|
أقسى وأقصى أنواع الخداع هو خداع النفس، وذلك هو الشَرَك الذى أوقعنا
أنفسنا فيه بإرادتنا فى الفترة الأخيرة، حين صنعنا أوهاما تعاملنا معها على
أنها حقيقة، وفى المقابل فإن من الطبيعى عندئذ أن تصير الحقائق بالنسبة لنا
أوهاما، وهكذا نظل سادرين فى غينا وغيبوبتنا، كأننا نستمتع بهما ولا نريد
منهما خلاصا! نحن ياعزيزى القارئ فى لحظة شديدة التردى من تاريخنا، ولا
أدرى ماذا سوف تقول عنا أجيالنا القادمة ولم نترك لهم الحد الأدنى من
اليقين بأى قضية، فكانت النتيجة أنهم يبدون كأنهم لا يؤمنون بأى شئ، ولا
يعبأون بما نقول صدقا كان أو كذبا، لأننا تركناهم وحدهم فى مهب الريح. هذا
ما حدث، للمرة المائة بعد الألف، خلال الأسابيع القليلة الماضية فى معركتين
خسرناهما بالضربة القاضية، الأولى مع عدم فوز المرشح المصرى لليونيسكو
فاروق حسني، والأخرى مع الخروج المؤسف للفيلم المصرى "المسافر" من مهرجان
فينيسيا السينمائي، ليس فقط دون الحصول على جوائز، وإنما أيضا بالكثير من
الشائعات والنميمة العلنية والسرية، فى الوقت الذى فاز فيه الفيلم
الإسرائيلى "لبنان" بنصيب الأسد الذهبي، الجائزة الكبرى فى نفس المهرجان.
تحدَّث البعض فى الحالتين عن مؤامرة، ونفى البعض الآخر ذلك مستنكرين اللجوء
إلى "نظرية المؤامرة"، ولم يقل لنا هؤلاء وأولئك ماذا نفعل إن كانت هناك
مؤامرة أو إن لم توجد أصلا. لكننا ننظر إلى كلمة "المؤامرة" على أنها تتضمن
دائما دلالات شريرة، بينما التاريخ كله يقوم على المؤامرات، فهناك أطراف
تتحالف وأطراف أخرى تتحالف ضدها، والكل يقول أن الخير فى جانبه، لكن القوة
تفرض الأمر الواقع دائما، ولن يجدى نفعا إن وصفتها بالشر. ويبدو أننا نعيش
فى عالم خاص بنا، نتصوره بمفاهيمنا وأحلامنا، وفى كل مرة نستيقظ على هزيمة
نصيح: "مؤامرة! لقد خدعنا العدو الجبان!"، ثم نعود للنوم، فمتى نفيق؟ متى
نعترف بأن المؤامرات كانت وستظل موجودة، ليبقى السؤال: ماذا نحن فاعلون
تجاهها؟
وإذا كنتُ قد شعرت، وماأزال أشعر، بأن موضوع فاروق حسنى واليونيسكو لا
يهمنى فى شيء، ولن يأتى بأى نفع لمصر التى لديها مايكفيها من المعاناة فى
كل تفاصيل الحياة، ولا يعنى الغالبية الساحقة من أبنائها هذا الترف
"اليونيسكاوي"، فإننى عشت بعضا من أسوأ لحظات حياتى عندما فاز الفيلم
الإسرائيلى فى مهرجان فينيسيا، فى الوقت الذى بدا فيه الفيلم المصري، حتى
فى وسائل إعلامنا، كأنه فضيحة. أليست هذه هزيمة حقيقية أخرى تُضاف إلى ركام
هزائمنا السابقة ويجب أن نعترف بها؟ والأدهى والأمرّ أن بعض الكتابات
المصرية عن هذا الموضوع اتسمت بنوع من الشماتة بالمعنى الحرفى للكلمة،
بينما ذهبت كتابات أخرى إلى نوع من التبرير المتلعثم، ولم أجد للأسف
الشديد، فيما عدا عبارات متناثرة هنا وهناك، من يتحدث بشكل جاد عن تشخيص ما
حدث وطريقة علاجه. ومرة أخرى تكتشف أن توزيع الاتهامات أو محاولة نفيها،
حول ما آل إليه فيلم "المسافر"، بات محصورا فى التلسين حول أفراد، كأنك لو
استبدلت أفرادا غيرهم بهم فإن الأزمة سوف تنفرج، بينما جوهر الأزمة يكمن فى
أنهم دائما "أفراد" وليسوا "نظاما"، ولتتأمل كيف تم صنع فيلم "المسافر"، من
خلال توصية بعض النقاد "الأفراد" بأن تتولى وزارة الثقافة إنتاج السيناريو
الذى أثار إعجابهم، فى الوقت الذى لا يوجد أصلا فيه "نظام" حقيقى تقوم من
