من أجمل وأقيم الافلام الوثائقية الفرنسية الطويلة التي خرجت للعرض
حديثا في باريس( 15 يونية) فيلم "مفروزة"
MAFROUZAللمخرجة
السينمائية المتفوقة ايمانويل ديموريس، الذي يحكي عن حي شعبي عشوائي في
مدينة الاسكندرية، صعد اليه من صعيد مصر ومنذ فترة السبعينات العديد من
الأسر المصرية الصعيدية ومعظمهم من أصل فلاحي وسكنوه، وليس هذا غريبا في
شيء بالطبع في ظل المشاكل التي كانت تعيشها مصر آنذاك من بطالة وتكدس سكاني
قبل ثورة 25 يناير ومازالت، لكن الغريب أن هؤلاء القادمين من الصعيد اقاموا
حيهم " مفروزة" إلي جوار ميناء الإسكندرية الصناعي فوق أطلال أكبر مقبرة
يونانية رومانية في منطقة المتوسط، وهي تمثل كما يقول خبير آثار فرنسي يظهر
في أول مشهد في الجزء الأول من الفيلم،تمثل قطعة من آثار مصر وتاريخها
العريق وماتبقي منه. كانت مخرجة الفيلم قد حضرت إلي الإسكندرية عام 1999 في
اطار بحثها عن مواقع تصوير لفيلم كانت تعد له، يناقش علاقة الموتي بالأحياء
أو الموت في حياة البشر)،فلما دخلت ذلك الحي العشوائي " مفروزة" وتعرفت علي
سكانه، وأعجبت بحيويتهم الفائقة، ضد الموت واليأس والحزن في هذا" الجحر"
الذي يقطنونه داخل تلك المقابر الاثرية التي تمرح فيها الهوام الجرذان، وهو
أشبه مايكون بـ " متاهة" بحواريه وأزقته الضيقة التي لا تسمح بمرور شخصين
في آن كما في " زنقة الستّات في الاسكندرية،، ولايمكن أن يتخيل المرء ظروفا
حياتية تراجيدية قاسية وبائسة في أي مكان علي ظهر كوكبنا أقسي من ذلك،
بعدما صار مفروزة أقرب إلي " خندق" تحت مستوي سطح البحر، ومقلب زبالة "
للتخلص من الفضلات الآدمية ولايصلح لسكني البشر.. قررت ايمانويل أو "
إيمان" كما صاروا يطلقون عليها، قررت عندئذ أن تصنع فيلمها عن هؤلاء البشر
الأحياء في مفروزة ومعهم، ونبذت فكرة عمل فيلم عن الموت، ولفترة عامين
كاملين عاشت معهم ودخلت بيوتاتهم وشربت معهم الشاي ودخنت، وتصعلكت معهم
وشاركتهم حياتهم، وراحت تصورهم بكاميرتها لتحكي عن بطولات صغيرة وكبيرة،
وتتبعهم وتتعقبهم بكاميرتها في كل مكان وخلال ساعات النهار والليل، حتي
صارت كاميرا ايمانويل كاميرا متنقلة لاتنام، بل تسهرايضا مع أهل مفروزة في
الافراح والموالد و الشوادر وتشارك في الذكرحتي الصباح الباكر، وتصطحبهم
إلي الأسواق والمستشفيات، وتسبح أيضا معهم في بحر الاسكندرية، في محاولة
للامساك بتوهج الحياة في مصر رغم الفقر والبؤس، وألفة أهلها الطيبين
الهامشيين الذين يعيشون في الظل في القاع وصراعهم ضد اليأس والفناء والعدم.
وصورت ايمانويل أو إيمان أكثرمن 100 ساعة ليس فقط عن أهل الحي، بل مع أهل
الحي، ثم عادت إلي باريس، واشتغلت علي مونتاج الفيلم لفترة تزيد علي 6
سنوات ! وخرجت في النهاية بذلك الفيلم الطويل الذي يستغرق عرضه أكثر من 12
ساعة، ولن تشعر ـ إن شاهدته كاملا مثلي ـ فيه بلحظة أو دقيقة ملل ! وذلك
بعد أن قسمته مخرجته ايمانويل إلي خمسة أفلام وثائقية طويلة مستقلة، بحيث
تستطيع أن تشاهد أي جزء منها(يستغرق عرض الجزء الواحد أكثر من ساعتين)
كوحدة مستقلة أو كفيلم مستقل، كما تستطيع أن تشاهد الفيلم كله دفعة واحدة،
وبحيث تقع استراحة لمدة10 دقائق اثناء عرض أجزاء الفيلم.. الليلة الكبيرة"
تكشف عن "ملحمة" إنسانية كانت "سينما سانت اندريه ديزار" التي تقع في
الضاحية السادسة من باريس في قلب الحي اللاتيني بالقرب من محطة متروالسان
ميشيل، كانت قد نظمت " ليلة " سينمائية كبيرة لعرض فيلم مفروزة كاملا يوم
السبت 2 يوليو في الثامنة مساء وبحضور مخرجته ايمانويل ديموريس ومنتجه كاتب
السيناريو الفرنسي الكبير جان جرول، وتضمنت الليلة مشاهدة اجزاء الفيلم
الخمسة مع وجبتي عشاء خفيف وافطارباكر مع فطائر كرواسان وقهوة، ورفعت ادارة
السينما سعر التذكرة فقط إلي 25 يورو، في حين أن التذكرة العادية لمشاهدة
فيلم واحد في باريس صارت تكلف الآن حوالي 9 يورو بالسعر العادي، وكانت فرصة
لاتعوض بالطبع لمشاهدة الفيلم كاملا بسعر زهيد، في ليلة سينمائية جد ممتعة،
ولايمكن بأي حال من الأحوال أن تفوتنا،وفرصة ايضا للالتقاء بمخرجته،واجراء
حوار معها لجريدة " القاهرة".. كانت ليلة سينمائية بديعة حقا في قلب عاصمة
النور باريس رفعت بفيلم مفروزة سكان عشوائيات " مفروزة" باصالتهم
وانسانيتهم عاليا، واستردت لهم كرامتهم المنهوبة . تلك الكرامة التي مرغتها
في الوحل بعض افلام السينما المصرية الروائية التي استغلت فرصة الحديث عنهم
وتناول حياتهم ومشاكلهم لصنع افلام جنسية رخيصة و ساقطة ومبتذلة.. في حين
ارتفع فيلم " مفروزة" ببعض شخصيات الحي التي تظهر في الفيلم مثل شخصية
(محمد خطّاب) إمام الجامع و(حسن أو سطوحي) و(أبوحسني) و(أم بسيوني) و (عادل
وغادة ) بل لقد تسامق بها عاليا، ليقرّبها هكذا في رأينا من شخصيات
"الملاحم" العملاقة، كما في شخصيات ملحمتي الالياذة والاوديسة لليوناني
هوميروس، وينتقل من خانة الفيلم الوثائقي وسينما الواقع إلي خانة الفيلم
الروائي، وسينما الخيال والملاحم الانسانية الكبري .. اذ أن تلك الشخصيات
مثل (حسن أو سطوحي) وهو شاب يقضي خدمته العسكرية في الجيش ثم يهرب من الجيش
لانه لم يتعود علي اطاعة الاوامر ويريد دوما أن يكون سيد نفسه وضد كل
السلطات علي طول الخط فيروح وبخاصة بعد أن فقد حبيبته وتوفيت خطيبته يروح
يتصعلك في الشوارع ويشتبك في معارك وخناقات ويجوب الافراح مع فرقة شعبية
ليغني في الزفة ويرتجل الازجال.. تتحررهذه الشخصيات تدريجيا من أسر الواقع
في الفيلم، في حين انها كما قلت لاتلعب اي ادوار في الفيلم بل تحضر فقط
بكلامها وفكرها ولحمها ودمها بشكل طبيعي وشديد الانسانية، وتدلف هكذا
تدريجيا الي عالم الفيلم الروائي بسبب عاملين أو عنصرين مهمين وأساسيين في
الفيلم هما أولا: عنصر أو عامل الوقت، فقد سمحت ايمانويل لتلك الشخصيات أن
تأخذ الوقت الذي تحتاجه حتي تتبلور شخصياتها لنا في الفيلم، ومنحت كل شخصية
الوقت لكي تحكي وتتواجد وتكبر وتتسامق في نظرنا في كل مرة تظهر فيها في
الفيلم.. وكأن الكاميرا من فرط تعلقها بهم لاتريد أن تفارقهم، فقد صارت هي
الاخري فردا من أبناء الحي وكأن ايمانويل قد عثرت في ذلك الحي العشوائي
المكتظ بسكانه من الصعايدة "مفروزة" ومعظمهم من الاميين البسطاء ملح الأرض.
