تستحقّ التجربة
اهتماماً نقدياً وجماهيرياً. فعلى الرغم من أن هذا النوع من الأفلام لا
يعثر على
صالة سينمائية للتواصل مع المُشاهدين، ولا يملك جمهوراً سينمائياً في لبنان
والعالمالعربي؛ إلاّ أن الخطوة التي أقدمت عليها إدارة صالة «متروبوليس/
أمبير صوفيل» في
الأشرفية، تُشكّل إضافة نوعية مهمّة على «تقاليد» المُشاهدة السينمائية
المحلية، بل
كسراً لمفاهيم لبنانية وعربية مناقضة للمنطق الإبداعي. فالفيلم الوثائقي،
الذيتجاوز شكله الكلاسيكي والكيفية القديمة لابتكاره، بات
سينمائياً بامتياز، بعد دخول
الجانب المتخيّل في سياقه الدرامي، وبعد تحوّله إلى متتاليات سينمائية تغرف
من
الواقع كي ترسم ملامحه وتفاصيله، من دون أن تتسلّط المادة الوثائقية البحتة
(الريبورتاج،
التسجيل، التوثيق الكلاسيكي) على النتاج الإبداعي. والعرض الجماهيري،
الذي يُفترض به أن يُطلق مرحلة جديدة تعمل على تأسيس علاقة سليمة بين
المشاهدينوالفيلم الوثائقي، يساهم (أو هذا ما يتمنّاه المهتمّون بالفن
السابع بأنواعه
المختلفة، على الأقلّ) في تفعيل مكانة هذا النوع السينمائي في المشهد
اللبناني.
ذلك أن العروض الجماهيرية لـ «سمعان بالضيعة»، الفيلم الوثائقي الأول
للمخرج
اللبناني سيمون الهبر، تبدأ بعد ظهر اليوم في الصالة المذكورة. فالفيلم،
بصفتهشهادة سينمائية متميّزة بجمالياتها البصرية والتصويرية
والتوليفية والدرامية، منتم
إلى تلك الفئة الوثائقية التي حرّرت العمل الفني من تلفزيونيته وعاديته،
جاعلة من
الصنيع فناً قائماً بحدّ ذاته. في حين أن الهبر، المقبل إلى الإخراج من
تخصّصأكاديمي واشتغال احترافي في مجال التوليف، التزم المنطق
التجديدي في إنجاز الفيلم
الوثائقي، مخترقاً (في الوقت نفسه) احد أقسى المحرّمات اللبنانية المانعة
جلب
الذاكرة إلى الراهن، لامتحان هذا الراهن في علاقته بالذاكرة والآنيّ معاً،ومتعمّداً اختيار فرد واحد فقط لسرد الحكاية الجماعية،
ومتعاوناً مع أحد أفراد
عائلته الصغيرة، أي عمّه سمعان الهبر، كي يفتح أفق الأسئلة المعلّقة في
المدى
الأوسع لهذه الحكاية، التي يُراد لها أن تبقى طيّ النسيان. أما إدارة
الصالة،الساعية إلى جعل المكان فضاء مفتوحاً على الأنماط السينمائية
المتفرّقة كلّها (أفلاماً
ومهرجانات)، فمستمرّة في رفد المشهد السينمائي اللبناني بما يُمكنه إثارةالأسئلة السينمائية والثقافية والفنية.
رصد المنعطفات
بات الأمر واقعاً، إذ
انتقل «سمعان بالضيعة» إلى الشاشة الكبيرة، بعد أشهر طويلة على إنجازه
وافتتاحهالدورة الأخيرة لـ «أيام بيروت السينمائية» قبل عام واحد،
راصداً إحدى المنعطفات
الخطرة في الذاكرة اللبنانية، ومقدّماً رؤيته الذاتية لحالة جماعية،
ومنجزاً فيلماً
سينمائياً آسراً، بلغته وتصويره وتوليفه ولقاءاته أناساً معنيين بالمسألة
المطروحة،وبالتقاطه النبض الأخير المعتمل في ذات العمّ سمعان الهبر، وفي
ذوات أقارب وجيران
عكسوا، بعيونهم المتعبة وضحكاتهم الخفرة، خيبات تجلّت صمتاً أو عجزاً عن
استكمال
الجملة لتوضيح الحكاية. وهذا كلّه منصبٌّ في خدمة مسألتين اثنتين مترابطتين
في مابينهما بشدّة: الاشتغال السينمائي المنفتح على اختبار أدوات
الفيلم الوثائقي في
قالب روائي سردي، والحفر عميقاً في الجرح اللبناني غير المندمل، بل الواقع
في قبضة
متسلّطين يريدون إبقاءه مفتوحاً على النسيان. في المسألة الأولى، لا يُمكن
للمُشاهدأن يتغاضى عن جمال الصورة في استعادته الألم، الشخصي الخاصّ
بسمعان وانفعالاته
والعام المنفلش على أعوام الحرب وخرابها المستمرّ في إثارة الرعب في نفوس
كثيرين،
والمتمثّل بالجدران الباقية وسط العراء، وبالطرقات الخالية من المارّة،
وبالفضاءالمنكسر عند دمعة مخفية، أو غصّة معلّقة، أو نظرة تائهة بين
طبيعتين متناقضتين:
أولى جميلة لا تزال ممتدة في السهول والحقول والوديان والقرى والأشجار، وفي
أشياء
كثيرة مستلّة من الذاكرة أيضاً؛ وثانية بغيضة رسمت صُوَرها على أنقاض مرمية
هناوهناك، وفي قلوب متعبة وذكريات ثقيلة وعيون لا ترحم. كأن
المخرج سيمون الهبر،
بلقائه عمّه سمعان على مدى سنوات عدّة، أراد أن يسير بكاميراه في قلب
الراهن، كي
يفتّت جدران العزلة، بحثاً عما جرى في لحظة الجنون البشري، وفي تداعياته.
