حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

                          دراما رمضان التلفزيونية لعام 2012

الفيلسوف الضاحك.. نجيب الريحاني

بقلم: ماهر زهدي

الحلقة ( 7 )

ياما كان في نفسي

لم يدخر نجيب إلياس ريحاني جهداً في محاولاته «لتطفيش» توفيق أفندي ميخائيل، باعتباره رئيسه الجديد في العمل، وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها نجيب ذلك التحول في شخصية توفيق، من رئيس إلى مرؤوس، انصاع لكل أوامره واستجاب لكل مطالبه، مهما قسا أو بالغ في ما يلقيه على عاتقه من أعمال.

تحمل توفيق أفندي ميخائيل الأوامر التي وصلت إلى حد الإهانة، ورغم ذلك كله لم يتبرم من تصرفات نجيب الريحاني، بل ولم يحرك ساكناً… حتى إن نجيب نفسه ملَّ من القيام بمثل هذه المضايقات نحوه، ولأن ما يفعله نجيب ضد طبيعته وضد رغبته، لكنه ينفذ أوامر الرؤساء فحسب، قرر أن يكف عن مثل هذه المضايقات ويمتنع عن توجيه أي إهانة إلى توفيق أفندي، وليحدث ما يحدث، فوجد أن أحداً لم يلحظ ذلك، بل إن الرؤساء وجدوا أنه يكفي توفيق ما ناله من عقاب، خصوصاً أن حاله انصلحت على يد نجيب، بل والأهم أنه وتوفيق أصبحا منذ ذلك العهد صديقين، غير أن نجيب فضل أن تكون الصداقة قاصرة على العمل أو الجلوس معاً في المقهى، من دون أن يزور أي منهما الآخر في بيته، فقد اتخذ نجيب قراراً بأن يبتعد عن أي شبهات قد تجلب له وللآخرين مشاكل، الأمر الذي كان له مردود قوي على عمله واستقامته، ولم يجد أمامه سوى إتقان عمله ومراعاة الواجب فارتفع بأخلاقه إلى مستوى أذهل كل من حوله، حتى إنه لم يمض وقت طويل حتى حاز ثقة مدير الشركة وغيره من رؤساء، فارتفع بذلك مرتبه إلى 14 جنيهاً في الشهر، ليقترب من الطبقة البرجوازية الصغيرة.

ظل قرابة العامين هانئاً في عيشته راضياً بما كتب له في سجل الحياة، حتى إنه استطاع أن يقتصد من راتبه مبلغاً يزيد على مائتي جنيه.

محاولة فاشلة                                              

في منتصف فبراير من عام 1912، فوجئ نجيب بخطاب يصله من القاهرة، ظن أنه من السيدة الوالدة، لكن ما إن فتحه حتى وجد المرسل عزيز عيد:

القاهرة في 13 فبراير 1912

عزيزي/ نجيب أفندي الريحاني

تحية وبعد

أرجو أن تكون بخير وسعادة عندما يصلك خطابي هذا الذي أرسله لك الآن وبعد كل هذا الغياب، بعد أن أصبح هناك ما يمكنني أن أقوله لك، بعد أن أصبح لفن التمثيل شأن آخر في بر مصر، وإن كان الفضل في ذلك يعود لأخينا الأستاذ جورج أبيض، الذي شرع في تكوين جوق مسرحي منذ أن عاد من باريز بعد انتهاء بعثته لدراسة فن التمثيل التي أرسله فيها صاحب السمو توفيق خديو مصر.

لن أطيل عليك أريد فقط أن أقول لك إن الأحوال تبدلت، والجوق الذي كونه جورج أبيض أصبح له شأن كبير ويقدم روايات عظيمة، وانضم له عدد كبير من الممثلين والممثلات، فلا أخفي عليك سراً عندما أقول إن الرواتب ارتفعت بشكل كبير وتدفع بانتظام، وأخوك عزيز أصبح يتقاضى الآن أربعة عشر جنيها مصرياً، وعندك الست صالحة قاصين وصل مرتبها إلى ألف قرش صاغ، يعني عشر جنيهات حتة واحدة، وأستر شطاح ثمانية جنيهات ونظلة مزراحي ستة جنيهات… وغيرهم وغيرهم.