عثرت وهي الفرنسية الغريبة هكذا علي جنتها، ولاتريد أن تفترق عنها ابدا،
فقد انجذبت نحو أهل الحي كما قالت لي ايمانويل في حواري معها لجريدة
"القاهرة"، بسبب حيويتهم الفائقة، وذكائهم وفطنتهم، وهذه الروح المصرية
الانسانية العميقة الأصيلة لاشك التي تسكنهم، بتسامحها والفتها وغبطتها،
حكمتها وتعاليمها وتاريخها، وقدرتها كذلك في أشد لحظات البؤس ألما وفقرا
وتعاسة ووحدة وشقاء علي أن تصنع سعادتها، وهي تضم كل المحتاجين و
الفقراءالمعذبين الهامشيين المنسيين علي رصيف الحياة، تضمهم إلي صدرها في
حضن كبير وتحنو عليهم، ثم تروح تواسيهم وتطبطب علي ظهورهم.. صعايدة مصر
يدافعون عن السينما الوثائقية! ولذلك بسبب عامل الوقت كما شرحت،باضافة إلي
عامل الانتماء أو الاستغراق الكلي من قبل ايمانويل مع شعب مفروزة،وتلاحمها
مع ذلك الشعب المصري المنسي الخفي في القاع، ويذكر احدهم في الفيلم انه لو
كانت مفروزة ظاهرة في الشارع، لكانت الحكومة اهتمت بأمرها، واغتسلت من
عارها، لكن مشكلة مفروزة انها كانت كانت "فضيحة" مخفىّة تحت الارض، وغير
ظاهرة للاجانب والسىّاح ولذلك لم يسأل أحد عنها أو يهتم بمشاكل سكانها
وحياتهم و مأساتهم في القاع.. ولولا أن ايمانويل انطلاقا من هذا العامل "
الانتماء المتبادل" اقبلت علي هؤلاء الناس وأحبتهم وجعلتهم يشعرون بذلك
التلاحم والحب، ماكانوا يقينا رحبوا بها وفتحوا لها بيوتهم كما يظهر ذلك
جليا في الفيلم، حتي صارت حكايتها حكاية في مفروزة، حكاية البنت الاجنبية
الفرنساوية ايمانويل التي تصور هناك،وماكانواكذلك تبنوها وغدقوا عليها من
كرمهم المصري الأصيل وحموها، واعتبروها اختا لهم ودافعوا عنها وعن فيلمها
التسجيلي بشراسة ضد بعض أبناء الحي الذين لم يرحبوا اطلاقا بوجود كاميرا
تصور حياتهم وفضيحتهم لأنه كما شرحت لهم ايمانويل علي مايبدو سيكون فيلمها
ضد الهراء الذي تروج له الصحافة والافلام التي تستغل حياتهم في التزوير
وصنع الافلام الاباحية الجنسية الفاضحة وهو لانه فيلم تسجيلي، كما شرحت لهم
ايمانويل و فهموا القصد منه واطمأنوا لها، سيصور علي عكس الافلام الروائية،
سيصور فقط حياتهم الحقيقية كما هي، ولن يكون القصد منه ابدا الدعاية
المغرضة ضد مصر، ونشر غسيلها الوسخ علي السطوح في الخارج. والجميل في فيلم
" مفروزة" ضمن اشياء اخري جميلة بل رائعة ونحن نحكي هنا في الواقع عن شريط
نعتبره " ملحمة" سينمائية بالنظر إلي طوله وقيمته مثل الملاحم الانسانية
الكبري للحكواتية الكبارفي السينما من أمثال الهولندي جوريس ايفانز، انه
يجعل صعايدة مصر الاميين البسطاء يدافعون عن حق السينما الوثائقية- ولايصح
ابدا أن نطلق عليها سينما تسجيلية لانها تكشف في النهاية عن " نظرة "
و"موقف" و"وجهة نظر" وخلف كل كاميرا روائية كانت أم تسجيلية مخرج وعقل مفكر
يختار- حقها في الوجود، ويجعلهم يدافعون عنها في الفيلم ويشتبكون من أجلها
في معارك وخناقات والجميل ايضا في فيلم " مفروزة" الذي استمتعت به استمتاعا
لاحد له خلال تلك الليلة التي تخللتها استراحات لم تكن استراحات غذائية
فحسب لقضم لقمة أو لقمتين في العشاء والافطار المذكورين، بل تخللتها كذلك
استراحات شعرية قامت خلالها مخرجة الفيلم ومنتجه بإلقاء بعض قصائد الشعر
للشاعر الفرنسي الكبير روبير ديزنووبعض قصائد مولانا جلال الدين الرومي..
