المخرج الكبير فيدريكو فيلليني، هو بالفعل ساحر السينما الإيطالية
والعالمية بلا منازع. هذا المبدع الذي تمر في هذا الشهر ذكراه السادسة عشر،
لم يتلق أي تعليم سينمائي أكاديمي، ولم يكمل تعليمه الجامعي للحصول على
درجة "الليسانس" في القانون، بل ولم يتردد حتى على دور السينما لمشاهدة
كبار المخرجين العالميين والسينما المتطورة التي يقدمونها. وهذا أمر طبيعي
إلى حد ما إذا عرفنا أن فيلليني لم يكن يتوقع على الإطلاق أن يصبح مخرجًا
سينمائيًا، أو حتى أن تكون له علاقة بالسينما. يقول: "لم أفكر أبدًا، حتى
عندما ذهبت إلى "شينشيتا" للمرة الأولى ورأيت إخراج فيلم، أنني سأكون
مخرجًا؛ أفتقر إلى الحساسية البالغة والمزاج الخاص، إلى الصوت، والسلطة،
والعجرفة... أعتقدت أنني سأصبح كاتبًا أو رسامًا. لكن أتضح أنني كان لديَّ
كل هذه العيوب! لأنني صرت مخرجًا...".
وعندما تعرّض ذات يوم لإلحاح بالغ ليتحدث عن الذين أثروا فيه فضل ذكر
"شابلن، وبستر كيتون، ولوريل وهاردي، والأخوة ماركس". وأضاف: "لا أعرف
كلاسيكيّي السينما: مورناو، إيزنشتاين، دراير، فأنا ويا لخجلي لم أشاهدهم
أبدًا". لكن ماذا لو أردنا معرفة الجذور الحقيقية التي أثرت في سينما هذا
الرائد العظيم؟ يقول الكاتب الإيطالي الكبير والروائي الشهير "إيتالو
كالفينو": "يمكن أن نقتفي التأثيرات التي شكلت وعي فيلليني في الثقافة
الشعبية الإيطالية لتلك الفترة، وليس أصلاً في السينما. في الرسومات
الكرتونية، والكاريكاتير، والاسكتشات، والأعمال الكوميدية التي كانت تقدم
في ذلك الوقت".
ولد فيدريكو فيلليني في مدينة "ريميني" الساحلية عام 1920، لـ "أوربانو
فيلليني" مندوب مبيعات، و"إيدا باربياني" ربة بيت، وهو الأخ الأكبر لكل من
"ريكاردو " 1921، ممثل واشترك في بعض من أفلام فيلليني مثل"العاطلون"،
وأخته "مادالينا" ممثلة وربة بيت. كان فيدريكو طفلاً هادئًا ومحبًا للعزلة،
ربما بسبب نحافته الشديدة، الأمر الذي جعله يتجه لممارسة الرسم، وصنع
العرائس المسرحية واللعب بها، ثم بعد ذلك قراءة النكات ومشاهدة رسوم
الأطفال، وخصوصًا الرسوم الكاريكاتيرية في المجلة الأسبوعية "الكورير دي
بيكولي". بعد إنهائه للدراسة الابتدائية والإعدادية في "ريميني"، لفت النظر
إلى فنه الكاريكاتيري عندما رسم في المعسكر الصيفي لشباب الحزب الفاشي صيف
1936 لوحات كاريكاتيرية جميلة له ولأصدقائه، تلك التي ستنشر فيما بعد تحت
توقيعه في إحدى منشورات الحزب الفاشي. بعد ذلك تقاضى العمولة الأولى له من
صاحب إحدى دور السينما، لرسم رسوم كاريكاتيرية للممثلين المشهورين بغرض
الدعاية للأفلام. ثم افتتح محلاً لرسم السياح مع صديقه "ديموس بونيني"
أطلقا عليه "فيبو" (فيلليني بونيني). في عام 1938 اجتاز امتحان الثانوية
العامة، ونشر عدة رسوم كاريكاتيرية في مجلة أسبوعية في صفحة القراء، وقام
بعمل رسوم كاريكاتيرية وبكتابة مجموعة من القصص والمقالات لمجلة أخرى تحت
توقيع "فيلاس". بعد ذلك انتقل إلى روما مع أمه وأخته اللتين ستعودان ثانية
إلى "ريميني" حيث ظل أبوه وأخوه "ريكاردو" هناك، بعد سنة انتقل أخوه للعيش
معه في روما، ودخل فيدريكو مدرسة القانون في جامعة روما. في عام 1939 عمل
بمنتهى الجدية في منشورات "ماركو أوريليو" وسرعان ما يصبح معروفًا بعض
الشيء برسومه الكاريكاتيرية، ورواياته المسلسلة وأعمدته التي جذبت كثيرًا
من القراء (كان من بين عناوينها هل أنت تستمع لي؟ أضواء المدينة؟ السنة قبل
الأخيرة في المدرسة الثانوية). وظل فيلليني يعمل في "ماركو أوريليو" حتى
عام 1942. عن طريق صديقه "روجيرو مكاري"، التقى بالممثل الكوميدي "ألدو
فابريزي"، وصارا صديقين، وباتا الثنائي المفضل في كتابة عروض المنوعات
وتمثيلها.
في عام 1940 عمل فيدريكو بشكل مستقل للإذاعة الإيطالية في كتابة عروض
المنوعات، والاسكتشات، والبرامج الكوميدية، بالاشتراك مع صديقه "ماكاري".
