يُمكن القول، ببساطة،
إن المقاربات السينمائية الأولى لجريمة
الاعتداء الإرهابي (على الولايات المتحدّة
الأميركية في الحادي عشر من أيلول 2011) تمّت بفضل سينمائيين أوروبيين.
الفرنسيون
أولاً، ثم البريطانيون، ومعهم عربٌ مقيمون في الغرب. ليس تفصيلاً عابراً،
بل
تأكيداً على أن الأميركيين شعروا بصدمة شلّت قدراتهم العقلية والنفسية
والروحية،
وجعلتهم عاجزين عن قول أي شيء. لكن المسافة الجغرافية (وغيرها أيضاً)
الكبيرة بين
ضفّتي المحيط الأطلسي لم تحل دون إقدام الأوروبيين (البريطانيين تحديداً،
علماً أن
بريطانيا كانت الدولة الأوروبية الأكثر ارتباطاً أعمى بسياسات الولايات
المتحدّة
الأميركية، مرافقة إياها في مغامراتها الدموية، بحجّة «الحرب على الإرهاب»)
على
الاشتغال السينمائي حول الجريمة، رغبةً منهم في فهم ما جرى: أنتونيا بيرد
و«خلية
هامبورغ» (2004). بول غرينغراس و«يونايتد 93» (2006). مايكل وينتربوتوم
و«الطريق
إلى غوانتانامو» (2006). سمير نصر و«بذور الشكّ» (2005). آخر هؤلاء ألماني
من أصل
مصري. أفلامهم تنويعات سينمائية امتلكت شرطها الإبداعي. لا اتّهامات ولا
عنصرية
فيها، بل محاولة جدّية لجعل السينما، وإن اقتربت إلى المنحى الوثائقي في
شكل روائي
في أحيان عدّة، مرآة الواقع وتفاصيله. لا خطابيات فجّة ولا تغاضي عن بؤس
الجريمة
ومرتكبيها، من دون إهانة أو تزلّف، بل مسعى واضح إلى تحويل المعطيات
الحقيقية إلى
نتاج سينمائي يحترم مفرداته الفنية والتقنية. قليلة هي تلك الأفلام، لكن
مضامينها
الدرامية المشغولة بحرفية لافتة للانتباه (توثيق، معلومات، معطيات) جعلت
النصّ
السينمائي أجمل وأهمّ، لأن المخرجين بذلوا جهداً إبداعياً واضحاً كي
يحوّلوا
المعطيات المتوفّرة لديهم إلى صنيع سينمائي. الحكايات لديهم حقيقية
وموثّقة. غير أن
المتخيّل الإبداعي حاضرٌ بفعالية.
أشكال وثائقية
تناول «خلية هامبورغ»،
بلغة وثائقية سينمائية مغلّفة بشكل روائي،
سِيَر المشاركين في الاعتداء الإرهابي،
الذين شكّلوا ما يُعرف بـ«خلية هامبورغ».
