حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

دموع غزّة:

مخرجة نروجية تفضح وحشية الحرب

 محمد رضا

بينما تحط السينما العربية في سبات عميق، فلا تنتج ما ينفع ولا تكترث لقضايا العالم الذي تمثّله، ولا حتى تحقق الكثير مما يتعامل والمسائل الإنسانية المختلفة التي يمر بها الإنسان العربي، يصلنا من شركة إنتاج سويدية فيلم، يتعرّض لحرب الإبادة التي أقدم عليها الاحتلال الصهيوني في العام 2008  على قطاع غزّة.

الفيلم بعنوان "دموع غزّة" من إخراج فيبكي لوكبيرغ والمنتجة هي ترجي كرستيانسن وكما يُشير عنوانه يدور الفيلم الوثائقي حول القصف «الإسرائيلي« الوحشي على قطاع غزّة. هنا الصور تتحدّث وحدها وتقول الكثير ولا يمكن لمشاهد مهما كان محايداً الا أن يدرك أن الصورة التي ورثها عن الآلة الدعائية الصهيونية حول حق الوجود وحق احتلال الأرض ونظرية الدفاع عن النفس وما إلى ذلك، الا وأن يتساءل إذا ما كانت هذه الصورة مزيّفة من الأساس  من تلك التي تحاول ذر الغبار في العيون وإبقاء الحقيقة مُغيّبة

الفيلم لا يطلب من المشاهد موقفاً ولا يعرض أن يبدّل قناعاته بأي خطاب إنشائي، بل يكتفي بالمراقبة  وما يحدث نتيجة المتابعة لا يحتاج بعد ذلك إلى تعليق أو مادة خطابية : حين ترى الآباء الجرحى وهم ينطلقون بأبنائهم وأطفالهم المصابين وقد بترت أطراف بعضهم، وعندما ترى وحشية القصف، تفجير البيوت، أشلاء الأطفال، جثث الرجال، فأن ما تستقبله هو حقيقة تنفي كل الأكاذيب التي سبقت وتلت وواكبت حرب غزّة

الفيلم لم يعتمد على وثائقيات سابقة بقدر ما أنجز مشاهد تم تصويرها لأجل الفيلم ذاته. الفلسطينيان يوسف أبو شريع وسعد الصباغ والسويدية ماري كرستنسن بذلوا في سبيل عمل يخرج من نطاق شغل الهواة ويقدّم على الشاشة نتيجة فنيّة جيّدة. ولابد أن نثق هنا أن النتيجة الفنية الجيّدة هي التي تبيع القضايا المطروحة أفضل من تلك التي ينفذها هواة ويبيعونها لأول مشتر

المصوّرون الثلاثة يخرجون بمادة لم تُشاهد من قبل لا في فيلم سينمائي ولا في نشرات الأخبار ولا -بالطبع- على المحطّات التلفزيونية ومعظمها صامت كأهل الكهف في مثل هذه الحالات..

خلال الحرائق التي تسببها القنابل الفوسفورية كثيراً ما نشاهد هنا نتائج نافذة في تأثيرها، كمثل الفتاة التي حرق الفوسفور خمسين بالمائة من جسمها لا لسبب إلا لأن هواة الحرب- أولئك الذين كانوا ضحايا النازية وحوّلوا أنفسهم إلى نازيين جدد انتقاماً، صبّوا وحشيّتهم على الأبرياء.

بعض النقاد الغربيين قرر أن الفيلم يكشف عن أحد أمرين: إما أن فريق العمل كان يعلم أين سيقع القذف الإسرائيلي المقبل فتواجد في المكان في الوقت المناسب، أو أن القصف كان من الشدّة والانتشار بحيث لم يكن هناك داعياً لانتظار التوقّعات أو المعلومات. والمرء يدرك أن الاحتمال الثاني هو الصحيح.

وسط ذلك كله، تجري المخرجة لوكبيرغ عدداً من المقابلات المهمّة فقط لكونها مطلوبة لسماع الصوت المعتدى عليه. وهي مقابلات تفي بالغاية من ناحية وتدفع المشاهد الغربي لإدراك أن أولئك الضحايا سيكبرون يوماً ويطالبون بحقوقهم كما طالب آبائهم وأجدادهم بذات الحقوق. ليس هذا فقط، يطرح الفيلم من دون أن يوجّه الطرح بالقصد، كيف تتسبب الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين بتجييش المشاعر على نحو أقوى وأحد لا على إسرائيل وحدها فقط، وبل -كما يقول أحد المصابين الذي يبكي أبيه- »ومن يساعدها أيضاً

المخرجة فيبكي لوكبيرغ ليست غريبة عن الفيلم الوثائقي. هذه الممثلة النروجية الأصل المولودة سنة 1945 كانت ممثلة قبل أن تقدم على الإخراج، لكنها لم تحقق سابقاً فيلماً يتعامل وموضوع سياسي على هذا النحو او يتحدث عن مواضيع خارج نطاق الدول الإسكندنافية