واستمر هذا حتى عام 1943. في تلك الفترة التي عمل فيها بالإذاعة تعرف على
زوجته الممثلة الشابة في ذاك الوقت والنجمة المتألقة فيما بعد "جوليتا
ماسينا"، التي مثلت في عدد من كتاباته الإذاعية. في ذلك الوقت أيضًا كان
فيدريكو قد أخذ يقترب شيئًا فشيئًا من عالم السينما بالإضافة إلى عمله في
عدد من المجلات، وبدأ في تلك الفترة كتابة السيناريوهات التي ستصبح فيما
بعد السبيل لدخوله إلى عالم السينما وكان أول سيناريو له بعنوان (القرصان
هو أنا). ومنذ تلك الفترة 1942 تقريبًا وحتى 1950، سيكتب العديد من
السيناريوهات وسيشارك كمساعد مخرج في عدد من الأفلام، كما سيقوم بإخراج
بعض أجزاء من أفلام، ويصاحب المخرج الكبير "روسيلليني" في فيلمه "روما
مدينة مفتوحة" 1945، و"مناظر طبيعية" 1946 وغيرها من الأفلام، حتى أخرج أول
فيلم مستقل له عام 1952 بعنوان "الشيخ الأبيض"، والذي كان قد سبقه فيلم
"أضواء مسرح المنوعات" 1950 كإخراج مشترك بينه وبين "ألبيرتو لتوادا". ومن
أهم أحداث تلك الفترة، أنه رزق بطفل من ماسينا 22 مارس 1945، أسمياه
"فيديريتشينو"، وهو الابن الوحيد لهما خلال حياتهما الزوجية وسرعان ما توفي
بعد أسبوعين من ولادته إثر نقص في التنفس.
هل كان فيلليني مخرجًا مرتجلاً يطلق العنان لنفسه، ويضع التخطيط والإعداد
والتنظيم جانبًا، تاركًا كل شيء للمصادفة؟ إن هذا هو ما أُشيع عنه بصورة
كبيرة لدرجة أن أصبح هذا الأمر بالنسبة لكثيرين شيئًا مسلمًا به. لكن الذين
قالوا هذا وأغلبهم من النقاد والصحافيين، لم يتعمقوا في سينما هذا المخرج
العظيم بالقدر الكافي، بل إنهم إن شئنا الدقة لا يدرون عن طبيعة العمل
الإبداعي والمراحل التي يمر بها أي شيء.
فمن خلال التحليل البسيط لبعض مفردات طريقة فيلليني في العمل، يمكننا أن
ندرك إن كان هذا صحيحًا أم لا. فبالنسبة لكتابة السيناريو، على سبيل
المثال، كان لفيلليني ما يمكن أن نطلق عليه فريق عمل خاص به، رفاق التعليم
الثانوي الذين رافقوه رحلته والذين كانت لهم تقريبًا خبرات وتجارب وهموم
مشتركة، ومنهم مثلا الشاعر والسيناريست "تونينو غويرا" الذي كان من بلدته
"ريميني". معنى هذا أنه لم يكن يكتب السيناريو أو الحوار أو حتى يفكر في
الفكرة بمفرده، فالناقد والروائي وكاتب السيناريو "إينيو فلايانو"، شارك
فيلليني في حوالي تسعة أفلام ما بين كتابة السيناريو والحوار، واستمر يعمل
مع فيلليني حتى وفاته، نفس الشيء أيضًا ينطبق على "توليو بينيللي" الذي عمل
مع فيلليني أحد عشر فيلمًا. ثم "بيرناردينو زابوني، وبرونيلو روندي". أي
أنه من أربعة وعشرين فيلمًا هي مجمل أعمال فيلليني لم يتعاون معه سوى ستة
كتاب على الأكثر، وليسوا مجرد كتاب فحسب، فهل هذا منطق مخرج يتبع العشوائية
في عمله أو لا تحمل أعماله وجهة نظر متراكمة يحاول تحقيقها عبر أفلامه؟ وعن
تجربته معهم في كتابة سيناريوهات أفلامه منذ أن تكون مجرد فكرة في رأسه
وحتى تخرج إلى الشاشة يتحدث فيلليني عن ذلك في كتابه (كيف أصنع فيلمًا)
فيقول: "عندما تكون لديَّ فكرة عما يمكن أن يكون عليه الفيلم القادم، أتحدث
معهم كما لو أن الأمر يتعلق برواية شيء لمحته جزئيًا، حلمت به جزئيًا، أو
حصل بالفعل لشخص أعرفه وقد يكون هذا الشخص أنا نفسي، من هذه اللحظة نحاول
تنظيم لقاءاتنا، نلتقي بأقل قدر ممكن، نتصرف بحيث لا يكون ثمة جو عمل
حقيقي، نتحدث عن كل شيء باستثناء الفيلم. وعندما تبدأ القصة بالارتسام
والوضوح، لا نلتقي، نتقاسم العمل، كل واحد منا يكتب بعض المشاهد". ويضيف
المايسترو "أحيانًا أخرى أترك صفحات وصفحات بيضاء، فالكلمات تولد صورًا
أخرى، وتنحرف عن الغاية التي يسعى إليها الخيال السينمائي. عندئذ ينبغي
الانتهاء والتوقف في الوقت المناسب. وقت أن أشعر بقصور السيناريو الأدبي
وعدم جدوى الاستمرار، أتوقف"، ومن ثم يشرع المايسترو في إجراء الطقوس
الإخراجية الأخرى، وكأن السيناريو قد انتهى بالفعل ولا ينقصه سوى استكشاف
أماكن التصوير، وبناء الديكورات وتوقيع العقود مع الممثلين. أي إفساح
المجال للعمل داخل البلاتوه بقدر أكبر من التحرر والتدفق الحيوي للأفكار.