استعاد «يونايتد 93» الساعات القليلة
والأخيرة في حيوات ركّاب الطائرة الرابعة
بقيادة اللبناني زياد الجرّاح، التي فشلت
في مهمّتها (الانقضاض على البيت الأبيض)، بسبب انقلاب الركّاب على
الخاطفين، إثر
ورود أخبار إليهم عبر هواتفهم الخلوية عن العمليات الثلاث السابقة (برجا
«المركز
العالمي للتجارة» ومبنى «بنتاغون»)، وسعيهم إلى الخلاص من الموت المحتم،
الذي كان
لهم بالمرصاد، بعد أن «نجحوا» في تبديل وجهة سير الطائرة على الأقل، ما
أدّى إلى
سقوطها في سهول بنسلفانيا في نهاية المطاف الأليم. تطرّق «الطريق إلى
غوانتنامو»
إلى مسألة السجن الذي أقامته السلطات الأمنية الأميركية في الجزء الأميركي
من جزيرة
كوبا، والذي «استضاف» عناصر من تنظيم «القاعدة» و«حركة طالبان» وجماعة
أسامة بن
لادن، المتّهم الرئيس في الاعتداء، بتصويره قصّة حقيقية عن أربعة شبّان
يسافرون إلى
بلدهم الأم باكستان لحضور حفل زفاف أحد أصدقائهم، لحظة وقوع الجريمة. لكن،
يُلقى
القبض عليهم في باكستان بتهمة الانتماء إلى التنظيم الإرهابي المذكور، قبل
أن تظهر
براءتهم بعد عامين ونصف العام من المرارة والتعذيب، فيخرجون إلى «الحرية»،
باستثناء
واحد منهم قضى جرّاء التعذيب. وحلّل «بذور الشكّ» جذور الصدام الانفعالي
والثقافي
الناشئ جرّاء شبهات عنصرية ومريضة حول طبيب عربي مهاجر إلى ألمانيا، أفضت
(الشبهات)
إلى تدمير منهجي وقاس لذاته وعائلته وعلاقاته بالآخرين.
أربعة أفلام أوروبية
استلّت وقائعها من أحداث جرت فعلياً، لكنها
ذهبت إلى السينما في محاولة جادّة منها
للتنقيب عن مكامن الخلل الحاصل قبل الاعتداء المذكور وبعده. ذلك أن ما فعله
المخرجون الأربعة هؤلاء نابعٌ من حرص ثقافي على فهم الخلفيات التربوية
والنفسية
والأخلاقية والثقافية التي صنعت من شباب عرب «انتحاريين» سدّدوا ضربة موجعة
للولايات المتحدّة الأميركية، وللعالم كلّه أيضاً. والخلفيات تلك حاضرةٌ في
بنى
درامية وفنية وجمالية متفرّقة، اتّخذت من البُعد التوثيقي ركيزة أساسية
للصنيع
الروائي (خلية هامبورغ)، وجعلت الأحداث الواقعية متتاليات مشهدية مؤثّرة
وحادّة («يونايتد
93» و«الطريق إلى غوانتانامو»)، وتوغّلت أكثر في المجال المتخيّل،
انطلاقاً من معطيات حصلت في أنحاء شتّى من العالم، مع أنها لم تحصل فعلياً
كما وردت
على الشاشة الكبيرة (بذور الشكّ). التزمت أفلام غرينغراس وونتربوتوم وبيرد
خطّاً
موضوعياً، إلى حدّ بعيد، في مقاربة الأحداث المختارة في مضامينها الدرامية.
قدّم «خلية
هامبورغ» لبيرد الشخصيات كلّها من دون أحكام مسبقة، بل بحرفية صحافية عالية
وسليمة اشتهرت المخرجة بها، وروى الحكاية بتفاصيلها المتداولة في الأوساط
المعنية،
والمستخرجة من عمل دؤوب لأشهر طويلة من البحث الأمني والاستخباراتي وجمع
المعلومات.
في الإطار نفسه، تميّزت الأفلام الثلاثة هذه بتحرّرها من خطابية الانتقاد
العشوائي
والساذج، ومن الشتم والتقريع المجانيين، ومن الكليشيهات المسبقة. كما
تميّزت بسعيها
الفني إلى إنجازٍ بصري قادر على تصوير اللحظة بحذافيرها المؤلمة والمتوترة.
