السينمائي الفلسطيني المغرّد خارج السرب، عرض فيلمه في «مهرجان لندن»،
ونال أوّل من أمس «اللؤلؤة السوداء» في «أبو ظبي». مواطنته الكاتبة
المعروفة تقرأ «الزمن الباقي»
تجري أحداث فيلم إيليا سليمان «الزمن الباقي» ليس فقط في ما بقي من زمان،
لكن أيضاً من مكان، في فلسطين. يبدأ الشريط بانطلاق سيارة أجرة من مطار
اللد تحمل داخلها مسافراً تظهر فقط حقيبته لحظة يضعها السائق في الصندوق.
خلال الرحلة، وبينما يظهر السائق الإسرائيلي بوضوح، يبدو المسافر الجالس في
المقعد الخلفي غير واضح. عدم القدرة على رؤية الأخير، تثير لدى المشاهد،
كما لدى السائق، الإحساس بالتنبّه والهلع. أليس عدو العصر هو اللامرئي، أو
من حُوّل إلى لامرئي؟ لا يتوقف انعدام الرؤية عند هذا الحد. فجأةً تهب
عاصفة تبدو بإشارة من السائق «توراتية»؛ تؤدي إلى غياب قدرته على رؤية
الطريق، يليها توقف الإرسال اللاسلكي. هناك تتوقف الرحلة. ومن هذا التوقف،
يستحضر الفيلم ثلاث حالات مماثلة من انقطاع الصلة بالزمان والمكان
المألوفين، لكن ذات عواقب أشد فجاعةً وإيلاماً.
الانقطاع الأول يحدث في 1948، حين تحتل الـ «هاغانا» الناصرة، وتغادر حبيبة
فؤاد سليمان فلسطين، بينما يبقى هو يقاوم حتى يُقبض عليه. لكن فؤاد ينجو
ويبقى على قيد الحياة في الناصرة، حيث يتزوج فتاة ينجب منها إيليا. يتابع
الفيلم حياة العائلة التي تبدو حركتها محدودة في الحي، الذي يعيش بدوره تحت
سطوة رتابة قاسية. ثمة جار يحاول الانتحار، لكنّه ينجو بمساعدة فؤاد، فيبقى
على قيد الحياة فقط ليحاول الانتحار مرة بعد مرّة.
كلما حاولت إحدى الشخصيات الخروج من حدود الحي والعيش الرتيب، سرعان ما
تظهر المحاولات لصدها بالرتابة نفسها. حين يذهب الأب فؤاد لصيد الأسماك مع
صديق، تأتي الدورية ذاتها للتأكد من أوراقهما. لا يجد الجنود أي خرق قانوني
في المرة الأولى، لكنّهم يستغربون في المرة الثانية أن يقطع الرجلان كل
الطريق إلى هنا لصيد الأسماك: «ألا يوجد بحر في الناصرة؟» يسأل الجنود. في
المرة الثالثة وحين يمر الجنود أنفسهم لا يعلّقون بشيء، لكن الشرطة تدهم
لاحقاً بيت فؤاد بتهمة تهريب الأسلحة عبر البحر إلى لبنان!
ليس هناك، لرأب الانقطاع في المكان، إلا القفز بالعصا من فوق الجدار
وبينما تستهدف محاولات الحد من الحركة، جيلَ الأب الذي عايش النكبة، يخضع
جيل الابن إيليا ـــــ أي الجيل الثاني ـــــ لمحاولات تهجين وعيه الجماعي.
هكذا يضطر رفاق إيليا في المدرسة إلى ترديد النشيد الوطني الإسرائيلي. ورغم
حفظه عن ظهر قلب، فإنّ التردّد في التصفيق، يكشف أن هذه الأناشيد الملقّنة
لم تنجح في اختراق الإحساس العفوي للأطفال. ويتضح فشل محاولات التهجين هذه
حين يبدأ مدير المدرسة لاحقاً بتوبيخ إيليا لقوله إنّ أميركا استعمارية،
فيكون تأثير التوبيخ في الطفل إيليا، أنّه يغيّر كلامه في المرة اللاحقة،
ليعلن أن أميركا... إمبريالية!
الانقطاع الثاني مع الزمان والمكان يأتي حين يبلغ إيليا عمر أبيه خلال
النكبة. يروح إيليا الشاب يمضي وقته في نقل والده إلى المستشفى للعلاج، أو
برفقة صديقين يتابع معهما حالة الاغتراب التي يعيشها أهل الناصرة. ذات يوم،
يغادر البلاد بعدما وصلته معلومات تفيد أنّ السلطات الإسرائيلية تنوي
اعتقاله. علماً بأن التفاعل السياسي الوحيد في الفيلم، هو النظر من شرفة
البيت إلى مواجهة بين الشرطة الإسرائيلية وشباب من جيله، كما لو أن
الانخراط في الصراع السياسي يبدأ لحظة النظر إليه.