الجميل في الفيلم الذي حصل علي جائزة كبري في مهرجان لوكارنو السينمائي
العالمي كما نال عدة جوائز يستحقها من عدة مهرجانات، انه يقدم ويعرض لنماذج
انسانية باهرة، تتجاوز حدود جغرافية المكان اي مفروزة في مصر، ويجعلها
ببساطتها وحكمتها وانسانيتها وقدرتها علي مقاومة اعتي واشد ظروف الحياة
قسوة، يجعلها تنطلق في سماء السينما العالمية، وتصبح شخصيات " انسانية" فقط
صالحة لكل الاماكن والعصور وخارج نطاق مكان أو زمان محدد، مثل تلك الشخصيات
التي ابتدعها الفرنسي اميل زولا في رواياته أو بلزاك أوالروسي تشيكوف أو
الايرلندي صاموئيل بيكيت، كما في شخصية السيدة ربة البيت الأم الفلاحة
الامية التي ترفض اي إحسان من أحد ولاتقبل باية هدية حتي في المواسم
والاعياد، ويجعلها تتسامق بـ " كرامتها " الانسانية.. الكفاح من أجل نقطة
ضوء كما يعلّّي الفيلم في ذات الوقت من قيمة الحرية كما في نموذج شخصية حسن
السطوحي الذي يبهرنا في الفيلم بشخصيته وحزنه وجنونه وقلقه و تمرده وثورته
علي كل سلطة.. وربما كانت شخصية "أبوحسني" الفلاح الصعيدي الذي يقطن "
الجبل " - هكذا كانوا يطلقون ايضا في الاسكندرية علي أهل المفروزة" - هذا
الانسان الذي لاييأس من نزح الماء من حجرته ولايكف ابدا، والماء يطفح من
جديد في كل مرة ويحاصره وينكد عليه عيشته في وحدته فيقوم بجلب الرمال
والاسمنت، ويحاول أن يقاوم زحف الماء وتغطيته بالتراب والاحجار ويفشل في كل
مرة.. ربما كانت شخصية (أبوحسني) هذه هي الشخصية المحورية الوتد في الفيلم،
فهي تظهر وتختفي في اجزائه لتحيل بفكرة ظهورها الي "العبث" الذي صارت اليه
طبيعة الحياة في الجبل مفروزة، والمحاولة الانسانية لتحييدها أو قهرها أو
تحجيمها ومقاومتها، وتذكرنا شخصيته بشخصية "سيزيف" كما في الأسطورة
اليونانية، كما انها تحيل ايضا إلي بعض شخصيات مسرح الامعقول عند يونيسكو
وصاموئيل بيكيت، فهي في قلب العتمة لكنها لاتقبل ابدا بالعتمة أو الحصارأو
السجن، وتكافح من أجل نقطة ضوء. كما تبرز أيضا في الفيلم شخصية محمد خطاب
إمام الجامع الذي تحول كما نكتشف في الجزء الخامس والاخير من الفيلم انه
كان طبالا في فرقة ثم هداه الله فتحول إلي واعظ وإمام للمسجد الوحيد في
الحي ويقول بعد أن يحكي قصة مقاومته لمحاولة الاسلاميين المتطرفين
الاستيلاء علي مسجد عرفة في مفروزة وفرض سيطرتهم ووصايتهم وسطوتهم
عليه،يقول إن الله عندما خلق الإنسان خلقه مع الأمل، ولذلك طالما بقي في
الانسان ذرة أمل، يجب الا ييأس ابدا.. غير أن الكفاح ومقاومة اليأس كما
يكشف الفيلم لايمكن أن تتم إلا في إطار تضامن وتعاضد وتقارب أهل مفروزة وحب
بعضهم للبعض الآخر، ويظهر ذلك واضحا وجليا في الفيلم من خلال الحديث عن
العلاقة بين المسلمين والمسيحيين التي لاتشوبها شائبة وتظهر بمظهر مشرف
وجميل، وتقديم نموذج (أبوشنب) المسلم تاجر الخردة في الحي الذي يحتفظ في
جيبه بصورة للقديس ماري جرجس (سيدنا الخضر عند المسلمين) ويتبارك به وبعد
أن اختبره في قدرته علي تحقيق المعجزات، حتي إن البعض من اصدقائه طالبوه
بأن يفسر لهم سر صحبته للمسيحيين.كما تظهر صور التضامن بين أهل الحي في
الفيلم من خلال اعلاء قيمة المشاركة وتوزيع كيلوات من الارز واللحم في
اكياس علي فقراء الحي والمحتاجين في العيد الكبير، كما يعلي الفيلم ايضا من
قيمة الصداقة ويظهر ذلك في الصداقة بين زوجة ابوشنب وصديقتها المسيحية،وبين
حسن سطوحي واقرانه في الفرقة التي تعزف وتغني في الافراح و يعلي الفيلم من
قيمة الوفاء والاخلاص في الحب من خلال تقديم الزوجين عادل وابنة عمته غادة
وكان عادل قد تزوج من ابنة عمته بعدماأدرك متأخرا انها تحبه وتموت في
دباديبه، غير أن ذلك لايمنعه بأن يرينا في الفيلم صورة جميلة بالالوان تكشف
عن فنان فطري طان رسمها لحبيبته خطيبته السابقة ويمتليء الفيلم هكذا بالقصص
والحكايات الانسانية الجميلة التي تكشف عن معدن وأصالة الشعب المصري وتلك
القيم والتعاليم التي ترسخت من خلال الذاكرة الجمعية المصرية علي مر العصور
ومنذ سبعة آلاف سنة في الدلتا والصعيد وكل ناحية من أنحاء القطر.. حيث تبرز
قيم الشهامة والجدعنة والرجولة والوقوف ضد الظلم وفي خندق الفقراء
والمعدمين، في حين تقدم لنا ( أم بسيوني ) في أحد أجزاء الفيلم درسا في
العبقرية المصرية المبتكرة الخلاقة التي تستطيع أن تصنع كما يقول المثل
البلدي «تصنع من الفسيخ شربات»، فهاهي أم بسيوني تنجح في صنع فرن بلدي لطهي
الخبز من الحجر والتراب والورق والخشب والاسمنت من الفضلات التي يلقي بها
إلي مقلب زبالة الحي أو الحي الذي تحول في "مفروزة" إلي مقلب زبالة ومستودع
قمامة علي بعد خطوات من ميناء الاسكندرية الصناعي.. إن القيمة الكبري في
هذا الفيلم تكمن في رأينا في انه يتحدث عن" بطولات" انسانية صغيرة في قلب
الحياة والوجود والمصير الانساني ذاته،ويكشف عن وجود نماذج تكافح وتناضل ضد
الموت والبؤس والفناء والدمار والعبث والعدم،ولايهم ابدا المكان الذي تقع
فيه تلك البطولات، في مفروزة في مصر أو سان باولو في البرازيل أو كلكوتا في
الهند. المهم انها تحدث الآن وفي الأماكن وكل الأوقات، مما يقوي فينا
الأمل، ويجعلنا نتأملها ونتمثلها، والمهم ثانيا أن "الكفاح" وحده كما تكشف
عنه محاولات " أبوحسني" لنزح الماء من حجرته أو بالأحري جحره، هو الذي يمنح
حياتنا قيمتها الأسمي، ويجعلها كما في فيلم " مفروزة" البديع محتملة،
وجديرة بأن تعاش.. تحية إلي " مفروزة" ومخرجته علي هذا الفيلم البديع.
