شاهدت مؤخرا فيلم The Reader
في السينما وكذلك فيلم Life is Beautiful
على DVD.
وكلاهما يتناول معسكرات الاعتقال النازية. وقبل ذلك بخمس سنين
زرت أحد تلك المعسكرات في احدى ضواحي بروكسل في بلجيكا، وهو
على ما أعتقد معسكر Breendonk.
قبل الحديث عن الزيارة سأبدأ بالفيلمين: الأول بطولة كيت وينسلت،
انتاج أمريكي/ألماني 2008، يحكي عن امرأة عادية اسمها هانّا
شميتز، لا يملك المشاهد
إلا أن يُعجب بها، تنقلب صورتها لتصبح في نهاية الفيلم متّهمة بكونها كانت
احدى
الحارسات في أحد معسكرات الاعتقال. قوة الفيلم تكمن في القدرة على حمل
المشاهدين
ونقلهم من موقع الحب والتعاطف والإعجاب، إلى موقع الإدانة
والشماتة وفي 'أحسن'
الأحوال اللامبالاة، وذلك أثناء سير محاكمتها وإصرارها على أنها ما ارتكبت
ذنبا في
انتسابها للشرطة النازية.
الثاني، للإيطالي روبيرتو بينيني، أنتج عام 1997. يحكي
عن أب وطفله اعتقلا في أحد المعسكرات في إيطاليا قبيل الحرب
حيث عمل الأب ما بوسعه
لإيهام الطفل أن ما يحدث إنما هو لعبة وأن عليهما تجميع نقاط ليربحوا دبابة
حقيقية
ويخرجوا من اللعبة.
لا يخلو الفيلمان من تأثيرات أو اسقاطات صهيونية أظهرت،
مجددا، مدى تأثير اللوبيات الصهيونية في المشهد السينمائي العالمي: في
الفيلم
الأول، مثلا، بعد أن انتحرت هانّا شميتز تركت قسما كبيرا من مصروفها لتتبرع
به
لإحدى الناجيات اليهوديات من تلك المعسكرات، فذهب صديقها
بالنقود إلى الناجية
واقترح، كون المرأة ثرية، أن يتبرع بالنقود إلى منظمة يهودية تعنى بمحو
الأمية وذلك
لأن هانّا كانت تكره وتخجل من حقيقة أنها أمية، فقالت له اليهودية أن
الأمية ليست
من هموم المجتمع اليهودي، وأن هنالك العديد من المنظمات
اليهودية هنا (في أمريكا)
ويمكنك التبرع لإحداها، علما بأن النقود هذه أتت كدليل ملموس على شعور
هانّا شميتز
بالندم أثناء سجنها. المطلوب إذن: أن نفهم، أو يفهم الأوروبيون، أن ما
اقترفوه بحق
اليهود- الأوروبيين أيضا- لا يمكن التكفير عنه والتطهّر من دنسه إلا بدعم
المنظمات
اليهودية المتعددة. والنتيجة، بالضرورة، دعم إسرائيل كدولة ملاذ لليهود
يتعافون
فيها بعد الشتات ومعسكرات الاعتقال والمحرقة في أوروبا.
أما فيلم روبيرتو
بينيني، فهو من أقوى الأفلام التي شاهدتها، من أمكنها وأذكاها. كوميديا
سوداء حذرة،
بدت سوريالية بعض الشيء كونها تطرح موضوع المعسكرات بشكل ساخر، تخلط بين
الضحك
والبكاء على الأب الإيطالي اليهودي الذي لا نملك إلا التعاطف
التام معه من اللقطة
الأولى حتى الأخيرة. التأثير الصهيوني هنا يظهر على بنيني الذي 'يفتخر بعرض
فيلمه
في مهرجان القدس' الإسرائيلي، بتصريح أمام الكامرات مع إيهود أولمرت، رئيس
بلدية
القدس في حينه، ثم رئيس وزراء إسرائيل. كما ظهر تأثير اللوبي الصهيوني
مليّا في
التركيز على 'يهودية' بطل الفيلم وتعميم ذلك ليشمل 'يهودية'
معتقلي هذه المعسكرات.
وكان ذلك من خلال الريبورتاج المرفَق في الـ
DVD.
