قبل سنوات، اكتسح الصالات الفيلم الأمريكى "تيتانيك" فيما يشبه الظاهرة
الفنية والتجارية، ربما لم توجد دولة فى العالم لم يتصدر فيها هذا الفيلم
قائمة الإيرادات، اكتسح "تيتانيك" ايضا جوائز الأوسكار فى حين أصبحت أغنية
الفيلم التى قدمتها سيلين ديون من ايقونات الأغنيات السينمائية على مرّ
العصور.
كان التصنيف الأشهر للفيلم أنه دراما رومانسية وهو أمر لا يمكن الجدل بشأنه
طويلا، ولكنى لاحظت بوضوح أن "تيتانيك" فى بنائه أكثر تركيبا من هذا
التصنيف البسيط، لقد كان فى الحقيقة مزيجا صعبا وناضجا بين نوعين من
الأفلام: الفيلم الرومانسى وفيلم الكوارث، والصعوبة هنا أن الرومانسية
تتطلب حسا شاعريا فى حين تتطلب أفلام الكوارث إيهاما لاحدود له بالواقعية
خصوصا أن الحكاية كلها قائمة على حادث حقيقى معروف التفاصيل هو غرق السفينة
الأضخم والأعظم حتى ساعة تاريخه، لكن "تيتانيك" حقق المعادلة الشاقة
بالتوازن بين الخط الرومانسى والواقعى، ثم بالتقاء الخطين فى "مورال"
الفيلم النهائى الذى يمكن صياغته على النحو التالى: "الموت يهزم تيتانيك
والحب يهزم الموت ". بدا كما لو أن هناك خلطة سحرية تجعل الوجبة شديدة
الدسامة ليصبح لدينا أيهاما قويا بواقعية المشاهد التى تطلبت تصميم سفينة
كاملة بنفس مواصفات السفينة الأصلية ، وليصبح لدينا على نفس المستوى إيهاما
قويا بأننا امام حدوتة رومانسية جديرة بكتب الحواديت لا بأفلام الغرقى
الذين يتنفسون تحت الماء.
أعتقد أن صنّاع الفيلم الأمريكى ""water
for elephant، أو كما عُرض فى الصالات المصرية بنفس الترجمة الحرفية "مياه
للأفيال"، كان لديهم هذا الطموح للمزج بين الواقعى والرومانسى مع شروع فى
كارثة منتظرة فى نهاية الأحداث، ليس هذا فقط بل إن هناك عناصر مشتركة فى
بناء الأحداث (ذلك الشاب القادم من المجهول ليخطف قلب امرأة رجل ثرى
وقاسى)، الفيلمان ينطلقان أيضا من حقيبة ذكريات شخص يتحدث عن رحلة وقصة حب،
فى "تيتانيك" تروى الأحداث امرأة عجوز، وفى "مياه للأفيال" يروى الحكاية
رجل عجوز، ولكن فيما عدا هذا الإطار الذى يتحرك فيه الفيلمان فإن "مياه
للأفيال" يفشل (رغم الإجتهاد) فى ضبط خطوطه بين واقعية كواليس عالم السيرك
الخشنة وبين رومانسية قصة حب تنمو وسط هذا العالم الموحش، وفى حين ينجح
الفيلم المأخوذ عن رواية من تأليف "سارة جروين" فى تجسيد حياة العاملين فى
سيرك متجول فى فترة الأزمة الإقتصادية الخانقة عام 1939 ، وينجح ببراعة فى
نقل رائحة المكان وهمومه ومشكلاته واضطراباته ، فإنه يقدم حكاية حب باهتة
أو عادية فى أفضل الأحوال لا تستطيع أن تحقق التوازن ولا يمكنها أن ترسخ فى
الذاكرة، وإذا كان "تيتانيك" ينتهى بصورة قوية فإن أضعف ما فى "مياه
للأفيال" نهايته ، وإذا كان هناك توازن بين عشاق فيلم "تيتانيك" وبين الفتى
الشرير الذى يهدد حبهم، فإنه لا وجود لهذا التوازن فى "مياه للأفيال" حيث
يبدو الرجل الثرى الشرير بأداء ممثل فذ مثل النمساوى كريستوفروالتز هو
الفيلم كله، وحيث يبدو العاشقان الأصغر سنا ريزويزرسبون وروبرت باتنسون
أقرب الى خيالات متحركة لأسباب لها علاقة بطريقة رسم الشخصيات ، ولأسباب
تتعلق بحدود الحضور والموهبة مما لا يصمد أمام الممثل النمساوى العتيد الذى
حصل على الأوسكار عن دورالضابط النازى الذكى فى فيلم "تارانتينو" المعروف
"أوغاد مغمورون".
ثلاثى "تيتانيك": الثرى وخطيبته والشاب المغامر يقابله ثلاثى"مياه
للأفيال": صاحب السيرك وزوجته مدربة الخيول (ثم الأفيال) والشاب المغامر
الذى دخل عالم السيرك بالصدفة بعد مأساة عائلته ، وكما ستحكى بطلة
"تيتانيك" وهى عجوز تفصيلات الرحلة، فإن بطل فيلمنا "جاكوب جانكوسكى" سيظهر
فى المشاهد الأولى كرجل عجوز مفتون بالسير، وسيحكى لشاب فى السيرك حكاية
الصدفة التى غيّرت حياته الى الأبد، لقد كان شابا يافعا فى مطلع الثلاثينات
على وشك خوض الإمتحان النهائى فى كلية الطب البيطرى بجامعة "كورنيل"
العريقة ، ولكن وفاة الأم والأب فى حادث سيارة ، وبيع منزل الأسرة استيفاءً
لقروض الأب، يمنع "جاكوب" من استكمال الإمتحان الأخير لينطلق يائسا وباحثا
عن عمل، وبالصدفة ايضا يركب قطارا يحمل سيرك "بانزينى" المتجول لتبدأ حكاية
"جاكوب" مع صاحب السيرك الحالى "أوجست" (كريستوفر والتز) وزوجته الشابة
"مارلينا " . هكذا تتحدد الخطوط بصرامة منذ البداية ، بل إن "جاكوب" العجوز
يتحدث عن حريق هائل سيلتهم السيرك فى النهاية مثلما كنا نعرف أن حكاية
المرأة العجوز فى "تيتانيك" ستنتهى بمأساة الغرق.