هذا الفيلم الذي شوهد في عرض خاص في لوس أنجليس كان واحداً من الأفلام التي عرضها مهرجان تورنتو الأخير الذي انطوت دورته الخامسة والثلاثين في الثاني والعشرين من هذا الشهر
خلال هذه الفترة، تمددت على شاشات المهرجان المنتشرة في أرجاء المدينة أكثر من 33 فيلم من مختلف الأنواع. وبما أن تورنتو مدينة كاملة، على عكس «كان» او «فنيسيا»، فإن المتعة بالتواجد هناك لها علاقة أيضاً بحرية الإنتقاء وكثرة ما يستوجب القيام به في مدينة مشغولة وشاغلة
هذا المهرجان الكندي (الذي يقام بعد أيام قليلة من مهرجان كندي آخر هو مونتريال، وقبل أسابيع قليلة من مهرجان كندي ثالث هو فانكوفر) بات معروفاً في أنه يعرض الجديد وتلك الأفلام التي سبق لها وأن عرضت في المهرجانات الرئيسية الأوروبية في الوقت ذاته، لذلك من فاته فنيسيا أو برلين او لوكارنو أو كان أو سان سابستيان يستطيع أن يجد العديد من أفلام تلك المهرجانات هنا. الغريب هو إصرار الصحافة الأميركية ومواقع الإنترنت على النظر إليه كما لو كان مجرّد سوق تجارية فتحمل أخباره من باب من باع ومن اشترى وبكم، وإذا ما كان البيع شديداً او خفيفاً، في حين أن معظهما يغفل الأعمال الجيّدة التي يعرضها وكثير منها لم يسبق عرضه عالميا او في الشمال الأميركي على الأقل

نماذج مختلفة...

أحد الأفلام الأولى التي شهدها المهرجان الكندي هذه الدورة هو »فيما بعد«  من إخراج كلينت ايستوود وبطولة مات دامون والفرنسية سيسيل د فرانس والأميركية برايس دالاس هوارد. الفيلم جديد المنحى تماماً بالنسبة لايستوود بإستثناء ما يمكن ربطه من ملامح بين هذا الفيلم ومداعبات المخرج مع موضوع الموت وما بعده في بعض أفلامه السابقة. »فيما بعد« هو ثلاث حكايات تنبثق عن ثلاث شخصيات رئيسية: مقدّمة البرامج الفرنسية (د فرانس طبعاً) التي كانت تمضي عطلة في الكاريبي حين ضرب السونامي المكان فأصيبت والأميركي جورج (مات دامون) الذي يستطيع التواصل مع الأرواح لكنه يحاول تقليل شأن ذلك حتى لا يلفت اليه الأنظار ثم ننتقل الى لندن حيث شقيقين توأمين يحاولان إبقاء إدمان أمّهما على الشرب أمراً مخفياً عن موظّفي الخدمات الإجتماعية حتى لا يخسرا المساعدة التي يتلقينها
غير بعيد تماماً عن أجواء هذا الفيلم العمل الجديد لتوني غولدوين "إدانة" ولو أن هذا مستوحى من قصّة حقيقية: إمرأة عنيدة ومثابرة (هيلاري سوانك) تحاول إنقاذ شقيقها (سام روكوَل) من حبل المشنقة. الشكوى من هذا الفيلم هي أنه كان أكثر ثقلاً درامياً مما ينبغي ما منع المشاهد من التجاوب معه على نحو تعاطفي.

الفيلم المصري «ظلال» من إخراج ماريان خوري و(المغربي) مصطفى الحسناوي كان موجوداً في المهرجان الكندي وهو يدور حول  مصحّة العبّاسية للأمراض النفسية. لا تتوقّع أن يسجّل الفيلم حالات من الفوضى والغضب والخطر، وهو أيضاً ليس ضوضائي الصوت ولا فيه ناياً يعزف لحنا حزيناً ولا أصابع أتهام موزّعة في كل الإتجاهات او دفاعاً عن المجانين كشخصيات هامشية أسقطها المجتمع من حسابه. هذا كلّه لا يهم الطرح الثابت الذي يؤمه المخرجان نجدها في التعريف بالحالات الماثلة وبحكاياتها الغريبة. بالشخصيات التي تؤلّف مجتمعاً مختليا بنفسه رغم أنه جزء لا يتجزأ من المجتمع خارج تلك الجدران.  فيه شخصيات تُحب وشخصيات تُكره وثالثة رمادية وباهتة لا يشعر بوجودها أحد بمن في ذلك المرضي الآخرين.  إنه فيلم قشيب ممتد كمنوال واحد من العرض منتقلاً بين الحالات دون هفوات، لكنه أيضاً فيلم يخلو من التجديد في العرض. من تلك اللقطات التي ربما تصوّر شيئاً بعيداً عن الموضوع داخل المكان ذاته. تلك اللقطات التي تدخل السياق لأنها من أهل المكان ومن بيئته ومن عالمه
من الهند، ومن دون إعجاب يُذكر، عرض المخرج أنوراج كاشياب «الفتاة ذات الحذاء الأصفر« الذي شدد على كونه لا ينتمي الى السينما البيلوودية، ربما انتاجاً لكنه فكراً وحسّاً ينتمي وزيادة. إنه قصّة بوليسية  تندفع في البحث عن المقوّمات القانونية والعاطفية حول واجب الفتاة حيال أبيها والتضحية الكبيرة التي تقوم بها. ترتفع الأماني وتنخفض درجة المنجز على صعيد العمل الفني وجدّيته

الجزيرة الوثائقية في

27/09/2010

 

" كوران" يضغط كلاسيكيّات السينما ويُخضعها للجراحة

ترجمة صلاح سرميني ـ باريس 

لقد سنحت لي الفرصة باكتشاف السينما في فترةٍ ـ الستينيّات ـ كان من المُمكن الحصول على لمحةٍ مُركزة عن الفنّ السابع، كنتُ، على الأرجح، واحداً من آخر الأجيال التي استطاعت امتلاك تلك الرؤية العامة، أقول " كان من المُمكن"، لأنه، عقدين، أو ثلاثة في وقتٍ لاحق، بلغ انتشار الأعمال السينمائية درجةً بحيث أنّ أيّ شخصٍ يريد الإحاطة بهذه الرؤية، سوف يُخاطر بدفن نفسه في كتلةٍ مُكتظة بالأفلام.