نجيب… آن الأوان أن تكون موجوداً فأنا أعرف معدنك كممثل على قدر كبير من الموهبة والثقافة… لا تتأخر نريدك معنا.

أخوك عزيز عيد

انتهى نجيب من قراءة الخطاب ووضعه جانباً، واستلقى بظهره على سريره، وراح ينظر في «سقف الحجرة» ويسرح في خياله بعيداً حيث القاهرة، ليعيش ويتخيل هذه الأجواء الجديدة، بل ويتخيل نفسه مجدداً فوق خشبة المسرح، ويدوي تصفيق الجمهور له في أذنيه، لدرجة أنه راح يبتسم ويحني رأسه كمن يرد تحية الجمهور، ثم فجأة قفزت صورة والدته أمام عينيه، فاعتدل في جلسته… وراح يعيد قراءة الخطاب، ووقعت عيناه على الراتب الذي أصبح يتقاضاه عزيز عيد، إنه 14 جنيهاً، فابتسم وهزَّ رأسه، فهو الراتب نفسه الذي يتقاضاه الآن، ومن المحتمل أن يزيد، فخلال عام واحد تقريباً قفز راتبه إلى هذا الرقم، فمن الوارد جداً أن يزيد وربما يتضاعف خلال عام أو عامين على الأكثر، أضف إلى ذلك نعمة أخرى ربما لا ينعم بها من يمتهن التمثيل، وهي هدوء البال وراحة الأعصاب، وعدم التنقل من مكان إلى آخر، بل والأهم هو أنه ليس مهدداً بتوقف أو غلق الشركة لأي سبب كان، وهو ما قد يحدث لأي فرقة مسرحية، مهما علا شأنها أو عظمت قيمتها.

دقائق عصيبة مرت على نجيب، دار فيها صراع نفسي داخلي، انتهى بأن ينتصر رأي البقاء في نجع حمادي، خصوصاً بعدما قفزت أمامه صورة والدته، وهو يعرف رأيها تماماً في التمثيل ومن يمتهنونه، والموقف الذي قد تتخذه إذا فكر في العودة إلى التمثيل، فطوى الخطاب من جديد، ولتفعل فرقة جورج أبيض بالممثلين ما تشاء.

مرت الأيام سريعة وقد نسي نجيب أمر الخطاب الذي أرسله إليه عزيز عيد، بل إنه أغلق باب المناقشة بينه وبين نفسه في أمر التمثيل، حتى ذلك اليوم الذي كان يجلس فيه توفيق أفندي يتصفح جريدة «الأهرام» وقد انشغل في قراءة مقال ما، لدرجة أنه لم يسمع نجيب وهو يتحدث إليه:

* ياه… للدرجة دي مشغول أوي في القراية يا سي توفيق أفندي.

• هه… بتكلمني يا سي نجيب؟

* أمال بكلم الست والدتي. الثقافة واخده حدها معاك أوي.

• لا مؤاخذة ياسي نجيب ما أخدتش بالي.

* إيه اللي واخدك أوي كده في الأهرام؟

• حتة مقال عن رواية مرسحية… بس حكاية مؤثرة بصحيح.

* مرسحية!! أنت بتحب المرسح يا توفيق أفندي؟

• مش القصد… بس الكلام اللي مكتوب هنا كلام موزون تمام. زي ما يكون الناس المشخصاتية دول ولا أبو زيد الهلالي في زمانه، ولا عنترة بن شداد.

* ومين بقى المشخصاتية دول؟

• خد عندك يا سيدي… جورج أفندي أبيض، وعزيز أفندي عيد، و…

* جورج أبيض وعزيز عيد!!

• لا وكمان الست أستر شطاح والست صالحة قاصين، والست …

* بس بس استنى… صالحة قاصين؟ وريني كده.

• أهه… شوف.

* صالحة… والله عال. شوف يا أخي الدنيا.