منذ المشاهد الأولى، بدا واضحا أن الثقل كله وراء رسم ملامح عالم السيرك من
الداخل ، كيف يخرج هذا الجمال من بين البؤس والفقر وروث الماشية بل والقتل
بإلقاء أى شخص زائد عن الحاجة من القطار توفيرا للنفقات ؟ من تلك الزاوية
قدم الفيلم صورة نابضة بالحياة، وتم استغلال كل مفردات المكان: عربات
القطار، أماكن الحيوانات، ساحة العرض، وقدمت تفصيلات واقعية تماما لعملية
علاج حصان جريح وقتله برصاصة الرحمة، وعملية تدريب الفيلة "روزى" وتعذيبها
بالضرب بما يشبه المهماز، حتى الشخصيات المساعدة التى تعطيك أجواء السيرك
مثل القزم" والتر" ومثل العجوز البولندى السكير "كاميل" ساهمت بدورها فى
وضعنا داخل الأحداث ، ولكن الدعم الأهم لنقل هذا العالم الى الشاشة هو
الرسم البارع لشخصية "أوجست" الذى يبدو مزيجا من رجل الأعمال ورجل العصابات
والمدرب الشر، بل هو أيضا فيلسوف السيرك، الرجل الذى يعرف أنه لابد أن يبيع
الوهم لكى يعيش، والذى لابد أن يبحث عن "نمرة" جديدة حتى يمكنه أن يستمر
،والرجل الذى يدير ما يشبه الدولة الصغيرة ، يصفها أحيانا بالعائلة ثم لا
يتردد فى التخلص من أى فرد لا عمل له بإلقائه من القطار، هو قمة الهرم تليه
الحيوانات ثم المدربون وأخيرا العمال ، والمدهش فعلا أنه فى مقابل قوة
الجانب الواقعى عن السيرك وعالمه فإن تطور العلاقة بين "جاكوب" و"مارلينا"
الى حب لايتم إلا فى النصف الثانى من الفيلم ، وفى حين تتطور علاقة "جاكوب"
و"وجست" من التربص الى الإعجاب بمهارته الى اعتباره من الأصدقاء، فإن علاقة
"مارلينا" مع "أوجست" تظل فى حدود رسمية حتى منتصف الفيلم، على الأقل من
ناحية "مارلينا"، والمدهش حقا أنها ظلت تشعر بالولاء لـ" أوجست" الذى علمها
ترويض الخيول ثم جعلها نجمة السيرك الذى تحبه، ورغم خشونة "أوجست" مع
الحيوانات وخصوصا الفيلة "روزى"، فإن ذلك ليسمبررا كافيا لكى تكرهه "مارلينا،
وكل هذه القسوة كانت فى الحقيقة من أجل عيون زوجته الجميلة التى كادت تفقد
حياتها بسبب الفيلة العجوز.
أصبحنا أخيرا امام لوحة بها ألوان قوية مثل تلك التى يستخدمها "ماتيس" فى
لوحاته الوحشية، وفى نفس اللوحة ظلال باهتة بالقلم الرصاص تخص حكاية حب
يفترض أن تكون قوية، بدا لى ايضا أن السيناريو فى حيرة: هل يجعل "مارلينا"
تهرب مع "جاكوب" من أجل الحب أم بحثا عن حياة جديدة داخل السيرك ؟ حتى
طريقة اكتشاف "أوجست" لمشروع العلاقة بين "مارلينا" و" جاكوب" كان مفتعلا،
كما أن انتقامه لم يكن بالشراسة المتوقعة لمجرد أنه لا يريد أن يراه عمال
السيرك الذين نسى الفيلم أنهم يعرفون جرائمه فى إلقاء العمال من القطار .
فى الجزء الأخير ، كان واضحا تماما أن الإفتعال قد انتهى الى افتعال مضاعف
، وأن هناك رغبة عارمة فى تقديم نهاية سعيدة لمقدمات ليست سعيدة ، لم تكن
هناك كارثة أو حريق هائل بل ما يشبه ثورة عمال السيرك، ونهاية كاملة لسيرك
"بنزينى" بعد مقتل "أوجست" ثم هروب "مارلينا " و"جاكوب" وزواجهما وعملهما
فى سيرك آخر، وانجابهما البنات والبنين وصولا الى وفاة "مارلينا" تاركة "جاكوب"
العجوز يحكى ويحلم كلما شاهد سيركا جديدا.
يعانى فيلم "مياه للافيال" من مشكلات واضحة فى السيناريو، ولولا براعة
المخرج" فرانسيس لورانس" ، وعينه التى تلتقط قوة المكان وتستطيع أن تنقل
حضوره وعلاقة البشر به وبالحيوان أيضا ، لولا ذلك لتسرب الملل الى المتفرج
، هناك مشاهد بأكملها جيد جدا مثل لقاء "جاكوب" و"أوجست " فوق سطح القطار ،
ومثل بعض عروض السيرك القليلية ، وهناك موسيقى جيدة ومونتير متميز ، وهناك
مشاهد رومانسية تحاول أن تخفف من وطأة الواقع القاسى ، ربما كان الفيلم
يحتمل أغنيية رقيقة مثل أغنية "سيلين ديون" فى "تيتانيك" ، ولكن ظلت
المشكلة أن الأطراف ليست بنفس القوة الدرامية أو الأدائية ، "أوجست" مثلا
أقوى بكثير من "جاكوب" و"مارلينا" معا ، وعلاقة "أوجست" ب"مارينا" أكثر
ثراء من علاقتها مع " جاكوب"، والأعجب أن علاقة " جاكوب" مع "روزى" الفيلة
العجوز أكثر طرافة من علاقة" جاكوب" مع " مارلينا". حاول الفيلم أن يقول أن
الحياة هى أكبر عرض مدهش ، وأنها تفوق بالتأكيد عروض السيرك ، ولكن الحياة
التى يمكن أن تقنعنا هى مزيج معقّد بين الواقع والخيال ، بين ما وراء
الكواليس وما فوق خشبة العرض بين واقعية مقبولة ورومانسية مؤثرة بحثنا عنها
فلم نجدها.
