وصية كشكش بك
لم يسبب فشل فيلم «أحمر شفايف» لنجيب الريحاني إحباطاً له، لأن
الخسارة جاءت مقصورة على الناحية المادية، كذلك لم يجعله يتراجع عن اختياره
وانحيازه إلى قضايا الشعب وهمومه، سواء في الأعمال الكوميدية أو
التراجيدية، ما جعله يفتتح موسم 1946 بمسرحية جديدة كتبها مع بديع خيري
بعنوان «سلاح اليوم»، حاول من خلالها تلخيص تجربته الفنية، بل قدم ملخصاً
لتجربته الإنسانية ليحسم من خلالها الصراع الداخلي لديه.
حاول نجيب الريحاني الانتصار للإنسان الفقير المطحون، الذي لا يكتفي
بالصبر والاستسلام للضربات التي يسددها له المجتمع، بل واصل نضاله متحدياً
كما في أعماله السابقة كافة، وجاء الاعتماد هنا على العقل والمهارة والدهاء
عبر فلسفة خاصة، ليجعل البطل في نهاية المسرحية، وبحركة رمزية، يخلع «جاكيت
الفقر» ويرتدي «جاكيت الثراء» في إيماءة وداع، ليس للشخصية القديمة فحسب،
لكن ربما لوقوفه على خشبة المسرح عموماً، فمع إسدال الستار على الليلة
الأخيرة من مسرحية «سلاح اليوم» قرر اعتزال الوقوف على خشبة المسرح حتى
إشعار آخر، والتفرغ للسينما، التي لم يرفع لها راية الاستسلام، وراح يعلن
تحديه لها.
بعد الخسائر التي تعرض لها في فيلم «أحمر شفايف» تجنب الريحاني الدخول
في مغامرة إنتاجية جديدة، غير أنه وافق على العمل من إنتاج الغير، إذ عرضت
عليه شركة «نحاس فيلم» تقديم فيلم بالشروط التي يرتضيها، في مقابل شرط وحيد
للشركة وهو أن يكون الفيلم كوميدياً، فلم يتردد وشرع فوراً مع بديع خيري في
كتابة الفيلم الذي اختارا له عنوان «أبو حلموس»، كتب له السيناريو وأخرجه
إبراهيم حلمي، وشارك الريحاني بطولته أبطال فرقته، من بينهم زوزو شكيب،
عباس فارس، ماري منيب، حسن فايق، استيفان روستي، ومحمد الديب، ليعوضه هذا
الفيلم النجاح الذي لم يتحقق في «أحمر شفايف» بشكل فاق توقعه.
ما إن اطمأن الريحاني على نجاح الفيلم، حتى قرر القيام بإجازة يمضيها
مع ابنته في باريس، فسافر في صيف 1947 للقاء لوسي وجينا، غير أن الرحلة لم
تستمر
أكثر من أسبوعين، شعر بعدها بحنين جارف إلى مصر، فقرر العودة بسرعة من
دون سبب، وبلا ارتباطات فنية، ما أدهش المحيطين به، خصوصاً صديق العمر بديع
خيري، الذي استغرب أن يظل نجيب بلا عمل، بل ولا يجهد نفسه في البحث عن عمل:
= ولحد أمتى يا نجيب هانفضل كدا؟
* وإحنا مالنا كدا؟
= طب المسرح وقلت تبعد عنه شويه علشان صحتك… طب والسينما؟
* عارف يا بديع أنا بفكر في مشروع سينمائي كبير.
= بتفكر لوحدك؟
* ما هو أنا بفكر معاك بصوت عالي أهه… لأني متردد آخد الخطوة دي.
= أيه في أيه قلقتني؟
* فاكر المذكرات بتاعتي اللي نشرتها سنة 37 في مجلة «الاتنين».
= أيوه فاكر طبعاً… أيه بتفكر تنشرها تاني؟
* أيه رأيك لو حولناها لفيلم سينما؟
= يابن الأيه… فكرة مجنونة بس عبقرية.