وقائع
قبل التوقف عند «بذور الشك» لسمير نصر، لا بُدّ من قراءة نقدية
للأفلام الثلاثة. اختار بول غرينغراس تفاصيل ما جرى داخل الطائرة الرابعة،
بعد أن
جمع المعلومات من أقارب الضحايا الذين، قبل موتهم، أجروا اتصالات هاتفية
بهم،
وأخبروهم أموراً كثيرة عما حصل. واعتمد، بتصويره الحكاية داخل الطائرة (مع
مقدمة
ضرورية، كشفت الاستعدادات المختلفة، الخاصّة بطاقم الطائرة والفريق
الانتحاري ومركز
المراقبة في المطار)، على حركة مرتبكة للكاميرا، خصوصاً في اللحظات الأخيرة
قبل
سقوطها، في محاولة بصرية لإثارة التوتر والقلق في نفوس المشاهدين
وانفعالاتهم. وهذا
ما حصل، إذ عبّر مشاهدون عديدون عن هلعهم وتأثّرهم، في آن واحد،
إزاء ما شاهدوه على
الشاشة الكبيرة؛ إلى درجة شعورهم بأنهم كانوا داخل الطائرة.
شعورٌ كهذا ألمّ
بمشاهدي «الطريق إلى غوانتانامو» أيضاً،
وإن بدرجة أقلّ. فالسجن أشبه بالطائرة، لأن
المعتقلين الأربعة فيه يشبهون ركّاب الطائرة، لبراءتهم وتحوّلهم إلى ضحايا.
شعورٌ
كهذا أصاب مشاهدو «خلية هامبورغ»، لأن الفيلم تابع وقائع تشكيل الخلية،
ولاحق
أعضاءها في تحوّلاتهم وغرقهم في التزاماتهم الدينية والعقائدية، ورافق
المحطّات
المختلفة التي مرّوا بها، قبل بلوغ بعضهم «المختار» مرتبة «النخبة» التي
نفّذت،
بقيادة محمد عطا، العمليات الانتحارية الأربعة. في هذا الفيلم، برز زياد
الجرّاح
أيضاً، وإن بطريقة مختلفة تماماً عن ظهوره في «يونايتد 93»: ففي هذا
الأخير، اختار
غرينغراس الفصل الأخير من المهمّة، ولم يتورّط في أي تحليل نفسي أو تربوي
أو ثقافي
أو ديني أو عقائدي خاصّ بهذه الشخصية، وبالشخصيات المرافقة له. بينما غاص
«خلية
هامبورغ» في التفكيك السينمائي للمكوّنات التي صنعت الانتحاريين جميعهم،
وللمراحل
التي مرّوا بها قبل انطلاقهم في تنفيذ المهمّات. بهذا المعنى، أفرد «خلية
هامبورغ»،
لضرورة التقيّد بالمعطيات الحقيقية، حيّزاً أكبر لزياد الجرّاح، من حيّزه
في «يونايتد
93»، لاختلاف المبنى الدرامي والسرد الحكائي. والحيّز الكبير للجرّاح في
فيلم أنتونيا بيرد ظلّ شبيهاً بالحيّز المعطى للشخصيات الأخرى، التي انضمت
إلى
الخلية المعروفة تلك.
أما قصّة «بذور الشكّ»، فقابلة لأن تكون حكاية أناس
كثيرين، وجدوا أنفسهم، فجأة، في موقع الاتهام بجريمة لم يرتكبوها، وذلك لأن
تهمتهم
الوحيدة كامنةٌ في أنهم عربٌ، بل في أنهم مسلمون تحديداً. والقصّة، إذ روت
تفاصيل
التحوّل في علاقة زوجين بعضهما ببعض، استندت إلى تحليل نفسي/ اجتماعي
للبيئة
المحيطة بالشخصية الرئيسة، في مجتمع غربي (إحدى المدن الألمانية) أصيب بهلع
شديد،
بعيد وقوع جريمة الثلاثاء الأسود، من كل من هو عربي أو مسلم. وعلى الرغم من
أن زوال
الشبهات وتراجع المتّهمين عن اتهاماتهم «العنصرية»، حرّر الشخصية الرئيسة
من عزلة
فُرضت عليه؛ إلاّ أن الشكّ قاتلٌ، والبراءة وحدها لا تعني استقامة جديدة
للأمور.
قصّة «بذور الشكّ» عادية للغاية، بالمعنى العام للحبكة. فالطبيب الشاب
يُحاصَر
تدريجاً بسبب شُبهات غذّتها عنصرية بعض المحيطين به، وتصرّفات بعض آخر.