عين على السينما في
28/06/2011
د. وليد سيف يكتب عن الفيلم الوثائقي "كراسى جلد"
إنتهى المخرج المصري عماد أرنست من تصوير فيلمه التسجيلى "كراسى جلد" قبل
25 يناير بعدة أيام. والفيلم لا يتضمن أى مشاهد من ثورة التحرير على طريقة
القص واللصق أو من باب الترقيع السائد لركوب الموجة العفنة. ولكنه على
الرغم من ذلك أو ربما بفضله، يحظى بأعلى نسبة مشاهدة وعروض واهتمام من قبل
مختلف المواقع و الجمعيات السينمائية.
يحمل "كراسى جلد" رسالة نقدية هادئة النبرة خفيضة الصوت والانفعال ولكنها
عالية التأثير، شديدة القوة عن الإهمال الذى عاناه هذا الوطن، والتهميش
الذى واجهه أبناء هذا البلد المنكوب المنهوب، والحرمان الذى فرض على
الملايين من أقل الحقوق الإنسانية فى كوب ماء نظيف ولقمة عيش شريفة وجو صحى
خال من التلوث.
وإذا كان الفيلم ينتقد نظام ما قبل الثورة إلا أنه لا يفقد أهميته وجدواه
بعد قيامها، بصوتها العالى المكتسح وبفعلها الجاد و إصرارها القوى على
إزاحة رؤس النظام، قبل أن تنتكس ويسعى كدابين الزفة إلى إختزالها فى شوية
أعلام وبرانيط و شعارات.
وفى تقديرى أن قيمة هذا الفيلم تكمن فى عدة أسباب ليس أهمها أن الفساد الذى
يفضحه بالصوت والصورة لم يزول كما يتصور السفهاء والبلهاء .
وليس أيضا لأنه يجيب ببلاغة على كل من يتحدث، لهوى فى نفسه أو نتيجة لهفته
على مصالحه، عن التدهور الإقتصادى وخطر الإفلاس وشبح إنهيار الدولة بعد
قيام ثورة 25 يناير، فمن خلال هذا الفيلم نتأكد تماما من أنه لم تكن هناك
أى دولة أصلا، بل مجرد كراسى جلد لا يجلس عليها سوى أشباح وقتله ومصاصين
دماء. إلى هؤلاء أهدى هذا الفيلم مع الإعتذار لصاحب الحق الكامل مخرجه
ومنتجه و كاتبه ومصوره فارس الأفلام المستقلة عماد أرنست.
رجال و كراسى
ولكن ليس هذا فى رأيى أيضا أهم ما تحققه مشاهدة كراسى جلد، الذى تكمن
قيمته الحقيقية فى هذه القدرة البارعة على تلمس روح الفن و فى التمكن
البليغ من مفردات الفيلم التسجيلى وفى الكشف عن جوانب جديدة من إمكانيات
فنان كنا نعتقد أن موهبته لا تتجلى إلا فى الأفلام الطليعية ذات الطابع
التجريبى، ولكنه هنا يحقق فيلما تسجيليا وثائقيا محكما موظفا فيه كل خبراته
وتجاربه وأساليبه، دون أن يحيد عن هدفه ودون أن يتشتت بين الأساليب إلا
قليلا. فهو كالربان الماهر المخلص المتفانى فى عمله الذى يدرك جيدا كيف
يستفيد من حركة الريح والموج دون أن يتوه عن الطريق.
عبر ثلاث مناطق تنتقل بك الصورة إلى عالمنا و حكاياتنا وأهالينا فى السويس
والإسماعيلية. قد يرى البعض أن أحداث الفيلم التسجيلى عموما ترتبط بالتوازى
ولكن عماد أرنست ينجح فى أن يحقق الشكل الفنى للفيلم بالإرتباط الصاعد بين
المشاهد التى تبدأ من الأطراف فى عالم الأراضى المستصلحة لتتجول على
الشواطىء حيث الصيادين وأرزاقهم المعلقة بالشباك فى قلب البحر ثم لتنقض إلى
داخل الأحياء الفقيرة حيث مياه المجارى تحيط بالبيوت والعشش والأكشاك
الخشبية وكأنك فى مدينة عائمة على القذارة. ويظل هذا التتبع لقطع و تلويث
المياه التى خلق الله منها كل شىء حى وكأنه بحث وراء خطه لقتل البشر
وإمتهان كرامتهم ومحاصرتهم بالماء الآسن وكأن هذه هى مكافأة شعب الأبطال فى
السويس.
هكذا أنت تنتقل من بداية العالم إلى نهايته التى لم تكن تعنى سوى ثورة.
وكأن الصورة من فرط صدقها قد تنبأت بمكمن الغضب فى السويس التى قدمت للثورة
بالفعل أول إثنين من شهدائها. ولكن عماد بحس واع لا يقدم فيلما عن أزمة
مدينة محددة، لهذا فالصورة تتسع من السويس إلى الإسماعيلية. وحدة المكان
ليست هى التى تحقق وحدة الموضوع و لكنها وحدة الروح و الحالة و الهم
المشترك الممتد من أقصى مصر إلى أدناها و التى إكتفى عماد بالتركيز على
مواقع بمحافظتين منها ليعكس حال وطن بأكمله . وكما يصنع عماد إيقاعه فى
بنائه العام بهذا الإحكام ينسج التفاصيل بنفس المهارة.
وجوه و شهادات
ربما تغيب أحيانا جماليات الصورة أو لا يهتم المخرج حتى بدرامية التكوين،
على الرغم من إرتباط تجاربه السابقة بالتجريب فى جماليات الصورة . ولكن
درامية التتابع وتواصل البناء البصرى للمشاهد يتوالى فى نسيج نادر ومحبوك
تصيغه وجوه مصرية حقيقية لشيوخ و شباب ورجال ونساء وأطفال. تتوالى الشهادات
ويمتلىء شريط الصوت بحوارات الناس ولكنك لا تجد معلومة تتكرر ولا حديثا
مملا ولا صوتا لا يشارك فى إضافة إضاءة أو تنوير للصورة.