وجد الريحاني أن أغلب الشخصيات التي قدمها في أفلامه، فيها الكثير من
شخصيته الحقيقية، «سي عمر، وسلامة في خير، لعبة الست، أبو حلموس، غزل
البنات»… في كل منها لمحة منه ولمحات من حياته، فقرر أن يحول المذكرات التي
كتبها في عام 1936 إلى فيلم سينمائي يقوم هو ببطولته، على أن يستكمل 13 سنة
جديدة مرت على المذكرات، وتضمينها ما استجد من أحداث. لكن على رغم اقتناعه
بالفكرة إلا أنه تردد في بدء الكتابة، لأنه سينتج الفيلم على نفقته الخاصة،
وخسارته المادية في فيلم «أحمر شفايف» والقصر الذي شرع في بنائه أنهيا على
كل ثروته التي بلغت ما يزيد على نصف مليون جنيه مصري، ما يزيد على 50 مليون
جنيه مصري الآن، فقد راح ينفق بسخاء على القصر الذي بدأ تشييده في عام 1948
في منطقة «قوت القلوب الدمرداشية» «بحدائق القبة»، وجهزه ليكون بيتاً يعيش
فيه ومسكناً للفنانين الذين لا يجدون مأوى، إضافة إلى صالة «أندلسية»
ألحقها بالقصر لتكون مسرحاً حديثاً، وتكلفت وحدها أكثر من سبعة آلاف جنيه.
الوداع الأخير
فجأة شعر نجيب بحنين جارف إلى ابنته جينا، فأرسل في طلب لوسي وزوجته
للحضور إلى مصر مع بداية الشتاء لتمضية عيد الميلاد معه في مصر، وحضرا
فعلاً في ديسمبر 1948، وأمضيا معه الإجازة في فندق «وينتر بالاس» في مدينة
الأقصر بعيداً عن الأعين. بعدها عادوا إلى القاهرة حيث استأجر لهما شقة
جديدة في منطقة غاردن سيتي، وراح يتردد عليهما خفية بين الحين والآخر، إلا
أن أعماله أبعدته عنهما، ما أغضب لوسى التي شعرت بأنه لا يحفل بها ولا
بابنته فنشبت بينهما المشاكل:
= أنا زهقت من الحياة دي. لا أنا حاسة إني متجوزة ولا أنا حرة… وكمان
بنتك… بنتك ما بتلحقش تشبع منك.
* طب وأنا في أيديا أيه بس؟ أنا نفسي تبقوا معايا هنا على طول… لكن دا
اختيارك. شويه في ألمانيا وأغلب الوقت في باريس… وزيارة كل سنة لمصر.
= لأنه مفيش خيار تاني قدامي.
* ما هو أنا مقدرش أغامر وأعلن عن وجودك رسمي في حياتي. دا يعمللي
مصيبة وأنت عارفة… وكمان ماقدرش أسيب مصر وشغلي وفني وأعيش في ألمانيا!
للمرة الأولى يشعر نجيب بحزن عميق لمغادرة لوسي وجينا القاهرة، شعر
بأنه قد يكون فراقاً بينه وبين لوسي بعد الكلام الذي سمعه منها… عاد من
وداعهما الحار، وقلبه يتمزق لفراقهما.
دخل المصعد في عمارة الإيموبيليا، لم يلتفت حوله، نظر في أرض المصعد
وفجأة سمع صوت سيدة تحييه:
= أستاذ نجيب. أيه الفرصة العظيمة دي؟
* مين. ليلى مراد. يا سلام… انت جيتي في وقتك.
= أنا!! أنا تحت أمرك يا أستاذ.
* النهارده أنا كنت في أمس الحاجة لشيء مثير يحصل لي في حياتي يخرجني
من حالة مش كويسه.
= أد كده يا أستاذ نجيب أنا أسعدتك.
* أنت بتسعدي الملايين. مش هاتسعدي واحد غلبان زيي.
= أجمل حاجة فيك يا أستاذ نجيب تواضعك الجميل دا.
* سيبك من كلام المجاملات دا. انت يا بنت انت مش عايزاني أمثل معاكي؟
= يا سلام يا أستاذ. دي أمنية… هو أنا أطول. متتصورش سعادتي أد أيه
بالكلام ده.
* بس يا بت بطلي بكش… ولا أنت تزعلي لما أقولك يا بت.
= أبداً يا أستاذ حضرتك زي بابا.
* لا أنا مش عجوز كدا زي زكي مراد… يا ليلى أنا نفسي أمثل معاكي فيلم
قبل ما أموت.
فاتحت ليلى مراد زوجها أنور وجدي في كلام الريحاني، فلم يصدق ما سمعه
منها، ولأنه فنان لا يضيع وقته اتخذ فوراً خطوات عملية في سبيل إنجاز عرض
نجيب الريحاني… وبادر بالاتصال ببديع خيري، وتم تجهيز سيناريو فيلم «غزل
البنات» بتوليفة من مسرحيتي «قسمتي» و»الدلوعة» لتقوم ليلى بدور «ليلى بنت
الباشا» ونجيب الريحاني بدور «الأستاذ حمام»، مدرس اللغة العربية.