خلاله الوزارة بإنتاج الأفلام. والغريب أن الوزارة دخلت فى المشروع بمنطق
شركات الإنتاج التى تلقى بالأموال الطائلة، لأسباب شبه مجهولة أحيانا، فى
صناعة الأفلام، وبنفس عقلية "السوق" بحثوا عن "نجم عالمي"، ابتلع أجره
بالطبع جزءا كبيرا من الميزانية التى وصلت _ حسب بعض التصريحات _ عشرين
مليونا من الجنيهات (حوالى أربعة ملايين من الدولارات)، وأرجو أن يجيبنى أى
"مسئول": كم فيلما كان من الممكن إنتاجه لسينمائيين شبان بهذا القدر من
الأموال المهدرة؟
لمجرد المقارنة، التى سوف تثير فى النفس غصة ومرارة عميقين، فإن الفيلم
الإسرائيلى الذى فاز بالجائزة الذهبية فى فينيسيا لم يكن به أى نجوم،
عالميين أو حتى محليين، ولم تتجاوز ميزانيته مليونا واحدا من الدولارات
(رُبْع ميزانية "المسافر")، وأرجو أن تضع فى حسابك أيضا الفارق الكبير فى
مستوى المعيشة بين مصر وإسرائيل. لقد جعلتنى هذه المفارقة المؤلمة أستمر
لاهثا فى بحث كنت قد بدأته بالفعل عن واقع السينما الإسرائيلية، صناعة
وفنا، قرأت بعض الكتب، وراجعت الكثير من التقارير المتاحة على شبكة
المعلومات الدولية، ونجحت بنفس الطريقة أيضا فى الحصول على ما يزيد على
عشرة أفلام إسرائيلية معاصرة، وكانت النتيجة صادمة بحق، فما أبعد الفارق
بين مانصنع ومايصنعون، إنهم ياعزيزى القارئ شراذم صهيونية (هذا وصف وليس
شتيمة) أتت إلى فلسطين من شتى أنحاء الأرض منذ بضعة عقود قليلة، ونجحت فى
أن تصنع دولة، وتزرع فى وجدان سكانها من الصهاينة الإيمان بأن تلك الدولة
هى وطنهم، بينما نحن أصحاب واحدة من أقدم الدول فى التاريخ، نحن أبناء
الوطن الذى حافظ على تكوينه الثقافى برغم تغيير الدين واللغة عدة مرات، قام
من يتحكمون فينا بتفكيك الدولة، وتحويلها إلى نظام عائلى يلتف حوله أصحاب
المصالح، لذلك فتر شعور المواطن بالوطن وغاب معنى الدولة عن ذهنه لأنه لا
يجد لها أثرا فى حياته.
وبرغم قمع الكيان الصهيونى للعرب بشكل وحشي، فإننى لا أخشى أن أصارحك بأنه
أكثر ديموقراطية، بالنسبة للمنتمين له، من أى نظام عربى آخر، ويكفيك أن
تقارن عدد السياسيين الذين تداولوا على السلطة فى إسرائيل خلال الثلاثة
عقود الأخيرة، بحكام يظلون جالسين على العرش وينوون أن يورثوه لأصحاب
الدماء الزرقاء من سلالاتهم! إن هذا هو ما يحدث فى السينما تماما، ليس هناك
فى إسرائيل أفراد يتحكمون فى كل شيء، بل نظام يقوم على أداء الدولة لدورها
تجاه السينما والسينمائيين. وفى الوقت الذى انهالت عندنا الكتابات ورسائل
الدكتوراه (!!) التى تسب تجربة مؤسسة السينما فى مصر، وتتهمها اتهامات
ظالمة (راجع فى ذلك كتاب "صفحات من ذكريات توفيق صالح" لتدرك حقيقة هذه
المزاعم وتصححها)، فقد صدر فى إسرائيل عام 1954 قانون ينص على تشجيع الدولة
للسينما، وتأسس صندوق دعم السينما الإسرائيلى منذ عام 1979، باعتباره مؤسسة
لا تهدف للربح، ويتم تمويله من عائدات شباك التذاكر، وينص فى مواد تأسيسه
على المساعدة فى إنتاج أفضل السيناريوهات، وخلق الفرص أمام السينمائيين
الإسرائيليين الموهوبين، والصندوق يرعى كل مراحل صناعة الفيلم، بدءا من
كتابة السيناريو وتطويره، ثم إنتاجه من خلال المساهمة المالية وتقديم
المساعدة التقنية، وأيضا من خلال السعى لإشراك جهات خارجية فى الإنتاج
المشترك، وهو أخيرا يرعى الفيلم فى مرحلة التسويق والدعاية داخل إسرائيل
وفى كل أنحاء العالم.