جريدة القاهرة في
19/07/2011
جريدة القاهرة في
19/07/2011
عادل إمام مازال يتربع علي عرش
الكوميديا عن جدارة بينما الآخرون مجرد صور كربونية
للكوميديانات الأجانب
بقلم : مصطفي محرم
إذا ما تأملنا الآن حال المشهد الكوميدي في السينما المصرية فلن نجد
كوميديانات يملكون الأصالة والإبداع ونجد أن عادل إمام مازال يتربع علي عرش
الكوميديا عن جدارة، ونجد أن كل من يعقتدون أنهم كوميديانات هم للأسف
الشديد مجرد صور كربونية لبعض الممثلين الأجانب من نجوم الكوميديا، فنجد
مثلا المضحك محمد سعد علي سبيل المثال ما هو إلا صورة ممسوخة من الممثل
الأمريكي جيري لويس، ونجد أن أحمد حلمي الذي يثني عليه البعض ما هو إلا
صورة كربونية للممثل الانجليزي العظيم بيتر سيلرز ومن الواضح أن أحمد حلمي
ذاكر أفلام هذا الممثل جيدا وحاول أن يتقمص أسلوبه ولكن الفارق كبير بين ما
كان يقدمه بيتر سيلرز من أفلام يقف خلفها مخرج كبير يفهم جيدا معني كوميديا
الموقف في السينما وهو بليك إدوارز وبين ما يقدمه أحمد حلمي من أفلام
منقولة معظمها من أفلام أجنبية لم يتم اقتباسها بشكل جيد، أما بالنسبة
لهاني رمزي وهو أكثرهم جدية في تناول الموضوعات الصعبة ومحاولة معالجتها
بشكل كوميدي ولكنه يقلد في أدائه النجم الأمريكي الشهير جيم كيري، لقد صعد
هؤلاء الممثلون سريعا علي سلم التقليد الذي اعطاهم جمهوراً لا يعي ما يدور
حوله ولا يتذكر ما شاهده من أفلام أجنبية أو لم يشاهدها فأعطاهم شهرة
زائفة. مستنقع الضحك ويختلف عادل إمام عن هذا الفصيل من المضحكين، أجل لقد
خرج من معطف عبدالمنعم مدبولي كما خرج عدد من الأدباء العظام في روس من
معطف جوجول لكن أصبح لكل واحد بعد ذلك شخصيته، وهذا هو ما حدث لعادل رغم
أنه في أفلامه الأولي التي قام ببطولتها وقع في مستنقع الضحك الرخيص ولكنه
حاول بعد ذلك الخروج منه. عادل كما سبق أن ذكرت بأنه ممثل يملك إلي جوار
موهبته الكوميدية القدرة علي أداء الأدوار التراجيدية، هو يملك ملامح وجه
تظلله مسحة من الحزن تماما مثل نجيب الريحاني ربما لا أعرف الكثير عن
البيئة التي تربي فيها نجيب الريحاني ولكني أعرف الكثير عن البيئة التي
تربي فيها عادل إمام وأعرف المدارس التي تعلم فيها، وربما كانت هذه الحياة
القاسية التي عاشها في طفولته وصباه لها جانب من هذه المسحة الحزينة، وربما
لا تكون مسحة حزينة علي وجه التدقيق ربما كانت نوعا من المرارة والسخرية،
ولذلك قررت أن تكون شخصية فهمي عبدالهادي في فيلم «حتي لا يطير الدخان»
وليدة هذه الصفات والمكونات. وقد استغرقت كتابة السيناريو ما يقرب من العام
ثم أرسلنا السيناريو إلي عادل إمام، وأصبحت مهمة أحمد يحيي هي الاتصال به
وسؤاله هل قرأ السيناريو أم لم يقرأه فكانت الإجابة دائما أنه لم يقرأه بعد
وأنه ليس في «المود»، ظل الأمر هكذا معلقا ما يقرب من العام حتي جاءني أحمد
يحيي وقد فاض به وأخبرني بأنه سوف يسند بطولة الفيلم إلي نور الشريف وأنه
اتفق مع نبيلة عبيد علي أن تقوم بدور البطولة رغم صغر الدور ولكن هذا يكفي
بالنسبة للتوزيع الداخلي والخارجي، وأرسل السيناريو بالفعل إلي نور الشريف
وحدد معه ميعادا لنذهب إليه لتلقي الرد منه والمناقشة. ذهبت أنا وأحمد يحيي
في الموعد المحدد إلي بيت نور الشريف القديم في منطقة المهندسين في شقة
صغيرة من ثلاث حجرات وصالة قام بتحويلها بعد ذلك إلي مكتب بعد انتقاله إلي
شقة كبيرة قريبة من هذه الشقة، أخبر نور الشريف وهو كظيم فلاحظت أنه يحاول
أن يخفي ضيفه واستنكاره وهو يتحدث معنا بأنه يرفض العمل في هذا الفيلم وذلك
لأن هذا السيناريو مكتوب خصيصا لعادل إمام، ولم أجد بالطبع ما أقوله فقد
اسقط في يدي ولكن الذي أثار دهشتي وحيرتي هل نور الشريف بهذا الذكاء
والقدرة علي الإدراك، بحيث إنه إذا قرأ أي سيناريو يستطيع أن يدرك لمن كتب
هذا السيناريو؟ أم أن لا شيء من الممكن أن يخفيه المرء في هذا الوسط
السينمائي اللعين؟ بعد يومين من رفض نور الشريف جاءني أحمد يحيي وأخبرني
بأن عادل إمام عاد واتصل به وحدد لنا موعدا معه لمناقشة السيناريو، فذهبنا
في الميعاد المحدد إلي بيت عادل إمام القديم في المهندسين، وجلسنا نتحدث في
أشياء كثيرة إلا السيناريو وكانت هناك صناديق من الكرتون موضوعة كنت أنظر
إليها من حين لآخر وربما لاحظ عادل إمام ذلك أو أنه وجد أنها فرصة ليحدثني
عن هذه الصناديق وأنها ليست صناديق زجاجات ويسكي كما قد أظن ولكنها صناديق
تحتوي أجزاء «دائرة المعارف البريطانية» ولم أحاول أن اتحدث معه عنها حتي
لا أكتشف أنه يجهل حتي كيفية استخدامها وأنا دائما أحاول أن أكون حريصا في
حديثي مع أي شخص أشك في أنه يعرف شيئا عن الموضوع الذي نتحدث فيه وأستدرجه
في الكلام حتي أعلم مدي علمه أو أسأله مباشرة هل يعلم شيئا عن هذا الموضوع،
ومن خلال أحاديث عادل إمام في التليفزيون عن السياسة والثقافة كنت أشعر
بالحرج له وذلك بدافع حبي له وإعجابي الشديد به كممثل ولكن قيمته تقل كثيرا
إذا ما تحدث في الثقافة وفي السياسة رغم أن مكتبه في عمارة «بنت السلطان»
يحتوي علي مكتبة ضخمة ولكني أخشي أن تكون هذه المكتبة فقط من باب الوجاهة
كما لاحظت في حجرة مكتب الممثلة المبدعة إلهام شاهين فقد امتلأت أرفف
المكتبة بنسخ من كتب التراث الإسلامي في التاريخ والفلسفة والدين وذلك
لأنها مجلدة تجليدا أنيقا من الطبعات اللبنانية، وعندما أردنا الحديث عن
السيناريو سألنا عادل إمام ماذا يرتدي في الفيلم واستقر بنا الأمر إلي أن
يرتدي جينز علي أساس أنه شاب فقير وأعطاه له صديقه الثري الذي كان يعطف
عليه، وأبدي عادل إمام قلقه من النهاية وتعاطفت معه في هذا القلق فإن
النجوم يخشون أن تكون نهايتهم في أي فيلم هي الموت فإن ذلك أيضا يصيب
المتفرج بالاحباط، وأذكر أنني كنت بالفعل أحزن كثيرا وأشعر بالاحباط كلما
شاهدت فيلما لأحد النجوم الأجانب الذين كنت أعشقهم ويموت في نهاية الفيلم،
ولكن النهاية في فيلم «حتي لا يطير الدخان» كانت حتمية وذات دلالة وتغييرها
يقلل كثيرا من قيمة الفيلم، وحاول أحمد يحيي أن يطمئنه من هذه الناحية