لكن ما الذي يجعل مخرجًا كبيرًا كفيلليني متمرس بكتابة السيناريو، كتب
العديد من سيناريوهات الأفلام الناجحة يسمح بقدر من الحرية في كتابة
السيناريو، ولا يلتزم حرفيًا بالنسخة المكتوبة غير النهائية، بل ويترك
مساحات بيضاء فارغة، يعتمد في ملئها على سجيته وحسه الفني اللذين يثق في
أنهما سيقودانه ويلهمانه أثناء التصوير، دون أن يخشى خيانتهما له؟ هل ذلك
راجع لأن كتابة السيناريو عمل يثير حنقه ويشقيه، بحسب تعبيره "الشيء الشنيع
الذي لاغنى عنه"!
يبدو أن الأمر كذلك بالفعل، لكن مع الأخذ في الاعتبار أن فيلليني عندما كان
يقوم بكتابة سيناريوهاته السابقة لم يكن يقوم بإخراجها، الأمر الذي اختلف
بالنسبة له، وجعله يشعر بالبون الشاسع بين الكتابة والإخراج عندما بدأ
ممارسة العمل الإخراجي، "الكلمات، والتعابير الأدبية، والحوار، كل ذلك مغر،
لكنه يُعَتِّم الفضاء العيني المحدد، والضرورة البصرية وهما يكونان ويحكمان
الفيلم". وهو ما لم يكن يدركه من قبل، وأعني بذلك عملية تحويل ماهو مكتوب
إلى ما هو مرئي بصري، وبعد ما كان الأمر في البداية يثير حنقه بسبب تعديلات
وإضافات المخرجين المتكررة في السيناريوهات التي كان يقوم بكتابتها، وهو ما
صرَّح به، واعتبره من وجهة نظره ككاتب تعديًا، أصبح الأمر الآن مختلفًا
وبالطبع أنقلب الوضع وصار ميله الأكبر كمخرج إلى الناحية البصرية
والإخراجية، حتى وإن كان هذا يمثل تعديًا على السيناريو.
كان المايسترو معروفًا بكثرة التغييرات التي كان يقوم بها حتى آخر لحظة في
التصوير، وأحيانًا كثيرة بعد التصوير، أي أثناء إجرائه لعملية المونتاج.
لكن هذا الأمر الذي يبدو للبعض أنه نابع من مخرج متردد غير متمرس بحرفته أو
غير دقيق في اختياره للممثلين، وهو في الحقيقة غير ذلك بالمرة. ولتوضيح تلك
النقطة تحديدًا نجد أن الممثل والمخرج الإيطالي الكبير "روبيرتو بينيني" قد
نفى ذلك كلية من واقع احتكاكه لفترة طويلة بفيلليني، وأيضًا من خلال قيامه
بدور"إيفو" في فيلمه الأخير "صوت القمر"، رغم اعتراف "بينيني" بكثرة إجراء
فيلليني للتغييرات. أما فيلليني نفسه فيوضح وجهة نظره بأنه لم يختر ممثلاً
في فيلم من الأفلام لأنه كان معجبًا به وبرصيده من الأدوار والجوائز وما
إلى ذلك، بل، كما يقول: أبحث عن الوجوه المعبرة التي لها سمة، التي تقول كل
شيء عن نفسها، أي عن الشخصية التي تجسدها، بمجرد ظهورها على الشاشة. ولم
يكن فيلليني يتردد إذا ما أخطأ في اختيار ممثل لإحدى الشخصيات في أن
يستبدله بغيره، "إذا مانسبت لوجه ما تعبيرًا لا يحمله، فإنني عادة ما أدرك
ذلك منذ اللقطات الأولى، لا أرغم الممثل على لبس جلد غير جلده". ويحدثنا
"بينيني" عن تجربته في هذا مع فيلليني فيقول "لعشرين عامًا عرفت خلالها
فيلليني، في كل مرة كان ينتهي فيها من إخراج فيلم كان يتصل بي ويقول:
"روبرتو، أريد أن أصوّر معك فيلمًا، أحتاج لاختبارك. قم بأداء بعض الفقرات
التمثيلية من فضلك"، وقد يلبسني كامرأة ويقول "قم بتمثيل شيء لو سمحت".
وبعد ذلك ربما يقول لي، "كم عمرك؟" بعد ذلك أقول له، 30 عامًا، فيجيب: "آه،
أنا آسف. أنا في حاجة لشخص يبدو في حدود 70 عامًا، أنا آسف، لقد ارتكبت
خطأ! أنا أحتاج امرأة، شكرًا لك على أي حال!" لعشرين عامًا قمت باختبارات
معه، لكنه كان يخطرني قائلاً، "احتاج إلى كلب، أو امرأة، أو إلى ممثل
عجوز".
