حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مرثية للسينما في عالم صاخب

العرب أونلاين- رمضان سليم

لا تهم كثير تلك التقسيمات التي وضعها المخرج كونتين تارنتينو في آخر أفلامه "أوغاد مجهولون"، فلقد سبق له أن فعل ذلك، ولاسيما في فيلمه "قصص شعبية – 1994" فهناك دائما حكايات صغيرة داخل القصة الرئيسية، وبصرف النظر عن قيمة تلك الحكايات وصلاحيتها في أن تكون منفصلة، فهي في جميع الأحوال حكايات متداخلة، ويمكن ازالة التسميات، المبدئية التقليدية، ليعود الفيلم الى نفس تتابعه وسرده دون تأثير أو تأثر.

أيضا لا يهم ذلك السارد الذي برز مرتين ليفسر للجمهور بعض الجوانب من الفيلم وكان بصوت الممثل صموئيل جاكسون، اذ يمكن الغاء هذا السارد دون أن يتأثر الفيلم كثيرا.

هناك أشياء أخرى لا تهم كثيرا، منها بعض المشاهد المطولة في حفلات الأكل مثلا، وبعضها مقترنة بالعنف وادعاءات البطولة، ومقترنة أيضا بالحوارات الملتوية التي يتفنن في صياغتها تارانتينو، اذ نراه يصر دائما على كتابة السيناريو والحوار بالإضافة الى الإخراج.

* مخرج وتفاصيل

لكن إذا اعتبرنا كل ذلك غير ضروري، فماذا يتبقى من هذا المخرج وماذا يتبقى من أسلوبه؟ وماذا يتبقى من تراكيبه الساخرة التي تلون أفلامه؟

هذا هو المخرج كونتين تارنتينو، يقبل بكل الاستطرادات التي يقدمها. والنتيجة التي يمكن الإحتكام إليها انها ترجع الى قابلية الفيلم للنجاح عند الجمهور وعلى المستوى الفني والنقدي.

نعم أن الكثيرين لا يروق لهم هذا المخرج، بسبب اقترابه من اللعب في أفلامه، أو في بعض أفلامه على الأقل، وهو لعب متقن على أية حال، على الجمهور وبالممثل، في هذا الفيلم "أوغاد مجهولون" محاولة للاقتراب من الكلاسيكية، فهو يشير الى السينما التقليدية التي ربما نجدها في أفلام الحروب، أو كما قال بعض النقاد أفلام الحرب الأوروبية والتي اشتهرت بها ايطاليا في مرحلة معينة، فيما يعرف باسم "اسباغتي الحرب".

مع وفرة في استعراض العنف، بطريقة قد تبدو ساخرة ومريرة في نفس الوقت، وكل ذلك له مرجعية سينمائية، فهذا الفيلم يشير الى أفلام أخرى ويتداخل معها، ليس على مستوى الشكل أو استخدام الموسيقى فقط، ولكن ايضا على مستوى التعامل مع الانتاج السينمائي في مرحلة معينة سيطرت فيها السينما على الثقافة الشعبية بمفهوم السينما "دار عرض" ومفهوم الافلام الخام والتي يتم تحميضها بعد التصوير لتعرض على الجمهور بآلات عرض خاصة.

* مشاهد مختارة

لابد لنا من العودة الى المشاهد الاخيرة في هذا الفيلم، لكي تكون منطلقا للحديث، ويمكن اعتبار ما قبل ذلك مجرد مقدمات ضرورية للوصول الى هذه المشاهد المقصودة.

تسير أحداث الفيلم "أوغاد مجهولون" نحو مشهد حرق السينما بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، السينما باعتبارها مكانا للعرض السينمائي، وكذلك السينما باعتبارها تاريخ ومخزن كبير وربما أرشيف يجمع كل الأفلام القابلة للعرض.

