هذا فيلم يعيد الاحترام للقيم الإنسانية المفقودة.. ويراهن علي إنسانية
الإنسان التي نزعتها منه قيم المجتمعات الحديثة التي تمجد الفردية
والأنانية وحب الذات واعتبارها مصدر الكون بديلا عن حب الأسرة والانتماء
لها وللمجموع ورؤية الآخرين من منظور مختلف عن مناخ «التحريض الاجتماعي»
عليهم.. «ألف مبروك» فيلم يذهب الشباب إليه من أجل نجمهم «أحمد حلمي» النجم
الذكي الذي صعد إلي البطولة بعد أن بدأ العمل كممثل في أدوار مساعدة صغيرة،
ي أنه كون جمهوره بالتدريج وبدون ضربات حظ مثل تلك التي تصنع نجم الفيلم
الواحد أو الأغنية الواحدة.. لكن الصعود والنجومية وحدهما لا يكتفيان
اليوم، وإلا لما سقط العديدون من النجوم الذين كانوا منذ سنوات قليلة ملء
الأسماع والأبصار، ويمكننا ببساطة الآن أن نستكشف المشهد السينمائي ونجومه.
لنخص اثنين فقط يبذلان جهدا حقيقيا لتطوير أنفسهما، الأول هو أحمد السقا،
والثاني أحمد حلمي، وأياً كان مدي نجاح أو فشل فيلم السقا الأخير (إبراهيم
الأبيض) الذي يطرح صورة للعنف في المجتمع المصري بدون أن يحلل أسبابه، فإنه
وفيلمه الأسبق (الجزيرة) وقبله (تيمور وشفيقة) حالة من التمرد علي السائد
ومحاولة البحث عن الأفضل، وكذلك الأمر مع أحمد حلمي، فبعد مجموعة من أعماله
الضاحكة بداية من (مطب صناعي) ثم (كده رضا) يبدأ في فيلمه السابق (آسف علي
الازعاج) مرحلة جديدة تخرج من حساباتها الرهان علي الضحك وحده أو أساسا
وكذلك الرهان علي النجم وحده لتقدم سينما أكثر رحابة في تجوالها بين عوالم
مختلفة وبحثها عن البطل المنتمي، وتفتيشها عن الأسرة، وعن تلك العلاقة
الأبدية الحتمية بين البطل والأم والأب والأخوة، وهي علاقة سعت أفلام مصرية
كثيرة لتهميشها في العقد الأخير، أو حتي لضربها واخلائها من كل فاعليتها في
حياة الجيل الجديد.. نحن هنا أمام شاب يصحو من نومه علي حلم يتناول علاقته
بأسرته من بداية اليوم وحتي نهايته، ولأنه يوم خاص جدا في حياته لانه يوم
زفافه علي (مريم) خطيبته التي نسمعها تحادثه دائما عبر هاتفه الجوال، فإنه
ينتبه إلي أنه يعيش تفاصيل ما رآه في الحلم، ويتكرر الموقف، غالبا هو حلم
يقظة، وفي كل مرة يعيش (أحمد) الحلم مع تفاصيل مختلفة يكتشف من خلالها ما
لم يكن يعرفه عن نفسه وحياته وعن نفس الأفراد المقربين منه الأب (محمود
الفيشاوي) والأم (ليلي عزالعزب) والأخت علا (سارة عبدالرحمن) والصديق كريم
(للأسف لا أذكر اسمه)، بل ويضم الحلم أيضاً زميله في العمل بالشركة التي
تعمل في البورصة وسائق التاكسي الذي ينسج معه علاقة غريبة وبعض المواطنين
الذين ظهروا في حياته وذهبوا معه لقسم البوليس يشتكونه بالحق وبالباطل،
وأيضاً اللص أو حرامي حقائب السيدات الذي يمارس عمله بأمان قبل أن يتغير
صاحبنا فيتصدي له.. إننا هنا ازاء دراما عن التغيير من الداخل، تحتال علينا
بحجة تكرار الحلم حتي ندرك الموقف الإنساني البائس لنا ونسعي إلي تغييره
لنستحق انسانيتنا، وليصبح عنوان الفيلم موجها لنا كما هو موجه للبطل أيضاً،
كما أن مؤلفي هذا الفيلم (محمد دياب وخالد دياب) ومخرجه (أحمد جلال)
استطاعوا طرح فكرة لا تخلو من فلسفة وعمق عن النفس الإنسانية حين تقع أسيرة
قولبة الحياة فتسعي للخلاص والاستقلال بنفسها والتفكير بحرية فيما تصنعه