بوضوح، كان الأمر أكثر يُسراً عندما أصبحتُ هاوياً عنيداً للسينما، كانت السينمات الكبرى في العالم مقتصرةً على السينما الأمريكية، السوفيتية، الإيطالية، البريطانية، الفرنسية، اليابانية، وبعض السينمائييّن العباقرة المُنعزلين هنا، وهناك (دراير، بونويل، برغمان،..)، وبدءاً من الستينيّات، وبفضل اختراق الموجة الجديدة، وتقنية السينما المُباشرة، حصلت سينماتٍ جديدة على مكانٍ لها تحت الشمس: السينما الجديدة في البرازيل، وتمكنت سينماتٍ أخرى من الحصول على قطعةٍ في السماء الزرقاء: الواقعيات الجديدة في بلدان أوروبا الشرقية سابقاً (تشيكوسلوفاكيا، بولونيا، هنغاريا،....)، السينما الحرّة في إنكلترا، السينما الجديدة في كيبك،. ...كانت تلك الرؤية المُركزة، والشاملة حقيقية دائماً، ولكن، مع بداية التسعينيّات، لاحظتُ ظاهرةً جديدة : هناك أعدادٌ أكثر فأكثر من هواة السينما لا يعرفون شيئاً، أو قليلاً، عن تاريخ السينما، ولسببٍ وجيه، تزايد عدد الأفلام المُنجزة في العالم بدون توقف، وأصبح من الصعب على مرّ السنين امتلاك تلك النظرة العامة، وأكثر من ذلك، مع الاختفاء المُبرمج لنوادي السينما، والمجلات المُتخصصة عن السينما، لم يعد الهاوي المُبتدئ يمتلك علاماتٍ كافية لتشكيل رؤيةٍ واضحة لتاريخ السينما.

من جهةٍ أخرى، يتضاعف عدد الأفلام المُنجزة في كلّ بلد (في فرنسا تخطى الإنتاج من 50 فيلماً عام 1940 إلى 100 عام 1950، وأكثر من 200 في التسعينياّت)، ومن جهةٍ ثانية، يزداد عدد السينمات في الصناعة المُزدهرة بطريقةٍ مثيرة للانتباه دافقاً كلّ عام آلاف الأفلام الإضافية في الأسواق، وهنا لا أتحدث عن المُمارسات السينمائية المُوازية للنظام السائد، حيث تتفجر بدورها: السينما التسجيلية، التجريبية، النضالية، المُؤسّساتية الإعلانية، العلمية، الإباحية،..وتُضاف بدورها إلى الأعداد المُتزايدة من الأفلام التي أغرقت الصالات التجارية، وأيضاً، بدون حسبان الأفلام التلفزيونية التي تتضاعف أرقامها باضطرادٍ بفعل تكاثر القنوات التلفزيونية.

وكانت المُحصلة بأن وجد هواة السينما في التسعينيّات أنفسهم غارقين في زحمة الإنتاج السينمائي، وأصبح من الصعوبة متابعة كلّ شيء.

في أكثر من مرة، كنت ألتقي بهاوٍ شابّ، وكانت تصيبني الدهشة عندما أكتشف بأنّ مُحاوري لا يعرف، أو قليلاً، أعمال عظماء السينما الصامتة مثل الأخوين لوميير، ميلييس، غريفيث، دراير، إيزنشتين، لوهربييه، آبستاين، غانس، كيتون، دفجنكو، فيرتوف، مورناو،.. والذين كانوا، بالنسبة لأبناء جيلي، القواعد الأساسية للسينما (وهنا لن أتحدث عن سينمائيين أقلّ شهرةً مثل أليس غوي، ليونس بيريه،جان دوران، لوي فويياد،...والتي لا تعني أسماءهم شيئاً بالنسبة لهم).

بعد ذلك فهمت، بأنّ فئة هواة السينما الذي أنتمي إليه كان في طريقه إلى الاختفاء، فإذا كنا في التسعينيّات لا نعرف الكلاسيكيّات، كيف يكون الحال إذاً في عام 2020، 2050، 2100 ؟ وأيّ علاجٍ يمكن تقديمه لإيقاف هذا النزيف.

وهكذا، خطرت في بالي فكرة إنشاء مفهوم يستطيع أن يمنح الرغبة باكتشاف بعض تحف الماضي المجهولة اليوم، كانت الفكرة بسيطة للغاية، ضغط أفلام من ساعة، ونصف إلى 3 دقائق بحيث يمكن مشاهدة الفيلم كاملاً بطريقةٍ سريعة بدون أن يفقد لقطة واحدة من العمل الأصلي.

في الستينيّات عمد النحاتان "سيزار"، "أرمان"، وآخرين إلى ضغط كلّ الأجسام، لماذا لا نضغط الأفلام إذاً ؟، بالتأكيد، كان أولئك الفنانين الموهوبين يضغطون أشياء للاستخدامات اليومية، سيارات، أو ساعات، بينما فكرت بالهجوم على الأعمال الفنية، ولكن، كان الفرق ضئيلاً، لأنّ فعل التقليص هنا يحظى بالأهمية قبل كلّ شيء.