وكثيرًا ما أعرب فيلليني نفسه عن حنقه وتبرمه الشديدين من الممثلين الذي
يأتون إليه حافظين أدوارهم عن ظهر قلب، ويبقون أمام مرآتهم في البيت
يتدربون على أداء أدوارهم، هؤلاء الذين يأتون فقط للوقوف أمام الكاميرا
لمجرد الأداء، وكثيرًا ما كان يصرخ بهم: "ماذا لو عنَّ لي تغيير بعض الجمل؟
أو إذا خطر لي مشهد جديد؟ أو إذا أردت فجأة عمل فيلم آخر؟". لكن إن كان
فيلليني بالفعل يجيد اختيار ممثليه ويتبع في هذا قواعد شديدة الصرامة لا
يتوانى عن تطبيقها مهما كان قدر الممثل الذي يعمل معه، فلماذا لجأ كثيرًا
إلى استخدام تقنية الدوبلاج! "يحدث لي أحيانًا أن أقول، وهي جملة ألجأ
إليها في بعض الأوقات: "اعمل مثل تلك المرة التي...، وتلك ممكن أن تكون
مثلاً شجارًا مع نادل المطعم. ويمكن أن أقترح على الممثل (الذي ينبغي أن
يقول لابنه أو لعشيقته: اخرج من هذا المنزل) أن يعمل مثل تلك المرة التي
تشاجر فيها مع النادل، بدلاً من أخرج من هذا المنزل". ويؤكد بينيني هذا
الأمر قائلاً: "في أحد المشاهد حيث كنت سأقول، "هل أستطيع أن أشرب؟" لكنه
يفاجئني على سبيل المثال، "الآن أنت تقول، أنا أحبك كثيرًا!، بدلاً من هل
أستطيع أن أشرب؟". إن بحث فيلليني عما هو خفي ومختبئ خلف الوجوه وتعبيراتها
المختلفة والمتنوعة وما يريد لتلك الوجوه أن تبرزه وتعبر عنه هو الذي كان
يدفعه إلى هذا، حتى وإن كان ما يقوله الممثل غير مطابق لما في السيناريو،
وهذا يبدو بالطبع للوهلة الأولى نوعًا من الارتباك والتشتت المتمكنين من
المخرج، الذي لا يعرف بالضبط ما يريده، وبالتالي ما يريده من ممثليه وبذا
يمكن أن يضع ممثليه في حالة سيئة لا تجعلهم يعرفون بالضبط ما هو مطلوب
منهم، وأن كل ما يفعله المخرج بعد ذلك في الدوبلاج ما هو إلاَّ محاولة
لمدارة فشله وعجزه، وهذا غير صحيح بالمرة، لأن مثل هذه المتطلبات من جانبه
لا تستلزم من المخرج معرفة ممثليه عن ظهر قلب فحسب، بل سبره لأعماق
أعماقهم، بمتابعته الميكروسكوبية لكل حركة من حركاتهم، وكل سكنة لها وحفظها
وتوظيفها في التعبير والموقف الملائم لها.
المنطق نفسه لفريق العمل الذي اتبعه فيلليني مع كتاب السيناريو والحوار
لأفلامه والذي ينطبق أيضًا على الممثلين (ماسينا وماستروياني، كمثال)،
يسري أيضًا في شأن الموسيقا التصويرية الرائعة والمميزة جدًا لأفلامه.
فمنذ أول فيلم مستقل لفيلليني "الشيخ الأبيض" وحتى فيلمه "بروفة
الأوركسترا" 1979، وهو يتعامل مع المؤلف الموسيقي العالمي الشهير "نينو
روتا"، الذي يعتبر واحدًا من أعظم واضعي الموسيقا التصويرية في مجال
السينما العالمية، والمسرح، وأحد كبار الموسيقيين الإيطاليين وكاتبي
الأوبرات والمقطوعات الكلاسيكية، وقد عمل روتا مع "فيلليني، وفيسكونتي،
وزيفيريللي، وفيليبو، وكوبولا"، وغيرهم كثيرين، ونال في فيلمه مع "كوبولا"
جائزة الأوسكار لأحسن موسيقا. و"روتا" وفيلليني ليسا فقط صديقي عمل لأكثر
من ثلاثين عامًا بل هما أيضًا صديقي حياة وكانت تجمع بينهما علاقة وطيدة،
تمامًا كعلاقته بفريق الكتابة والتمثيل، وأعتقد أنه لولا أن غيَّب الموت
"روتا" الذي كان رصيده من الأفلام مع فيلليني (17) فيلمًا، لما كان فلليني
قد عمل مع غيره. بعد ذلك عمل المايسترو مع المؤلف الموسيقي الشهير والمعاصر
"نيكولا بيوفاني"، الذي اشتغل معه منذ فيلمه "جينجر وفريد 1985"، مرورًا بـ
"المقابلة" 1987، وأخيرًا "صوت القمر" 1990.
أعتقد أن كل هذه الأشياء والكثير غيرها والتي منها اهتمامه بمكياج كل ممثل،
والذي أحيانًا ما كان يقوم بوضعه بنفسه رغم وجود فني (ماكير) مختص بهذا،
وتصميم ديكورات أغلب أفلامه، وكذلك رسم الشخصيات والملابس الخاصة بها،
وأحيانًا الأفيشات (ملصق الفيلم)، توضح أن مخرجًا مثل فيلليني لم يترك أي
شيء في عمله للمصادفة.