فيلم "كراسى جلد" ليس ريبورتاجا بالمعنى المفهوم والمتكامل فهو يخلو من عرض
وجهة النظر الأخرى للمسئولين. وهو أيضا لا يمكن إعتباره فيلما تعبيريا
يعتمد على لغة الصورة لتوصيل المعلومة فشريط الصوت مليء بالقصص والحكايات
والشكاوى على ألسنة الشخصيات. ولكن ما لا أوافق عماد أرنست عليه هو الإفراط
فى نشر المادة الإخبارية ومانشيتات الصحف فتكرارها لا يدعم الصورة كثيرا.
ويبدو كما لو كان نتيجة رغبة من الفنان فى توثيق جهوده البحثية و ليس
لأسباب فنية.
وفى مقابل هذا الحرص الوثائقى الزائد لا يخلو الفيلم من نزعة تعبيرية فى
حدود تكثيف وجهة النظر والسخرية من الجانب المقابل الذى لا نراه أبدا. فقد
قرر عماد بذكاء فنى أننا لسنا فى حاجة لأن نرى وجوه المسئولين اللزجة
القبيحة ولا أقفيتهم الخشنة الغليظة. يكفى أن نرى مقاعدهم الجلدية الوثيرة
من حين لآخر وكفاصل بين المشاهد، لإلتقاط الأنفاس وللقطع بين فقرة و أخرى
أو لفرض حالة من التأمل حول هذا الغياب المتعمد و المريب لمسئولين غائبين
عن الوجود والفعل بدوافع الجهل أو العجز أو التواطوء لإغتيال شعب هذا الوطن
. فالمؤكد أنهم يروا أنه لا توجد ميزانيات لإنقاذ الأهالى من وضع كارثى و
لكن يظل بالإمكان دائما شراء كراسى جلد ليجلسوا عليها و يسترخوا و يظلوا
جاثمين على صدر هذا الوطن.
شحنة حب للوطن
كانت لقطات عماد داخل البيوت وفى المكاتب تحيد بنا عن هذه الصورة الثرية
المعبرة البليغة فى شوارع المدن و حواريها. و كنت أفضل أن يجرى التصوير
خارجيا فيتوفر عمق المجال ولا تغيب الحالة عن الصورة فى بيوت تقليدية. و
كنت أفضل أن يتجنب ظهور المحامى المدافع عن حقوق الغلابة جالسا على كرسى
جلد شبيه بالكرسى الذى يصوره فى الفواصل فيصنع تشتيتا ذهنيا بين مضمون
الكلام ومدلول الصورة. قد يجلس صديقى الناقد أيضا على مقعده الجلدى أو
الخشبى أو حتى على كنبته البلدى ينتقد نقص المادة المصورة أحيانا أو عدم
إستيفائها لبعض الجوانب أو يلوم المخرج على لقطات كانت بحاجة إلى إحكام أو
سيطرة أكثر على التكوين.
ولكن كل هذه فى رأيى أمور ثانوية فى مقابل الجهد الجبار الذى بذله عماد
أرنست بإمكانياته البسيطة وشجاعته الفائقة وإعتماده الكامل على ذاته كوحدة
متكاملة ليقوم بكل الأدوار . لا يوازى الجهد الكبير المبذول فى جمع المادة
العلمية لهذا الفيلم إلا هذا التوغل الرائع فى قلب المأساة فى مدينة وصلت
إلى أعلى درجات الغليان و كانت توشك بالفعل على الإنفجار.
أستطيع أن أدرك جهد عماد و مغامراته فى إقتحام هذه المناطق و النفاذ من
عيون الأمن والمحليات وكافة الأجهزة المتعفنة المتربصة بكل من يشكون فى أنه
يسعى لفضحهم. فيقدم هذا الفيلم المشحون بحب حقيقى لهذا الوطن وغيرة حقيقية
على أبنائه الفقراء الضعفاء بلا مسند أو سند الذين، أصبحت كلمة مهمشين أقل
بكثير من حجم معاناتهم فهم محتقرين و مضطهدين و كنا نخالهم منسحقين.
ستر وغطاء
يستوى فى الصورة والهم ناس مستورين مكافحون وضعوا مدخراتهم فى قطعة أرض
ليصلحوها بأيديهم وأسنانهم، فيحرموا من الماء بلا رحمة، ليحترق زرعهم و
كدهم وتبور أراضيهم لصالح بهوات كبار لهم صلات و اتصالات. ومن نفس الكأس
يشرب صيادون فقراء يكادون أن يتضوروا جوعا نتيجة لفساد مياه المصايد بصرف
المجارى. وبعد هؤلاء يأتى الموتى الأحياء الذين أغرقتهم المجارى وانهكتهم
الشكوى وأذلهم التجاهل و الإهمال.
"كراسى جلد" هو النموذج المثالى للفيلم التسجيلى طبقا للناقد السينمائي
الراحل مصطفي عبد الوهاب فى كتابه سينما الحقائق البسيطة "إن فنان الفيلم
التسجيلي فى حقيقة الأمر لا يقدم لنا الواقع المرئي وإنما يعرض لنا رؤيته
الذاتية لهذا الواقع وهى رؤية تحتوى علي قيمه وولاءاته وإنتماءاته
وإنفعالاته بما يطرحه عليه الواقع من صور وحكايات ومواقف إنسانية. الفيلم
التسجيلى فى أرقى صوره يسعى إلى التنوير بقيمة العلم و المعرفة والإرتقاء
بالوعى بأساليب فنية.. وهو لا يعتمد على قصة مبتدعة من خيال المؤلف أو
مستمدة أو مستلهمة من الواقع و إنما إعتمادا على هذا الواقع ذاته بشخوصه
الحقيقية و صوره الموحية و مفارقاته و تناقضاته الظاهرة و المضيئة . وعندما
نستمع إلى الناس يتحدثون فيه نتعرف على ملامحهم النفسية وواقعهم و ظروفهم
فنقترب من حياتهم بكل ما فيها من سعادة و ألم و طموحات و شقاء و آمال".