والأبشع من
هذا، وقوع زوجته ووالدة ابنه في الشكّ، على الرغم من علاقة الحبّ القوية
التي
ربطتها به، خصوصاً أنها كافحت طويلاً ضد ذويها، من أجل هذين الحبّ والزواج.
والتهمّة التي أثيرت ضده، بسبب تصرّفات غريبة لا أسس واضحة وثابتة لها،
نابعةٌ من
صدف عدّة نشأت من سلوك الطبيب ووقوع أحداث عنفية ودموية في مدن أخرى، في
لحظة غيابه
عن المنزل العائلي والمسشتفى حيث يعمل. والسؤال الذي طرحه الفيلم كامنٌ في
موقع
العربي داخل المجتمع الغربي، ومكانته الإنسانية والأخلاقية، في مرحلة
التحوّل الخطر
الذي شهدته بدايات القرن الواحد والعشرين هذا.
بعد أسابيع قليلة،
تحلّ الذكرى العاشرة للاعتداء الأصولي
الإرهابي على الولايات المتحدّة الأميركية،
الذي دشّن عهداً جديداً من الصراعات الدولية. أسئلة كثيرة لا تزال ملتبسة
ومعلّقة
وسط التحوّلات الخطرة التي شهدتها العشرية الأولى من القرن الواحد
والعشرين. أسئلة
ازدادت التباساً وغموضاً وتوهاناً، بعد «اغتيال» أسامة بن لادن.
هنا، مقتطفات
من دراسة طويلة بعنوان «جريمة الحادي عشر
من أيلول 2001 على الشاشة الكبيرة»،
منشورة في كتاب جماعي بعنوان «الإرهاب
والسينما: جدلية العلاقة وإمكانات التوظيف»،
بإدارة تحريرية للزميلة ريما المسمار وأحمد الزعبي، صادر عن «مدارك» (بيروت).
كلاكيت
صالة واحدة
على الأقلّ
نديم جرجوره
لم يُفكّر أحدٌ من
المستثمرين، المتكاثرين حالياً في توظيف
أموالهم في شارع الحمرا والأزقّة المتفرّعة
منه صعوداً ونزولاً، في أن يُعيد افتتاح صالة سينمائية واحدة على الأقلّ.
أو أن
يفتتح صالة سينمائية واحدة جديدة. الشارع متّسع لأمور كثيرة، لا تجد
السينما مكاناً
لها بينها. هذه مفارقة سلبية. هناك مأزق متعلّق بتنامي ظاهرة الصالات
السينمائية
داخل المجمّعات التجارية الاستهلاكية في مدن لبنانية عدّة. والمأزق هذا لا
يقف عند
حدّ، لأن تكاثر الصالات اكتفى برفع عدد النسخ الخاصّة بأفلام قليلة، بدلاً
من أن
تتكاثر الأفلام وتتنوّع أشكالها والمضامين.
لكن المأزق الآخر كامنٌ في غياب
صالة سينمائية واحدة على الأقلّ، في شارع بات اليوم شرياناً أساسياً في
الحياة
البيروتية، نهاراً وليلاً. بات جزءاً من الحكاية المستعادة لمدينة شهدت
تاريخاً
حافلاً بالتناقضات، وعرفت انهياراً فظيعاً في لحظات قاسية، ونجحت (إلى حدّ
ما) في
الخروج من نفق الغياب إلى واجهة المشهد (في الشكل على الأقلّ). صالات كثيرة
عرفها
الشارع قديماً، لا أثر لها إطلاقاً اليوم، باستثناء صالتي «سارولا» و«مارينيان»،
لسبب لا علاقة له بالسينما: فالأولى باتت «مسرح المدينة»، والثانية تحوّلت
إلى «مسرح
بابل». وهذا لا يفي بالغرض السينمائي. فالصالتان المخصّصتان بنشاطات فنية
متفرّقة، يستحيل أن تُقدّما نشاطاً سينمائياً مستوفياً شروطه التقنية
والفنية
والجمالية، لغياب التجهيزات الضرورية.