إن هذه المساعدة التى يقدمها الصندوق الإسرائيلى لا تقتصر على فيلم أو
اثنين كل عام، بل تمتد إلى ما يكاد أن يصل إلى كل الإنتاج الإسرائيلى (بين
عشرة أفلام واثنى عشر فيلم سنويا)، كما أنه يطلب من القوات المسلحة
الإسرائيلية (التى تُدعى تجاوزا جيش "الدفاع") تقديم كل الدعم فى كل
الأفلام التى تتطلب ذلك، دون أن يكون هناك تدخل مباشر وسافر من جانب الجيش
فى مضامين هذه الأفلام، لذلك "تبدو" الأفلام الإسرائيلية الأخيرة التى تدور
عن الحرب بعيدة تماما عن "البروباجندا"، إلى الدرجة التى تعطى انطباعا أنها
تدعو إلى السلام، بينما هى فى الحقيقة تبرر شن الحروب، (وتلك نقطة تحتاج
منا للتحليل المتأنى لهذه الأفلام). وأخيرا فإن الإنتاج المشترك بين
إسرائيل والدول الأخرى تعدى حدود أوربا ليصل أيضا إلى كندا واستراليا.
من خلال هذا النظام، الذى لا يقتصر على رأى بعض الأفراد، نجحت السينما
الإسرائيلية فى أن تتخطى أفلامها التقليدية، وتتخلى عن الدعاية الصهيونية
المباشرة، وأكاد أقول أن السينما الإسرايلية تأثرت كثيرا بما أنجزته
السينما الإيرانية وتعلمت منها (ألم يكن الأجدر بنا نحن أن نتعلم هذا
الدرس؟)، فإنك تجد العديد من الملامح المشتركة بينهما، خاصة فى التركيز على
البعد "الإنساني" لبشر عاديين تماما، بينما يأتى البعد السياسى تلميحا لا
تصريحا، وهو موجود دائما لكنه يكمن فى الخلفية ليتسلل إليك دون أن تشعر،
كما يتم الاعتماد على التصوير فى الأماكن الطبيعية، والاستعانة بممثلين
معظمهم أقرب إلى الهواية منهم إلى الاحتراف، خاصة فى شريحة المراهقين
والأطفال (العديد من الأفلام الإسرائيلية المعاصرة لا تخلو من وجود طفل
صغير فائق الموهبة، له دور فاعل فى الدراما إن لم يكن محورها أحيانا)، ولا
يوجد من يسمون "نجوما" على الإطلاق (إنهم فقط "ممثلون" مشهورون)، وينحو
الأسلوب فى الأغلب إلى روح القصة القصيرة، بكل كثافتها الشعورية وعدم
الاهتمام بأحداث كبيرة فى مقابل العناية الشديدة بتأمل التفاصيل الصغيرة.
لذلك فإن المتفرج لا يشعر أبدا بأن من يراهم على الشاشة "أكبر من الواقع"،
على العكس فإنهم "بشر" يعيشون حالة حقيقية من المعاناة، يصدقها المتفرج
الإسرائيلى وغير الإسرائيلى ويتوحد معها، لأن معظم "حواديت" الأفلام
الإسرائبية المعاصرة يمكن أن تحدث فى أى مكان من العالم، مثل فيلم "زيارة
الفرقة" الذى يمكنك أن تتصور حدوثه حتى فى اليابان أو السويد، وحتى أفلام
الحرب، مثل "بوفورت" (أو "قلعة الشقيف") و"رقصة الفالس مع بشير"، يمكن أن
تحدث فى أى حرب، وهذا مقصود تماما، إن المتفرج لا يرى الفلسطينيين أو
اللبنانيين (الطرف الآخر من الحرب) إلا باعتبارهم شخصيات فردية عابرة،
بينما يرسخ فى لاوعيه وجود "الشعب" الإسرائيلى كأنه حقيقة واقعة وبدهية لا
تثير تساؤلا حول من أين جاء ومتى صار "شعبا"!
