تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

«أعجوبة في سانت آن» وسينما سبايك لي العريقة في مجابهة العنصرية

«ميلودراما حبيبي» لهاني طمبا والبساطة التي لم تسقط في السذاجة

نديم جرجورة

«تبدأ، بعد ظهر اليوم، العروض التجارية لفيلمي «أعجوبة في سانت آن» للأميركي سبايك لي في صالات «زوق» و»أبراج» (فرن الشباك) و»سينما سيتي» (الدوره) و»أمبير دون» (فردان)؛ و»ميلودراما حبيبي» للّبناني هاني طمبا في صالات «سينما سيتي» و»أمبير دون» و»متروبوليس/ أمبير صوفيل» (الأشرفية).

«أعجوبة في سانت آن»

لم يشأ المخرج الأميركي الأسود سبايك لي أن يتراجع عن هجوم سابق، شنّه قبل أعوام قليلة على المخرج والممثل والمنتج الأميركي الأبيض كلينت إيستوود، متّهماً إياه بإهماله السود في أفلامه المستلّة من وقائع تاريخية، خصوصاً تلك المتعلّقة بالحرب العالمية الثانية. ذلك أن إيستوود حقّق، في العامين 2006 و2007، فيلمين اثنين يُمكن القول إنهما متكاملين: «رايات آبائنا» و»رسائل من إيو جيما»، اللذين غاصا في أحد الفصول الدامية من تلك الحرب، في الجزيرة الاستراتيجية إيو جيما في محيط الباسيفيك، من وجهتي نظر الفريقين المتصارعين، الأميركي والياباني. ولي أنجز، في العام الفائت، «أعجوبة في سانت آن»، العائد به إلى الحرب نفسها، متوغّلاً في الحياة اليومية القاسية والخطرة التي عاشها أربعة جنود أميركيين سود «ضلّوا» طريقهم في إيطاليا، وواجهوا النازيين، ووجدوا أنفسهم في دائرة النزاعات الداخلية في المقاومة الإيطالية للحكم الفاشي.

غير أن النزاع القائم بين المخرِجَين أفضى إلى إنجاز سينمائي جميل ومحكم البناء الدرامي، متمثّل بالفيلم الأخير لسبايك لي، من دون أن يعني هذا سقوط فيلمي كلينت إيستوود في الرتابة أو البهتان، بل على النقيض التام منهما، لأن الفيلمين شكّلا واحدة من المحطات الإبداعية البديعة للغاية، التي يصنعها إيستوود في الأعوام الأخيرة، مخرجاً (وممثلاً في بعض الأحيان) أفلاماً اتّسمت بحيوية جمالية وبراعة «غير موصوفة» في نسج خيوط اللعبة السينمائية الباهرة. في المقابل، لا يُمكن القول إن التحقيق الإبداعي الجميل لـ«أعجوبة سانت آن» مرتبط، فقط، بردّ فعل «عنيف» و»عنصري» لسبايك لي إزاء كلينت إيستوود، لأن تجارب سابقة للأول كشفت حرصاً فنياً وتقنياً وجمالياً على إنجاز أعمال جادّة وسليمة و»نضالية» أحياناً («مالكوم أكس»، مثلاً).