أو كأنالعمّ سمعان، بتمرّده الهادئ على الراهن، أقام دنياه الخاصّة
به في قلب الحيّز
الجغرافي والإنساني الذي شهد الكارثة الدموية، والتمزّق الروحي.
في الجانب
السينمائي، راهن سيمون الهبر على التوليف، كي يعيد بناء نصّه السينمائي
هذا. وفيالجانب الإنساني والأخلاقي، حافظ على مسافة من عمّه سمعان، ومن
أقارب وجيران يأتون
إلى قريتهم عين الحلزون مرّة واحدة في العام لأمور زراعية بحتة، أو ربما
لاقتناص
نظرة «قد» تكون الأخيرة (لبعضهم على الأقلّ) على قرية أضيفت إلى تلك
اللائحةالسوداء للجريمة اللبنانية المنظّمة أثناء الحروب الأهلية
المتنقّلة. أقول إن
المخرج حافظ على مسافة ما بينه وبين عمّه والأقارب والجيران، كي يجعل
المسافة نفسها
إطلالة صادقة وصادمة في آن واحد على فصل من فصول الموت والخراب. والمسافة،
إذ تظهرفي قلّة الأسئلة الظاهرة في المشهد (مع أنها قد تكون كثيرة
واستفزازية، ربما، أثناء
التصوير)، لم تخرج من إطارها الفني في جعل الحكاية مستوية في رصد المنعطف
وتأثيراته
الممتدّة إلى الآنيّ. والتوليف، إذ يأتي في لحظة الحسم الإبداعي، نتج من
كَمّ هائلمن المشاهد المصوّرة، التي جعلت نصّ الفيلم أكثر انفلاشاً على
مساحة الذاكرة
الفردية والجماعية معاً، وأجمل في إعادة توضيب اللقطات المختارة في سياق
درامي بديع
وخبيث، بالمعنى الجميل لمفردة الخبيث.
تفاصيل
أقول مسافة، وأرى فيها جزءاً
من تعرية المشهد المفروض على الجميع، عبر تصوير مرهف الأحاسيس (الطبيعة،
الثلوج،
الصقيع، الألفة، الحنين إلى الماضي، التمتّع بالعيش وسط ذكريات مدمِّرة
ومحرِّضة،في آن واحد، على إكمال الحياة بقناعة الخارج من الموت إليها)،
واستخدام موفّق
لكاميرا لا تقف على الحياد، ولا تكتفي بالمروي، بل تؤذي بقدرتها على اللعب
على
الأوتار القاتلة باستفزاز إبداعي رائع.
هذا كلّه واضحٌ في تفاصيل جانبية لا
تقلّ أهمية عن المتن الدرامي والحكائي. هناك الأغنيات القليلة، والصمت
المكثّف،
ولعبة الألوان والإضاءة، والإشارات العابرة التي تؤشّر إلى ملامح ما حصل
وما يحصلالآن، والتي تغذّي اللغة السينمائية بقول إنساني وأخلاقي
وثقافي. فالفيلم، المنطلق
من لقاء العمّ سمعان العائد إلى قريته عين الحلزون بعد أعوام مريرة من
التهجير، على
الرغم من خلوّها المطلق من أي إنسان آخر سواه، يمزّق الأقنعة التي سيّجت
الماضيبهدوء وصبر، ويحفر ثقوباً شتّى في الجدار العازل للذاكرة،
ويمنح المنطق السينمائي
حرّيته في اختبار العلاقة القائمة بين الكاميرا والحكاية والوجوه والأشياء. والحكاية بدأت من عملية التهجير المنفّذة
في عين الحلزون والقرى المسيحية الأخرى فيالجبل اللبناني، أثناء الحروب الأهلية المتنقّلة في منتصف
الثمانينيات، ولم تنته
عند سمعان الهبر العائد وحيداً إلى ارتباطه العضوي والإنساني والانفعالي
بأرض
وذاكرة. وإذا ظلّت الحكاية منقوصة على ألسنة كثيرين، إلاّ أن «سمعان
بالضيعة» ضرب
بمعوله السينمائي البديع ذلك الجمود الذي يُراد له تحنيط النسيان، بدلاً من
ولوجالماضي وإعادة قراءته بالدم والدمع والأحلام الجميلة، كي
يستقيم شيء في هذا الحاضر
المثقل بالخيبات والجراح. وإذا بدا الفيلم مزيجاً حادّاً بين الرغبة في كسر
الصمت
واستخدام التقنيات الحديثة في «تسجيل» الواقع والحكايات وتصوير الراهن، فإن
المخرج
سيمون الهبر قدّم واحدة من أجمل الشهادات السينمائية عن مرارة العيش
اللبناني فيمتاهة الذكريات النابضــة بألف صرخة ووجع.