فأخبره بأنني سوف أبحث له عن نهاية أخري، ولم أحاول أن أعترض حتي لا نفقد
هذا النجم الكبير خاصة وليس أمامنا في الواقع من يصلح لأداء هذا الدور سواه
وكان وجوده بالنسبة لي علي درجة كبيرة من الأهمية فإنني أريد أن اقدمه بشكل
يختلف عما يقوم به في بقية الأفلام. قبل بدء التصوير بيومين فوجئت بجرجس
فوزي وقد أتي إلي مكتبي ليخبرني بأن نبيلة عبيد تعتذر عن العمل في هذا
الفيلم، وعندما سألته عن السبب أخبرني بأنها ليست مرتاحة للقيام بهذا
الدور، وأدركت أن هناك من تآمر فإن السيناريو عند نبيلة منذ شهور ولو كان
هناك ما يعيب الدور في شيء فقد تعودت أن تخبرني وكنت سأقوم بعمل ما يرضيها،
وسألت جرجس هل هذا قرار حاسم فأخبرني بأنه قرار حاسم، فأدركت أن جرجس نفسه
وراء هذا الموضوع وأنه يريدها في الفيلم من إنتاجه أو هو شريك فيه وعرفت
فيما بعد أنه كان يريدها في فيلم «قهوة المواردي» من إخراج هشام أبوالنصر
وياليتها ما ارتكبت هذه الحماقة فإن الفارق كبير بينه وبين فيلم «حتي لا
يطير الدخان»، وقمت علي الفور بالاتصال بأحمد يحيي الذي لم يكن يعلم ما حدث
فأتي إلي هادئ البال وأخبرني بأنه قبل أن يأتي إلىّ أخذ نسخة من السيناريو
وذهب إلي النجمة سهير رمزي واتفق معها علي كل شيء فتحمست للعمل في هذا
الفيلم، وبالفعل لم أجد أن هناك فرقا بين نبيلة عبيد وبين سهير رمزي في هذا
الفيلم فيكفي أن يكون البطل هو عادل إمام والفيلم في النهاية سوف ينسب إلي
عادل إمام مهما كانت قيمة العاملين فيه. كنت أذهب من حين لآخر إلي
الاستوديو للزيارة والحديث مع عادل إمام الذي كان يستعجل النهاية الجديدة
فأخبرته بأنني سوف أكتب له أكثر من نهاية وعليه أن يختار النهاية التي
تريحه، وأذكر أنني في إحدي زياراتي فوجئت بالشقيقين محمد وأحمد السبكي وهما
يقومان بالزيارة فهما من أصدقاء أحمد يحيي ومن عشاق عادل إمام. أحضر
الشقيقان معهما طواجن اللحوم الفاخرة خاصة العكاوي وكميات ضخمة من البصل
المخلل وفي وقت الاستراحة جلسنا جميعا مع كل العاملين في الفيلم وتناولنا
هذا الطعام الفاخر، وأذكر أن الابن الأصغر لمدير التصوير الشهير الحاج وحيد
فريد كان يعمل مساعدا في الفيلم لمدير التصوير عصام فريد وكان قد نجح في
معهد السينما وحصل علي درجة البكالريوس بامتياز فأقام عادل إمام له احتفالا
وفرحنا به لكن للأسف لم يمهله القدر بعد ذلك فقد صعقه التيار الكهربائي
أثناء عملهم في الفيلم تاركا لنا الحزن الرهيب يعتصر قلوبنا، وتوقف التصوير
عدة أيام حزنا عليه. اختار عادل إمام نفس النهاية التي كانت مكتوبة في
السيناريو ووجد أن موته هو الأنسب وهو الذي يحمل معني تراجيديا للفيلم
فأدركت مدي ذكائه ومدي فهمه للدراما. عندما انتهي إعداد الفيلم للعرض قرر
أحمد يحيي أن يقيم حفلة عرض خاص، أذكر أننا ذهبنا إلي دار «روزاليوسف»
وقمنا بدعوة كبار كتاب الدار وقمنا بزيارة الصديق مفيد فوزي في مكتبه، حيث
رحب بنا ترحيبا كبيرا وأهداني كتابه الجديد عن عبدالحليم حافظ وكتب لي كلمة
رقيقة، وقابلنا حسن فؤاد ولويس جريس وكذلك الصديق رءوف توفيق والصديق صبري
موسي وأبدوا سعادتهم بدعوتنا لهم، وتولي أحمد يحيي بعد ذلك دعوة معظم
الكتاب والنقاد في بقية دور الصحف. كانت حفلة العرض الخاص أشبه بمظاهرة
ثقافية ضمت معظم البارزين من كتاب مصر وفنانيها ولم نحاول أن ندعو أي وزير
كما يحرص غيرنا علي ذلك، حيث لا يهمنا رأي أي واحد منهم، وحظي الفيلم
بإعجاب الجميع ماعدا- لدهشتي - الصديق عاطف الطيب والصديق وحيد حامد، خرج
الاثنان من قاعة العرض وقد اصفّر وجه كل منهما وبدت الغيرة واضحة علي وجه
كل منهما وفيما يقولانه عن الفيلم. كان حلم عاطف الطيب دائما أن يعمل عادل
إمام في أحد أفلامه أما وحيد حامد فلم يكن حتي هذه اللحظة قد حظي أي فيلم
من الأفلام التي كتبها لعادل إمام بمثل هذا الاهتمام. وفوجئت بمن يلف
ذراعيه علي ظهري وعندما التفت إليه فإذا به يوسف إدريس الذي كانت هناك جفوة
بيني وبينه منذ مشكلة فيلم «حادثة شرف» التي وصلت إلي القضاء وعانقني الرجل
وطلب مني أن أنسي ما فات ونبدأ صفحة جديدة وأخبرني بأنني كتبت فيلما عظيما
بل أعظم بكثير من قصة إحسان عبدالقدوس فقد كنت أعرف أنه لا يحب إحسان
عبدالقدوس ويشعر بالغيرة لأن منتجي السينما يشترون كل قصص وروايات إحسان
ولا يشترون منه إلا القليل، كان إحسان عبدالقدوس في تلك الليلة في أسعد
لحظات حياته وعانقني بشدة رغم ما قمت به من تغييرات كثيرة وعندما سألت
الصديقة إسعاد يونس عن رأيها في الفيلم قالت في لهجة صادقة دون مجاملة «وهو
فيه بعد كده»؟ وأخبرني صلاح جاهين عندما رأيته يقف بمفرده صامتا عن رأيه
فأخبرني بأنه من شدة انبهاره فإنه يقف كما رأيته صامتا. امتلأت الصحف
والمجلات بآيات الإعجاب بالفيلم خاصة مجلة «صباح الخير» التي من كان يقرأ
عددها الذي صدر بعد عرض الفيلم وكأنه صدر من أجل الدعاية له. ومن الأشياء
المضحكة أنه في ليلة العرض الأول للفيلم في دار سينما ميامي ولكي يحصل
مديرها في ذلك الوقت وهو حسين عرابي علي مبلغ من المال من أحمد يحيي فإنه
أحضر كما تعود مصحفا ووضع يده عليه وبدأ يتلو القسم الذي يتلوه أمام كل
منتج فيلم جديد يعرض عنده وهذا القسم يدور حول تفانيه واخلاصه في رعاية
الفيلم وكأنه هو المسئول عن نجاح وفشل أي فيلم يتم عرضه في دار سينما ميامي
في الوقت الذي كنت أحاول أن أكتم فيه شدة ضحكي فقد تكرر أمامي هذا المشهد
عدة مرات. لاقي الفيلم نجاحا كبيرا وتقديرا من كل من شاهده ومازال إلي الآن
يلقي هذا التقدير كلما جري عرضه في إحدي القنوات التليفزيونية ويعتبره
البعض أفضل أفلام عادل إمام علي الاطلاق. تم ترشيح الفيلم في مهرجانين
دوليين فجري عرضه في مهرجان قرطاج في تونس وحمل الجمهور التونسي عادل إمام
علي الاكتاف وفي مهرجان كارلوفيفاري في تشيكو سلوفاكيا. ذهبت أنا وأحمد
يحيي وبعض النقاد إلي مهرجان كارلوفيفاري الدولي، كانت هذه المرة الأولي
التي أذهب فيها إلي تشيكو سلوفاكيا، ذهبنا عن طريق ألمانيا علي أن تهبط
الطائرة في مطار فرانكفورت ومن هناك نركب طائرة أخري إلي تشيكو سلوفاكيا.