بعد الحرب العالمية الثانية خرجت إيطاليا بالطبع إثر الهزيمة مدمرة معنويًا
واقتصاديًا، وبدأت شيئًا فشيئًا مرحلة إعادة البناء واستعادة الثقة، وقد
واكب هذه المرحلة بروز تيار جديد في السينما الإيطالية لا يصنع أفلامًا
كالتي كانت تصنع، والتي تناولت موضوعاتها إما الحرب أو العصور الرومانية
الأمر الذي كان سائدًا بكثرة قبل بروز هذا التيار الجديد الذي اصطلح على
تسميته "بالواقعية الجديدة"، وكان من أوائل رواده "روبرتو روسيلليني".
احتضن النقاد والجماهير هذا التيار وأعجبوا به، بصرف النظر عن أن بعض ما
قدمه هذا التيار لم يكن يمت للسينما الحقيقية بصلة، فقد كان المهم أن يكون
الفيلم نفسه واقعيًا، يتناول قضايا اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية تمس
حياتهم أو مُصَوَّرًا في أماكن حقيقية، بالإضافة إلى الاعتماد على ممثلين
غير محترفين (من بينهم من قام بالتمثيل لأول وآخر مرة في حياته) هذا بالطبع
إلى جانب الميزة الكبرى المتمثلة في قلة التكاليف الإنتاجية، والاقتصاد في
الديكور إلى آخره.
وتصادف أن أعمال المايسترو التي قام بها في بداياته كانت موضوعاتها توحي
بأنها تتناول قضايا اجتماعية وواقعية بحتة مثل "أضواء المنوعات، الشيخ
الأبيض، العاطلون، الطريق"، كل هذه الأفلام يمكننا بكثير من التحفظ أن نطلق
عليها صفة الأفلام الواقعية، وهو ما حدث مع فيلليني حين ربط كثير من
النقاد، بلا تبصر، بين هذا التيار وبين عمله السابق في بداياته مع
"روسيلليني". وكثيرًا ما رفض فيلليني هذا وثار عليه كطريقة لفهم ودراسة
أعماله. هؤلاء النقاد وأيضًا الجماهير سرعان ما انقلبوا على المايسترو، وقد
بدأ هذا أول الأمر في صورة اختلاف وتباين حاد في الآراء مع فيلمه "الحياة
الحلوة" الذي اتهمومه بتقديم صورة غير صحيحة ومشوهة ومُدمرة أيضًا للمجتمع
الإيطالي فيه، وتفاقم الأمر مع توالي أفلام المايسترو التي أخذت تجنح نحو
عالم الفانتازيا والأحلام والرموز والغموض، الأمر الذي جعل أحد النقاد
يصفها بأنها "محاولة اغتيال شنيعة للواقعية الجديدة وجماليتها". يقول
فيلليني عن تجربة "الحياة الحلوة" :"حاولت أن أشرح الأمر للصحفية العجوز
التي ركضت نحوي ذات مرة وكانت تعمل في جريدة الفاتيكان، وظلت أشهرًا تسب
وتشتم "الحياة الحلوة" لكنها قالت لي: من الأفضل للإنسان أن يربط حجرًا
ثقيلا في رقبته ليغرق في عمق البحر من أن ينشر الفضيحة في المجتمع. وعلى
باب إحدى الكنائس، بعد عدة أيام من هذه الواقعة، وجدت ملصقًا كبيرًا محاطًا
بالأسود كتب عليه: فلنصلِّ من أجل خلاص روح فيدريوكو فيلليني الخاطئة".
وجدير بالذكر أن هذا الفيلم، الذي كان مثار جدال عنيف هو أول فيلم إيطالي
تبلغ مدته ثلاث ساعات (بالتحديد 178 دقيقة)، ولم يقتنع المايسترو بالنصائح
التي أسديت له باختزال طول الفيلم، فاز عنه بجائزة "السعفة الذهبية"
لمهرجان "كان" السينمائي وبجوائز أخرى عديدة، وكلها لم تشفع له. وبات
الاهتمام الجماهيري والنقدي بأعمال المايسترو يفتر شيئًا فشيئًا، حتى أنصرف
عنه الكثيرون من جماهيره الإيطالية. يقول الأديب والصحفي "جيثر ستيورت" في
مقال حديث له عن السينما الفيلينية "لا أحد نبي في بلده، خاصة فيما يتعلق
بأمر فيدريكو فيلليني، الذي لاقى إعجابًا وفهمًا قليلاً في إيطاليا
الواقعية عنه في الخارج. فاليوم يقول الكثيرون من الإيطاليين بصراحة: إنني
لا أحب فيلليني أبدًا، لست قادرًا على فهمه".