وجاءت الفرصة للقيام بهذا العمل في عام 1995 فترة الاحتفالات بمئوية السينما التي تقاطعت مع ذكرى ثلاثين سنة ـ عام 1965 ـ على اختراع شريط السوبر 8 كوداك، و"لقاءات النوع الثامن" في مدينة "تور" الذي كان يُبرمج أفلاماً مُنجزة بهذه الشرائط (وقد استوحى عنوانه منها) طلب من بعض السينمائييّن المحترفين إخراج فيلم عن طريق هذا المقاس، ومع دهشتي الكبيرة، كنتُ الوحيد الذي استجاب إيجابياً لتلك الدعوة، وأنجزتُ وقتذاك تكريماً لعام 1965 بضغط فيلم شهير ظهر في ذلك العام، "ألفا فيل" لـ"جان لوك غودار"، وأطلقتُ عليه عنوان "ألفا فيل المضغوط".

وبناءً على ردود الأفعال الإيجابية من طرف الجمهور، أكملتُ مشروعي بضغط فيلم "على آخر نفس" لـ "جان لوك غودار"، و"نياغارا" لـ"هنري هاتاواي" مع "مارلين مونرو"، وفيما بعد، في الألفية الثانية، واصلتُ ضغط أعمال عزيزة على نفسي : "نظرية" (بازوليني)، "موت ماريا ماليبران" (فرنر شروتر)، "الكشاف، والخلوّات السامية" (فيليب غاريل)، أفلام "غي ديبور"، ومنها "صرخات في صالح ساد" الذي أنجزه من صورٍ بالأبيض، والأسود، وأصبحت ومضاتٍ مع التسارع الذي أحدثه ضغط الفيلم.
"
الاحتقار"، و"شيئان، أو ثلاثة  أعرفه عنها"(غودار)، "سايات نوفا" (بارداجانوف)، فيلم معروفٌ قليلاً "الألعاب"، وآخرٌ أقلّ "المغامرات الأرٍبعة لرينيت، وميرابيل"(وفيه مثلتُ فيه دوراً صغيراً) لـ "إيريك رومير"، حوالي 40 من أشرطة "الأخوين لوميير"، ومجموعة أفلام مثلتها "بريجيت باردو"(الحقيقة، عاشت ماريا، إلخ ...).

***

فلنتحدث قليلاً عن الأسرار الصغيرةٌ في صنعها، كانت الأفلام المضغوطة الأولى، بالنسبة لي، طريقاً مليئاً بالعذابات التقنية، لأنني صورتُ صورةً، صورة (صورة واحدة في الثانية) الفيلم معروضاً على شاشة تلفزيون تسجليه مُسبقاً على شريط فيديو، وبعد سنوات، أضفتُ تحسيناتٍ على تلك الطريقة، وذلك بإدخال الفيلم المُراد ضغطه في الكمبيوتر، واستقطاع صورة واحدة من كلّ لقطة، ولصقها متتابعةً الواحدة بعد الأخرى، وعلى الرغم من السرعة التي حصلتُ عليها، كانت العملية تجريبية، ومُملّة.

من أجل الحصول على فيلم مضغوط مدته من 3 إلى 4 دقائق، يجب أن أضع بشكلٍ مُتعاقب من البداية إلى النهاية بين 4300(لفيلم مدته ساعة، ونصف)، و5500 صورة (لفيلم مدته ساعتين).

بالتأكيد، مع هذا الإيقاع يلزمني أكثر من حياةٍ لضغط التحف الأساسية في تاريخ السينما، أخيراً، خلال الألفية الثانية، وبفضل نظام تقنيّ للمونتاج وضعته في جهازي، برمجتُ الآلة كي تضغط الأفلام أوتوماتيكياً، وهكذا، بمُساعدة هذا النظام، استطعتُ ضغط حوالي 30 فيلماً، ومن المُقرر إجراء المزيد من ضغط الأفلام، سوف أنتهي منها في المُستقبل القريب.

من المُؤكد بأنّ الفكرة تُثير عدداً من التساؤلات:

ـ هل يمنح الفيلم المضغوط أهميةً للفيلم الأصلي، ويثير الرغبة بمُشاهدته ؟

ـ هل يحقّ لنا الاقتراب من أعمالٍ سينمائية سابقة، وأكثر من ذلك عندما تكون تحفاً سينمائية ؟

ـ هل بالإمكان إزالة الضغط، وإعادة الفيلم إلى شكله الأصلي ؟

أدعُ المتفرج يجيب عن السؤال الأول، لأنه، في الحقيقة، يتوّجه إليه مباشرةً، وهو الوحيد الذي يستطيع الإجابة عنه.

وبالنسبة للسؤال المُتعلق بحرمة العمل الفنيّ، هل يحقُ لنا، أم لا إضافة نظرة نقدية بتعديل عمل، وتحويله؟.

بإمكاني القول، بأنّ هذا الأمر قد تحقق سابقاً منذ الفنّ المُعاصر، دعونا نتذكر الشاربيّن اللذين وضعهما "مارسيل دوشا" على لوحة "الجيوكندا"، لم يكن أبداً هدف مُكتشف "الأعمال الجاهزة" الاستحواذ على لوحة "ليوناردو دافنشي"، ولكن، بدءاً من عملٍ سابق، إنجاز إبداع آخر، ابتكاراً جمالياً، عملاً جديداً يختلف تماماً عن الأصل.