أخيراً يعود إيليا إلى فلسطين، إلى الناصرة، إلى المكان الأوّل الذي تركه.
يجلس برفقة صديقيه القديمين في مقهى، كما لو أنه لم يكن هناك غياب أو
انقطاع في الزمان والمكان. لكن هناك على الأقل الوقت الذي مضى. كبر
الأصدقاء الثلاثة، ونما جيل ثالث ليس أقل اضطراباً من سابقيه. الفلسطيني
الذي عمل واشياً خلال النكبة، وساعد الـ«هاغانا» على اكتشاف مقاتلين
فلسطينيين مثل فؤاد سليمان، يعود كشرطي مرافقاً القوات الإسرائيلية حين
تدهم البيوت الفلسطينية، ومنها بيت عائلة سليمان. في الجيل الثالث، تحول
الفلسطيني نفسه شرطياً يضايق الأطفال الفلسطينيين، أو خادماً للممرضة
الفيليبينية التي تخدم بدورها سيّدة مسنّة، ليس إلّا زوجة فؤاد، أي والدة
إيليا.
في الواقع، مشاهد كثيرة في الفيلم، لا تصور الأحداث ذاتها فحسب، بل تفعل
ذلك بالأسلوب ذاته أيضاً؛ من الموضع والبعد والمقاييس ذاتها. بالتالي كل ما
تغيّر هو الزمن الذي يعبر بالشخصيات، فتكبر وتشيخ وهي محتجزة في الدائرة
نفسها. هناك مشاهد تحيلنا على سينما باستر كيتون وجاك تاتي. لكن الفيلم
يذكّر أيضاً بسينما شارلي شابلن. إضافةً إلى البعد السياسي ـــــ الاجتماعي
المركزي في أفلام شابلن، وهو بمثابة ركيزة سينما سليمان، إذ يعتمد الأخير
على شكل ومضمون لقطات يذكِّر بأسلوب شابلن. عند الاثنين، العناصر في الكادر
محدودة، وذات بساطة مدروسة لكن بخفيّة شديدة. كذلك كل مشهد يَعرض أكثر ما
يمكن في أقل لقطات وحركة. لكن ما يحيل التقارب بين المخرج الفلسطيني
وشابلن، ليس فقط أسلوب التصوير ومضمون اللقطات، بل دور الشريط الصوتي.
تأخذ الموسيقى في سينما إيليا سليمان دوراً أساسياً، يفوق دور الحوار. مع
أن «الزمن الباقي» ليس فيلماً صامتاً بالمفهوم العادي، إلا أن الحوار فيه
قليل. وإذا تحدثت الشخصيات، يبدو حوارها كأنه لم يكن لشدة عبثيته. هذه
العبثية تذكّر بعبثية شابلن حين تحدث لأول مرة في تاريخه السينمائي، في
فيلم «الأزمنة الحديثة» (1936). هنا، يقدم شابلن أغنية بلغة غير مفهومة؛ أو
ما يسمّى لغة «الجبريش». غير أن الأفعال في «الزمن الباقي» تبقى أكثر صغراً
وثانوية من تلك التي يعرضها شابلن أو حتى تاتي وكيتون، كما يتجلى في مشاهد
الفيلم، أكانت مصوّرة في الناصرة أم في رام لله، بما فيها المشاهد التي
تصوّر فعل «المقاومة».
وحدهم الذين ينجون ـــــ إلى حدّ ما ـــــ من الاضطراب العنيف الذي تخلّفه
النكبة لأجيال من الفلسطينيين، هم من يستمرون في المقاومة، ولو بتجاهل
المحتل وقوته وقدرته على الإرهاب. مثلاً، خلال جلوس الأم على شرفة البيت في
الناصرة بعد موت الأب، تنطلق ألعاب نارية احتفالاً بمرور 60 عاماً على
إنشاء دولة إسرائيل. عندها تدير الأم بصرها نحو الجهة الأخرى، مانعة هذه
الألعاب من تحقيق هدفها، وهو جذب الأنظار. هنا المقاومة تتجلى ببساطة عبر
«عدم النظر». وكما تتجلى المقاومة عبر «الفعل الصغير»، تتجلى المتعة أيضاً
عبر الفعل الصغير. أثناء جلوس الأم بسكون على الشرفة، يضع إيليا أغنية،
فتبدأ الأم بهزّ ساقها اليمنى التي تظهر من تحت الطاولة بتأنٍّ، لمرات عدة،
على وقع الموسيقى.
أخيراً هذا ما يفعله إيليا سليمان أيضاً، إذ يلجأ إلى «الفعل الصغير»
للخروج من هذا السجن الذي يقدم الفيلم سرداً دقيقاً لهندسته. هذا الفعل
الصغير بدوره يحتاج إلى قوة هائلة؛ أكبر من تلك التي يتمتع بها المحتل، بل
أبطال الألعاب الأولمبية: لرأب الانقطاع في المكان، ليس هناك إلّا حلّ واحد
هو القفز بالعصا من فوق الجدار المزروع في قلب فلسطين، ويبلغ ارتفاعه
ثمانية أمتار. إيليا يجد هذه القوة، في حيّز المتخيّل الذي يوفره الإبداع
عامةً، والسينما على وجه الخصوص.