أدرك المايسترو، وغيره من مخرجي إيطاليا الجادين، بعد انتهاء فترة الإعمار
التي تلت الحرب وانتعاش الاقتصاد الإيطالي، أن الواقع ومن ثم المجتمع
الإيطالي قد صارا أكثر تعقيدًا وتخفيًا واستعصاءً على الرصد والتحليل
الخارجي، هذه العين الإخراجية البسيطة والسطحية في نظرتها، سرعان ما نفر
منها هذا الجيل وراح يبتعد بأعماله عن الخوض في السياسة والتاريخ والدين
بالصورة التي كان عليها التناول السابق، واستبدلوا هذا كله بالنظر إلى
الأمور بعمق، بعين أخرى أكثر تركيزًا على أعماق المأساة الإنسانية، وأكثر
تفهمًا وإحساسًا بمأساة النفس البشرية ومدى ما هي عليه من ضعف وتعقيد
وتركيب وشذوذ – داخل النطاق الاجتماعي والديني والسياسي – هذه النفس التي
بالطبع لا تخص فيلليني الإنسان فقط، بل تمتد لتشمل غيره من أفراد المجتمع
الإيطالي والعالمي بصفة عامة، أيًا كان زمانها أو مكانها أو عصرها، الأمر
الذي أكسب هذه السينما، في النهاية، مثل هذه المصداقية والعمق ومن ثم
الشعبية التي تمتعت بها في جميع أنحاء العالم، بالطبع مع اختلاف أسلوب كل
مخرج منهم في طرح هذه النظرة.
بعد كل هذا، هل يمكننا أن نطلق على أفلام فيلليني أنها ذات توجه سياسي، أو
إن شئنا الدقة أنها أفلام اجتماعية؟ يستثني فيلليني نفسه وأفلامه من زمرة
المخرجين السياسيين، ومن هذه النوعية من الأفلام، فالسياسة بالنسبة له ما
هي إلاَّ مفهوم شامل للحياة، أما السياسة بمعناها الآخر السَّيِّئ فهي
عملية تأطير، حصر، قولبة، الأمر الذي من شأنه محو وإخفاء معالم الشخصية،
وطمس هوية الفرد وتاريخه الشخصي الخاص، إنها الإلغاء الكامل له بغرض دمجه
في الفئات أو الطبقات أو الجماهير، "الأمر الذي يجعلني غريزيًا أنأى بنفسي
عنه". فانعزاله المتعمد عن القضايا السياسية، هو ما يجعله يشعر، على حد
قوله بالراحة، وليس بالانزعاج أو الضيق. لكن هل معنى هذا أن فيلليني كان
منعزلاً عن قضايا عصره ومجتمعه؟ يرد المايسترو قائلاً: "إذا كان لكلمة
السياسة أن تفهم على أنها إمكانية العيش المشترك، والتحرك في مجتمع من
أفراد يتمتعون باحترام لذواتهم، ويعرفون أن حريتهم تتوقف حيث تبدأ حرية
الآخرين، عندئذ يبدو لي أن أفلامي هي سياسية أيضًا، طالما أنها تتحدث عن
تلك الأمور، وربما بفضح غيابها، وبعرضها لعالم محروم منها أعتقد أن كل
أفلامي تحاول نزع قناع الأحكام المسبقة، واللغة المنمقة، والنمذجة وفق شكل
هيكلي، والأشكال الشاذة لنمط من التربية وللعالم الذي أنتجه. ماذا بوسع
المرء أن يفعل خلاف ذلك؟" ذلك جانب آخر نستطيع تبينه بوضوح في أفلامه،
الرؤية السياسية ووجهة النظر الموجهة المحفزة غير المباشرة، من دون
الانزلاق في دوامة المجانية والدعاية أو التنظير، ذلك لأن الفنان، أي فنان
كان، مادام يعيش في مجتمع ما ويعي مفرداته فلا بد له من أن يتأثر به
سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، سواء بطريقة مباشرة أو غيرمباشرة، وهو ما
ينعكس بالطبع في عمله الإبداعي بطريقة واعية أو غير واعية. يقول "بيتر
بروك" الكاتب المسرحي والمنظِّر الإنجليزي الكبير والمعاصر "إذا تأمل المرء
آلاف الأفلام العظيمة التي اُنتِجت، فسيري أن قوة السينما تكمن في التصوير،
والتصوير يشمل شخصًا ما موجودًا في مكان ما. بهذه الطريقة لا يمكن للسينما
أن تتجاهل، ولو للحظة السياق الاجتماعي الذي تعمل به". إن الأمر في النهاية
يخضع لمحاولة فهم ودراسة أسلوب المخرج نفسه، وليس بإسقاط ما نريده من
مفرداتنا النقدية الخاصة على العمل، بل إن العكس هو المفروض أن يتم، أن
نستشف ونستوعب ما يُعرض حتى وإن كان متنافيًا ووجهات نظرنا الخاصة.
وقد راق لفيلليني منطق الحلم في تقديمه لوجهة نظره، حيث يتم له تناول كل
شيء بمنطق مغاير تمامًا للاعتيادية، إذ الأشياء بغير ألوانها الحقيقة التي
عليها، كما في الحلم، وكذلك التدفق السريع للأحداث والصور والشخصيات، التي
تظهر في أطوار مختلفة من مراحلها العمرية، والتحدث إلى الموتى كما لو أنهم
لم يفارقوا الحياة، وطيران الشخصيات في الهواء، وبمعنى أكثر شمولاً، تلاشي
الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، الواقع والحلم، الشخصية الجادة الرصينة
بكل ما نراها عليه من الخارج وكل هلاوسها وتوهماتها ولا معقوليتها وجنونها،
بين ما تبديه من حزن أو فرح أو إلخ وبين ما تكتمه. هذا إضافة بالطبع إلى
تقنية الفيلم داخل الفيلم، هذه التقنية التي اتكأ عليها أكثر من مرة، والتي
انتشرت حتى في مجال الكتابة والمسرح فيما يعرف بالرواية داخل الرواية أو
المسرحية داخل المسرحية.