فيما يخصّ السؤال الثالث، نعم، من المُمكن إزالة الضغط عن فيلم مضغوط، وإعادته إلى حالته الأولية، في لحظة عملية الضغط، يفقدُ الفيلم 96 بالمائة من صوره، ومع الـ 4 بالمائة الباقية، يستطيع الكمبيوتر إعادة تشكيل الفيلم بكامله، حيث تتضاعف كلّ صورة 25 مرة(في الكمبيوتر نعمل وُفق 25 صورة في الثانية مع أنّ الفيلم يتمّ تصويره بنظام 24 صورة في الثانية)، وكلّ واحدة تذوب في الصورة السابقة، واللاحقة، بحيث يتمّ بناء الفيلم عن طريق سلسلةٍ من التلاشي، والظهور المتواصليّن، لقد أقدمتُ على هذه التجربة مع فيلمين "على آخر نفس"، و"شيئان، أو ثلاثة أعرفها عنها" لـ"جان لوك غودار"، وأصبحا بعد هذه العملية المُزدوجة، ضغط/ إزالة ضغط :"كتلة "(À bloc)، و"مشيّ"(Déambulation)، كانت النتيجة مُذهلة،

وإذا تحدثتُ عن "على آخر نفس" كمثال ـ الذي أصبح (À bloc) ـ ندرك بأنّ الفيلم عانى من صدمةٍ إيقاعية، وأُعيد النظر بشكلٍ كامل في حركته، وبنائها، وتكوينها، لقد امتلك الفيلم معنى جديداً، وتراجعت الحبكة البوليسية إلى المستوى الثاني، العملية الجراحية التي أُجريت طبعت فيلم "غودار" إيقاعاً موسيقياً، ومنحت الثنائيّ"بولموندو/ سيبيرغ" أسلوباً راقصاً، ودائرياً.

في نهاية المطاف، نهتم أكثر بحركات شخصياتٍ تتحرك في المكان، وقصة حبّ "ميشيل بواكار" مع "باتريسيا"، أكثر من قصةٍ بوليسية مألوفة تماماً

هامش:

النصّ من كتابة السينمائيّ الفرنسيّ "جيرار كوران"، وتمّت ترجمته بمعرفته، وموافقته الشخصية.

لمعرفة المزيد عن "الأفلام المضغوطة" يمكن قراءة :

"جيرار كوران" يصنعُ أفلاماً مضغوطة، صلاح سرميني، موقع الجزيرة الوثائقية، الأحد 12 سبتمبر 2010

http://doc.aljazeera.net/followup/2010/09/201091293254474532.html

الجزيرة الوثائقية في

27/09/2010

 

الرأسمالية: قصة حب آخر أفلام مايكل مور

ناصر ونوس 

يواصل مخرج الأفلام الوثائقية الأمريكي مايكل مور فضح السياسات الأمريكية داخلياً وخارجياً من خلال أفلامه الوثائقية المذهلة والمثيرة للجدل. فبعد الأفلام التي جلبت له الشهرة العالمية مثل "روجر وأنا"، و"بولينغ فور كولمباين"، و"فهرنهايت 11/9" يأتي فيلمه الأخير تحت عنوان "الرأسمالية: قصة حب" ليبرهن لمشاهديه أن الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هي شر مطلق، ووباء على الشعوب، وبالتالي لابد من القضاء عليه.

يبدأ الفيلم بكلمة قصيرة يقدمها أحد الرواة ينبه فيها المشاهدين إلى أن الفيلم يحتوي على مشاهد ربما لن يتحملها المتفرجون ذوي القلوب الضعيفة أو السريعو التأثر، لذا ينصح المتفرجين من هذا النوع بمغادرة صالة السينما، خاصة إذا كانوا يصطحبون معهم أطفالاً، وبالتالي يضعنا المخرج منذ البداية في جو من الترقب والتوجس. بعد ذلك تنطلق أغنية عن شخص أسمه لوي يرافقها مشاهد سطو على البنوك وسرقتها. يعقبها فيلم قصير عن الحياة في روما القديمة تتم من خلاله، وعبر مونتاج متوازي، عقد مقارنة بين الإمبراطورية الرومانية والأسباب المحتملة التي أدت إلى انهيارها والإمبراطورية الأمريكية والأسباب المماثلة التي ستؤدي إلى انهيارها بدورها. وأحداث الفيلم التالية هي كلها مأخوذة من الواقع الأمريكي، بوصفها وثائق، أو أدلة بصرية، وفق تعبير باري هامب، مؤلف كتاب "صناعة الأفلام الوثائقية" (يصدر قريباً بترجمة كاتب هذه السطور عن مشروع كلمة في أبو ظبي)، وهي التي برأي المخرج ستفضي إلى انهيار الإمبراطورية الأمريكية. إنها، بكلمة أوضح، أدلة بصرية على انهيار هذه الإمبراطورية.