مع هذا، لم ينتظر سبايك لي طويلاً، كي يُواجه كلينت إيستوود سينمائياً. اختار كتاب «أعجوبة في سانت آن» لجايمس ماكبريد، الصادر في العام 2003، ليرسم ملامح حقبة ومعالم حالة اجتماعية معقّدة ومتداخلة. ماكبريد نفسه، الذي شارك في كتابة سيناريو الفيلم أيضاً، استقى معطيات روايته هذه من حكايات عمّه، الذي حارب في إيطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية، خصوصاً عن الفرقة الأميركية الثانية والتسعين للمشاة، التي تألّفت من خمسة عشر ألف رجل أسود، أُطلق عليهم اسم «جنود بوفالو» (يعود تعبير «جنود بوفالو»، الذي أطلقه الهنود على المقاتلين السود، إلى حرب المكسيك في منتصف القرن التاسع عشر)، والتي شاركت في القتال في إيطاليا بين آب 1944 وتشرين الثاني 1945. غير أن الملاحظة الأولى كامنةٌ في أن هذه التفاصيل «العسكرية» كلّها لا تعني أن سبايك لي صوّر المعارك الطاحنة دائماً، لأنه ارتأى الغوص في تشعّبات الحالات الإنسانية والأخلاقية (والإيمانية أحياناً) لدى بعض هؤلاء الجنود، من دون أن يتغاضى عن المواقف العنصرية التي «تحلّى» بها ضباط أميركيون بيض. كأنه يوازن بين بشاعة النازية/ الفاشية والعنصرية الأميركية، في زمن معاناة السود وحشية مجتمع مقيم في عصبيته البيضاء. أو كأنه وجد في تغييب المعارك (صوّر بعضها، من دون أن يُطلق العنان للمعارك وحدها) إظهاراً لـ «قدسية» عمله المرتكز على تبيان الغبن اللاحق بجنود وقعوا ضحايا الحرب نفسها أولاً، وعلى متابعة الصراعات الداخلية في قلب المقاومة الإيطالية وفي مواجهاتها الحامية النازيين والفاشيين معاً ثانياً، وعلى فضح الرجل الأبيض وعنصريته ثالثاً.

لم يستطع هكتور نيغرون (لاز ألونسو) أن ينسى الأيام القاسية التي أمضاها في توسكانا الإيطالية في صيف العام 1944، بعد مرور نحو خمسة وستين عاماً عليها. عاش حياته هادئاً وملتزماً عمله في مديرية البريد، خصوصاً بعد وفاة زوجته وبقائه وحيداً في هذه الدنيا، منتظراً لحظة ما تنقذه من رتابة أيامه وحدّة عزلته. جاءته الفرصة: الرجل الإيطالي الذي سبّب، بطريقة ما، مقتل أصدقائه الثلاثة في تلك الأيام، يقف أمامه سائلاً إياه طابعاً بريدياً. ينتبه إليه لأنه لا يزال يحتفظ، في لاوعيه الدفين، بنبرة صوته. يُشهر مسدساً «نازياً» ويرديه. يُغلق نافذة مكتبه، ويُسلّم نفسه للشرطة. من هنا، تبدأ الحكاية. ومن هنا، يأخذ سبايك لي حكايته هو مع التاريخ والعنصرية والحقائق والاحالات الاجتماعية، في رحلة مليئة بتفاصيل تداخل بعضها مع البعض الآخر، وبعلاقات متشعّبة بين أناس وأصدقاء وزملاء مهنة، وبمناخات مرتكزة على مزيج الديني بالإنساني والأخلاقي، والسياسي بالعسكري والثقافي. والمفارقات الإنسانية شكّلت منعطفات عدّة للحبكة الدرامية، من دون أن تُختزَل بعلاقة سام تران (عمر بنسون ميلر) مثلاً (أحد الجنود الأربعة) بصبي إيطالي تواصل معه بلغة الإشارات وبالإحساس العميق بعلاقة صداقة متينة بينهما؛ أو بالتعاطف الذي لقيه هكتور نيغرون نفسه عند ارتكابه «جريمته» هذه. ذلك أن سبايك لي، الذي انتقد السلوك العنصري البغيض للرجل الأبيض إزاء السود في تلك الحرب، هو نفسه الذي أنشأ مسافة بينه وبين نموذجين آخرين: أتاح لنازي فرصة التعبير عن شفافية إنسانية واضحة في إحدى اللحظات الدراماتيكية الخطرة؛ ولم يتردّد عن التزام واقعية بحتة بتصويره «مقاوماً» إيطالياً في ملابس خائن كريه.