إنها افلام السيلوليد وما صور عليها من وقائع وأحداث. بل إن هناك فيلم جديد يضاف الى الفيلم المعروض، وهو فيلم يحتوي على مشاهد للفتاة شوشانا وهي تعلن انتقامها بتفجير القاعة بكل ما فيها من أجهزة وأفلام، والأهم الجمهور الذي جاء لمشاهدة الفيلم الالماني المعروض "فخر الأمة" والذي يعكس غرور وبطولة القوات الالمانية ضد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، حيث أن الفيلم يصور بطولة ضابط الماني استطاع أن يقتل المئات في يومين، وهو بالتالي يستحق التخليد بتصوير فيلم حول بطولاته وبحضور أهم القادة الألمان ومن بينهم وزير الدعاية غوبلز والأهم زعيم الحرب هتلر ومن القادة الأربعة الذين بوجودهم تستمر الحرب وبموتهم تنتهي الحرب.

انها نظرة ساخرة لإنهاء الحرب العالمية الثانية، على طريقة تارنيتنو، ليس لها علاقة بالحقيقة أو الواقع.

* مقدمات معلنة

لكن الأمر قد يسير نحو أبعد من ذلك، إذ نجد أنفسنا أمام مقدمات معلنة لانتهاء حقبة مهمة طغت فيها السينما على سائر الفنون، حتى أن هناك حوار داخل الفيلم يتحول فيه الصراع بين ألمانيا وأمريكا ومن معها من الدول الأوروبية الى صراع حول السينما، حيث يرى غوبلز أن هوليوود ينبغي أن يتم تجاوزها بأفلام ألمانية منتجة، وبالتالي إنهاء سيطرة الرأسمالية اليهودية على إنتاج هوليوود وأحلام الإنتاج السينمائي الالماني بديلا له.

يعكس المشهد ما قبل الأخير فكرة احتراق السينما، أو انتهاء السينما أو نهاية عصر السينما بمعناها التقليدي، ويمكن اعتبار كل ذلك مجرد هواجس ومخاوف من أن يكون ذلك الأمر صحيحا، أن يعتبر تراث السينما بكل أفلامه وعلبه مجرد وسيلة قابلة للاشتعال بما يحويه من نترات، وخصوصا في أفلام ما قبل السبعينيات، وحتى في حال انتقال المحتويات الى وسائط أخرى، فإن الركام الكبير من الأفلام، لن يكون له هدفا إلا ان يكون وسيطا للاشتعال.

هذا الأمر ينطبق على بناء السينما نفسه، فهذه الدور الكبيرة التقليدية في طور الاختفاء التدريجي والأمر لا يقاس بالسنوات القصيرة، ولكن هناك مؤشرات كثيرة تدل على أن هذه الطريقة في العرض السينمائي في سبيلها الى الاختفاء لتحل محلها العروض الفردية بوسائط جديدة مختلفة.

* انتقام فتاة

حتى إذا قلنا بأن الهدف هو الانتقام في الفيلم بالنسبة لفتاة يهودية تدعى شوشانا، بغرض التخلص من أكبر تجمع ألماني من الجمهور وخصوصا وأنه يشمل العديد من القادة والمسؤولين، حتى إذا قلنا ذلك، فإن استخدام الأفلام باعتبارها مادة مشتعلة والعمل على تدمير بناية السيما، فيه تفريط في ممتلكات شخصية وثقافية أولا وأخيرا، والدلالة الرمزية هنا هي الأكثر فعالية مهما بلغت درجة الانتقام وحدوده القصوى.

يمكننا أن نعود الى بداية هذا الفيلم "أوغاد مجهولون"، حيث جاء عنوان الجزء الأول: حدث ذات مرة في فرنسا المحتلة لأيام النازية، ولا شك أن البداية موفقة حيث يبدو الضابط النازي كصائد الرؤوس، يجري مسحا شاملا من أجل القبض على اليهود الفارين من النازية ويصل الى بيت هادئ وريفي ويقتل اليهود الذين يختبئون بمعرفة صاحب البيت. يموت الجميع الا واحدة وهي شوشانا التي تهرب وتترك كذلك، الى حين أن تظهر باسم جديد "مانويلا"، صاحبة سينما، تعرض الأفلام الفرنسية والالمانية ويساعدها في ذلك فرنسي أسود.

ان المحرك لكل الأحداث هو فعل الانتقام الذي ستقوم به شوشانا، وهي مسألة عرضية، جاءت بالصدفة، عندما اختيرت السينما التي تملكها بديلة لسينما أخرى، تعرض فيلم "فخر الأم"ة وبحضور عدد من زعامات النازية دون ترتيبات كبيرة للحماية.