إن أول هذه الأدلة هو الأزمة الاقتصادية الشهيرة التي عصفت بالمجتمع الأمريكي، أي أزمة الرهن العقاري، التي أدت إلى طرد ملايين المواطنين من منازلهم وتحويلهم إلى مشردين، لا لشيء إلا لخدمة أصحاب البنوك ومضاعفة ثرواتهم على حساب الشعب البائس. ومشاهد طرد المواطنين ورمي عفشهم في الزبالة تتكرر في طول البلاد وعرضها، من ليكسينغتون في كارولاينا الشمالية إلى ديترويت في ميتشيغان. المنازل التي ولدوا وتربوا وعاشوا فيها طوال حياتهم (أحدهم طرد من منزله الذي يعيش فيه منذ 41 عاماً). وهذا في نظر أحد الضحايا من إلينوي قد يؤدي إلى "ثورة بين هؤلاء الفقراء الذين لم يعد يملكون شيئاً وبين الأغنياء الذين يملكون كل شيء". فهذا المواطن يطرد من المنزل الذي بناه بيديه على الأرض التي ورثتها زوجته من والديها. إنهم كادحون من الطبقة الوسطى لا يريدون شيئا سوى البقاء على قيد الحياة وفق تعبير الزوجة التي تحكي قصتها وهي تشهق بالبكاء. لقد بيع البيت لشخص آخر، وما على أصحابه إلا إخلاءه على الفور. هذه هي الرأسمالية وفق تعبير راوي الفيلم، وهو المخرج مايكل مور نفسه. إنها نظام الأخذ والعطاء، والأغلب نظام الأخذ من المواطنين متوسطي الدخل دون إعطائهم شيئاً إلا ما يبقيهم على قيد الحياة كي يستمروا في العطاء للأغنياء. "فمتى ستبدأ الثورة؟" يتساءل راوي الفيلم. المواطن الذي طرد من منزله فعل كل ما بوسعه ماعدا سرقة البنوك. فماذا عليه أن يفعل الآن؟ هل يسطو على أحد البنوك لاسترداد ماله؟ يتساءل. لكنه لا يستطيع. الشخص الذي يشترى المنازل بأسعار بخسة ويبيعها بأرباح عالية يشبِّه نفسه بالنسر الذي ينقضُّ على الجثة لينظفها بعدما نهشتها الوحوش المفترسة. إنها الرأسمالية. يعود المخرج إلى أحد الأفلام القديمة (بالأبيض والأسود) الذي يطرح مسألة الرأسمالية على بساط البحث. وذلك بمونتاج متوازي أيضاً مع مشاهد حوارية مع أحد أصدقائه الممثلين الذين درسوا الاقتصاد والسياسة إلى جانب التمثيل ويناقش طبيعة النظام الرأسمالي وقوانينه. ثم يتحدث المخرج عن نفسه بوصفه ابن عائلة أمريكية متوسطة الدخل في الخمسينات تتمتع بمستوى من الرفاهية الاجتماعية مثل الضمان الصحي والقدرة على شراء سيارة كل ثلاثة أعوام وإرسال الأولاد إلى الجامعة دونما حاجة للاستدانة من المصارف، وقضاء عطلة الصيف خارج الولاية التي يعيشون فيها، وغير ذلك... وإذا كانت الرأسمالية هكذا فهو يحبها، كما يحبها الجميع، ومن هنا أتى عنوان الفيلم. لكن كل هذه الرفاهية الاجتماعية تغيرت مع حقبة كارتر عندما أعلن عن تحول تاريخي في النظام الرأسمالي الأمريكي. حيث لم تعد قيمة الإنسان بما يعمل وإنما بما يملك. ومن ثم ضرورة تعيين زعيم جديد ليصنع التغيير ويواصل هذا التحول ويقضي على كل أحلام المواطنين بتحسين حياتهم. وكان أن جاء هذا الزعيم من عالم التمثيل، ولكن أي تمثيل؟ إنه التمثيل الرخيص، تمثيل الإعلانات عن المنظفات، وبعض المنتجات الاستهلاكية، إنه الرئيس رونالد ريغان، الذي يظهره المخرج في لقطة أرشيفية وهو يعلن عن أحد منظفات الأيدي "الذي ينظف بالفعل". هذا هو الرجل الذي يجيد الكلام ليجد أصحاب وول ستريت ضالتهم فيه. رجل يستطيع إقناع الأمريكيين بأن عليهم أن يصبحوا خدماً لأصحاب وول ستريت والبنوك والشركات الكبرى. وكان أن تم تنصيبه في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1980، وفي حفل التنصيب كان يقف على يمينه داون ريغن رئيس ماريل رينش أكبر وأغنى شركة سمسرة في العالم. والذي استلم في حقبة ريغن منصب وزير الخزانة ليلغي اقتطاع الضرائب من الأغنياء.

ومن هنا بدأت أمريكا تدار كما تدار الشركة. فأصبحت الشركات الكبرى هي المستفيد الوحيد، بينما كان المتضرر الأكبر هم الملايين من عامة الناس الذين طردوا من وظائفهم، ليطلب من زملائهم المتبقين مضاعفة ساعات عملهم لكن بالأجر نفسه. يقارن المخرج وضع الشركات والعمال في أمريكا مع نظرائهم في أوروبا واليابان، ويقول إن صناعة السيارات وشروط العمل وحقوق العمال هناك أفضل من مثيلاتها في أمريكا. فهناك لا يريدون تدمير الطبقة الوسطى. بينما في الولايات المتحدة تم طرد الملايين من وظائفهم خلال السنوات الأخيرة. يجري المخرج مقابلات مع بعض الذين طردوا من وظائفهم، يروون مأساتهم وينتحبون على المصير الذي وصلوا إليه. ثم ينقلنا مباشرة إلى مشهد للرئيس بوش وهو يرقص ويغني ويلهو غير آبه بهذا الانهيار الاقتصادي الذي عصف بالبلد، والكوارث التي نزلت بعشرات الملايين من المواطنين. ثم يظهره في مشهد آخر وهو يتحدث عن "المزايا العظيمة" للرأسمالية. يتداخل هذا المشهد مع مشاهد تكذِّب ما يقوله الرئيس، عندما تظهر سعي الناس الحثيث للحصول على فرصة عمل، لكن دون جدوى. ثم يتابع مايكل مور إظهار أوضاع الناس في ظل هذا النظام الرأسمالي الذي يتغنى به بوش. يجري مقابلة مع طيار اضطر أن يمارس عملاً إضافياً أثناء قيادته للطائرة، وهو ختم المعلبات، لا لشيء إلا لتأمين قوت يومه لا أكثر. هذا الطيار يتحدث عن زملاء له اضطروا لبيع بلازما دمهم كي يشتروا حاجياتهم اليومية.