ليس بكاءً على أطلال مدينة لا تعني شيئاً
لي. لكن الانفتاح الواسع لشارع الحمرا أمام استثمارات تجارية استهلاكية
متنوّعة (ألبسة،
مطاعم، ملاه ليلية، مقاه، مكتبات، أكشاك لبيع التبغ والصحف والمجلاّت،
محلات تجارية مختلفة)، طرح سؤال غياب الصالة السينمائية، القادرة على إنجاح
مشروع
ثقافي ممزوج بالتجاري، إذا أُديرت بالشكل الصحيح: تجهيزات تقنية رفيعة
المستوى،
تنويع في أنماط الأفلام وأشكالها وحكاياتها، تخفيض سعر بطاقة الدخول، إلخ.
وهذا
كلّه من دون تناسي قدرتها على أن تُساهم في إنجاح المهرجانات السينمائية
المُقامة
في بيروت، وفي استقطاب جمهور من المهتمّين بالشأن السينمائي، المقيمين في
الشارع
هذا نهاراً وليلاً. لعلّ الصالة المذكورة هذه إن وجدت، تُعيد «متروبوليس»
إلى
الحيّز المكانيّ الذي انطلقت منه منذ خمسة اعوام، في ظلّ ظروف صعبة، قبل أن
تنتقل
إلى «أمبير صوفيل» في الأشرفية.
الشارع المفتوح على أنماط شتّى من الوجوه
والثقافات، محتاجٌ إلى صالة سينمائية واحدة على الأقلّ. لن أدخل في تحليل
سوسيولوجي
نفسيّ للتمازج الحاصل على مستوى الهويات والجنسيات، لأن تمازجاً كهذا شكليّ
فقط. أي
أنه غير مؤثّر عمودياً. بينما الهوس في افتتاح خمّارات ليلية لم يعد قابلاً
للردع
في المدى المنظور، كما يبدو.
«الليل مش للنوم، أصل الليل للسهر»، بحسب فيروز.
والليل محتاجٌ، أحياناً، إلى ما هو خارج الكأس والنميمة والأصوات المرتفعة
والموسيقى الصاخبة، والتمايل الرائع للأجساد المتداخلة مع بعضها البعض، وسط
براعة
الليل في تحويل الأزقّة إلى نهار دائم.
السفير اللبنانية في
21/07/2011
فيلم لبيتر وير
« طريق العودة ».. كـم من الأميال لملامسة الأمل
زياد عبدالله
قد يبدو الوصول مستحيلاً حين تكون المسافة التي تفصلك عنه 400 ألف
ميل، وعليك أن تقطعها مشياً على الأقدام! وقد ينجز هذا المستحيل لكن أي ثمن
سيدفع لتحقيق ذلك؟ ما هو الظلم الذي يُهرب منه ليدفع أحدهم لخوض غمار رحلة
مترامية إلى هذا الحد؟ أسئلة قد نعثر على إجابة عنها في فيلم بيتر وير
The Way Back «طريق العودة»، بما يجعلنا نتمركز حوله والمصائر التي يقدمها وهي
تنازع من أجل البقاء.
هناك ما يتدافع في هذا السياق، هناك عوالم مفتوحة على مصراعيها حين
يحضر القرار بالهرب، وإن كان هذا الهرب يقود إلى ما هو أشد قسوة مما يهرب
منه المرء، لكن حسبه يمضي في فضاء حر، ولعل المصير المتشكل أمام الهارب
ينذره بأنه سيلقى حتفه إلا أنه في النهاية سيفضل أن يموت حراً على أن يموت
بين الأسوار الشاهقة وكل ما يطاله هو الظلم والقهر والاضطهاد.