ملحوظة: الحديث عن سينما الحقيقة فى عنوان هذا المقال ليس له علاقة بنوع أو
أسلوب أو مدرسة فنية ولكنه عن سينما ترتبط بالحقيقة ولا تتأثر بتغير
الواقع.. سينما لا تكذب ولا تتجمل ولا تنافق شعبا ولا ثورة.. سينما يمكنك
أن تشاهدها أمس و اليوم وغدا.
عين على السينما في
28/06/2011
رامي عبد الرازق: هل السينما اختراع رباني؟
رامي عبد الرازق
على الرغم من أنني شخص أرق إلا ان النوم كان يمثل بالنسبة لي دوما تذكرة
مجانية لمشاهدة فيلم مختلف كل ليلة، ففي رأيي ان السينما اختراع رباني قديم
قدم البشرية الأولى. ورغم أنها لم تظهر إلى الوجود بشكل ملموس سوى منذ مئة
عام وقليل إلا ان كل البشر تقريبا منذ فجر الخليقة قد مارسوا فعل المشاهدة
السينمائية لمئات وربما آلاف المرات من خلال الأحلام.
عندما كنت صغيرا كنت اسأل نفسي دوما لماذا نحلم؟ لماذا اختار الله لنا تلك
الوسيلة الممتعة لقضاء ساعات الليل؟ ألم يكن من الممكن ان نغمض اعيننا في
المساء ونفتحها في الصباح دون أن نشعر بمرور الوقت ودون أن نشاهد او نعي
شيئا، لماذا قيل على النوم الميتة الصغرى رغم ذلك الدعاء الأثير الذي كانت
امي تلقنني اياه دوما (اللهم ان اخذت نفسي فأرحمها وإن ارسلتها فاحفظها)
وكنت افهم معنى ان اخذت نفسي أي قبضت روحي ولكن ماذا تعني "إن ارسلتها"؟
ارسلتها إلى أين؟!
ان الأحلام بالنسبة لي هي اكبر وأهم دليل على "وجودية" السينما وارتباطها
العضوي والنفسي والذهني بحياة البشر. وهذا التصور بالطبع لم ينضج إلا بمرور
الوقت ومدوامة التفكير في هذا العالم الغريب. ولهذا فإن ما قدمه الأخوان
لوميير إلى الدنيا من قدرة على تجسيد هذه الاحلام وإخراجها من شاشة الذهن
إلى شاشة العرض هو نقطة تحول في تاريخ البشرية كلها لا يجب ولا يمكن أن
ننساها ابدا. السينما ان نشاهد حلما بشكل جماعي.
اذكر انني شاهدت يوما فيلما تسجيليا عن فيلليني في التليفزيون المصري! وهو
امر غريب جدا ان تشاهد فيلما عن فيلليني في التليفزيون ولكن كان هذا منذ
سنوات طويلة. لم اكن اعلم من هو فيلليني ولكن ابي قال لي انه مخرج ايطالي
شهير وكان الفيلم يحتوي على لقاءات مع مارشيللو ماستورياني وصوفيا لورين
وقالت لي امي وقتها انهم من اشهر واهم الممثلين الأيطالين وانها شاهدت لهم
افلاما كثيرة.
كان الفيلم مملا بالنسبة لطفل صغير ولكن شيئا ما استوقفني في حديث فيلليني
عن المادة البصرية والحكائية التي كانت تمده بالصور والحكايات عبر
الاحلام. أذكر مشهدا من الفيلم تتحسس فيه يد كفيفة حائطا خشنا بينما صوت
فيلليني يتحدث عن علاقته بروما.
بعد ذلك بسنوات عندما بدأت في محاولة كتابة بعض السيناريوهات طلب مني
المخرج اكرم فريد أن اكتب له سيناريو فيلم قصير عن فكرة ملخصها ان شابا
وفتاة يجلسان متجاورين في احد الحدائق العامة ويتحدثان لفترة طويلة وتبدأ
بينهما ملامح اعجاب او تعلق عاطفي ولكن في النهاية نكتشف ان كلاهما كفيف.
كان التحدي الدرامي هو المحافظة على تلك المفاجأة طوال الوقت سواء على
مستوى الشخصيات أو على مستوى التلقي. وجلست لساعات افكر في كيفية الخروج من
مأزق الحديث عن شئ ما دون ان تبوح شخصية لاخرى أو للمشاهد بطبيعة عاهتها
البصرية ووجدتني اتوقف امام الذكرى الباهتة التي تركها فلليني في رأسي حيث
تحدث عن الاحلام واستعدت تلك اللقطة الغامضة عن اليد الكفيفة التي تتحسس
حائط خشن وبشكل تلقائي قمت بربطها مع الحقيقة العلمية التي تقول أن الشئ
الوحيد الذي يشاهده فاقدي البصر هو "الأحلام" ( انها السينما الربانية
الخاصة والخالصة) وبالتالي فإن حديث شخصيات الفيلم عن الأحلام وهي شئ بصري
جدا لا يمكن بأي حال أن يجعل الشك يتسرب إلى نفوسهم او نفوس المشاهدين حتى
اللقطة الأخيرة!
وكتبت السيناريو منطلقا من تلك الفكرة وأسميته الغروب وهي اشارة بصرية اخرى
لها علاقة مباشرة بالنور واللون والظل وتمثل التوقيت القصير الذي تستغرقه
عملية التعارف والمقاربة بين الشخصيات وكأنها لحظة حلم اخرى يمكن أن يعثر
فيها كل منهم على تؤم روحه لكنه يخسره بسبب خوفه الداخلي من عاهته.
حقق السيناريو الاثر النفسي والوجداني المطلوب منه على مدار سنوات من
قراءته رغم تأجيل تنفيذه عدة مرات إلى أن استأذنت اكرم في اعطائه لمخرجه
شابة تدعي سارة شلباية ليكون مشروع تخرجها من الاكاديمية الدولية لعلوم
الأعلام حيث كانت في الدفعة الأولى من خريجي قسم السينما بالاكاديمية وقامت
بتصوير الفيلم بكاميرا 35 مم. وأذكر أن دور الشاب الكفيف تم اسناده للممثل
اشرف مصيلحي ولكنني لا اذكر الممثلة التي قامت بدور الفتاة الكفيفة. وقد
حصلت سارة على تقدير امتياز عن هذا المشروع الذي لم اشاهده حتى الأن.