عندما وصلنا إلي مطار فرانكفورت فوجئت بفخامته ووجدته أكثر روعة من مطار
شارل ديجول في فرنسا، وعندما ذهبنا لحجز الأماكن عن الطائرة المتجهة إلي
براغ فوجئنا علي الطائرة قد طارت فقد تأخرنا علي موعدنا، وأدركنا خطورة
الموقف فإن افتتاح المهرجان سيكون الليلة وإذا لم نذهب إلي براغ ومن براغ
إلي كارلوفيفاري فلن نحضر حفل الافتتاح ومن ثم سوف نقضي الليلة في المطار،
وطلب من أحمد يحيي أن نختار مقعدين لائقين لننام عليهما حتي الصباح وأخبرته
بأنني لا استطيع أن أنام بهذه الطريقة وكانت معنا زجاجة من الكونياك
الفرنسي الفاخر فأخبرته بأن نشرب هذه الزجاجة حتي نفقد الوعي وننعم بالدفء
ونروح في النوم دون أن نشعر بأي شيء وأخذنا نضحك علي وضعنا، وفي النهاية
اقترحت أن نذهب إلي مدير مصر للطيران في فرانكفورت وقابلنا الرجل واستمع
إلي مشكلتنا، حيث أخبرته بأن المشكلة ليست مشكلتنا ولكنها مشكلة مصر
الطيران التي تأخرت عن موعدها وعندما عرف الرجل أن أحمد يحيي مخرج سينمائي
وأنه سيناريست اهتم بنا ووعدنا أنه سوف يحاول أن يجد لنا حلا وطلب منا أن
ننتظر ساعة، أخذنا نتجول في أرجاء السوق الحرة في المطار نتأمل الأشياء
التي نعجز عن شرائها ونشتري ما نقدر عليه أخبرت أحمد يحيي بأنني حصلت علي
تأشيرة ألمانيا وبإمكاني أن أخرج من المطار وأذهب إلي فندق وأعيش حياتي إلي
اليوم التالي ولكني بالطبع لا يمكن أن أتركه هكذا حبيسا في المطار، وبعد
ساعة نادوا علينا في ميكروفون المطار فذهبنا إلي مكتب مصر للطيران، حيث
وجدنا المدير في انتظارنا وأخبرنا بأننا سوف نبيت في فندق هيلتون المطار
وأعطانا بطاقة من أجل تناول العشاء. في الصباح ذهبنا إلي المطار وحجزنا
مكانين في الطائرة المتجهة إلي براغ وذهبنا إلي صالة المغادرين فإذا بها
مكان متواضع جلس فيه مجموعة من المسافرين الذين يبدو عليهم الاكتئاب وبؤس
المظهر فابتسم أحمد يحيي وأخبرني بأنهم ضحايا الشيوعية، الغريب أن الانتقال
من مكان إلي آخر في هذا المطار الفاخر هو بمثابة الانتقال من الرأسمالية
إلي الشيوعية عندما هبطت بنا الطائرة الصغيرة في مطار براغ لم نجد أحدا في
استقبالنا في المطار أو ربما لم نستطع أن نتعرف عليهم أو الوصول إلي مكانهم
وكان من الواجب أن نذهب إلي استعلامات المطار ونطلب من المختص أو المختصة
بالإعلام عن وصولنا لكن فاتنا هذا الأمر، وغادرنا المطار ونصحنا بعض
الأفراد ممن يعرفون الانجليزية بأن نأخذ المترو ونذهب حتي مدينة فالنسيا
التي استغربت اسمها فأنا أعرف أن مدينة فالنسيا في إسبانيا ولم أكن أعرف أن
هناك مدينة أخري بنفس الاسم في تشكيو سلوفاكيا. أخذنا المترو وأذكر أنه كان
مزدحما لأننا كنا تقريبا في ساعة الذروة حتي وصل بنا إلي مدينة فالينسيا
وخرجنا من باطن الأرض ونحن نحمل حقائبنا واكياس مشترياتنا، وسألنا البعض عن
كيفية الوصول إلي كارلو فيفاري فأخبرونا بأن علينا أن نستقل أتوبيس وذهبنا
إلي محطة الأتوبيس فأخبرونا بأن الأتوبيس سوف يقوم بعد ساعتين. كانت محطة
الأتوبيس تواجه أحد البارات فلاحظنا شيئا أثار ضحكي وضحك أحمد يحيي كان
الفرد يدخل البار نشيطا رافع الرأس ثم بعد نصف الساعة يخرج زاحفا علي قدميه
ويديه، فأمضينا معظم الوقت نتسلي بمشاهدة هذه المناظر المضحكة إلي أن جاء
موعد ركوب الأتوبيس فركبنا وقد تعرفنا علي بعض طلبة معهد السينما التشكيي
المعروف باسم «فامو» وكانوا من الحبشة وأخبرونا أنهم ذاهبون إلي المهرجان
فشعرنا بالراحة والاطمئنان. استغرقت المسافة حوالي ساعة ونصف الساعة إلي أن
بدأنا ندخل أطراف مدينة كارلو فيفاري، حيث بدأنا نري تحفا من روعة الطبيعة
الخضراء واحسسنا أننا ندلف إلي الجنة. كلما مشيت في أرجاء مدينة كارلو
فيفاري الصغيرة كلما وجدت نفسي تسير وسط حدائق جميلة تفيض بالزهور البديعة
وينابيع الحياة الجوفية المعدنية المتنوعة الصفات التي هي شفاء لكثير من
الأمراض بل إنك تجد الساخن من تلك الينابيع ويشتري السواح بعض الأوعية
الخزفية الجميلة من أجل ملئها من هذه المياه وشربها وهم يسيرون في أرجاء
المدينة، وهناك مصحة عالمية للاستشفاء من أوجاع كثيرة منها القضاء علي
السمنة والاحتفاظ بالرشاقة. ويسود المدينة الهدوء والحب في كل جانب لا أحد
يضايق العشاق بل يتركونهم ينعمون بالأحضان والقبلات وفي الليل يمارسون ما
يشاء لهم أو تدفعهم إلي فعله عواطفهم وذلك في حدائق المدينة. ويستطيع المرء
أن يحصل علي ما يجده بأسعار مرتفعة في البلاد الرأسمالية رخيصا في البلاد
الشيوعية وبشكل متوفر خاصة في البلاد التي تطورت كثيرا في صناعاتها
وفنونها، وكنا نقوم بالطبع بإبدال الدولارات في السوق السوداء المنتشرة في
مثل هذه البلاد وكم تعرضنا للغش أو السرقة فكانت هذه الأحداث مثار الضحك
بيننا وكان من يضحك منا علي الآخر يتعرض لنفس ما تعرض له الآخر فنضحك علي
ذلك. نسيت أن أخبركم بشيء مهم وهو أننا عندما هبطت بنا الطائرة في مطار
براغ اكتشف أحمد يحيي ضياع حقيبة ثيابه ولم يعد يملك إلا البنطلون والقميص
الخفيف. في حين أن الجو كان باردا إلي حد ما، وعلي الفور قمنا بمقابلة
المسئول عن ضياع الحقائب وأخبرناه بمواصفات الحقيبة فوعدنا بأننا سوف نحصل
عليها في اليوم التالي في المطار، وبالفعل هذا ما حدث. كان الوفد المصري في
مهرجان كارلو فيفاري يتكون من الدكتور مصطفي محمد علي وكان في ذلك الوقت
عميدا لمعهد السينما وأيضا رئيسا للمركز القومي للسينما، وكان متزوجا حديثا
فلم يكن قد مضي علي زواجه إلا يوم قبل السفر ولذلك صحب معه زوجته لقضاء