فيلم وير يمضي تماماً في هذا السياق، يضعنا أولاً وقبل أي شيء آخر
أمام مشهدية خاصة ومتنوعة وعلى تناغم مع ما تمليه المسافة المترامية التي
سيقطعها أبطال الفيلم، وللفيلم أن يكون مبنياً على الظلم والهرب والنجاة،
كما لو أننا نقسمه إلى ثلاثة فصول وبكلمات أخرى إلى ثلاث كلمات لها أن تشكل
مفاتيح الفيلم، فنحن في أواخر الثلاثينات، والستالينية على أشدها، والمنفى
السيبيري في أعتى تجلياته، حيث مئات الآلاف يرسلون إلى معسكرات الموت هناك،
وأولهم يانوس (جيم ستاغروس) الذي نقع عليه من البداية وقد وشت به زوجته تحت
التعذيب ليمسي جاسوساً وفق المنطق السوفييتي، ويرسل إلى سيبيريا لتمضية
عقوبته التي تمتد 20 سنة، وهنا سندخل معه في نفق عذاب طويل، وتصوير
استثنائي ـ نعرف واير به ـ لحيوات المعتقلين في سيبيريا، فهناك وحشية
السلطات جنباً إلى جنب مع المناخ ومع السجناء أنفسهم، وفي التقاء تلك
العوامل يبدو الموت نجاة من هذه الحياة، لكن إن تم استبعاد الأمل بالهرب من
هذا المصير، ولعل الأمل بهذا المسلك مدعاة لليأس أيضاً طالما أن الطبيعة
تمارس حراسة المعتقلين وهي قادرة على الأقل وبمنتهى السهولة أن تتوعدهم بأن
يتجمدوا من البرد إن فكروا بالهرب وهذا أقل المصائر سوءاً وصولاً إلى أن
سكان القرى التي تحيد بمعسكر الاعتقال على استعداد لقتل أي سجين هارب طالما
أن هناك مبلغاً من المال ينتظرهم إن هم فعلوا.
لكن يبدو الموت ماثلاً أمام يانوس البولندي إن هو بقى في المعتقل،
وبالتالي لا مفر من الهرب، الأمر الذي يحزم أمره اتجاهه في المناجم التي
يجبر على العمل بها، الأمر الذي ينضم إليه أكثر من ستة سجناء بمن فيهم
الأميركي مستر سميث (إد هاريس) والروسي فالكا (كولين فاريل) الذي ينضم
إليهم بسكينه أي لأنه يملك سكينا فقط وهو مختلف عن كامل المجموعة التي تكون
عبارة عن مفكرين وتقنيين وفنانين، بينما فالكا ليس إلا من هؤلاء القتلة
الذين يتحكمون بمصير السجناء بوصفهم رديفاً للحراس.
يمكن القول ان الفيلم مع هرب هؤلاء سيمضي خلف الحياة في أعتى تجلياتها
والمتمثلة بغريزة البقاء، والقدرات الخارقة للإنسان ليبقى ناجياً، وهنا
يحضر اصرار يانوس وذكاؤه كعنصري حسم في ذلك، ولتكون رحلتهم خروجاً من
سيبيريا إلى منغوليا وصولاً إلى الهمالايا، ومن ثم الهند، وكل ذلك مشياً
على الأقدام، وكل الأدوات التي بحوزتهم، هذا إن كانت أدوات، تكون بدائية
ومتقشفة، وعليه سنشاهدهم يأكلون الجيف بعد أن يطردوا عنها الضباع، سيأكلون
الديدان، سيكون الماء في صحارى مانغوليا نادراً، وما أن يحصلوا عليه حتى
تباغتهم عاصفة رملية، وليختزل عددهم إلى أربعة في النهاية، فالكا حين يصل
حدود مانغوليا يتوقف عن المتابعة، فهو لا يستطيع العيش خارج روسيا، بينما
البقية سيلقون حتفهم بمن فيهم الفتاة التي تنضم إليهم في ما بعد.