وبعد سنوات اخرى تصادف أنني كنت في لجنة تحكيم الدورة السادسة عشرة لمهرجان
الإعلام العربي، والتقيت بالدكتورة نجوى محروس العميدة السابقة للمعهد
العالي للسينما، وبينما كنا نتبادل المعلومات للتعارف تحدثتُ بشكل عابر عن
هذا السيناريو فوجدتها تذكره بالتفصيل وتشيد به وتعتبره واحدا من اجمل
المشروعات التي اشرفت على تنفيذها أثناء انتدابها للأشراف على مشاريع
التخرج في الاكاديمية الدولية ساعتها شعرت بحنين شديد للذكريات الأولى عن
السينما والاحلام والتي تطمسها تدريجيا الوقائع الجامدة والميتة للحياة
اليومية.
يقول هتشكوك: إن السينما هي الحياة إذا اقتطعت منها اللحظات المملة.
واظننا يمكن ان نكمل العبارة بقولنا "اذا اقتطعت منها اللحظات المملة
واضيفت اليها الأحلام"!
الفيلم الاول
(في حياة كلمنا وهم كبير اسمه الفيلم الأول.. لا تصدق هذا الوهم ففيلمك
الاول هو فيلمك الأخير).
هكذا كنت اتندر دائما مستلهما روح الجملة الشهيرة التي كتبها احسان عبد
القدوس في مقدمة قصة الوسادة الخالية. ولم اكن اقصد بهذه السخرية الفيلم
الأول في الكتابة ولكن الفيلم الاول في المشاهدة.
فرغم انني اذكر عشرات الأفلام التي شاهدتها وانا في سن صغيرة إلا انني لا
اذكر الفيلم الاول الذي شاهدته لأول مرة في دار العرض او السينما كما نقول!
وبعد سنوات من الاستغراق في المشاهدة والذهاب إليها الآف المرات أجد أن
العبارة الساخرة التي كنت اصوغها بلا مبالاة تتبلور تدريجيا في داخلي متخذة
منحى فلسفيا شيقا. فالفيلم حالة خاصة جدا وكيان قائم بذاته هو حلم وحقيقة،
خيال وواقع، رؤيا وفكرة وحالة مختلفة وبالتالي كل فيلم جيد نشاهده هو في
الحقيقة فيلمنا الاول فلا يوجد فيلم يشبه فيلما، كما (لا توجد قصة تشبه
قصةولا فكرة تشبه فكرة ولا لحظة تشبه لحظة ولا حبة رمل تشبه حبة رمل)
والجملة التي بين الأقواس مقتبسة من حوار فيلم حتى نلتقى للكاتب الرائع
يوسف عز الدين عيسى على لسان عماد حمدي لفاتن حمامة.
انت لا تستحم في نفس النهر مرتين ولا تشاهد نفس الفيلم نوبتين. ففي كل مرة
هناك شيئ ما جديد يحدث في داخلك او في داخله.
اذكر ان والدي رغم وجود الفيديو لدينا منذ سنوات مبكرة إلا أن الذهاب إلى
السينما شهريا كان مسألة محببة ومفروغ منها بالنسبة لهما. وكان ابي رحمه
الله يتطوع دائما بالحديث عن تاريخ دور العرض التي يصطحبنا إليها تماما كما
ذكرت من قبل تطوعه بالحديث عن خلفيات الأفلام واسماء الممثلين وتاريخهم.
في هذه السن المبكرة ورد على سمعي اسماء سينما ريالتو وكولومبيا واولمبيا
وسينما سهير و"سيما مصر" ولست اذكر لماذا كان يصر على حذف النون بالذات
عندما يقرن كلمة سينما بمصر والحفاظ عليها في اسماء باقي السينمات. وبالطبع
سينما مترو وريفولي وراديو. كان ابي عندما يشاهد فيلما في التليفزيون يقول
لي لقد شاهدت هذا الفيلم سنة كذا في سينما كذا وكانت التذكرة وقتها بكذا او
ينظر إلى امي ويقول لها (فاكرة لما شفنا الفيلم ده سنة كذا في اول عرض له
ايام ما كنا مخطوبين ؟)
كانت السينما جزءا مهما واساسيا من حديث الأسرة اليومي رغم أن والدي لم
يكونا من ممارسيها ولكن فقط من محبيها والشغوفين بها. والغريب أنني الأن
عندما اشاهد أيا من الأفلام "عبر الدش" التي سبق وأن شاهدتها في السينما
اجدني اقول لمن حولي ايا كان: لقد شاهدت هذا الفيلم في السينما سنة كذا
تماما كما كان ابي رحمه الله يفعل، فهل التباهي بمشاهده الأفلام مسألة
جينية أم هي سلوك اجتماعي متوارث لدى محبي هذا الفن وإن كنت اضيف الأن على
تلك الجملة الخالدة بحكم عملي (اني شاهدت هذا الفيلم في السينما وكتبت عنه
كمان سنة ما عُرض).
كنا نسكن وقتها في شارع احمد سعيد بالعباسية ونمر يوميا بالسيارة امام
سينما سهير و"سيما" مصر في شارع الجيش وكانت تلك السينمات قد صارت او لعلها
كانت دائما من سينمات الدرجة الثالثة ولم يكن ابي يصطحبنا لها بالطبع ولكنه
كان دائم الحديث عنها كجزء اساسي من ذكرياته وعلاقته بالسينما في سنواته
الاولى.
اما السينما المفضلة لدى الأسرة فكانت سينما مترو وتليها سينما حديقة النصر
الصيفي التي كانت تعرض ثلاثة افلام في برنامج واحد والتي تربى بداخلها
أجيال من السينمائين اسعد حين اتخيل أنني قد أكون جلست في مقعد سبق لاي
منهم الجلوس فيه وان لم تكن سينما حديقة النصر تحتوي على مقاعد ولكن دكك
خشبية طويلة جدا ومدرجة بشكل نصف دائري.