• إلا قوللي يا سي نجيب… باعتبارك يعني من المحظوظين اللي عايشين في مصر أنت تعرف الجماعة المشخصاتية دول؟

* آه… قصدي لا. وأحنا إيش وصلنا ليهم يا سي توفيق… دول نجوم بتلمع في السما… شوف يا سيدي بيقولك الأرتست الست صالحة قاصين بلغت في دورها حداً بعيداً من الإتقان… وتقوللي أعرفهم؟

بعدها بدأ نجيب يقرأ ويتابع أخبار المسرح والمسرحيات التي يقدمها جورج أبيض وعزيز عيد، والشيخ سلامة حجازي، وفرقة أولاد عكاشة، وفرقة إسكندر فرح، وغيرها من فرق بدأت في الظهور تباعاً، وأسماء الممثلين الذين يقومون بتمثيل هذه الروايات التي ملأ صيتها ربوع بر مصر، بينما نجيب قابعاً في نجع حمادي، يتابعها من خلال ما يصل إليه من صحف ومجلات فحسب، حتى خارت المقاومة في نفسه ولم يعد يحتمل البقاء في أقاصي الصعيد، بعيداً عن هذا العالم الجديد الذي يفتح ذراعيه لزملائه الأقدمين فقرر القيام بإجازة:

* إيه ده يا نجيب أفندي؟

• دا طلب إجازة يا فندم.

* شهرين مرة واحدة؟

• سعادتك أنا داخل دلوقت على سنتين ما أخدتش يوم واحد إجازة… والست الوالدة بعافية شوية ولازم أكون جنبها الفترة دي.

• لا يا سيدي ألف سلامة… أوافق، بس متتأخرش ساعة واحدة بعد الشهرين.

* ربنا يستر يا فندم… يا إما أرجع قبل الشهرين ما يخلصوا… يا إما نبلط جنبها.

• تقصد إيه… أنت مش ناوي ترجع ولا إيه.

* لا راجع يا فندم راجع… كله بأمره… هنروح فين؟

سافر نجيب إلى القاهرة في إجازة شهرين، لكن الأهم أنه يحمل في جيبه مئتين من الجنيهات الذهبية الصفراء، هي كل ما ادخره من راتبه خلال الفترة التي أمضاها في نجع حمادي.

قُندس المنقذ

ساءت أحوال نجيب بعدما عادت «حمى التمثيل» تغلي في رأسه في الغدو والرواح، فلم يهنأ له بال ولم يرتح له فؤاد، فاهتدى إلى حل موقت وجد فيه سلواه، عندما زار عيادة صديقه طبيب الأسنان جودة للمرة الأولى بسبب ألم أسنانه، ليشكو له سوء حالها، من دون سبب واضح:

* لا دي أول مرة.

• بس أسنانك نضيفه مش واضح عليها أي تسويس.

* بص كويس يا دكتور… أمال الوجع ده من إيه؟

• صدقني يا نجيب أفندي سنانك زي اللولي… يمكن بس اللثة ملتهبة شوية… أنا هكتب لك على مضمضة بعد الأكل تلات مرات وهتبقى زي الحديد.

* إزاي بس… دا اللي بيسف معلقة سكر سنانه بتسوس… مابالك والعبد لله شغال في شركة سكر من بابها… دا مش بس تسوس… دا سناني بتطرح سوس.

• هاهاها… مش للدرجة دي. هو بس تلاقي فيه حاجة مزعلاك وبتفكر فيها. وده ممكن يعمل ألم في السنان.

* عندك!!

• إيه خير فيه إيه؟

* أنت حطيت إيدك ع الجرح.

وجد نجيب في الطبيب جودة ضالته، حيث أنصت إليه الطبيب، واستمع إلى عشقه التمثيل، وانتهز نجيب الفرصة وراح يحكي له عن الأدوار التي أداها على قلتها، والأدوار التي شاهدها في فرق سلامة حجازي وعزيز عيد وجورج أبيض وأولاد عكاشة وإسكندر فرح والأخوين عطا الله، على كثرتها، ووجد نجيب اهتماماً من صديقه الطبيب، فأصبح زبوناً دائماً لديه، حتى بعدما شفيت أسنانه، فذهب إليه ليجبره على الإنصات إليه، ليس يالحديث ولكن بالتمثيل، فكان يجبر الطبيب على أن يترك عمله ويقف يشاهده وهو يلقي عليه بعض المشاهد المسرحية التي شاهدها أخيراً خلال زيارته القاهرة، فيقلد تارة جورج أبيض، وطوراً عزيز عيد أو أحمد فهيم، أو غيرهم من كبار الممثلين!