أيام من شهر العسل، وكان معنا من الصحفيين الذين يعملون بالنقد السينمائي
كل من أحمد ماهر وأحمد صالح وعبدالمنعم سعد وماري غضبان وايريس نظمي وفوزي
سليمان. وقبل أن نأتي إلي المهرجان كان أحد المخرجين الذي حضر مهرجانا
للتليفزيون في نفس البلدة وأشاع عند عودته بأن فيلم «حتي لا يطير الدخان»
لن يعرض في المسابقة الرسمية وإنما سوف يعرض في القسم الإعلامي بعيدا عن
المنافسة، وعندما وصلنا إلي مقر المهرجان سألنا لنتحقق مما قاله هذا المخرج
فإذا بنا نكتشف أنه كاذب وحاقد وأن الفيلم قد دخل المسابقة الرسمية، ووصفنا
هذا المخرج بأنه اشبه بالاراجوز مثل فيلمه الذي بهذا الاسم. كانت أيام
المهرجان أياما مبهجة وقابلنا فيها بعض أصدقائنا من المخرجين العرب وكان
رشيد خورشيد رئيس مهرجان قرطاج السابق الذي اقابله دائما في كل مهرجان أذهب
إليه يسير في استقبال الفندق مشيته التي تتيه زهوا ويوزع الهدايا علي من
يعملن في الفندق من الفتيات الجميلات الساحرات أو ممن يعملن في إدارة
المهرجان، ولذلك كان يقابل بمعاملة خاصة منهن وتذكرت نصيحة صلاح أبوسيف بأن
يأخذ المرء معه بعض الهدايا الشرقية عندما يذهب إلي أي مهرجان خاصة في دول
أوروبا الشرقية فتنفتح له الأبواب. كنت كل يوم أنعم بمشاهدة أربعة أفلام من
دول مختلفة واتجاهات مختلفة وتقنية مختلفة وكنت حريصا علي مشاهدة الأفلام
ذات الشهرة وكانت تقتضي مني في بعض الأحيان أن استيقظ في السابعة صباحا
وأركب أتوبيس المهرجان لأن الفيلم يعرض في مدينة قريبة، فشاهدت فيلم «كارمن»
للمخرج الإسباني كارلوس سوار واعجبني كثيراً الشكل الذي قدم به هذه الرواية
الشهيرة للكاتب الفرنسي ميرميه حيث عرض الرواية من داخل رواية أخري عن
العاملين في تصوير رواية كارمن، وشاهدت أيضا الفيلم الأمريكي «فلاش دانس»
للمخرج الشهير الذي أعشقه أدريان لين ولكن للأسف خاب أملي فيه في هذا
الفيلم الذي وجدت أنه نسخة باهتة من فيلم «شهرة» الذي أخرجه العبقري ألان
باركر، وكانت أسوأ الأفلام في رأيي هي الأفلام السوفييتية ولكن هناك من
أخبرني بأن أحدها هو الذي سوف يفوز بالجائزة الكبري وذلك دعما للنظام
السوفييتي الذي كان يسيطر في ذلك الوقت علي كل دول أوروبا الشرقية ويتحكم
في سياستها حتي تقوض علي رءوس قياداته في عهد الرئيس الأمريكي رولاند
ريجان. كنا في الليل بعد انتهاء عرض الأفلام دائما مدعوين إلي حفل استقبال
أو حفل عشاء من أحد وفود المهرجان، حيث يحضرها سفير الدولة ولم تفعل مصر
مثل هذا قط في كل المهرجانات التي ذهبت إليها وهي تقريبا معظم مهرجانات
العالم، ثم نذهب بعد ذلك لقضاء بقية السهرة في ملهي الفندق الليلي، حيث
يبدأ الرقص والتعارف بين وفود المهرجان وتحدث الغراميات التي تنتهي بانتهاء
المهرجان وربما تستمر بعده، كان كل شيء منظما وكان كل واحد لديه بطاقات
الطعام والشراب وكل ما يختص بالمهرجان من برامج الأفلام والسياحات
والحفلات. ولاحظت وجود عدد كبير من النساء يجلسن مع بعض ولسن من سكان
الفندق ولكن يأتين إليه كل ليلة ويتشابهن في الملامح فأخبرني صديق من
الأردن يقوم بالدراسة هناك في معهد السينما الشهير والمعروف باسم «فامو»
وهو بالطبع اختصار لعدة كلمات فأخبرني هذا الصديق بأن أولئك النسوة هن من
الغجر وأن تشيكوسلوفاكيا يعيش فيها عدد كبير من غجر أوروبا، ولم تكن أولئك
النسوة يرتدين ثياب الغجر ولكن يرتدين نفس الثياب التي يرتديها نساء
التشيك، لكن يجلسن وينظرن إلي الجميع في توجس وحذر، وتذكرت بالطبع الفيلم
اليوغسلافي الشهير الذي حصل مخرجه علي إحدي جوائز مهرجان كان الكبري «قابلت
غجرا سعداء» ولكن مسحة الحزن التي كنت أراها علي وجوههن جعلتني لا أصدق ما
شاهدته في الفيلم. كان لا يزعجني في أثناء مشاهدة الأفلام إلا صوت شخير
أحمد ماهر وماري غضبان وبعد انتهاء العرض أيقظتها فكانت ماري غضبان تسألني
عن رأيي في الفيلم فأخبرها برأيي بالتفصيل وكنت أحيانا أقرأ هذا الرأي في
المجلة التي تعمل بها بامضائها، ولكن الغريب أنني لاحظت أن ماري غضبان
شخصية معروفة تقريبا في معظم المهرجانات التي سافرت إليها وذلك علي مستوي
الوفود والمسئولين عن هذه المهرجانات وهي تجيد الفرنسية والانجليزية
والإيطالية والإسبانية، ومن المعروفين أيضا في المهرجانان الدولية فوزي
سليمان وعلاقاته قوية بالمسئولين في كثير من المهرجانات وكذلك بأعضاء
الوفود من مخرجين وممثلين وعندما كنت مسئولا عن مهرجان الإسكندرية كان يقوم
بعملية التعريف بيني وبين أعضاء الوفود، ويجيد فوزي سليمان هو الآخر
الانجليزية والفرنسية والألمانية وهو من عشاق السينما والسفر إلي
المهرجانات ويكتب دائما عن معرفة وثيقة وليس من النوع الذي يعتمد علي
النشرات الصحفية للمهرجان. مضينا عشرة أيام في بهجة ومتعة وسرور يحيط بنا
الجمال من كل جانب، جمال الطبيعة وجمال النساء من مختلف أنحاء الدنيا، وفي
نهاية المهرجان تلقيت دعوة لقضاء بضعة أيام في مدينة براغ أنا والدكتور
مصطفي محمد علي وزوجته بالطبع وفوزي سليمان، وسافر أحمد يحيي إلي باريس مع
صديقة مصرية أتت في الأيام الأخيرة للمهرجان، حيث حضرت عرض فيلم «حتي لا
يطير الدخان» وأذكر أن السفير المصري أتي في الصباح إلي كارلو فيفاري علي
عجل ولم أكن أعرف اسمه وأخبرني أحمد يحيي بعد ذلك بأنه عمرو موسي ولكن لا
أتذكر أنه هو ولا أظن أن عمرو موسي كان سفيرا في تشيكوسلوفاكيا، المهم أنه
أقام حفلا صغيرا وحضر العرض الذي نال استحسان الحاضرين الذين ملأوا القاعة
عن آخرها ولم يغادر أي واحد القاعة أثناء عرض الفيلم كما كان يحدث في بعض