«ميلودراما حبيبي»

بعد نحو عشرة أعوام على إنجازه فيلمه الأول، وكان وثائقياً قصيراً بعنوان «بيروت، حلاّقو هذه المدينة» (1997)؛ وبعد تحقيقه أفلاماً قصيرة امتلكت خصوصية ذاتية في نسج الحكاية وتصويرها، بلغة بصرية متواضعة لا تخلو من الكوميديا الساخرة، كـ «مبروك مجدّداً» (1999) و»بيروت بعد الحلاقة» (2004)، وبينهما «Du Poil De La Bete» (2002)؛ أقدم هاني طمبا على الخطوة المنتظرة من قبله: إنجاز فيلم روائي طويل، حقّقه قبل أكثر من عام واحد بعنوان «ميلودراما حبيبي»، ولم يستطع عرضه تجارياً في لبنان قبل اليوم، مع أنه شارك في عدد من المهرجانات العربية والدولية، واختتم الدورة الثامنة لـ «مهرجان بيروت السينمائي الدولي»، في الثامن من تشرين الأول 2008، وشاهده البعض أثناء رحلته في قرى ومدن لبنانية متفرّقة، في إطار «سينما كارافان» التي نظّمتها «البعثة الثقافية الفرنسية في لبنان» مؤخّراً.

لا ادّعاء ولا تصنّع. باختصار شديد، يُمكن القول إن «ميلودراما حبيبي» تمتّع بهذا الوصف إلى درجة لا بأس بها من البساطة والهدوء. لم يكن فيلماً نخبوياً أو عملا مسطّحاً، ولم يتّخذ طريق الحرب اللبنانية لأنه شاء أن يتركها في خلفية المشهد والمضمون والوعي الفردي لعدد من شخصياته، ولم يبق أسير الراهن، منتقداً بؤس الواقع وشقاء العيش في هوة الجحيم اللبناني. إنه فيلم مسلّ، بالمعنى الجميل والبسيط للتسلية؛ احتوى على مقوّمات درامية عادية، في النصّ والمعالجة والتصوير، لصوغ مشهد سينمائي ابتعد عن الاستسهال والمنطق الـ «فيديوي» المبتذل في تفريخ أفلام لبنانية، واقترب من جدّية الاشتغال البصري على نص سلس ومشحون بلغة مزجت وجوهاً تلفزيونية بمتابعة بصرية غير مزعجة.

عاد «ميلودراما حبيبي» بشخصياته إلى زمن الحرب الأهلية من خلال ذكرى أو صوت أو حالة، بشكل مبطّن، من دون أن يغوص في أمورها المباشرة، فحافظ على تلك البساطة التي لم تبلغ مرتبة الإبهار، ولم تسقط في فخّ السذاجة. وبين هذين المرتبة والفخّ، قدّم طمبا قصّة إنسانية مزجت بعض الضحك بشيء من الرومانسية العتيقة، وربطت ذاكرة الحرب والموت والألم بلحظة الغرق في التمزّق والتيهان الحاليين. وعلى الرغم من بساطة الحبكة ومناخاتها الدرامية، ظلّ الفيلم ضائعاً بين الأشكال التي اختارها، من دون أن يفقد سلاسة هادئة في سرد التفاصيل وتصوير المشاهد وبناء الشخصيات.

لأنه منهمك كلّياً بأعماله وثرائه، لم يجد الصناعي اللبناني جميل حرفوش (بيار شماسيان) أمامه إلاّ مغنّياً فرنسياً قديماً يُدعى برونو كابريس (باتريك شيني) لدعوته إلى بيروت، كي يُغنّي في سهرة عيد ميلاد زوجته المشلولة رندا (جوليا قصّار). لكن المغنّي منهار ومنعزل وتائه بين جسد مترهّل وعلاقات حب/ جنس عابرة أو معلّقة، والخمر أداة توازن مؤقّت له. في بيروت، تُخطف الزوجة، فيبدأ سائق الصناعي سيزار (غبريال يمين)، الميليشياوي السابق، رحلة البحث عنها. أما ندين (بياريت قطريب) فمنشغلة بأمور العيش بين ذاكرة وراهن، وتحاول مع برونو تضميد جروح الماضي لمواجهة الحاضر.

السير اللبنانية في

10/09/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)