يتابع الفيلم عرض القصص عن ضحايا هذا النظام الرأسمالي المتوحش. فالبنوك تربح حتى من الأموات، بل إن موت أحدهم هو فرصة للبنك كي ينقضّ على أسرته ويسرق عنوة ما تبقى لديها من مال عبر سندات وهمية. مثلما حدث لإيرما جونسن التي مات زوجها الذي كان موظفاً إدارياً في أحد بنوك هيوستن/ تيكساس. لقد مات بسب مرض السرطان تاركاً وراءه زوجته وولدين. ادعى البنك أنه هو الذي يجب أن يكون المستفيد من التأمين على حياة الزوج. ثم بلّغت شركة التأمين زوجته بأنها أعطت البنك شيكاً بمبلغ مليون ونصف مليون دولار بعد أسابيع من وفاة الزوج. ولم يخبروها متى أو لماذا اشترى الزوج سند أمانة بهذا المبلغ. وبالتالي فإن موت زوجها، كما يعلق الراوي خلال مقابلته لها، زاد ثروة البنك مليون ونصف المليون من الدولارات كان يجب أن تعود إلى أسرة الفقيد. لقد صعقت الزوجة بهذه الحادثة ولم تتلق منهم أي جواب على أي سؤال طرحته عليهم. مثل هذه الحادثة يمكن أن تقع كل يوم في أمريكا. حيث يعرض المخرج قصة مماثلة حدثت مع عائلة أخرى. مما يدفع بالمخرج لمواصلة بحثه عن جواب لسؤال عن ماهية هذه الرأسمالية. يطرح السؤال على أحد رجال الدين الذي يجيب بأن: "الرأسمالية هي شر. هي ضد كل ما هو جيد وخيّر في العالم، ضد الأديان السماوية، وأن الكتاب المقدس يخبرنا أن الله سينزل ويبيدها بطريقة ما. إنها خطيئة وعلينا إبادتها"، بينما يقول عنها رجل دين آخر: "إنها الشر نفسه" وأنه من خلال الدعاية تم إقناع الناس بأن هذا النظام جيد. وهنا يعرض مايكل مور مشاهد من أرشيف التلفزيون والسينما كأمثلة على هذا النمط من الدعاية.

وماذا عن التعليم في ظل النظام الرأسمالي الأمريكي؟ في الماضي كانت الإنجازات العلمية توضع لخدمة الصالح العام. أما اليوم فإنها توضع لخدمة فئة قليلة من أصحاب البنوك والشركات الكبرى. فالبروفيسور الذي اخترع لقاحاً لشلل الأطفال رفض بيع الترخيص بصناعته لشركات الأدوية الاحتكارية وفضل وضعه في خدمة الصالح العام مكتفياً بالراتب المتواضع الذي يتلقاه من مهنته كبروفيسور. وعندما سأله أحدهم لمن ستعطي الترخيص أجاب: "للناس. فهل يمكن ترخيص الشمس مثلاً؟" لكن الأمور انقلبت بعد ذلك. فالطالب يتخرج اليوم من الجامعة وهو تحت عبء دين يبلغ أكثر من مئة ألف دولار، وأفضل طريقة لتسديد هذا الدين هو العمل لدى الشركة أو البنك الذي أقرضه، بدل العمل للصالح العام، وعليه الاستمرار في هذا العمل لنحو عشرين عاماً حتى ينتهي من التسديد.

يكشف مايكل مور في فيلمه هذا كيف يتم تدويخ المجتمع بمصطلحات اقتصادية يعجز حتى موظفو البورصة وأساتذة الاقتصاد في الجامعات عن شرحها، مثل مصطلح Derivatives . يقول مور إنهم أوجدوا هذا المصطلح ليكون غامضاً عن قصد، ويعجز أحد عن فهمه، وهو ليس أكثر من مكيدة لتوريط الناس في المراهنة على كل ما يملكونه، ورهن كل ما يملكونه بما في ذلك بيوتهم، ومن ثم قيام البنك أو الشركة الراهنة ببيعه والإفلات من الجريمة. والمنظّر لكل هذه المكائد هو آلان غريسبان الذي يوصف بأنه أذكى رجل على الأرض.

في الخامس عشر من أيلول 2008 انهار الاقتصاد الأمريكي الذي كان "مبنياً على الرمال، بينما هو متعفن من الداخل" حسب تعبير أحد الخبراء الاقتصاديين. وبعد نقاش طويل، وتبيان كيف أن السلطة لجأت إلى تخويف الشعب كي تحصل على ما تريد، مثلما حصل تماماً بعد الحادي عشر من أيلول، يتوصل الفيلم إلى النتيجة التي تقول إن المسؤول هو وول ستريت وليس الكونغرس. أين ذهبت أموال الشعب؟ يتساءل المخرج؟ لا أحد في موقع المسؤولية يجيب. فماذا على مايكل مور، كمخرج وكمواطن أمريكي أن يفعل؟ لا يجد أمامه سوى أن يقود شاحنة كبيرة ويذهب إلى البنوك لاستعادة المال إلى الخزانة الأمريكية واعتقال السارقين المتمثلين بأصحاب هذه البنوك ومدرائها. إنه الحل الفردي في ظل العجز العام لدى الشعب عن القيام بأي شيء لإنقاذ البلد. وفي هذا الحل نجد مايكل مور أقرب إلى دون كيشوت، فنكون بذلك أمام مشاهد أقرب إلى الكوميديا السوداء، إن مايكل مور يطلب من حراس البنوك مساعدته على اعتقال هؤلاء السارقين. وعندما لا يتمكن من الولوج إلى البنوك يصرخ بالموظفين من الشارع بأن يعيدوا الأموال ويلقوها إليه ليعبأها في الأكياس التي يحملها ويضعها في الشاحنة.