بكل تلك المواصفات يتم صنع الأفلام الإسرائيلية بميزانيات منخفضة، لا تكاد
أن تتجاوز فى الأغلب مليون دولار للفيلم الواحد، يساهم صندوق دعم السينما
بأقل من نصفها ويأتى بالباقى من خلال الإنتاج المشترك (تكاد شبكة "آرتيه"
التليفزيونية الفرنسية الألمانية أن تصبح قاسما مشتركا فى هذا الإنتاج)،
وبسبب انخفاض الميزانية فإنك لن تجد فيلما إسرائيليا يعتمد على "الأكشن"
(ليت صناع أفلامنا يتوقفون عن "أكشنهم" الزائف)، ولا الخيال العلمي، ولا
أفلام الخيال الفانتازية التى تدور فى عوالم مبهرة، ولا الملاحم (لا أدرى
لماذا تذكرت الآن فيلم "باب الشمس" ليسرى نصر الله، ولكن لذلك حديثا آخر)،
وحتى الأفلام الحربية الإسرائلية لا تهدف إلى تقديم مشاهد المعارك وإنما
التركيز على الجندى "الإنسان". أخيرا أرجو أيضا أن تتأمل كيف أن عدد متفرجى
السينما فى إسرائيل يصل إلى المليونين كل عام، وهو ثُلث عدد السكان تقريبا،
وقارن ذلك بالعدد الهزيل لمتفرجى السينما المصرية، الذى لا يتجاوز جزءا من
عشرة أجزاء من عدد السكان. وليس غريبا بعد ذلك كله أن تصل الأفلام
الإسرائيلية إلى الترشح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبى ثمان مرات،
مقابل صفر كبير من أفلامنا!
نعم ياعزيزى القارئ هناك مؤامرة علينا فى كل ما تفعله السينما الإسرائيلية،
لأنهم يدركون أنهم فى حالة حرب ويعيشون هذه الحالة فى كل ممارسات حياتهم،
أما نحن _ "بتوع السلام" _ فنكتفى بالصراخ والعويل وتبادل الاتهمات أمام
خيباتنا المتعاقبة. فلنتآمر نحن أيضا، لأن الحرب قائمة مادام الفكر والكيان
الصهيونيان مزروعين فى قلب وطننا، ولن يأتى هذا التآمر الفعال من خلال
أفراد وإنما من خلال نظام، لا يأخذ أوامره من "الوزير" أو ينجح فى انتزاع
موافقته بطريقة ما على تمويل مشروع دون غيره، وإننى أتساءل مخلصا: ماذا
تفعل فى هذا الشأن "لجنة السينما" فى المجلس الأعلى للثقافة؟ بل ما هو
الدور الذى تقوم به أصلا؟ وما هو دور نقابة السينمائيين؟ وهل فكرت الحمعيات
السينمائية فى مناقشة الأمر وطرح ورقة عمل أمام وزارة الثقافة فى هذا
الشأن، خاصة أن جمعية نقاد السينما المصريين، والتى أشرف بعضويتها، تضم
أيضا كبار المسئولين عن هذا الموضوع فى وزارة الثقافة؟ وربما ياعزيزى
القارئ، إن أفسحت هذه الصفحة صدرها لمحاولتي، سوف أتوقف معك عند بعض
الأفلام الإسرائيلية (ومقارنتها أحيانا ببعض الأفلام الفلسطينية التى تم
صنعها فى الأرض المحتلة)، لنتأمل كيف يستطيعون أن يكسبوا الحرب السينمائية،
بينما نخسرها نحن دائما، لأننا بفضل ساستنا وسياساتنا لم نعد نتذكر أننا
بالفعل فى حالة حرب، لكن ليذهب هذا السلام المتخاذل الخانع إلى الجحيم...
ولنترك للقادمين من بعدنا نقطة بداية، لعلهم ينجحون يوما فيما أخفقنا نحن
فى تحقيقه.
وربما كان مهما أن أؤكد فى النهاية ما أعتقد أننى لست بحاجة إلى تأكيده،
ولكنى أعرف أن البعض سوف يشوش القضية: هذا المقال ليس نقدا فنيا لفيلم
"المسافر" الذى لم أره بعد، لكنه انتقاد لعدم وجود "نظام" تساعد به الدولة
صناعة الأفلام الشابة والجديدة شكلا ومضمونا، ولا يعنى هذا أيضا أن ترفع
الدولة يدها عن هذه الرسالة لخطأ فى تطبيقها، بل يجب أن تقوم بها بشكل دائم
وعادل، ولعل السينما تكون بداية الطريق نحو "مؤامرة" ننجح فيها ولو مرة
واحدة، مرة واحدة فقط ياناس!
العربي المصرية في
27/10/2009 |