تراودني من ذكريات الشغف الأول بالمشاهدة تلك الشرفة التي كانت تطل من احد
البيوت القديمة على شاشة السينما وكانت اسرتي تتحدث عن ان ساكني تلك الشقة
ومستخدمي الشرفة لديهم خاصية مميزة جدا وهي المشاهدة اليومية للأفلام مجانا
وكانت امي تعترض دوما على ذلك بأنه من الممل جدا ان تظل تشاهد نفس الأفلام
كل يوم طوال فترة عرض البروجرام الأسبوعي او الشهري للسينما. وأذكر ان في
احد افلام محمد خان لعله "احلام هند وكامليا" او ربما فيلم اخر قام بتجسيد
هذا الهاجس ام تراه كان فيلم "حلق حوش" بطولة هنيدي وليلى علوى وعلاء ولي
الدين عندما كانوا يسكنون في سطح احد البيوت امام السينما ويتأثرون بمشاهدة
الأفلام. كنت اتصور نفسي اسكن في تلك الشرفة القديمة واشاهد الأفلام ليل
نهار على الشاشة القماشية الكبيرة وبعد ذلك بسنوات شاهدت ما فعله عامل
السينما الفريدو في فيلم "سينما باراديزو" لتورناتورى عندما حرك عدسة آلة
العرض وجعلها تعرض للجمهور في الشارع على جدران احد البيوت. يا إلهي ان
السينما لم تترك هاجسا وإلا واقتنصته من فضاء الذهن واعادة تخليقه على
الشاشة!
كان ابي وامي يحرصان على ان يعيدا احياء ذكرياتهما الأسرية عن السينما من
خلال دخولنا المتكرر لسينما حديقة النصر حيث كنا نذهب في صحبة اسرة تعادلنا
عددا من جيراننا في العمارة ويقوم الوالدان (والدي ووالدا جيراني) بشراء
كمية من السميط والبيض المسلوق والدقة من احد الباعة خارج السينما ونجلس في
الداخل لنأكل ونحن نشاهد احد الأفلام الهندية التي كانت جزءا اساسيا من اي
بروجرام في السينمات متعددة الأفلام.
وكان الجيل الاول (والدي ووالدي جيراني) يتحدثون عن ذكرياتهم مع المشاهدة
السينمائية وأكل السميط والدقة وهم صغار وقد تذكرت جزءا مهما جدا من تلك
الاحاديث وانا اقرأ كتاب الناقد امير العمري "شخصيات وافلام من عصر
السينما" وخاصة الفصول الأولى التي كنت اشعر أن ابي هو من يرويها.
اما سينما مترو فأتصور أنها أول دار عرض أدخلها في حياتي الواعية على الأقل
وكان ابي يحكي لنا دوما عن نادرة لا يفتأ ولا يمل من تكرارها كلما ذهبنا
إليها وهي أنها كانت تحتوي في الأربعينيات أو الخمسينيات لا اذكر على اقوى
جهاز تكييف "مركزي" في دار عرض، وأن الناس كانت تدخل إلى سينما مترو "زمان"
قبل انتشار المكيفات المنزلية لتروح عن نفسها في الصيف وفي الظهيرة وتأخد
"تعسيلة" او "تقيل شوية" وان احد الشخصيات المرموقة سياسيا في وقت ما قديما
كان عندما يبحثون عنه ولا يجدونه في مكتبه يذهبون ليجدوه نائما في احد
مقاعد سينما مترو في التكييف.
ولست ادري الان هل كانت تلك النوادر حقيقية أم ترسبات خيالية من تلك الصورة
النمطية الكلاسيكية التي شاهدناها كثيرا عن المشاهد النائم الذي يغط في
تعسيلة رائعة داخل احد دور العرض اثناء الفيلم وبجانبه البطل يشكو من شخيره
او يستغل نومه لتقبيل حبيبته في الظلام!
خايفه على رامي من هياتم
كما راكمت السينما والأفلام في رأسي عشرات الخيالات المرعبة طوال سنوات
طفولتي الاولى كان لها الفضل ايضا في الكثير من اكتشافات سنوات البلوغ
وحركة المشاعر وعناصر الشهوة البكر اللذيذة والغامضة.
لم اكن قد بلغت بعد بداية سنوات المراهقة المبكرة او حتى البلوغ البيولوجي
عندما بدأت اتنبه إلى حرص امي المستمر على تجنب مشاهدة بعض المشاهد او
افلام بعينها. واذكر ان اول تعليق ينبهني لاهمية أو خطورة هذه المشاهد من
وجهة نظر امي وبالتالي يثير فضولي إلى اقصاه عندما كنا نشاهد فيلما في
السينما في صحبة مجموعة من اصدقاء الأسرة. وعندما خرجنا سمعت امي تقول
لصديقتها (انا كنت خايفة على رامي من هياتم) وهياتم هي الراقصة الشهيرة
التي تحولت إلى ممثلة اغراء معروفة بكميات اللحم الابيض خلال افلام
الثمانينيات وجزء من التسعينيات.
ظل التعليق يدور في رأسي ليلة كاملة. لماذا كانت امي تخشي على من هياتم؟
الغريب انني لا اذكر اسم الفيلم ولا اذكر هياتم في هذا الفيلم على الأطلاق
بل اتصور ان هذا الفيلم كان فيلم "احترس من الخط" بطولة عادل امام واخراج
سمير سيف وكان احد اشهر الأفلام الكوميدية التي حققت نجاحا كبيرا في
الثمانينيات، وكانت هناك ممثلة ربما تشبه هياتم تقدم مشهد اغراء يتلخص في
انها تنزل من السيارة فتركز الكاميرا في لقطة قريبة على ركبتها وسمانة
رجلها وتذهب للتحدث بدلال مع احد شخصيات الفيلم وفي المشهد التالي ترتدي
هذه المراة " الهياتمية" المجهولة ملابس داخلية سوداء تكشف عن ثنيات من
لحمها وهي ترقص لهذه الرجل الذي التقته في المشهد السابق لتحصل منه في
النهاية على اوراق او معلومات تدين سمير صبري الذي كان الخصم الدرامي لعادل
امام في الفيلم.