يسير الفيلم نحو الانتقام في هذا الاتجاه، يقابله اتجاه آخر لا يلتقي به مطلقا، وهو عملية عسكرية يقودها ضابط جنوبي امريكي "الدو" يعرف باسم الرجل القصير، وهو ليس كذلك، ومعه ثمانية من المغامرين الذين يتم اختيارهم للقيام بعملية حربية، وقد قدمت السينما أفلام كثيرة تقوم على هذه الفكرة وعلى رأسها "اثنى عشر رجلا قذرا" و"مدافع نفارون" وغير ذلك من الأفلام.

* فرصة خاصة

الجديد الذي يقدمه تارنتينو أن هذا الضابط الذي قام بدوره "براد بيت" له صفة البلاغة في الكلام، وهو أشبه بالدور الذي قام به صموئيل جاكسون في فيلم "قصص شعبية" بالإضافة الى أن هذه الزمرة العسكرية المختارة للنزول في المناطق الفرنسية وتدمير السينما التي تعرض الفيلم الالماني، لا تتميز بأي رادع ولو ظاهري، فهي لا تختلف كثيرا عن النازيين، فالضابط "الدو" يقوم برسم علامة الصليب المعوف بآلة حادة على جبهة الجنود الألمان، وباقي الزمرة من اليهود يقومون بأعمال شرسة، بما في ذلك الدب اليهودي الذي يضرب بعصاه حتى الموت كل من يصل إليه من الألمان، وحتى بعض الأفراد أحيانا، يتركونهم أحيانا لكي يقوموا بعملية إيصال الدعاية السيئة وينشرون الفزع من هول ما تعرضوا له.

إن سخرية تارنتينو تمتد الى الجانب المقابل، فنحن في هذا الفيلم لسنا أمام مجموعة من اليهود يفرون في كل مكان هربا وهم ابرياء في مقابل ما تقوم به النازية ضدهم، ومع ضعف هذه الرواية التي تعلي من شأن معسكرات الاعتقال، فإن هذا الفيلم يبرز اليهود وقد قدموا من الخارج لينتقموا بصورة أشنع، وهم فوق ذلك على استعداد لتدمير دار السينما بكل ما تحمله من معنى ثقافي في سبيل التخلص من عدوهم الالماني المتربص بهم، وفق تصورهم.

من الطبيعي ألا يعجب ما قدمه تارنتينو في هذا الفيلم اليهود، فهم يصرون دائما على أن يظهروا بمظهر الابرياء الذين يبعثون الشفقة ويحتاجون الى المساعدة.

* سياق الفيلم

في الفيلم مظاهر للعنف غير مبررة لأن السياق لا يراهن على ذلك، ومن ذلك مثلا جزء فروة الرأس الذي تكرر أكثر من مرة والضرب بالعصى الغليظة والقتل الجماعي في أكثر من موضع، واستخدام إطلاقات الرصاص الجماعية، ومظهر العنف هنا يتفق عليها الجميع بلا تفريق في الجنسية، والغريب هنا أن العنف الشديد قد ارتبط بالقوات الامريكية وبالعناصر اليهودية الامريكية المشاركة في الحرب، ونقصد بالغرابة عدم تعود المشاهد على اظهار قوات الحلفاء بهذه الصورة، حتى أن الدو، قائد القوات، يقوم برسم صليب على جبهة الالمان لكي يجعلهم نازيين الى الأبد وأينما ذهبوا. إنه يصر على صناعة عدوه ودائما من جديد!

في المقابل هناك هتلر الذي لا يشبه هتلر، وهناك غوبلز الذي يهتم بالسينما وإنتاج الأفلام ولا يبالي كثيرا بالحرب، وهناك أيضا الضابط زولر الالماني الذي يهتم بالسينما أيضا، بل ويقتل من قبل الفتاة التي يحبها شوشونا وهو لا يعلم ماذا تخطط من انتقام.

