تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

الرقابة وروح التفتيش رسوم شيطانية أيضاً

نديم جرجوره

يبدو أن مآثر الرقابة على المصنّفات الفنية، التابعة لـ«المديرية العامّة للأمن العام»، لا تنتهي. حرصها على الاستقرار الأمني، لا يُحتمل. سعيها الدؤوب إلى حماية الأخلاق الحميدة، مُتعِب. هوسها بتحصين الإيمان من أي فساد ممكن، قاتلٌ. دأبها على إنقاذ المواطن اللبناني من كلّ شرّ، تُحسَد عليه. أي كلام جديد في هذا الشأن العام يُصبح تكراراً ببغائياً لا تستحقه الرقابة، لولعها الشديد بتنفيذ برنامجها الثقافي الخاصّ بها، الخارج عن أي مألوف. لكن كلاماً كهذا ضروري.

في أسابيع قليلة جداً، أنجزت الرقابة الأمنية مآثر عدّة تُضاف إلى رصيدها الغنيّ بالمآثر البرّاقة: اقتطعت خمس دقائق من الفيلم الوثائقي «سمعان بالضيعة» لسيمون الهبر، حرصاً منها على السلم الأهلي المتين والثابت. منعت عرض فيلمين اثنين للإيطالي باولو بينيفينوتي «بحجّة إساءتهما إلى الكنيسة»، و«غناء المتزوّجات» لكارن آلبو لتوغّله في شؤون العلاقات الإنسانية القائمة بين المسلمين واليهود في تونس، أثناء الحرب العالمية الثانية («مهرجان بيروت السينمائي الدولي»، 7/ 14 تشرين الأول الفائت). وجدت، في لقطة لا تتجاوز مدّتها ثانيتين، في فيلم تحريك بعنوان «لعبة الذهن» للياباني ماساكي يواسا، تخريباً للإيمان الحيّ في قلوب المُشاهدين، فحذفته. وهذه، بحدّ ذاتها، مأثرتها الأخيرة: لم يستطع الرقيب الأمني استيعاب تلك اللقطة، التي تمثّل المطهر حيث يتمّ «توزيع» الأرواح البشرية بين جنّة وجحيم، لأنه (أي الرقيب الأمني) اعتبر احتراق الأرواح الشريرة بنار الجحيم ترويجاً لرسوم شيطانية، لا شكّ في أنها، بالنسبة إليه، مضرّة بنفوس المتفرّجين وعقولهم. لم يكن المختصّ اللاهوتي، الذي استعان به الرقيب الأمني، أكثر وعياً. هذه مصيبة. إذ وجد المختصُّ في اللقطة «إمكانية» إحالة ما إلى رسوم شيطانية. بهذا المعنى، على الرقيب الأمني وحليفه المختصّ اللاهوتي (والمؤسّسات الدينية والطائفية والمذهبية، بثقافاتها وأفكارها وإيديولوجياتها) شنّ حملة على واحدة من أكثر ركائز الفكر الديني تحريضاً على الإيمان: فعل الخير طريقٌ إلى الجنّة، أما فعل الشرّ فمصيره النار. لا رغبة لديّ في مناقشة فكرة الإيمان وأفعاله. أقول ما نصّ عليه الخطاب الديني، مسيحياً كان أم إسلامياً أم يهودياً، أم أي خطاب ديني آخر. لكن، يبدو أن للرقيب الأمني اللبناني تفسيراً دينياً آخر، بات يُفترض به تعميمه على حلفائه جميعهم، خدمة للشأن العام، ومساهمة نيّرة لحماية النشء من أي غدر شرير تبثّه الشاشة الكبيرة.

في الأسبوع الفائت، قدّمت الرقابة الأمنية مأثرة إضافية سابقة على مأثرة «الرسوم الشيطانية»: وصل العدد 1939، الصادر بتاريخ 12 تشرين الثاني 2009، من المجلة الفرنسية الأسبوعية «لو بوان» إلى بيروت متأخّراً بضعة أيام. السبب: خضوعه للرقابة الأمنية. النتيجة: تمزيق أربع صفحات منه، لاحتوائها على صُوَر اعتبر الرقيب الأمني أنها لا تليق بالأخلاق الحميدة المعمول بها في بلد مثل لبنان، لا تزال آثار فضائحه الأمنية الداخلية الأخيرة (من بين فضائح كثيرة أخرى) فاعلة في بنيته المجتمعية. والصُوَر هذه منشورة في مقالة بعنوان «التوراة مرويةً للهيبّي» لرومان بريت، منها واحدة كبيرة تمثّل آدم وحواء هيبّيين وعاريين في وضع جنسي عادي للغاية، وأخرى لامرأة ارتأى الرقيب نفسه، في نسخة وصلت سالمة إلى بعض المكتبات في بيروت، تلوين مؤخّرتها بالأسود.