ن. ج.
«سمعان
بالضيعة»: إخراج
وتوليف سيمون الهبر. تصوير باسم فياض ومارك كرم. صوت شادي روكز. توليف
الصوت/ ميكساج إميل عوّاد. إنتاج «بيروت دي سي»
بالتعاون مع «ميك فيلم». المنتجون: سيمونالهبر وجاد أبي خليل وإيريت نايدهارت.
اشكال
مجرد ريبة
نديم
جرجوره
لا يُمكن فهم السبب
الحقيقي للحملة الصحافية والإعلامية المصرية ضد «المسافر» لأحمد ماهر.
فالفيلميتمتّع بلغة سينمائية واضحة، وبقدرة على سرد الحكاية بعيداً عن
تسطيح النصّ السياسي
والخطاب الإنساني، وبجمالية البحث في شؤون الذاكرة والوحدة والاغتراب في
إطار بصري
جميل. والحملة موغلة في فراغ مضمونها النقدي، لأنها لا تختلف عن الغالبية
الساحقةمن المقالات الصحافية المصرية المسطّحة، التي تلتقط إشارة ما
من مصدر معيّن، كي
تدبّج نصوصاً لا علاقة لها بالصحافة والنقد والأدب وقواعد الكتابة النقدية،
لارتباطها بمفردات الشتم والتقريع.
لكن مشاهدة الفيلم الجميل هذا، الذي لا يخلو
من هنات متعلّقة بعدد من المعطيات السينمائية القابلة لنقاش سوي، جعلت
المُشاهد
يُدرك فداحة الحملة وغباءها، لأن «المسافر»، الذي أنتجته وزارة الثقافة
المصرية في
خطوة أولى بعد غياب سنين طويلة، متمتّع بجماليات لا يستطيع أصحاب هذا النوع
منالكتابة الصفراء إدارك كنهها وأبعادها وتفاصيل خطابها
السينمائي. والأبشع من هذا،
كامن في تورّط سينمائيين ومثقفين، مشهود لهم بحضور لافت للانتباه في المشهد
الإبداعي المصري والعربي، في الحملة نفسها، بناء على كلام تَوَاتر إليهم
عبرالأثير، غداة عرضه الأول في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية
السينمائي (أيلول
الفائت).
ينتمي «المسافر» إلى نمط فني عكس الهاجس القوي لمخرجه بالفن السابع.
فهو، بسرده تاريخ الخيبات والانكسارات والاغترابات الذاتية عبر ثلاث محطّات
أساسية (نكبة 1948، والانتصار المنقوص في حرب 1973،
وجريمة الاعتداء الإرهابي على الولاياتالمتحدّة الأميركية في أيلول 2001)، أعاد رسم الملامح العامّة
للجنون المستشري في
الجماعة، وانعكاسات هذا الجنون على الفرد الواقع في المسافة القاتلة بين
انتماء
ملتبس إلى بيئة وجماعة، ورغبة مرتبكة في الخلاص المشوّه من إحباطات التاريخ.
والمخرج، المقبل إلى نتاجه الروائي الطويل الأول هذا بعد تجربة الغربة
والأفلام
القصيرة، مدرك حيوية جعل الرمز السياسي والتاريخي مرايا الذات والمجتمع
والعلاقات،من دون السقوط في فخّ الخطابية المباشرة. لكن «المسافر»،
المحتاج أساساً إلى قراءة
نقدية أوسع، مصاب بهنات عدّة، أبرزها اختيار خالد النبوي ممثلاً الشخصية
الأساسية
في الفصلين الأول والثاني، إلى درجة أن سيرين عبد النور، في تجربتها
التمثيليةالثانية بعد «دخان بلا نار» لسمير حبشي، بدت أفضل منه أداءً
وحركة وحضوراً، علماً
بأن لقطات عدّة مصوّرة بجمالية واضحة عجزت، على الرغم من براعة التقاطها،
عن تشكيل
سياق متكامل أحياناً، ما جعل الفصل الثالث (تمثيل عمر الشريف) الأفضل
والأجملوالأقوى والأهمّ؛ من دون التغاضي المطلق عن الإشارات الفنية
والإنسانية والسينمائية
الجميلة في الفصلين الأولين.
في مقابل الأهمية الإبداعية لـ «المسافر»، هناك
خشية حقيقية من أن تتحوّل الحملة إلى سياسة مناهضة لتلك الحيوية السينمائية
المعتملة في ذات أحمد ماهر وأمثاله. أم إن قوة السينما فيهم قادرةٌ على
حمايتهم، في
معركة غير متكافئة كهذه؟