فيلم المرحلة
أراد أنور أن يكون «غزل البنات» فيلم المرحلة، فحرص على أن يجمع فيه
كل رموز العصر إلى جانب نجيب الريحاني وليلى مراد، محمد عبد الوهاب، يوسف
بك وهبي، سليمان بك نجيب، عبد الوارث عسر، محمود المليجي، ستيفان روستي،
وفريد شوقي.
جاء وقت تصوير الفيلم، وكان من المفترض أن يشارك فيه الريحاني ليلى
مراد أغنية «عيني بترف»، فعارض وجدي خوفا من الفشل، إذ لم يسبق أن غنى
نجيب، ومن المؤكد أن صوته لا يتناسب مع صوت ليلى الملائكي الحالم، ووجد
محمد عبد الوهاب الفرصة ليرد الجميل للأستاذ الذي أخذ بيده في بداية
الطريق، وأصر على أنه قادر على أن يجعل نجيب الريحاني يغني، فاقتنع وجدي
بالفكرة، وفي نيته أن يستغل غناء الريحاني في الدعاية، خصوصاً أن الأغنية
تعبيرية أكثر منها طربية.
وجاء حسن الختام مع غناء محمد عبد الوهاب لرائعته «عاشق الروح» التي
بلغ فيها الريحاني ذروة عبقرية الإحساس والأداء الذي يجعله يقف على قدم
المساواة مع أكبر نجوم العالم في التمثيل… لدرجة أنه أبكى كل من في
الأستوديو بمجرد انتهاء محمد عبد الوهاب من الأغنية، ظل الجميع يصفق، ليس
لمحمد عبد الوهاب، بل للأداء الصامت الذي أداه الريحاني انعكاساً للأحاسيس
في الأغنية.
طلب الريحاني من أنور وجدي وبإلحاح أن يشاهد النسخة الأولى من الفيلم،
قبل أن تنتهي بقية عناصره، وأمام إلحاح الأستاذ وافق، وجلس إلى جواره في
حجرة المونتاج في أستوديو مصر يشاهدان معاً النسخة الأولية من فيلم «غزل
البنات»…
لم يلتفت أنور وجدي إلى أن الأستاذ يبكي إلا بعدما انتهى الفيلم
وأضيئت الأنوار فوجده يمسح دموعه:
* يا نهار أبيض… الأستاذ نجيب الريحاني بذات نفسه بيبكي. يبقى أنا
نجحت. أنا كده أطمنت.
ـ بس يا واد يا أونطجي… هو لازم تشوف دموعي يعني علشان تعرف أنك نجحت.
وبعدين دي مش دموع من الفيلم… دي من الخنقة. الأوضه حر ومخنوقة.
* اطلع من دول يا أستاذ حمام. قصدي يا أستاذ نجيب… دموعك دي أنا
بعتبرها أكبر جايزة.
ـ أنت موهوب يا أنور وهيبقالك مستقبل كبير.
خرج الريحاني من الأستوديو بعد مشاهدة نسخة الفيلم الأولية، ليتجه
فوراً إلى مكتبه في عمارة «الأيموبيليا» في شارع شريف في وسط القاهرة، جلس
وراح يكتب ملاحظة مهمة، ليس حول دوره في الفيلم، بل في ما قدمه إجمالاً من
أفلام على تلك الشاشة الفضية، وكأنه يدون ملاحظة للتاريخ، فقد كان يشعر حتى
إنجاز ذلك الفيلم، بأن السينما لم تعطه ما أعطاه له المسرح، وأن أفلامه
السينمائية على رغم أنها لم تصل إلى أهمية أعماله المسرحية، إلا إنها نالت
قسطاً وافراً من النجاح، وعلى رغم اعترافه مثل الكثيرين حوله بنجاحه
السينمائي، إلا أنه كان يعتبر هذا النجاح ناقصاً، ليس لأنه لم يؤد كما
ينبغي ويبذل جهداً في هذا الأفلام، لكن لإحساسه بأن تلك الشاشة الفضية التي
شبهها بضوء القمر الساحر، شاشة باردة، بلا إحساس، بلا نبض الجمهور الذي
يستمد منه قوته فوق خشبة المسرح. حتى وجد ضالته أخيراً في «غزل البنات»
الذي اجتمع فيه مع أقرانه من عمالقة الفن في عصره.