لو ان امي كانت تظن ان هذه الممثلة هي هياتم فأظن انه كان لديها الكثير من
الحق في التخوف من هذه الهياتم علي" كطفل" يتشكل وعيه تدريجيا من خلال
مشاهداته او كما كنت احب ان اتندر عندما كبرت قليلا وصرت ادرك مغزى هذا
الخوف انها - اي امي- كان يجب أن تخاف على هذه الهياتم مني.
في الحقيقة اتصور ان هذا المشهد لو اضفنا له مشهد الفتاة القربان في فيلم
"الوصايا العشر" يمكن ان يعتبر بداية علاقتي بالجانب الحسي في السينما.
صحيح ان هذا الجانب لم يكن مؤثرا في علاقتي بالافلام خصوصا في سنوات
المراهقة ولكن هذا لا يمنع ان ذلك الجانب من الأفلام شغلني كثيرا في عشرات
المشاهدات خصوصا مع حالة الرقابة المنزلية التي كانت امي تمارسها علينا في
البيت.
كانت اشهر حوادثي للتخلص من اسر هذه الرقابة والأنفتاح على هذا العالم
المحرم هو محاولتي العثور على نسخة فيلم "المذنبون" الأصلية التي كنا
نمتلكها على شريط فيديو.
لم يكن ابي وامي من هواة تجميع الأفلام ولكن كانت هناك بعض الشرائط التي
كانوا يحصلون منها على نسخ كهدية او تقوم أمي بتسجيلها من التليفزيون
لإعادة مشاهدتها مرة أخرى، وكان اشهر الافلام الموجودة لدينا هي نسخة فيلم
الازمة الرقابية "المذنبون" بطولة حسين فهمي وسهير رمزي وإخراج سعيد مرزوق
ونسخة فيلم "غريب في بيتي" بطولة نور الشريف وسعاد حسني وهياتم (هياتم مرة
أخرى) وإخراج سمير سيف ويبدو أن وجود هياتم في هذا الفيلم كان – ولا يزال –
مصدر قلق لأمي على اعصابي ومشاعري الذكورية رغم أنني اعترفت لها بأن هذه
الممثلة او الراقصة لم ولن تمثل اي جزء من تخيلاتي الحسية عن السينما او
النساء.
اما الأفلام التي كنا نقوم بتسجيلها من التليفزيون فاذكر منها فيلمين الاول
هو "لص بغداد" وهو فيلم خيالي كلاسيكي شديد السحر والطرافة يستلهم قصص الف
ليلة وليلة عن البساط الطائر والمصباح السحري ولا اذكر الان مخرجه والثاني
هو الفيلم الأستعراضي "زانادو" المأخوذ عن القصيدة الشهيرة (في زنادوا قرر
قوبلاي خان بناء قبة للذة) والذي يقال انه اخر افلام الممثل والراقص جين
كيلي امام المطربة اوليفيا نيوتن جون وهو الفيلم الذي قامت امي بتسجيله على
نسخة " غريب في بيتي" الأصلية للتخلص من هياتم إلى الابد.
واثناء بحثي المشبوب في فترة الإجازة الصيفية للعثور على فيلم "المذنبون"
ايقنت حجم التخوف الذي كان يرواد امي في تلك الفترة من حياتي حيث وجدت
النسخة ملفوفة بقطعة قماش معقودة باحكام ومدفونة اسفل ملابسها القديمة في
قاع الدولاب الكبير.
فيما بعد سوف اتعرف على المعلومة التي تقول أن جزءا كبيرا من الوجدان
الجنسي لدى الأطفال يتشكل في فترات مبكرة جدا ربما ما بين سني الثالثة
والخامسة وان مشاهدات الاطفال لممارسات معينة او مشاهد جنسية عابرة تترسب
في لاوعيهم ويمكن ان تؤدي لبعض العقد النفس/ جنسية التي يعانون منها
كمراهقين أو ناضجين فيما بعد.
لست اذكر كم كان عمري وقتها ولكني كنت على وشك البلوغ البيولوجي وبالتالي
كان تأثير مشاهدة سهير رمزي وهي تتلوى بشبق في احضان كمال الشناوي ونصف
صدرها العاري يطل من قميص النوم الذي ترتديه لا شك تأثير سئ وسلبي جدا فهذا
النوع من الأفلام تصنيفه العمري للناضجين او للكبار فقط ومشاهدته دون السن
المناسبة مؤذي شعوريا وفكريا بالفعل.
هكذا ساهمت السينما في اكتشافي لهذا العالم الغامض بكل حسيته وافكاره
ومشاعره الغريبة والحارقة، اكتشاف غير مباشر لكنه صادم خصوصا مع تفتح
الفضول الهرموني في تلك الفترة والذي يدفع الأنسان للتساؤل ومحاولة البحث
والعثور على الحقيقة من وراء كلما يستجد عليه ليهدأ.
واذكر ان المرة الاولى التي شاهدت فيها فيلم "ابن النيل" ليوسف شاهين وفي
المشهد الذي من المفترض ان شكري سرحان يختلي فيه بفاتن حمامة ليقعا في
الخطيئة تصورت ان السبب في حمل الفتاة الريفية الصغيرة هو"قبلة" من الفلاح
المعجباني بطاقيته التي تسقط على نصف رأسه الخلفي ونظرته الذكورية الخارقة.
وقد سألت أمي في هذا الوقت عما حدث لكي تحمل الفتاة ولكنني لا اذكر بما
جاوبتني وان ظلت فكرة "القبلة التي تحمل طفلا " هي المسيطرة علي.
فيما بعد سوف اضحك كثيرا عندما اشاهد مشهدا من فيلم "حب البنات" من تأليف
تامر حبيب واخراج خالد الحجر تتحدث فيه احدي الفتيات عن تصورها وهي صغيرة
أن الرجل بمجرد أن يقبل المراة "تحمل على طول"ويعاودني الشعور أن الأفلام
لم تترك حتى الخواطر الأولية الساذجة دون ان ترصدها وتقتنصها في مشهد او
جملة حوار.
عين على السينما في
28/06/2011 |