أبشروا أيها القرّاء
والمشاهدون التلفزيونيون: هناك تاريخٌ جديد للبشرية والأفكار تكتبه مذيعة
شابّة
أثناء تقديمها برنامج ألعاب طيلة شهر رمضان. لا تشعروا بصدمة الحقيقة
الساطعة من
فمها المبارك بحسّ المسؤولية الإنسانية والثقافية، لأن
التعاليم كلّها باتت في مهبّ
ريح المذيعة التي تصوغ عباراتها بما يحلو لها من نطق مشوّه وخاطئ، من دون
أدنى
معرفة بمضمون هذه العبارات،
وبمدى صحّتها وسلامتها. لا تنسوا أن الطرف الآخر في
اللعبة (المتّصلين) لا يقلّ «ابتكاراً» عن المذيعة في إعادة
كتابة النصّ التاريخي،
لأنه لا يقلّ جهلاً عنها.
لا يهمّ إذا عُمِّمت الأخطاء عبر شاشة تلفزيونية، لا
أعرف مدى انتشارها وجماهيريتها في الداخل اللبناني والجغرافيا العربية
والدول
الاغترابية. لا يهمّ إذا لهث مشاهدون وراء بضعة ريالات (بهذه
العملة تُدفع الأرباح
المالية عن كل سؤال، قبل أن يحقّ للفائز المشاركة في السحب الأساسي في
نهاية رمضان،
إذا أجاب إجابات صحيحة عن خمسة أسئلة، علماً بأن الجائزة الأخيرة سيارة
جديدة)، ولا
معنى لأي شيء آخر، لأن الريالات القليلة أهمّ من الفضيحة التي
تكشف مزيداً من عورات
المجتمع العربي البائس، والغارق في مزيد من الجهل العلمي والمعرفي. ذلك أن
برامج
كهذه، تُطرح فيها أسئلة «ثقافية» تُلفَظ جملها وأسماؤها ومعلوماتها بشتّى
أنواع
الأخطاء الفادحة، ليست أقلّ من مرايا بيئات مجتمعية وأنماط
تربوية تُنذر بعواقب
وخيمة، أو بالأحرى تؤكّد أن العواقب الوخيمة في مستويات العيش والمعرفة
مقيمة في
الراهن. والأسوأ من هذا كلّه، أن اللهاث الأولي هادفٌ إلى بضع ريالات لا
تتجاوز
الخمسمئة، في حال «نجح» المُشاهد المتصلّ في الإجابة الصحيحة
عن الأسئلة الخمسة (لا
تتردّد المذيعة في «تمرير» هذه الإجابات بطريقة تظنّ أنها ذكية، في حين
أنها مكشوفة
علناً أمام عيون الجميع)، في حين أن السيارة تبقى الهدف «الأسمى»، وإن مرّت
الطريق
إليها في فراغ مدقع.
لا شكّ في أن برامج ألعاب وأرباح مالية وغير مالية كثيرةٌ
في المحطّات التلفزيونية العربية، خصوصاً في شهر رمضان. ولا شكّ في أن بعض
الأسئلة
المطروحة منتمية إلى «ثقافة» ما، وتُلقى بلغة سليمة في بعض
الأحيان، وتُلفظ كلماتها
بنطق سوي. لكن، هذه قلّة. والقلّة مصابة بوهن أساسي في بنية برنامج موقّت،
والموقت
هنا مرتبط بشهر الصيام الإسلامي فقط، لأن المشهد التلفزيوني مفرغ، في
الأشهر
الأخرى، من هذا النوع من البرامج، إلاّ نادراً. ما يعني أن
الإفادة إن وجدت فهي
عابرة، وإن وجدت فهي لا تُشكّل إلاّ القليل القليل وسط الانهيارات التامة
في الشؤون
الأخرى.
غير أن برنامجاً محدّداً فاق بؤسه المستويات كلّها التي بلغها درك
البرامج التلفزيونية الأخرى، لأن مقدّمته الآنسة عبير (شاشة تلفزيون
«الجرس») أطاحت
بكل شيء في مجالي الثقافة وأناقة التقديم التلفزيوني، معتمدة
على ما تظنّه جمالاً
في الشكل ودلالاً في الحركة وغنجاً في التمايل أمام عدسة الكاميرا؛ وعلى
جهل لدى
واضعي الأسئلة، الذين يظنّون أن اختيارهم أسماء وأحداثاً تاريخية ومهمّة
كفيلٌ،
وحده، لتأكيد التوجّه الثقافي للبرنامج. فمع الآنسة عبير، لا
ضرورة للتأكّد من صحّة
المعلومة، أو للتنبّه إلى أولوية النطق السليم وامتلاك حدّ أدنى من
المعلومات
الصحيحة. معها، يُصبح «مارك أنتوني»، الذي استمال قلب كليوباترة، مغنياً؛
وجزيرة
«كريت»
تُلفَظ بإنكليزية ركيكة «غريس»، فتكون الترجمة الفورية أنها تعني اليونان؛
وجمع نهر «أنهار» وليس «أنهراً»... إلخ. والطامة الكبرى التي تفوّقت على
السيرة»المخفية» لمارك أنتوني، كامنةٌ في القول الشهير لديكارت
(تُشدّد الآنسة عبير
على ياء ديكارت باللغة العربية، في محاولة صادقة لإقناع المتفرّج بمصداقية
معلوماتها وسعة ثقافتها): «أنا أفكّر، إذاً أنا موجود». ذلك أن ديكارت لم
يُدرك
خطأه أبداً في إطلاقه هذا القول، واحتاج قوله هذا إلى سنين طويلة كي ينتظم
في سياق
فلسفي تأملي مختلف على لسان الآنسة عبير، ويتخذ شكله الحقيقي:
«أنا أفكر إذا (من
دون التنوين طبعاً) أنا موجود»، مع التنبّه إلى الفرق الكبير جداً بين
«إذاً»
و»إذا»، ما يعني أن على المرء أن يكون
موجوداً ليُفكّر (إنها وجهة نظر جديرة
بالتأمل العبيري)، لا أن يُفكّر ليتأكّد وجوده.