الفيلم ينتمي إلى أفلام كثيرة مضت خلف قصص النجاة المدهشة، ورهانها
على ما يصير عليه الإنسان في هذه الظروف التي لا تنتمي إلى أي شيء إنساني،
والقصة كما يرد في الفيلم قصة حقيقية، وهنا تمسي الدراما فعلاً تصعيدياً
قادماً من الطبيعة، خصوصاً أن شخصيات الفيلم ستكون على وفاق شبه تام، بمعنى
أن الصراع الدرامي سيكون صراعاً مع الطبيعة التي تقسو ونادراً ما ترق،
وبالتالي فإن فعل النجاة والعقدة الدرامية ستكون عبر المراحل التي يمرون
بها، وعلى هدي مؤشر اليأس والأمل، الاصرار والاستسلام، الأمر الذي لا يطال
يانوس الذي يبقى على ما هو عليه من البداية من اصرار ومواظبة.
يعيد الفيلم إلى الذهن أفلاماً كثيرة، دون أن يفوتنا الإشارة إلى
جماليات بصرية استثنائية يحملها واستثمار خاص في البيئات المتنوعة وتوثيقها
جنياً إلى جنب مع حيوات الشخصيات، وفي رهان رئيس على ذلك، ولعل آخر فيلم
شاهدته على اتصال بفيلم «طريق العودة» هو فيلم «قتل أساسي» للمخرج البولندي
جيرزي سكوليموفسكي، وليكون الأخير متمركزا حول شخصية واحد يمسي القتل
معبرها الوحيد للنجاة بما يفضي إلى نهاية مأساوية ونحن نرى الفرس البيضاء
في نهاية الفيلم مضمخة بالدماء وذلك بعد خوضه شتى أنواع الصراعات مع طبيعة
لا ترحم في ألسكا الشبيهة بسيبيريا، بينما يحمل «طريق العودة» كل مقومات
النهايات التي تعدنا بالأمل والاشراق بعد مصاعب جمة.
الإمارات اليوم في
21/07/2011
زعيم في الوحل..
صعود وسقوط عادل إمام
تستحق قصة صعود عادل إمام كممثل إلى ذروة النجومية الشعبية التي لم
يسبقه إليها أحد من الممثلين الكوميديين من قبل ثم سقوطه المدوي من هذه
الذروة إلى حضيض الرفض الشعبي دراسةً نقديةً اجتماعيةً وسياسيةً متعمقةً لا
تقتصر على مجرد موقف الجماهير منه بعد ثورة 25 يناير الذي لم يكن أكثر من
محصلة ونتيجة منطقية لمقدمات وإرهاصات متعددة جعلت من هذه الخاتمة
المأساوية نهاية حتمية لرحلة حافلة.
فقد كانت ظاهرة احتلال عادل إمام لقمة النجومية السينمائية والمسرحية
لسنوات طويلة وهو الذي يخالف كل مواصفات وسامة النجم المتعارف عليها ظاهرة
لافتة ومعبرة عن تغير طبيعة جمهور السينما وذوقه في السبعينيات وما تلاها.
في حقبة ما سمي بالانفتاح الاقتصادي وعودة التمايز الطبقي وبحث الجمهور عن
بطل شعبي يشبهه ويعبر عن أشواقه وغضبه وأجاد عادل إمام في تلك الفترة التي
صنع فيها شعبيته الكاسحة اختيارَ أدواره والشخصيات التي يلعبها على الشاشة
أو على خشبة المسرح منذ دوره في مسرحية (شاهد مشفش حاجة) إلى أدواره في
أفلام مثل( إحنا بتوع الأتوبيس) و(رجب فوق صفيح ساخن) و( شعبان تحت الصفر)
و(المشبوه) و(المتسول) و(الهلفوت) و(سلام يا صاحبي) ووصولا إلى أدوار البطل
الإيجابي الرافض للظلم في (الغول) و( اللعب مع الكبار) و(الإرهاب والكباب)
و(المنسي) وغيرها.
