تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

تكريم كريستيان غازي صاحب «مئة وجه ليوم واحد»

في الذاكرة صُوَر بالأبيض والأسود

نديم جرجوره

لا يُمكن فصل حكاية المخرج السينمائي كريستيان غازي عن قصّة بلد ومجتمع وناس، وحركة متكاملة في شؤون الثقافة والاجتماع والحياة، لأن المخرج ارتبط بمسائل العيش اليومي في هذا البلد ومجتمعه، ومع هؤلاء الناس. ففي الخطّ الجامع بين الطرفين، أقام الرجل عالمه المفتوح على التفاصيل والأشياء الخاصّة بالمحيط الساكن فيه والمتفاعل معه. وفي اللحظة المتحوّلة إلى مرآة بيئة وجماعات، اختار السينمائي قدره، فبات مصيره شبيهاً بمصير الجغرافيا وامتداداتها المتفرّقة في شرايين المدينة وفضاءاتها المكسورة في الخراب.

ولأن كريستيان غازي حاضرٌ في الذاكرة اللبنانية والعربية، كسينمائي ملتزم قضايا الناس وهمومهم؛ ولأن أفلامه كلّها اختفت كلّياً من الوجود، باستثناء «مئة وجه ليوم واحد» (1972)، الذي نجا من نيران الأحقاد السلطوية اللبنانية بسبب احتفاظ «المؤسّسة العامة للسينما» في دمشق بنسخة منه؛ ولأن المخرج عاد إلى الإخراج في العام 2001 منجزاً «نعش الذاكرة»؛ أصدر «نادي لكل الناس» نسخ «فيديو ديجيتال» لهذين الفيلمين، مضيفاً عليهما فيلماً قصيراً بعنوان «مسرح عند ملتقى الرياح» لنانسي ليشع الخوري، تضمّن حواراً معه ومقتطفات من سيرته الحياتية والمهنية.

إذا غاص «مئة وجه ليوم واحد» في التحليل السياسي والاجتماعي لمرحلة عاصفة في الذاكرة الفردية والجماعية، فإن «نعش الذاكرة» عكس التمسّك الإيديولوجي والثقافي والفكري للمخرج بمسلّمات التزامه العقائدي، لأن الفيلم رسم صورة قاسية عن مأزق الحياة الاجتماعية بمتفرّعاتها، وعن بؤس العلاقة بالذاكرة، وعن متاهة العيش في اللحظة الفاصلة بين الخراب والأحلام المهزومة. لكن الفيلمين هذين، لا يختزلانه السيرة المهنية كلّها لكريستيان غازي، بل يكتفيان بتقديم نموذجين مختلفين (قياساً إلى الفترتين المختلفتين تماماً عن بعضهما البعض، اللتين شهدتا إنجازهما) خاصّين بمخرج ارتبط اسمه بحقبة بليغة الدلالات والتحوّلات في لبنان والمنطقة العربية، وباتت أفلامه المحترقة عنواناً للقمع البوليسي الأمني اللبناني، وصورة حيّة عن معنى النزول السينمائي إلى الشارع لاستنباط غليانه، ومحاولة فهم رموز هذا الغليان. في مطلع السبعينيات، كانت الخيبة ممتزجة بحماسة مقارعة الأنظمة المتحكّمة بشؤون العيش اليومي، وليس فقط بالسياسة والثقافة والاجتماع. وفي مطلع الألفية الثالثة، كان الفراغ سيّد المرحلة في شتّى الأمور والتفاصيل. غير أن كريستيان غازي، في المرحلتين هاتين (كما في المرحلة السابقة لمطلع السبعينيات واللاحقة بها)، حافظ على علاقة سليمة بذاته المحبطة وجنونه البديع. هذا ما كشفته نانسي ليشع الخوري في «مسرح عند ملتقى الرياح»، مرافقة غازي في أمكنة وحالات وذكريات، ومستعيدةً معه صُوَراً فوتوغرافية ولقطات سينمائية من فيلميه هذين، وراسمةً وإياه شكلاً مؤثّراً لحكايات ممزوجة بضحكة ملتبسة (سخرية، مرارة، خيبة، ثأر ذاتي متواضع، إلخ.) وعينين مفتوحتين على المدى الأوسع للشقاء الإنساني. وإذا لم يُوفّق صانعو الفيلم الوثائقي هذا (28 دقيقة، إنتاج «نادي لكل الناس»، 2009) في اختيار العنوان، إلاّ أن التحية، الممزوجة بمقتطفات من سيرة رجل وتاريخ بلد وتحوّلات مرحلة، بدت أجمل في ملاحقتها مخرجاً سينمائياً جعل الكاميرا لغة الناس وأصواتهم الصادحة من أعماق القهر والانفعالات، ودفع العدسة/ العين إلى مقاربة القضايا الإنسانية واليومية العامّة.

مسرح عند ملتقى الرياح

توزّعت فصول «مسرح عند ملتقى الرياح» على متتاليات عدّة: اللغة الأولى، فيرفان كراشن، ظلّ الألوان، الهررة السوداء في شهر آذار، وصولاً إلى «أيضاً / دعوني أضحك/ وأموت/ للحظة». كأن العناوين جزء من سيرة الرجل، تماماً كالأمكنة التي صُوِّر المخرج فيها (مقهى «الروضة»، مقهى «ة مربوطة»، شارع الحمراء) والأشياء الحميمة (فنجان القهوة، السيجارة، الأكياس الصغيرة من السكر، الملعقة، إلخ.). لكن الفيلم لا يتوقّف هنا، لأن كريستيان غازي فتح بعض الذاكرة على الآنيّ، متحدّثاً عن انتماءاته السياسية والأدبية والفنية، عن عائلته التي شارك في تأسيسها مع الممثلة الراحلة زوجته الأولى مادونا، عن عمله، عن صراعه الدائم مع القوى المتحكّمة بالبلد (المكتب الثاني أصدر قراراً بحرق أفلامه، عناصر ميليشياوية احتلّت منزله واستعانت بأشرطة أخرى للتدفئة، المدّعي العام حينها رفض تقدّم المخرج بدعوى قضائية على هذين الطرفين)، عن نظرته إلى «السياحة» اللبنانية (فلاّح وبقرته في مقابل «كازينو لبنان») والنزاعات الطبقية والاجتماعية والسياسية، والنضال من أجل القضايا العادلة (من فيتنام إلى فلسطين)، ما أدّى إلى إحراق النسخ كلّها من أفلامه التي بلغ عددها خمسة وأربعين فيلماً، وعن تدخّل عبد الحليم خدّام مانعاً منحه الجائزة الأولى في مهرجان دمشق في العام 1972 عن «مئة وجه ليوم واحد»، الفائز بجائزة النقّاد حينها.

في نبرة صوته، حرقة عميقة. في شرود نظراته، خيبة ولعنة. في استعادته الماضي، ألم داخلي. وفي الذاكرة صُوَر فوتوغرافية بالأسود والأبيض، جمعته ورفاقاً وأصدقاء، لكن الأبرز بينهم مادونا، المرأة ذات الوجه المليء بألف حكاية وروعة.

ينظّم «نادي لكل الناس» أمسيتين اثنتين، يُعرض في أولهما فيلما «مسرح عند ملتقى الرياح» و«نعش الذاكرة» الثامنة مساء اليوم، ويُعرض في ثانيهما «مئة وجه ليوم واحد» الثامنة مساء غد، علماً أن غازي يوقّع على نسخ «دي في دي» بعد العرضين المُقامَين في «مسرح بيروت» (عين المريسة).

السفير اللبنانية في

04/11/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)