أصبحت زيارة عيادة الأسنان رحلة يومية يقوم بها نجيب، حتى ضاق به صديقه جودة ذرعاً، لدرجة أنه أصبح يتهرب منه حين كان يجبره على سهر الليالي، ليسمع ويشاهد أقوال «لويس الحادي عشر»، وصرخات القائد المغربي «عطيل»، وتأوهات الملك «أوديب» وغيرهم من بقية شخوص مسرح الأزبكية.

أصبح الصديق الدكتور جودة بمثابة «جمهور» نجيب الوحيد في غربته في أقاصي الصعيد، يفرغ في رأسه ما حفظ من مشاهد ومواقف تمثيلية، وعندما ينتهي من أدائها يؤلف مونولوجات وأزجالاً، بل وأغاني ومنثورات فنية، حتى يضمن بقاء «جمهوره الوحيد» ولا يمله. شاءت الأقدار أن يصبح عدد الجمهور اثنين بدلاً من واحد، عندما أتى إلى نجع حمادي مهندس جديد، ولعبت الصدفة دورها في الجمع بينهما، ليس في اللقاء الأول عند طبيب الأسنان فحسب، بل الأهم في الهواية وحب التمثيل بجنون:

•ؤطبعاً متعرفوش بعض.

* أتشرف.

• دا يا سيدي الباشمهندس محمد أفندي عبد القدوس… ودا بقى نجيب أفندي الريحاني.

= أهلا وسهلا أهلاً وسهلاً.

* وسيادتك بقى يا سي محمد جاي هنا غضب ولا رضا

= مش فاهم؟

* يعني جاي نجع حمادي ترقية… ولا غضب من رؤسائك ونقلوك آخر بلاد المسلمين؟

= هاهاها… دمك خفيف قوي يا سي نجيب. لا يا سيدي أنا جاي هنا بمحض إرادتي لأن دا واجب عليّ… طالما اتعلمت لا بد أعلم غيري علشان كده رفضت الوظيفة في القاهرة وطلبت آجي هنا مدرسة نجع حمادي الصناعية.

* لا… دا أنت ملك قوي.

• على فكرة يا نجيب… محمد أفندي مجنون بالتشخيص زيك.

* كده… عال… عال قوي… يا عم قندس.

= إيه قندس دي؟

* قندس دي دلع عبد القدوس… واللي بحبه بدلعه من أول جلسة.

= لا… دا أنت ظريف أوي. سبحان الله في طبعك.

ائتلف الثلاثي، نجيب وجودة ومحمد عبد القدوس، ائتلافًا تاماً، ووجد نجيب في محمد عبد القدوس رفيق درب، لدرجة أنه اقترب منه أكثر من اقترابه من الدكتور جودة، يجلسان ساعات طوال يتباحثان كثيراً في فنون «الدردحة» وحب المسرح والروايات العالمية، حتى أصبحت لقاءاتهما اليومية جنوناً في جنون، يلقي محمد عبد القدوس مونولوجاً، يجلس نجيب منه في مكان «الجمهور» من الممثل، ثم يأتي دور نجيب فيلقي قطعة تمثيلية يحتل عبد القدوس فيها موقع الجمهور، وهكذا إلى أن يأذن الليل بالرحيل، وفي كثير من الأحيان، كان أحدهما يضطر إلى المبيت عند الآخر، ولم يعد أحدهما يفارق الآخر، لا في الصحو… ولا في المنام، لدرجة أن الدكتور جودة الذي كان يضطر أحياناً إلى التهرب من نجيب، أصبح هو من يبحث عنه لكثرة انشغاله وارتباطه بمحمد عبد القدوس، حتى استيقظ نجيب يوماً على صدمة كبيرة، كموجة عاتية، أطاحت بالقصور كافة التي بناها على الرمال!

(البقية في الحلقة المقبلة)

 

نظرة عن بُعد

لم يطق نجيب أن يجلس يومه الأول في القاهرة مع والدته وأشقائه، الذين رحبوا به أيما ترحاب، خصوصاً أنه أصبح موظفاً كبيراً يتقاضى راتبه بالجنيهات الذهبية، لكنه خرج من فوره ليتنقل بين مسارح الأزبكية وشارع عماد الدين، وشارع عبد العزيز.