* امتياز خاص

يبرز في الفيلم الممثل النمساوي كريستوف ولتز والذي قام بدور سرهانس الضابط الالماني الذي يطارد اليهود في البداية، ثم يعمل على نزع فتيل عملية كينو الخاصة بتدمير السينما، ولقد تحصل هذا الممثل على جائزة التمثيل في مهرجان كان السينمائي 2009 عن جدارة واستحقاق بفضل الفرادة والتميز والمراوغة في الأداء، ولعل أفضل المشاهدات التي قدمها هي ذات الطابع الحواري كما في التنقل بين الأداء الساخر والجاد.

وتبرز أيضا الممثلة الفرنسية ميلاني لورنيت في دور الفتاة اليهودية الهاربة والمنتقمة. كما تبرز أيضا الممثلة الألمانية ديانا كروجسر والتي جسدت دور العميلة لصالح الانجليز، ولعل في دورها إشارة الى الممثلة الالمانية مارلين ديترتيش والتي اشتهرت بأنها جاسوسة للحلفاء.

يستفيد المخرج من أفلام كثيرة فيشير الى الناقد السينمائي الانجليزى ارشيبالد هيكوس الذي يلتقي تشرشل ويستخدمه الأخير في عملية "كينو" كما أن بالفيلم أيقونات موزعة هنا وهناك، بعضها من أفلام وبعضها لصور ومعالم ترجع الى أيام الحرب العالمية الثانية، والتي أجاد المخرج نقل تفاصيلها، رغم ان العناية بالملابس قد احتوت على الكثير من المبالغة بما فيها من مظاهر التأنق، بما يتناسب مع فساد الشخصيات من الداخل، حيث الغدر والخسة والدناءة، وهي مرادفات اقترنت بمعظم الشخصيات، وحتى الضابط الالماني سرهانس يعقد صفقة في آخر الفيلم لكي ينجو بنفسه وتتحقق عملية "كينو" وتنتهي الحرب الثانية، لكنها صفقة خاسرة بالطبع لأن الأوغاد حاضرون دائما في كل مكان، ويكون مصيرهم الموت.

* خطأ لغوي

لم أفهم كثيرا، فكرة الأحرف المتغيرة، وفق عنوان الفيلم بخطأ لغوي مقصود، ونقصد بذلك كتابة العنوان على "أفيش" الفيلم، لكنها دعابة ساخرة من المخرج وهي مجرد جزئية في تفاصيل أخرى، مثل التلاعب اللفظي في الحوار والاشارات.

وعلى سبيل المثال تحدث مذبحة لمجرد الاشارة باليد للمكان الذي يختبىء فيه عدد من اليهود في بداية الفيلم، وتحدث مذبحة ايضا بعد اشارة باليد خاطئة، يموت عندها عدد من الاشخاص في حانة في باريس قبل بداية تنفيذ العملية "عملية كينو".

وهكذا يأتي العنف بكل بساطة، وفي حالة غير متوقعة، وبكل برودة أعصاب وهو أمر سبق للمخرج أن قدمه في عدة أفلام سابقة مثل "أقتل بيل 1+2"، وكذلك "جاكي براون" أشهر أفلامه ثم فيلم "برهان القتل" ثم "قصص شعبية" وكذلك فيلم "كلاب المخزن" أول أفلام المخرج إنتاج عام 1992.

لم يكن الدور مناسبا للممثل براد بيت فقد بدا تائها رغم حضوره باعتباره نجما سينمائيا والمقارنة بعيدة بين دوره فى فيلم "القصة الغريبة لبنجامين بوتون: 2008"، وفى جميع الأحوال فإن الفيلم فيلم لمخرج وليس فيلم ممثلين إلا فيما ندر.

رغم كثرة الإشارات المتداخلة مع أفلام سينمائية كثيرة بعضها حربي يرجع الى أفلام الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذا الفيلم ليس حربيا، إنه فيلم يشير من بعيد الى فن السينما ويقدم مرثية لها، فهذا الفن بكل الأفلام التي قدمها سيكون مصيره الاحتراق، وكذا الأمر بالنسبة لقاعات العرض، طال الأمر أو قصر، وما علينا إلا الانتظار لمعرفة نوع المصير المنتظر.

العرب أنلاين في

23/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)