لقد خلقت لنا إبداعات فيلليني هذه مدرسة أو بالأحرى عدة مدارس معًا – على
مستوى السرد الفيلمي والعرض البصري والديكورات الباروكية والأزياء
والاكسسوارات والشخصيات غير المألوفة إلخ – وليس مجرد أسلوب جديد في
الإخراج أطلق عليه "الفللينية"، ولاشك أنها قد أثرت في كثيرين من معاصريه
والأجيال التالية له حتى وقتنا هذا. لكن ما أعتقد أنه أكثر أهمية من هذا
كله هو أن المايسترو حرر كل شيء في مجال فنه من القواعد والأطر الصارمة
المتحكمة فيه، تلك التعقيدات التي كانت تعوق من قبل مسارات التدفق الإبداعي
الحر، حيث لم يعد يوجد منطق أو قيد سوى منطق الإبداع نفسه، ليس إلاَّ. على
سبيل المثال تغييره لفكرة أن الفيلم مجرد تسلسل تقليدي محكم مترابط لحكاية
أوقصة مثيرة يجب أن تنتهي نهاية معينة، (لم يكتب فيلليني في أي من نهايات
أفلامه كلمة النهاية)، هذا التغيير كان صادمًا للمشاهدين العاديين الكسالى
لأفلام فيلليني، خصوصًا وأنه قد وصل في هذا الأمر إلى حدوده القصوى وبالذات
في فيلمه الأخير، "صوت القمر"، الذي جسد فيه المايسترو كل ما شغل باله طوال
مشواره السينمائي. إن ما قام به هذا المخرج، حتى وإن كان فوق مستوى إدراك
الكثيرين في تلك الفترة أو اتسم بالمغالاة في بعض الأحيان، لهو بالفعل نتاج
عبقرية فذة، متقدمة عن عصرها، وبالتالي كان من الصعب استيعاب قيمة ما قامت
به في حينه.
الغريب في الأمر أننا إذا سألناه لماذا تصنع الأفلام فسيصيح قائلاً: "أعتقد
أنني أصنع الأفلام لأنني لا أعرف صناعة أي شيء آخر غيرها، لم أتوقع أن أصبح
مخرجًا ومنذ اللحظة الأولى التي صرخت فيها: "أكشن"، ثم، "ستوب!" أعتقدت
أنني كنت أفعل هذا وأجيده منذ فترة طويلة، ونتيجة لذلك، وعند إخراجي
الأفلام، لا أطرح على نفسي سوى اتباع هذا الميل الطبيعي، أي أن أروي قصصًا
عبر السينما". أو كما صرح في مقابلة من مقابلاته: "أنا مجرد راو بسيط
للقصص". "الحقيقة أنني بكاميرتي أرسم فقط سلسلة من الخربشات، وأنا صغير كان
أي سطح أبيض يثيرني وسرعان ما أجدني أملؤه بخربشاتي. نفس الأمر بالنسبة
للسينما لكن هذه المرة باستخدام الكاميرا، فأنا أقتفي أثر الصور،
والبروفيلات، والتصميمات". إنه من الصعب أن تسأله ما الذي كان يعنيه بهذا
الفيلم أو بهذا المشهد أو بتلك الكلمات أو هذا التتابع أو التسلسل البصري.
القليلون فقط كانت لهم الجرأة على هذا، وجاءت إجابته "لأربعين سنة كنت
أحاول تفسير شيء ما لا أستطيع تفسيره. أسمع فقط أسئلة ليس بإمكاني الإجابة
عنها". "يبدو أنني أيضًا غير قادر على فهم أعمالي، لا يبدو أنني قادر حتى
على مجرد التفسير أو الإيحاء". وهذا طبيعي جدًا ومن صميم عمل المبدع، ذلك
لأن المبدع بصفة عامة لا يكون واعيًا أثناء عمله. إنه إن شئنا الدقة يكون
في مرحلة بين الوعي واللاوعي، أما بعد انتهائه من عمله الفني فمن الطبيعي
أن تبقى هناك مناطق كثيرة لا يعرف كيف أو لِمَ أُبدِعت، شيء غامض مستعص على
المبدع ذاته، لكنه يحتضن أسمى وأرقى لحظات العمل الإبداعي، وتلك كانت كثيرة
في سينما المايسترو.