بنفسها وبالآخرين وهكذا يظل (أحمد) يفعل من حلم لآخر، يحاول جاهدا (أن يغير
واقعه) بناء علي نصيحة صديقه (كريم) حتي يتفادي الموت الذي رآه في الحلم،
ولأنه اكتشف أن حلمه يتحقق منذ بدايته وبتفاصيله حين شاكس أبيه ورفض الخروج
من الحمام سريعا مدعيا انه يجهز نفسه للعرس، ثم شاكس أمه وفرض سطوته
الدائمة علي أخته من خلال منعها من التعامل مع جهاز الكمبيوتر الخاص به، ثم
رفضع ارتداءها للفستان الذي جهزته لحفل زفافه (لأن ظهره مفتوح)، ثم طلبه
مبلغا اضافيا من أبيه للزفاف وذهابه للعمل لتوديع زملائه وحادثة الرجل الذي
صدمته سيارة مسرعة قبله وهربت فاتهمه بعض الذين ظهروا فجأة بأنه الصادم
وكان قبلها مشغولا باللص الذي سرق حقيبة امرأة اثار صراخها ارتباكا في
الشارع وصولا إلي قسم البوليس ثم التاكسي بعد أن تعطلت السيارة ودعوة صديقه
لعزومة مأكولات بحرية! ومحاولته معرفة رأيه في ارتباطه (ي الصديق) بفتاة
أحبها ويتواصلان عبر النت فإذا بالعريس السعيد ينهال عليه برفض وازدراء هذه
العلاقة، ناعتا فتيات النت بكل الموبقات هذا السيناريو الأول في السطور
السابقة هو ما يتكرر بتفاصيل تختلف بالتدريج، يصل من خلالها (أحمد) إلي
حالة من الصفاء الذهني والنفسي تدفعه لمعرفة مغايرة لما يعرفه عن نفسه وعن
أسرته، يكتشف انه يعيش معهم لكنه لا يراهم ولا يشعر بهم، انه يشعر بنفسه
فقط ما يريده وما «يثبت» صورته أمام نفسه وحين يدرك ي حقيقة كان يجهلها
يخجل ويسعي إلي إصلاح ما أفسدته أنانيته المفرطة، فالمبلغ الاضافي الذي
طلبه من أبيه أوشك أن يكون سبب فضيحة كبري لأن الأب أخذ مبلغ استبدال معاشه
قبل موعده بأيام مستغلا موقعه الوظيفي.. فقط لارضاء ابنه في رحلة شهر
العسل.
أما المخدر الذي تتعاطاه الأم، التي نعتها بالمدمنة، فهو مسكن من آلام
السرطان الذي ينهشها ولا يعرف أحد غير الأب وحتي لا تفسد فرحته، ثم علاقة
الأخت بالصديق واتفاقهما علي الزواج والخوف من رفضه (وهو الذي يحب ويرتبط)
ولا يتورع عن وصم علاقات الآخرين ورفضها كما أجهض محاولات صديقه لطلب يد
أخته.. يدرك أحمد ويري الآخرين كما ينبغي أن يراهم، ويسعي إلي إصلاح ما
أفسده وجوده بينهم، ي أن يكون ابنا وأخا وإنسانا وصديقا حقيقيا، وحين
يفعلها يستكمل اجراءات زفافه ويذهب في أحلي صورة لعريس، ويقف علي الخط الذي
يأتي منه الموت.. ليموت سعيدا.. ربما لم يكن الموت حتميا هنا.. لأنه يستحق
المكافأة.. ولكن المعني الأقوي أن انسانية الإنسان هي المكافأة الأهم له..
وللآخرين، وهو ما ينحاز إليه صناع الفيلم حين يضعوا علي الشاشة هذه
الكلمات: أن تكون غائبا حاضرا فذلك أفضل من أن تكون حاضرا غائبا.. ويبدو
أنه من الصعب أن يكون المرء حاضرا في الحالتين.. ولكن الأهم هنا اننا أمام
فيلم جميل فنيا بقدر جاذبيته الفكرية، يطرح علينا فوق كل هذا قدرات خلاقة
في التصوير والمونتاج والموسيقي والديكور أما التمثيل فهو أمر مذهل أن يكون
أبطال الفيلم كلهم باستثناء أحمد حلمي، من الوجوه الجديدة، من كل الأعمار،
وجوه موهوبة وأليفة لنا دخلت في نسيج الدراما من خلال قدرات مخرج موهوب
قادر علي إدهاشنا وعلي اثارة احترامنا في الوقت نفسه.. وهكذا هي السينما،
لا يكشف الفيلم إلا فيلم آخر.. أفضل أو أكثر رهاناً علينا كجمهور يستحق بذل
الجهد ومحاولة الإبداع.
الأهالي المصرية في
06/08/2009 |