اللجنة هي اللي بتحدد يا ولد… ثم لماذا المحفوظات
تحديداً؟
* لأني يا فندي بحب الشعر وأقدر من يتذوقون الشعر… وأقدر الشعراء.
= ومن انت حتى تقدر الشعراء أم لا؟
* أنا يا فندي… فريد محمد عبده شوقي.
= طظ.
* أنا حافظ قصيدة لشاعر النيل حافظ إبراهيم كتبها عن بلدته ميت غمر لما
اشتعلت فيها النيران..؟ وراح يسأل الله الرحمة وغيث السماء.
لم ينتظر فريد أن تسمح له اللجنة بإلقاء القصيدة أو حتى تقرّر ما إذا كانت
ستسأله في الشعر أم لا، وراح يتلوها:
سائلوا الليل عنهم والنهارا
كيف بات نساؤهم والعذارى
كيف أمسى رضيعهم فقد الأم
وكيف اصطلى مع القوم نارا
كيف صاح العجوز تحت جدار
يتداعى وأسقف تتوارى
ربي إن القضاء أنحى عليهم
فاكشف الكرب واحجب الأقدارا
ومر النار أن تكف أذاها
ومر الغيث أن يسيل انهمارا
أين طوفان صاحب الفلك يروي
هذه النار… فهي تشكو الأوارا
أشعلت فحمة الدياجي فباتت
تملأ الأرض والسماء شرارا
اندمج فريد في إلقاء القصيدة، وتقمّص شخصية الشاعر وهو يبكي بلدته، فذرفت
عيناه الدموع وعلا صوته ممزوجاً بالبكاء، ولم يصدّق عينيه عندما لاحظ
انفراج أسارير الممتحن المعمم، والابتسامة تعلو شفتيه للمرة الأولى منذ
رآه، وكانت المفاجأة التي تمناها:
= أحسنت يا بني… فتح الله عليك… ناجح يا سي فريد محمد عبده شوقي
* اشكرك يا فندي.
= قوللي بقى يا سي فريد… ناوي إن شاء الله بعد انتهائك من التعليم… ماذا
ستعمل؟
* هشتغل ممثل إن شاء الله يا فندي.
= اخص… الله يكسفك… لو كنت أعلم من البداية لكنت رسبتك… وهل يعلم والدك
بهذه الرغبة؟
* طبعا يافندي… وهو اللي بيشجعني على تحقيق أمنيتي.
= ولله في خلقه شؤون… اتفضل يا بني… بالسلامة.
تصريح بالتمثيل
خرج فريد من اللجنة وهو يكاد يذهب إلى بيته طائراً، فقد نجح في الشهادة
الابتدائية وأصبح رجلاً في الخامسة عشرة من عمره، دخل المنزل، بحث أولاً عن
والدته ليزفّ لها الخبر، فهو يعرف مقدار الفرحة التي سيكون عليها والده،
لكنه أراد أن يطمئن الوالدة كي يحصل منها على التصريح الذي انتظره طويلا…
التصريح بالتمثيل، بلا خوف أو اتهام بالفشل وعدم النفع، التصريح بالتمثيل
حتى أمامها هي شخصياً. وكما فعل مع الممتحن ولم يعطه فرصة الاختيار، فعل مع
والدته، زفّ إليها خبر النجاح، ثم ركض واعتلى المائدة الموجودة في حجرة
الطعام وراح يقلد يوسف بك وهبي في جزء من إحدى مسرحياته، وبطريقة إلقائه
الممطوطة في الكلام، وبصوت جهوري:
* سيدي الرئيس… حضرات المستشارين… انظروا إلى هذا المتهم الماثل أمام
عدالتكم… يرى بعينيه ويسمع بأذنيه الاتهامات واللعنات تنصب فوق رأسه… ولا
يجد كلاما يدافع به عن نفسه… لا تأخذكم به شفقة ولا رحمة… احكموا عليه
بالإعدام شنقاً.
لم يكد فريد ينتهي من جملته حتى دق باب البيت، لتدخل إحدى الجارات وتسأل
والدته بلهفة:
- مساء الخير يا سمية هانم.
= مساء النور يا حبيبتي اتفضلي.
- يزيد فضلك… إلا هي مسرحية يوسف بيه متذاعة على محطة إيه في الراديو.
ضجّ فريد ووالدته بالضحك، وراحت الأخيرة تشرح الموقف لجارتها بسخرية، وأن
ابنها فريد يقوم بالتشخيص ويقلّد يوسف بك وهبي، لكن ما إن لمحت الأم نظرات
الإعجاب في عيني هذه الجارة، لمجرد أن ابن الجيران يقلّد يوسف بك، حتى
تبدّلت نظرة الأم تجاه ما كان يقوم به فريد إلى تباهٍ وافتخار بابنها، فإذا
كانت هذه نظرة الجيران له، فمن الأولى أن تزهو هي وتفتخر بفريد… خصوصاً أن
حكم الجارة جاء منصفاً إلى حدّ كبير على موهبته.
المدهش في الأمر أن فريد أصبح منذ ذلك اليوم وسيلة التسلية الوحيدة، بل
والمفضّلة لدى والدته وجيرانها وصديقاتها، فقد تعوّدت أن تستضيف يوم
الإثنين من كل أسبوع بعض صديقاتها في ما يشبه صالوناً نسائياً، كعادة أهل
هذه الطبقة، على أن تقوم هي برد الزيارة في أيام أخرى من الأسبوع في بيت
إحداهن. أصبح فريد يمثّل جانب التسلية والترويح عن صديقات والدته، فيما هنّ
يمتدحنه، وهو يزداد ثقة في نفسه، وتتّسع دائرة جمهوره، فبعد أن كانت من
الأولاد أصدقاء الشارع أو المدرسة، أصبح الجمهور من سيدات المجتمع، وأصبح
فريد يمارس التمثيل في أي وقت من ليل أو نهار، أمام والدته وكل أفراد
العائلة، بلا حرج، بل على العكس فقد أضحى مثار فخر واعتزاز الأم قبل
الجميع.
البقية في الحلقة المقبلة
الجريدة الكويتية في
01/08/2011 |