رؤيته لفيلم «غزل البنات» فتحت شهيته لنقل هذه الأحاسيس إلى خشبة
المسرح، ففاجأ بديع خيري بأنه قرر العودة إلى المسرح، بل إنه تعجل العودة
وبأي شكل:
= هو أنت تبعد عن المسرح فجأة… وبعدين تقرر فجأة إنك ترجع ومن غير
مقدمات.
* تعرف إن فيلم «غزل البنات فتح نفسي أوي.
= المفروض يفتح نفسك للسينما مش للمسرح.
* لا… يا بديع. الفيلم فيه كمية مشاعر وأحاسيس تخلي الحجر ينطق.
= أنت شوقتني أشوف الفيلم. مش كنت تاخدني معاك وأنت بتشوفه.
* يا سيدي كلها كام أسبوع وينزل السينمات.
= المهم خلينا في حكاية المسرح دي. هنكتب أيه؟
* أنا لسه هاستني لما نكتب. مفيش وقت.
= مفيش وقت على أيه؟ ما لسه الموسم يا دوب… يعني قدمنا من مايو لحد
أكتوبر.
* بصراحة أنا مش قادر استنى. نعمل كام مسرحية من الريبرتوار… لحد ما
نلاقي حاجة جديدة.
= خلاص من بكره على عماد الدين.
* عماد الدين أيه والصيف هجم… الراجل صاحب تياترو الهمبرا في إسكندرية
بقاله فترة بيلح عليا. إحنا نطب عليه بكره.
في مسرح «الهمبرا» في الإسكندرية، بدأ نجيب يقدم عدداً من
«الريبرتوار» لمسرحيات سابقة له، وبسبب ابتعاده فترة طويلة عن المسرح، وعن
جمهور إسكندرية تحديداً، استقبله الجمهور في الليلة الأولى استقبال
الفاتحين، لدرجة أنه ظل يصفق حتى بكى الريحاني وأمر بإغلاق الستار، ثم عاد
بعد خمس دقائق لاستئناف التمثيل، فاستقبلته عاصفة جديدة من التصفيق.
«في ستين سلامة»
بعد الليلة الثالثة، شعر نجيب بسخونة وضعف ورجفة تسري في جسده… قاومها
في البداية، وحاول النهوض، لكنه سقط على الكرسي، فانخلع قلب بديع خيري:
= نجيب… مالك سلامتك؟ حاسس بأيه؟
* أنا تعبان يا بديع. تعبان أوي.
= نجيب دكتور… فوراً نجيب دكتور.
* لا مش هاينفع… هات عربية وروحني.
= ماشي… هو الأوتيل مش بعيد. حالاً.
* لا بديع… روحني مصر. أنا عاوز أروح بيتي. بس الأول اتصل بتوفيق
أخويا خليه يكلم الدكتور عمر الدمرداش… خليه يستناني في البيت.
عاد نجيب إلى القاهرة منهك القوى، كان في استقباله الدكتور عمر
الدمرداش طبيبه الخاص، الذي كشف عليه:
* أيه يا دكتور؟ خير أنا حاسس أني بترعش وبردان مع أننا في يونيو
والجو زي ما أنت شايف… هو أيه اللي بيحصل.
= ما تجهدش نفسك يا نجيب… هديك حقنة تهديك.
* أيوه حقنة أيه؟ وأنا عندي أيه؟
= أنت كلت أيه إمبارح؟
* أنت شايف الذاكرة ما شاء الله أوي… وعلى كل زي كل يوم… في الغدا حتة
أرنب وشوربة وسلطة… وفي العشا زبادي. ليه بس طمني؟
= أنا مشتبه في تيفويد.
* تيفويد مرة واحدة… معقولة يعني دي النهاية؟
= نهاية أيه يا عم نجيب. الطب اتقدم… دلوقت في مضاد حيوي بنسلين…
وبعدين أنا بقول اشتباه.
تأكد الطبيب من أن الريحاني يعاني «التيفويد»، لكن لم يكن المضاد
الحيوي اللازم له موجوداً في مصر، فأرسل فوراً وأحضره من ألمانيا، وبدأ
علاج نجيب في بيته، تمرضـه خادمـته اليونانيـة كريستين. لكن الطبيب عمر
الدمرداش وجد أن حالته لم تتحسن وأمر بنقله إلى المستشفى، فاصطحبه بديع
خيري وشقيقاه.