وحتى في تلك الأفلام التي لعب فيها ادوار شخصيات انتهازية مثل (الافوكاتو)
و(طيور الظلام) و (الواد محروس بتاع الوزير) فقد كرسها للسخرية من الفساد
والانتهازية التي تسود المجتمع.. وظلت اختيارات عادل إمام للشخصيات التي
يلعبها تدور في نفس الفلك تقريباً حتى نهاية حقبة التسعينيات وكان آخرها (الواد
محروس بتاع الوزير)في عام 1999 قبل أن تحدث النقلة النوعية الأشبه
بالانقلاب في الأدوار والشخصيات التي يختارها ويلعبها عادل إمام اعتباراً
من دور الوزير في فيلم (التجربة الدنماركية) 2003 ، ثم دور الباشا في
(عمارة يعقوبيان) ودور المليونير في أفلامه الثلاثة الأخيرة (مرجان أحمد
مرجان) و(بوبوس) و(زهايمر).
ولا يمكن بالطبع النظر إلى هذا التغير الدراماتيكي في طبيعة الوضع
الاجتماعي لكل أبطال أفلام عادل إمام في السنوات العشر الأخيرة على أنها
مجرد مصادفة أو بحث عن أدوار تناسب عمره بل لابد من ربطها بتحويل عادل إمام
نجوميته الكاسحة إلى مؤسسة عائلية متكاملة تضم شقيقه المنتج وابنه المخرج
والآخر الممثل وشركة إنتاج ومسرح يحمل الاسم المحبب إليه الزعيم).. وفي
ذروة عصر الفساد المباركي كان من الحتمي ان ترتبط مثل هذه المؤسسات الفردية
بدوائر السلطة وان تتبادل معها المصالح والمنافع ومن أهم مظاهر هذا التبادل
استغلال اسم ونجومية عادل إمام في الترويج لحكم مبارك وخططه لتوريث الحكم
في تصريحات يتم اختلاق المناسبات للإدلاء بها.
تتويجاً لهذه المرحلة التي قطعها عادل إمام الذي بدأ مسيرته بطلاً
شعبياً مدافعاً عن الطبقات الفقيرة ومجسداً لشخصياتها وطموحاتها وصولا إلى
اقتصار أدواره على شخصيات المليونيرات والوزراء مجملاً لعالمهم ومدافعاً
ومبرراً لفسادهم تماماً كما بدأ عادل إمام حياته طالباً يسارياً معارضاً
كما قال في حديث قديم مع مجلة روز اليوسف وصولاً إلى تحوله إلى بوق دعاية
وترويج لأحط خطط تلك السلطة في تحويل النظام الجمهوري إلى نظام وراثي يرث
فيه الابن الحكم والثروات العامة وزعامة عصابات المنتفعين... وكان من
المنطقي بالتالي ان يكون موقفه من ثورة 25 يناير هو ما ورد على لسانه وعلى
موقعه من هجاء هؤلاء الشباب وثورتهم رغم إنكاره الانتهازي لذلك بعد نجاح
الثورة...
أما لحظة السقوط المدوية فقد وقعت منذ أيام قليلة بعد أن اكتشف هو
والمنتج استحالة عرض مسلسله التلفزيوني المنتظر(فرقة ناجي عطا الله) الذي
يدور في فلك الترويج لنظام مبارك ووطنيته المكذوبة وليس فقط بسبب صوره التي
تزين المكاتب ومواقع التصوير بمناسبة وبدون مناسبة والتي قيل إنها تحتاج
لوقت لإعادة تصوير مشاهدها لقد أدرك الزعيم المرتد فيما يبدو أنه قد مرغ
مقومات شعبيته في الوحل حين حاول أن يستخدم هذه الشعبية في الترويج لنظام
فاسد مرفوض.
الراية القطرية في
21/07/2011
|