فكاهة وسخرية
عقب فوزه بـ «جائزة اللؤلؤة السوداء» في «مهرجان أبو ظبي»، عن أفضل فيلم من
الشرق الأوسط، قال إيليا سليمان (الصورة) إنّ الفكاهة والسخرية اللتين لجأ
إليهما في «الزمن بالباقي»، أصبحتا مقبولتين اليوم لدى جيل الشباب. وأضاف:
«الجيل العربي بات أقدر على الوصول والمطالبة بفسحة من الحرية والتعبير».
وتسلّم سليمان الجائزة من النجم الأميركي أورلاندو بلوم في حضور النجمة
الأوسترالية نعومي واتس.
الأخبار اللبنانية في
19/10/2009
فريد استير وألفيس بريسلي في جحيم الستالينيّة
أبو ظبي ــ
وائل عبد الفتاح
حكاية تُروى بالكامل على طريقة أفلام برودواي
انتهى
Hipsters (عشّاق الصرعات) بالحيرة. ميل الذي ترك قطيع الحزب الواحد، يسير
وحيداً بعدما تلقّى الصدمة من صديقه فريد الذي علّمه التمرد على مجتمع
اللون الواحد. لكن في منتصف الطريق، رضخ فريد لأحلام العائلة، وانضم إلى
ارستقراطية تصعد على اكتاف البروليتاريا لتنعم بالسلطة والثروة والقدرة على
الهرب من مصائر القطيع الهادر في المصانع والشوارع والمدارس والبيوت.
إنّها موسكو ١٩٥٥. عزّ الستالينية. وأسراب المراهقين تذهب إلى صرعات الرقص
والموسيقى وقصات الشعر. الصرعة مقابل الكاتالوغ. هذه هي أميركا بسحرها
الباهر: الجاز ورقصات البوغي ووغي وآلهتها الحديثة: من فريد أستير إلى
ألفيس بريسلي. ميلس حذف من اسمه الحرف الأخير الذي يشير إلى ستالين. بينما
بقيت الحروف الأخرى للآلهة الشيوعية «ماركس وانغلز ولينين». ومع الحرف
المحذوف، تغيّرت حياة «ميل» من «شاب مثالي» الى عاشق صرعات منبوذ. الحلم
البعيد كان أميركا. الكوكب الآخر الذي ترنو إليه العقليات المتمردة
والشطحات الفردية والمشاعر الساخنة. الصدام بين أبناء الأباراتشيك في الحزب
الذين يكرهون الاختلاف، وبين الحالمين بحياة متخيلة عن الكوكب الأميركي.
سخرية خفيفة أطلّت عبر حكاية موسيقية تُروى بالكامل على طريقة أفلام
برودواي.
ميل هو البورجوازي القادم من عالم اللون الواحد إلى عالم الألوان الصارخة،
بعد لمسة حب من أميرة من أميرات المنبوذين. بولي التي كانت السبب في رحلة
وزواج بين البرجوازية المهووسة بالحلم الأميركي، والبروليتاريا الحالمة
بالخروج من مستعمرات الحياة المثالية. السخرية هنا تصل إلى محطة أخرى،
عندما يكون نتاج الزواج طفلاً أسود. تفرح به البروليتاريا التعيسة، وتتوتر
به البرجوازية القلقة. والطفل نتاج ليلة قضتها العاشقة مع زائر من الكوكب
الأميركي.
فيلم احتفالي مرح عن طقوس الهروب من القمع. سرد يعتمد على الصراع بين عالم
يرى آلة الساكسفون أداة قتل وعازفها مشروع مجرم، وبين عالم منفلت من هذه
الكتلة الصماء لموسكو في الخمسينيات. السرد من وجهة نظر تميل إلى عالم
الانفلات، لكنها لا تقع في أسرها وتنتقدها بعنف عبر التماثل الرهيب بين
أبطال الصرعات الذين يشبهون نجوم برودواي وهوليوود (فريد يشبه فريد استير،
وميل يشبه ألفيس بريسلي)... كأن الهروب من أسر التشابه يوقع في تشابه آخر.
هذا وحده كان إيقاعاً هامشياً في فيلم لم يقدّم احتفالاً بالتمرد على طريقة
الصرعات. لكنه لم يصنع نهايات ميلودرامية كالتي التي صنعها «لا أحد يعرف
شيئاً عن القطط الفارسية» لبهمان غوبادي. الفيلمان عن الموسيقى الهاربة من
الأنظمة الشمولية. ويضاف الى الموسيقى في شريط فاليري تودوروفسكي، عالم
الألوان التي تبدو باهرة في كشف ما يفعله القمع في الحياة.
الأخبار اللبنانية في
19/10/2009 |