لقد بدأ الشعب الأمريكي بالاحتجاج، وهنا أتى أوباما بحملته الانتخابية رافعاً شعار التغيير، وهذا ما لم يعجب وول ستريت، فبدأ أصحاب المال والأعمال  بالتشويش ونشر الخوف من أن أوباما سيحول أمريكا إلى بلد اشتراكي، لكن حملات التخويف هذه أتت بنتائج عكسية، فالشعب الأمريكي يريد أن يجرب الاشتراكية ويريد الديموقراطية، بعدما أنهكته الرأسمالية. هنا بدأت البنوك وشركات الأموال تغدق عليه الأموال، وهنا بدأ التفكير بتغيير القيم. عضو الكونغرس الأمريكي الاشتراكي الديمقراطي بيرنارد ساندرز يحتج على تركيز الثروة بأيدي فئة قليلة من المجتمع، كما يحتج على الصحف التي لا تتصدر أغلفتها سوى رجال المال والأعمال الذين يجنون مليارات الدولارات وتهمل المنتجين الحقيقيين في المجتمع مثل رجال الشرطة والإطفاء والمدرسين والممرضات، وبالتالي يجب تغيير نظام القيم. لقد فاز أوباما، وكان فوزه كما يقول المخرج/ الراوي بمثابة "وداع لأمريكا القديمة". وملهماً للناس كي يفكروا بطريقة مختلفة، مثلما حدث لضابط الشرطة (الشيريف) الذي أراد كسر القوانين والعمل لخدمة الناس العاديين بدل خدمة الأغنياء. والذي يؤمن بأن اقتصاد السوق الحر أسقط البلد إلى الهاوية. كما أن الناس الذين طردوا من منازلهم عادوا للاحتجاج مطالبين باستعادتها. ونجح الاحتجاج وفشلت الشرطة وغادرت المكان وعاد عدد من المواطنين إلى منازلهم. في الوقت الذي انطلق صوت امرأة في الكونغرس مطالبة المواطنين بالتشبث بمنازلهم. بينما في شيكاغو بدأ إضراب عمال بنك أمريكا، إضراب أيده الرئيس أوباما. وانتقل الاحتجاج إلى ميتشيغان و ماساتشوستيس وكارولاينا الشمالية. واستمر الإضراب أسبوعا إلى أن تحققت مطالب العمال.

يعود المخرج إلى التاريخ القريب، ليستعيد أحداثاً مماثلة، عبر مشاهد أرشيفية، ففي آخر يوم من عام 1936 أضرب العمال في الولايات المتحدة واحتلوا المصانع لأربعة وأربعين يوماً. وقتها أعلن الرئيس روزفلت أن للعمال الحق في الإضراب، ويجب تلبية مطالبهم. وبعد سبع سنوات أعلن عن تعديل للدستور يتم بموجبه توسيع الحقوق العامة للمواطنين، مثل حق امتلاك منزل لائق، وحق العمل، والضمان الصحي، والتعليم، والعيش بأمان، وغيرها... لكن لم يتحقق أي شيء من هذا، في حين تحقق ذلك في أوروبا واليابان. "بعد 65 عاماً لم نصبح البلد الذي أراده روزفلت"، يعلق الراوي، وبدل ذلك غرقت أمريكا بالكوارث، وهنا، وكاستعارة، يعرض الفيلم مشاهد من الفيضانات التي غمرت أمريكا جراء إعصار كاترينا. ويتساءل لماذا يجب على الفقراء دوماً دفع الثمن وحدهم. ثم يعلن رفضه العيش في بلد كهذا. لكنه مع ذلك لن يتركه. ثم نجد المخرج يقوم بنفسه بإغلاق المنطقة التي يقع فيها مصرف سيتي بانك، ونقرأ على شريط الإغلاق: "موقع الجريمة، لاتعبر"، يقوم بذلك وهو يقول: "نحن نعيش في أغنى بلد في العالم، ونستحق جميعاً وظيفة لائقة، وتعليماً جيداً، ورعاية صحية، ومنزلاً يقال عنه منزل، وجريمة أننا لا نحصل على ذلك، ولن نحصل عليه طالما أن لدينا نظاماً يزيد غنى الأغنياء على حساب بقية الشعب. إن الرأسمالية شر، ولا يمكننا إصلاح الشر. عليك القضاء عليه أو استبداله بشي آخر يعمل لصالح الناس، وهذا الشيء اسمه الديمقراطية". ثم يحمل بيد مكبراً للصوت وهو ينادي بأن جرائم ارتكبت هنا. وهو الآن قادم لاعتقال المجرمين. ويدعو الناس الذين يشاهدون الفيلم للانضمام إليه والمشاركة في اعتقال المجرمين.

هذه هي قصة الرأسمالية في الولايات المتحدة الأمريكية، في البداية كانت قصة حب، وفي النهاية صارت قصة كراهية. من هنا أنصح زعماء دول العالم الثالث ورؤساء الحكومات ووزراء الاقتصاد والتخطيط في هذه البلدان مشاهدة هذا الفيلم كي يعرفوا كيف أن خيار النظام الرأسمالي لن يقود مجتمعاتهم إلا إلى المزيد من الكوارث، وهذه هي التجربة الرأسمالية في أسطع وأقوى نماذجها، النموذج الأمريكي. إنها تجربة ماثلة أمامهم. تجربة نظام لا يحمل إلى المجتمعات إلا الشر المطلق. ولا يقودها إلا إلى الكوارث.

الجزيرة الوثائقية في

27/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)