الأفلام وصفقوا كثيرا بعد انتهاء العرض. وبمناسبة صديقة أحمد يحيي أنه كان
بالفعل ينوي الزواج بها، فكانت شخصية مرحة ظريفة ومن عائلة كبيرة مشهورة،
كنت أعتقد أنهما سوف يتزوجان بعد عودتهما من باريس، ولكن بعد عودتهما
انقطعت العلاقة بينهما ولم أحاول أن أعلم السبب، قبل تعرف أحمد يحيي علي
صديقته هذه ربما بحوالي شهرين، وذلك بعد أن انتهي من فيلم «حتي لا يطير
الدخان» جاءني وطلب مني أن أرشح له من تصلح زوجة له، ولا أعرف لماذا خطرت
علي بالي الممثلة آثار الحكيم رغم أنني لم أكن أحبها أو أحب التعامل معها،
ولكن كانت تتمتع بسمعة طيبة فلم أسمع عنها ما يشينها في هذا الوسط الذي
يعلم به ربنا، ووجدتها فتاة مثقفة وجمالها لا بأس به، رحب أحمد يحيي بهذا
الاقتراح وتحمس له، وفي ليلة العرض الخاص وجدتها بين المدعوين ورأيت اهتمام
أحمد بها وتعشمت خيرا وقلت لنفسي: «يا بخت من وفق رأسين في الحلال» وعندما
قابلته بعد ذلك سألته عما فعله معها هل عرض عليها الزواج؟ فإذا به يخبرني
بأنه بالفعل عرض عليها الزواج ولكنها رفضت، لم أسأله حتي الآن لماذا رفضت؟
ولكن قلت له إنها الخاسرة. بعد حوالي أربعة أشهر من رجوعنا من مهرجان كارلو
فيفاري جاءني أحمد يحيي وطلب مني أن أكون موجودا بعد يومين في مسجد السيدة
نفسية لأنه سوف يتزوج ويريدني أن أكون شاهدا علي هذا الزواج، وتزوج أحمد
يحيي بابنة أحد المحامين ولكن هذا الزواج لم يستمر وتم الطلاق، ولكن كان
ثمرة هذا الزواج ابنه الوحيد عادل. لنعد إلي كارلو فيفاري، حيث غادرناها في
حسرة وأسف وذهبت أنا والدكتور مصطفي وزوجته وفوزي سليمان إلي براغ عاصمة
تشيكوسلوفاكيا في الطريق جمعتني سيارة أنا والدكتور مصطفي وزوجته، وجري
الحديث بيننا فإذا به يخبرني بأنه سوف يترك منصبه كرئيس للمركز القومي
للسينما ويحتفظ بمنصب عميد معهد السينما وأن وزير الثقافة فوضه في اختيار
من يخلفه في رئاسة المركز، وطلب مني أن أتولي هذا المنصب فاعتذرت له علي
الفور فسألني عن السبب فأخبرته بأنني أفضل دائما الفن والإبداع عن الإدارة
وأن عندي من الارتباطات الكثيرة وأنني لا استطيع أن أخذل أصدقائي من
المخرجين الذين يعملون معي. عندما وصلنا إلي براغ وطالعت مبانيها أدركت
أنها مدينة عريقة، ولكن الملامح الأساسية في معمارها كان يتشابه مع الملامح
الأساسية لمباني النمسا، بل عندما تجولت في أنحاء المدينة وجدت أحياء كاملة
تتشابه مع أحياء كثيرة في النمسا وكذلك في المجر إلي حد كبير، نزلنا في
فندق صغير ولكنه عريق فاخر الحجرات والأثاث. طلب الدكتور مصطفي تحديد زيارة
لمعهد السينما الشهير «فامو»، وفي الموعد المحدد جاءت سيارة واقلتنا إلي
المعهد، لم يكن المبني ضخما ولكنه أشبه بالمدارس القديمة، لم نقابل عميد
المعهد فقد كان مريضا وإن كنا قد رأيناه في المهرجان وقد بدا عليه الإعياء
وإنما قابلنا أحد المسئولين، تحدث معنا الرجل عن نظام الدراسة، كان مصطفي
يتحدث معه أحيانا بالروسية التي يجيدها ولكن الرجل كان يجيب بالانجليزية
التي أجيدها، وأخبرنا الرجل بأن الدراسة عملية من السنة الأولي ويتم اختيار
الطلبة وفقا لاختبارات تكشف عن مدي استعدادهم والاختبارات تحريرية وشفهية،
ويهتم المعهد بدراسة علم الجمال والآداب وبالطبع الشيوعية ولكن التركيز علي
مشاهدة النماذج الممتازة من الأفلام السينمائية وخاصة التي تحظي بالشهرة
لتميزها وتحليل عناصر هذه الأفلام تحليلا دقيقا، وليست هناك في المنهج مادة
للدراما فالدراما السينمائية تختلف مثلا عن دراما المسرح التي تعتمد علي
الحوار أما الدراما في السينما فإنها تعتمد علي الصورة وأن الكادر هو جزء
من الإبداع الدرامي السينمائي، أخبرته بأنني دائما أقول هذا وأسخر من الذين
يعتقدون أن السيناريو هو النص السينمائي وإنما النص السينمائي هو الفيلم
نفسه فوافقني الرجل علي ما أقول، وأخبرنا الرجل بأن التدريبات العملية تبدأ
منذ السنة الأولي وأن الطالب لا يمكن أن يتخرج في المعهد إلا بعد أن يقدم
فيلما روائيا طويلا في تخصصه وتذكرت أنني قد شاهدت فيلم التخرج للمخرجة
المبدعة كيتيلوفا في أحد عروض جمعية الفيلم بعنوان «الزنابق». أمضيت أياما
جميلة في براغ أزور المتاحف وأشاهد المعمار الجميل واشتري أعمال الموسيقار
ديفور جاك وغيره من عمالقة الموسيقي الكلاسيكية والتسجيلات الرائعة
للأوبرات الإيطالية بأسعار رخيصة للغاية حتي أنني عدت بمكتبة موسيقية لم
أكن أحلم بها، وكنت أيامها أدخن فاشتريت علبتين كبيرتين من السيجار الكوبي
الفاخر. عندما ذهبت إلي مطار براغ لركوب الطائرة التي سوف تقلني إلي مطار
فرانكفورت وجدتها طائرة صغيرة لا تتسع لأكثر من عشرين راكبا فشعرت بالهلع
الشديد ولكن ماذا أفعل فتوكلت علي الله وعندما حلقت بنا في السماء كانت
الرياح تتلاعب بها ولم أكف بالطبع عن قراءة القرآن إلي أن هبطت إلي مطار
فرانكفورت وأنا لا أصدق أنني وصلت سالما. وفي مطار فرانكفورت الفاخر قابلت
مدير محطة مصر للطيران الذي سبق وأن قابلته أنا وأحمد يحيي في رحلة الذهاب
واكرمنا بأن جعلنا نبيت ليلة في فندق هليتون المطار بعد تأخرنا عن موعد
الطائرة الذاهبة إلي براغ وزاد الرجل في اكرامي واجلسني في مقاعد الدرجة
الأولي وأوصي المضيفات بي خيرا. ومازلت كلما شاهدت فيلم «حتي لا يطير
الدخان» تعاودني كل هذه الذكريات فأشعر بالسعادة إلي جانب شعوري بالزهو
لأنني كتبت هذا الفيلم الذي يثير إعجاب كل من يشاهده مرات ومرات ويعتبره
البعض أفضل أفلام عادل إمام. وإلي اللقاء في الجزء الرابع قريبا
جريدة القاهرة في
19/07/2011 |