عالم ساحر، كأنما يراه نجيب للمرة الأولى، اختلفت الرؤية، وتغير الشكل، زادت الخبرة لدى من يترجمون الروايات العالمية الفرنسية والإنكليزية، وزادت خبرة الممثلين الذين يقدمونها، غير أن أكثر ما أصابه بالحزن رؤيته الشيخ سلامة حجازي وهو يقدم وصلات غنائية بين فصول مسرحية «نسيم القلوب» وهو جالس على كرسي، بعد إصابته بالفالج (الشلل النصفي) وبينما كان نجيب يخرج من باب مسرح إسكندر فرح، إذا به يلتقي عزيز عيد:

• معقول… نجيب الريحاني في القاهرة، وفي تياترو إسكندر فرح؟!

* أهلا أهلا عزيز أفندي.

• أهلا بك يا عم نجيب… أنت فين يا راجل؟

* أهه… في الدنيا… لسه عايشين.

• وصلك جوابي ولا لأ.

* وصل يا أستاذ… في الحقيقة أنا مقصر معاك.

• لا مش القصد. بس أنت خسارة يا نجيب. الدنيا بتفتح وأنت من الفنانين البارعين ودورك هنا في المحروسة… مش في الصعيد الجواني.

* والله نفسي يا عزيز… لكن…

• لكن إيه… مكانك موجود في «جوق أبيض» اللي كونه الأستاذ جورج أبيض من بعد ما رجع من باريز.

* أيوه بس أنت أدرى مني… الفن ما بيأكلش عيش. والرصيف خد من جتتنا راقات.

• خلاص مبقاش فيه أرصفة… الدنيا اتغيرت يا نجيب. فيه اهتمام دلوقت بالفنانين والتياتروهات… غير الأول…
* أيوه بس…

• ما بسش… أحنا هنضيع وقت ليه؟ بينا على تياترو الأزبكية أعرفك على جورج أفندي وتمضي العقد فوراً
* أصبر بس… عقد إيه؟

• مش بقولك الدنيا اتغيرت… مفيش حد دلوقت بينضم للجوق إلا لما يوقع عقد اتفاق… يقولك إيه حقوقك… وإيه التزاماتك.

* لا… دا أحنا اتقدمنا قوي.

• مش بقولك… يلا بينا.

* أنا بقول طالما الحكاية فيها عقود والتزامات… تديني فرصة أرجع نجع حمادي أسوي حالتي وأنهي التزاماتي هناك… وبعدين أرجع اتقيد بالتزامات هنا. ودلوقت يلا بينا على تياترو الإزبكية… نتفرج بس على جوق جورج أبيض… مش لتوقيع عقود.

• دا أنت حظك من السما… النهاردة أول عرض لرواية «أوديب الملك».

لم يدخر نجيب الريحاني جنيهاً يملكه إلا وأنفقه على مشاهداته وسهراته في مسارح وفرق القاهرة، حتى عندما انتهت الإجازة، لم يجد في جيبه «قرشاً واحداً»، فاضطر إلى أن يقترض من شقيقه توفيق ثمن تذكرة القطار الذي سيقله إلى نجع حمادي، واكتفى بأن تكون تذكرة في الدرجة الثالثة، ليعود وكله حسرة وألم على فراق هذا العالم السحري، وإن كان ما آلمه أكثر هو نظرة والدته له بعدما علمت بأنه لم يتبق معه شيء من جنيهاته الذهبية، وعلمها بأنه أنفقها كلها على لياليه المسرحية.

عاد نجيب إلى عمله في نجع حمادي، غير أن عودته هذه المرة اختلفت تماماً عن عودته الأولى، فقد رجع غير مقبل على العمل، فلم تعد تلك المشاهد التي علقت في ذهنه من مسارح الأزبكية، وإسكندر فرح، وفرقة أولاد عكاشة وغيرها من فرق مسرحية في القاهرة، تفارق خياله، حتى ساءت حالته النفسية بسبب ابتعاده عن هذه الأجواء التي تنذر بمولد مسرح مصري حقيقي ومختلف، ولم يسره بالطبع أن يكون بعيداً عن هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ المسرح، غير أنه يقع في حيرة من أمره، فلا تزال الصورة التي عاش عليها قبيل مجيئه إلى نجع حمادي في المرة الأولى ماثلة أمام عينيه من ناحية، ونظرات أمه إليه وإلى التمثيل والممثلين أمام عينيه من ناحية أخرى.

الجريدة الكويتية في

26/07/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)