رغم شعوري بالشفقة على هانّا
شميتز بعد محاكمتها لأنها، ككثير من عناصر الشرطة الصغار الهامشيين آنذاك،
كانت
ضحية نظام الحكم وكأن لا خيار آخر كان لها، لكني أدركتُ بأنها مُدانة في كل
الأحوال
وبأنها أجرمت من حيث المبدأ حين عملت كشرطية حارسة في أحد
المعسكرات بل ولإصرارها
على صحّة وضرورة ما كانت تفعله. وكوني لم أنتظر الجر التدريجي اللاشعوري
الذي عمل
عليه الفيلم لمشاهديه حين جرّهم من موقع الحب والإعجاب بهانّا شميتز إلى
موقع
الإدانة، غمرني الاطمئنان بأني ما زلت على ما يرام بإدانتي
المبدئية والفورية لها.
كما أن الريبورتاج لفيلم بينيني المطعّم بالمقاربة الصهيونية للفيلم، وموقف
بينيني
الذي 'يفتخر' بعرض الفيلم في القدس، لم يحرف تعاطفي الكامل مع الأب وطفله
ضد الحكم
العسكري النازي ومعتقلاته ومحارقه، وذلك ما أكدّ لي بأني، كفلسطيني، ما زلت
على ما
يرام.
مشاهدة المعسكرات في فيلم ليست كزيارتها. هناك في احدى ضواحي بروكسل ذهبت
مع مجموعة إلى أحد معسكرات الاعتقال وقد تعمّدت وضع الكوفية
الفلسطينية على كتفي.
طرق التعذيب، أسرّة القش، الرطوبة، العتمة، الضّيق، الأزقّة، الحمّامات،
الجدران،
المعسكر نفسه، لم ألحظ أي مظاهر 'آدمية'. أحاول في هذه اللحظة استحضار تلك
الصور
الوحشيّة التي رأيتها هناك. تتكدّس الصور في رأسي وتتموّه،
أفكّر بأن عليّ القيام
برحلة أخرى إلى أوروبا لغاية زيارة المعسكرات فقط، وأتذكّر قول الراحل
إدوارد سعيد
بأن علينا كفلسطينيين زيارة تلك المعسكرات.
كنت ما أزال طالب جامعة حين ذهبت
إلى هناك ضمن مجموعة Euro-Palestine Youth، انتبهت لنظرات الرفاق من بلجيكا والسويد
وإنكلترا وفرنسا- وهؤلاء بالمناسبة مع العودة والدولة الفلسطينية على كامل
التراب-
انتبهت لنظراتهم تتفحّص ملامحنا. آلمني احتمال شكّهم بعدم اكتراثنا لما نرى
وبأن
إسرائيل تمكنت من قتل الإنسانية فينا. كان بعضنا لا مباليا، وبعض آخر كان،
أو كاد
أن، يبكي لشدة تأثره.
أثناء خروجنا وقفت مع الدليل وقد انتهى من شرحه. كان
متقدّما في السن وقد غمر البياض شعره وذقنه الطويلين، ونظارة سميكة الإطار
والعدسات
تغطي من وجهه ما لم تغطه ذقنه. ربما كان من الناجين. بادرني بالقول بأنه
يستغرب
'كيف
استطاع اليهود نقل كل أساليب التعذيب هذه إلى فلسطين ليمارسوها عليكم؟'.
فأجبته حاسما بأن الصهاينة هم من نقل
أساليب التعذيب هذه إلى فلسطين، وليس اليهود
كيهود.
عرفت حينها بأني وضعت نفسي على المحكّ، وبأني كنت على ما يرام. وتأكدت
الآن بأني حينها كنت على ما يرام، وبأني لم أزل كذلك. وعرفت
بأننا.. أو لأننا
فلسطينيون، فإن وعينا لمأساتنا الحالية يحدّدها موقفنا الإنساني من مآسي
العالم
وأولها مأساتهم هم، ليس بالرغم من أنهم يهود، بل لأنهم يهود ولأن كثيرا
منهم صاروا
صهاينة بعد ذلك وكانوا مخلصين في تطبيق ما طُبّق عليهم علينا.
كاتب
فلسطيني
www.horria.org
القدس العربي في
21/08/2009 |