إن أي مبدع في أي مجال إبداعي كان، ولنأخذ الكتابة على سبيل المثال وليس
الحصر، وأقصد من الكتابة هنا الحقيقية بالطبع، لا تعدو أن تكون عملية تدفق
حر، تداع للمعاني والصور والشخصيات والمواقف، عملية يطلق الفرد فيها العنان
لنفسه في أجزاء كثيرة جدًا من العمل، إن من يطّلع على مطبخ الكاتب (كما
يسميه يحيى حقي) أو مطبخ أي فنان قبل خروج عمله الفني في صورته النهائية
إلى النور، لا بد له أن يندهش من كل ما يراه من تفكك وعدم ترابط وشطب
ومساحات بيضاء وجمل لا رابط لها ومشاهد وشخصيات غير مكتملة إلخ، لكن الأمر
مع الكاتب أو الفنان التشكيلي أو الموسيقي كمثال، أمر خفي، مستتر، ليس
مشاعًا كما هو في فن كالمسرح أو السينما، والسينما بصفة خاصة، فقبل خروج
العمل ومنذ أن يكون مجرد فكرة في مخيلة مبدعه مرورًا بكافة مراحله، يكون
عرضة للتعدي والانتهاك من الصحفيين والجماهير والمتابعين و.. و.. إلخ. لذا
بدا الأمر للذين رصدوا عمل فيلليني، أو حتى بالنسبة للمتربصين بعمل أي مخرج
جاد قدير وذو شأن، مجرد خبط عشوائي، مجموعة من الخيوط المتداخلة التي لا
أول لها ولا يكاد يبين لها آخر. هذه إلى حد ما، وبتقريب مخل، طريقة عمل
المبدع الحقيقي بصفة عامة، وليس من يعتبرون أنفسهم كذلك أو يزعمون لأنفسهم
ذلك وهم في النهاية وفي حقيقتهم مجرد منفذين لخطط وأفكار ثابتة جامدة،
متبعين في ذلك أنماط وقوالب يتم تنفيذها كالخطط العسكرية. وهذا ينطبق كما
قلت على أي مبدع وخير مثال على ذلك المايسترو بالطبع، ويزيد على ذلك أنه
كان يقوم بما هو أكثر خطورة وتهورًا من كل هذا، وأقصد به توقيع العقد
واستلام دفعة مقدمة منه، وكثيرًا ما كان هذا يتم دون أن يكون لدى فيلليني
حتى مجرد فكرة عن العمل الذي سينفذه، ويبرر هذا بأنه بهذه الطريقة سيجبر
نفسه على تنفيذ الفيلم لأنه يكون قد أنفق المال ولا يكون في إمكانه رده
ثانية، وعندئذ إما السجن أو فقدان سمعته وعدم التعامل معه، لذا فإنه يجد
نفسه مجبرًا على التنفيذ ومن ثم الشروع بالعمل. هذا الكلام الذي قاله
المايسترو لا يجب أن نأخذ به حرفيًا، وإلاَّ فهل معنى هذا أن كثيرًا من
روائعه قد تم عملها فقط من أجل المال؟
الحقيقة أن المال مهم لأي فنان، وكثيرًا ما ذكر المايسترو هذا وضرب أمثلة
بفناني العصور القديمة الذين صرّح في أكثر من مرة بأنه كان يتمنى أن يكون
مثلهم، حيث هناك قصور ملكية أو كنائس ترعاهم وتنفق عليهم. لكنني أجزم بأن
الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى فيلليني، فموضوع المال والمقدم وما إلى ذلك
ما هي إلاَّ مجرد نوع من وضع النفس المبدعة في موقف حرج، إجبارها على أن
تعيش أزمة، حالة من التوتر. إنه الحافز، المهماز، الذي يجعله في كل لحظة
قلقًا على ما سينجزه مهمومًا ومشغولاً به إلى حد الهوس وفقدان الأعصاب،
"الخوف من الكارثة مثير جدًا بالنسبة لي". وبمجرد أن تحدث له الشرارة
الأولى، الانطلاقة التي تضع المبدع على الطريق الصحيح المؤدي لإنجاز عمله
العمل الإبداعي، عندئذ يتبدل كل هذا ويصبح الهدف هو الإنجاز، حيث تبرز هنا
أنانية المبدع الذي لا يبغي أي شيء ولا يلتفت إلاَّ لعمله الإبداعي. يقول
فيلليني لكل فنان جاد "عندما يحاول فنان أن يبرمج نفسه من الخارج فإنه
يرتكب دائمًا غلطًا ما".
في إجابة له عما إن كان يهتم بآراء النقاد أم بشباك التذاكر؟ قال "المرء
يصنع فيلمًا لذاته، لنفسه أولاً، لأنه ينبغي عليه ذلك، بصرف النظر عن هذه
الجزئية الصغيرة الخاصة بالعقد والمقدم، بالطبع أكون راضيًا إذا أشبع
الفيلم معظم متطلبات النقاد، والجماهير، إنهم من أرجوه في قرارة نفسي، لكن
هذا لا يكون له وجود، لا يصبح حاضرًا أبدًا في قرارة نفسي عندما أعمل".
عام 1993 تلقى الأوسكار الخامس له عن مجمل أعماله بحضور "ماستروياني"
و"صوفيا لورين" معه، وكانت بين الجماهير زوجته ماسينا. وفيلليني من أكثر
المخرجين فوزًا بالجوائز، إنها لا تحصى فأحد أفلامه (ثمانية ونصف) كمثال
فاز بأكثر من خمسين جائزة محلية وعالمية. أما عن جوائز الأوسكار فهي
كالتالي: 1954 عن "الطريق"، 1957 عن "ليالي كابيريا"، 1963 عن "ثمانية
ونصف"، 1973 عن "أماركورد". في نهاية ذلك العام 1993 توفي الساحر في الحادي
والثلاثين من أكتوبر، بعد يوم من احتفال إيطاليا الفني والعائلي بالعيد
الخمسين لزواجه هو وماسينا، هذه الفنانة العظيمة التي قدم التعازي إليها
الرئيس والحكومة الإيطالية عقب وفاته، والتي توفيت بعد أشهر قليلة من وفاة
زوجها.
*كاتب ومترجم مصري
إيلاف في
23/10/2009 |