هذه عيّنة بسيطة من كَمّ هائل
من أخطاء اللغة والنطق والمضامين التاريخية والمعلومات
الصحيحة، تُبَثّ ليل كل يوم
في برنامج أرباح. لكن «أخطاء» الليل لا يمحوها النهار... أم إن النهار
امتدادٌ لها
في بيئة تعاني ظلمة شديدة في شؤون العيش اليومي؟
السفير اللبنانية في
14/10/2009
كلاكيت
ذكرى ما
نديم جرجورة
على الرغم من الأهمية
السياسية والثقافية للاحتفال السابع والعشرين بانطلاق «جبهة المقاومة
الوطنية
اللبنانية»، إلاّ أن المشهد اللبناني غارقٌ في عنف التشنّج المذهبي والنزاع
الطائفي. كأن الاحتفال تقليد سنوي لمن باتوا خارج الزمن؛ أو
كأن استعادة تلك
اللحظات المجيدة مجرّد لقاء عابر، لم يستطع صانعوه أن يحوّلوه إلى منبر
جدّي
لإطلالة
نقدية على التجربة، ولمعاينة آنية للمآل التي بلغتها الجبهة والتجربة معاً،
وللبحث في ما يجب القيام به، الآن وغداً. ربما لأن الاستقطابات
المذهبية ضربت ما
تبقى من انتماءات لا علاقة لها بالطوائف والعائلات السياسية؛ أو ربما لأن
الذين
صنعوا تلك اللحظة ذات يوم وجدوا في التقوقع والعزلة ملاذاً أخيراً لهم،
بدلاً من أن
يعيدوا للّحظة هويتها ومكانتها الإنسانية والأخلاقية، في مواجهة تمزّق
الذاكرة
وإلغاء الماضي.
لا يُجدي الاحتفال نفعاً. فالذين التقوا ذات يوم عند خطّ
المواجهة الحقيقية للاحتلال الإسرائيلي، تشرذموا في جماعات متناحرة في ما
بينها على
أسس مذهبية، أو وفقاً لتبعيات متناقضة. والذين خاضوا فعل المقاومة لأعوام
قليلة،
سُرقت منهم أفعالهم، كي لا أقول استشهادهم أيضاً. وبين الذين
سقطوا في النزاعات
المذهبية والذين نُحروا ألف مرّة من أجل مصلحة زعيم أو تبعية قائد أو
أولوية طائفة،
بونٌ شاسعٌ يملأه الحقد والخيبة والخراب المدوّي. وإذا فَقَد الأولون
ضميراً أو
قناعة أو التزاماً قديماً لمصلحة التحوّلات الآنية البشعة، فإن
الأخيرين وجدوا في
قبورهم أو وحدتهم ملجأ يقيهم «شرّ» أفعالهم العتيقة. والأولون هم قادة
أحزاب
وتيارات وجماعات ارتضت المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي طريقاً إلى الحرية
والتحرّر، وباتوا اليوم أسرى تبعياتهم الضيّقة لهذا الطرف
الإقليمي أو لذاك
الامتداد الدولي. والآخرون مناضلون حقيقيون لفظتهم الصراعات القيادية،
ودمّرتهم
وحشية المحتلّ، وشوّههم المآل المزري الذي بلغوه اليوم.
ذلك أن النزاعات
المذهبية الآنية أقوى من ذاكرة مشبعة بهامش جميل للمعاني السامية للمقاومة
والنضال؛
والحروب اللبنانية المتنقّلة بين الزواريب والعقول المتحجّرة في الراهن،
أعنف من أن
ينجح أحدهم في حماية تلك الذاكرة من عَفن متسلّل إليها بشراسة. مع هذا،
يأتي قليلون
لاحتفال عابر، ظنّاً منهم أنه قابلٌ للتذكير بوقائع تاريخية لا
يُمكن لأحد إغفالها
مهما بلغ بطشه قوة وتفرّداً. يأتي قليلون للتذكّر السريع، معتقدين أن
الخطاب نفسه
قادرٌ على قول المختلف في مرحلة الانهيارات الخطرة.
إنها سخرية القدر. أن تُسرف
الغالبية الساحقة من اللبنانيين في انتماءاتها الطائفية
والتزاماتها المذهبية،
بدلاً من الذهاب إلى الوطن، الذي كان يُفترض ببنائه أن يبدأ في ظلّ
المقاومة
الوطنية، التي مهّدت لمقاومة إسلامية أفضت، ذات يوم مجيد، إلى دحر العدو
الإسرائيلي؛ والتي أسّست لنضال بلغ إحدى لحظاته التأسيسية،
المتمثّلة بانسحاب الجيش
السوري. لكن الهوس اللبناني بالأزقّة والزعامات والمذاهب الضيّقة قضى على
هذا كلّه،
وفتح أبواب الجحيم على الجميع.
السفير اللبنانية في
17/10/2009 |