المشكلة تتفاقم. الوضع سيئ للغاية. لكن، هناك رغبة حقيقية لدى مهتمّين بالشأن العام في مقارعة أشكال الظلامية كلّها، المتسلّطة على المشهد اللبناني. والتكرار، في هذا الإطار، مفيد غالباً، وإن تشابهت مفرداته. فمعركة كهذه، وإن احتاجت إلى جانب عملي بات ملحّاً، ترتكز أحياناً على كتابة لا تستكين إلى سياسة التسطيح المُراد الاستمرار في تطبيقها كيفما كان، وأياً كانت النتائج والأضرار، طالما أن منفّذيها وحلفاءهم مستفيدون منها. كتابة تقارع أدوات المنع والقطع، بالتمسّك أكثر فأكثر بلغة سليمة تعرّي الخبايا وتكشف التزوير وتفضح ما يجري يومياً من مآثر كهذه، في شؤون الحياة كلّها أيضاً.

 

«درسٌ في التاريخ» لهادي زكّاك: فضيحة التربية ومأزق التعليم

نديم جرجوره

لا يُقدّم الفيلم الوثائقي التلفزيوني «درسٌ في التاريخ» للمخرج اللبناني هادي زكّاك حلولاً لأزمة العلاقة الراهنة بين اللبنانيين وتاريخهم، لأنه ارتكز على كشف الواقع الآنيّ فقط، من دون تدخّل خطابي أو تحليلي. فالواقع، بحدّ ذاته، مُصاب بكارثة حقيقية، متعلّقة باختلافات شتّى تحضر في تدريس مادة التاريخ في الصفوف التكميلية في مدارس دينية وعلمانية متفرّقة، وبالتأثيرات الناتجة من هذا التدريس، اليوم وغداً. والمخرج اكتفى بالتقاط آلية التعليم في تلك المدارس، في ظلّ غياب كتاب موحَّد لتدريس هذه المادة المختلَف عليها؛ وتابع يوميات مدرّسين وتلامذة، بدوا (خصوصاً هؤلاء الأخيرين) كأنهم مُسَاقون إلى مزيد من التقوقع الداخلي في قلب الجماعة، أي الطائفة.

لم يختلف كلام التلامذة في شؤون حياتهم اليومية، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، عن الحالة اللبنانية العامّة. فالكلام نابعٌ من تربية عائلية ومدرسية، والاختلافات التي بلغت حدّ التناقض أحياناً، ناتجةٌ من العزلات القائمة في مناهج التعليم التاريخي (من بين أمور مهمّة أخرى)، كانعكاس لأساليب العيش اليومي في هذا البلد الممزّق والمنقسم على نفسه. جالت الكاميرا في الصفوف والغرف البيتية، وتركت التلامذة يبوحون بأحاسيس مستلّة من مشاعرهم «المصنوعة» في المدرسة والبيت والبيئة المجتمعية والطائفية الضيّقة حيث يقيمون، فإذا بالبوح إشارة خطرة إلى مستقبل يُشيّد في هذه المدارس وتلك البؤر العائلية والمجتمعية. والمدرّسون، الذين استخدموا حركات وطرقاً مختلفة في النطق والتعليم، بدوا أشبه بمهرّجين يلقّنون تلامذتهم ما يجب أن يعرفوه عن تاريخ بلدهم (وما يجب ألاّ يعرفوه أيضاً)، من وجهات نظر مرتبطة بالانقسام السياسي والطائفي الداخلي. والتلامذة أنفسهم بدوا أشبه بناطقين رسميين بأسماء المذهب والعائلة والبيئة، وإن شكّلت قلّة قليلة منهم متنفّساً ما، يُخشى عليه من الاختناق بقسوة العزلات الطائفية والمذهبية.

ولعلّ الصفة الأبرز لـ«درس في التاريخ» كامنةٌ في كونه كاشفاً لما يُمكن تسميته بـ«فضيحة» التربيتين العائلية والمدرسية، الناشئتين من مفردات الانشقاق اللبناني وركائزه.

السفير اللبنانية في

21/11/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)