وصل المضاد الحيوي «الاكرومايسين» من ألمانيا، وقام الطبيب بحقنه
بالجرعة الأولى، وبدت عليه علامات التحسن، فطلب نجيب من شقيقيه وبديع خيري
مغادرة المستشفى، فغادر شقيقاه وأصر بديع خيري أن يبقى بجواره، ولم يبرح
مكانه إلا في الثانية عشرة والنصف من ظهر اليوم التالي، حيث بـدا نجيب في
عافيـة وصفـاء.
* قوم روح يا بديع ريحلك شويه.
= يا سيدي مين قالك إني تعبان. أنا هفضل جنبك لحد ما تقوم بالسلامة.
* ما تخفش… مش هموت دلوقت.
= ولزومه أيه تجيب سيرة الموت دلوقت.
* الموت راكب على كتافنا وماشي معانا من يوم ما بنتولد… لحد ما تيجي
الساعة يروح متدور ونازل واخد الأمانة وطالع.
= نجيب. أنا قلبي بيوجعني. بلاش السيرة دي.
* ما كنتش أعرف أنك خواف أوي كده… طب أيه رأيك بقى أنا كتبت النعي
بتاعي من ساعة ما رجعت من الإسكندرية… أهه… خد اقراه.
= مش هاقرأ حاجة.
* أنت حطيت الورقة في جيبك ليه… كنت عاوزك تقراه علشان تنشره لما
صاحبنا يتدور وياخد الأمانة.
لم يكد بديع يصل إلى بيته ويخلع ملابسه، حتى فوجئ باتصال هاتفي:
= ألو… مين؟
ـ أنا كريستين يا أستاذ بديع. الأستاذ عاوزك حالا.
= خير يا كريستين… في حاجة.
ـ لا أبداً… بس هو قالي اتصل بحضرتك علشان تيجي حالا.
عاد بديع إلى المستشفى وهو يفكر لماذا طلبه نجيب بهذه السرعة، وأراد
أن يسأل كريستين أولاً، غير أنه قرأ الخبر على وجهها…
مات رفيق العمر… مات رفيق الإبداع. مات الفليسوف الضاحك… الفيلسوف
العاشق، الذي عشق فنه ووطنه وقدم الكثير لأجله ولأجل الفن… مات نجيب
الريحاني.
مات نجيب من دون أن يكتب له القدر أن يدخل القصر الفخم التي كان قـد
فرغ من بنائه، فلم تكد أعمال التشطيب النهائيـة تتم حتى فارق الحياة… من
دون أن ينام ليلة واحدة في قصر «الأحلام».
بعد ساعات من رحيله يوم الأربعاء 8 يونيو عام 1949، دخل محرر «آخر
ساعة» شقتة في عمارة الإيموبيليا ليسجل ما وجده فيها: «44 بدلة، و20 بيجامة
وجلباب للنوم، و15 زوج أحذية، ووجد بجوار السرير المصحف الشريف، وصورة
للقديسة «سانتا تيريزا» ومذكرات تشرشل بالفرنسية، وكتاب «حسن البيان في
تفسير مفردات القرآن» و»ألفية ابن مالك»، وبعض روايات شكسبير وأخرى
لموليير، وكلبته الوفية «ريتا» التي امتنعت عن الطعام حزناً عليه حتى توفيت
بعد يومين من رحيله.
أمر الملك فاروق بأن يخرج نجيب الريحاني في جنازة رسمية، وتصوير
جنازته سينمائياً، وشاهد الملك الفيلم الذي جاءت مدته 18 دقيقة، ودهش عندما
شاهد أكبر جنازة في تاريخ مصر المعاصر، فقد قدر من ساروا في جنازته بخمسة
ملايين مواطن، بين مصريين وأجانب من مختلف الأطياف والمناصب، ومختلف فئات
المجتمع.
عاد بديع خيري من تشييع جنازة أحب الناس إلى قلبه… في طريقه إلى بيته
تذكر الورقة التي أعطاها له نجيب ووضعها في جيبه من دون أن يقرأها، أخرجها
فإذا به يجد مكتوباً فيها:
«مات الرجل الذي اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء… هذا إن كان للسماء
طوب. مات الذي لا يعجبه العجب… ولا الصيام في رجب… مات الرجل الذي لا يعرف
إلا الصراحة في زمن النفاق… ولم يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح… مات
نجيب الريحاني.
في ستين سلامة».
النهاية
الجريدة الكويتية في
18/08/2012 |