اذا كان ثمة مبدعات حقيقيات في صناعة الفن السابع، فان اسم
النيوزيلندية جين كامبيون، يظل يحتل موقعا متقدما، ولربما هي في الصدارة،
لاسلوبها الذي يمتاز بالحرفية العالية، وايضا اللغة السينمائية التي تحول
السينما الى قصيدة، وهكذا الامر، حينما تحول القصيدة، الى سينما مشبعة
بالصور والمعاني والقيم، ومثل هكذا امر، لم تخلقه الصدفة، بل هو حصاد مشوار
طويل من العطاء والابداعات والبصمات والتحديات، كيف لا، ونحن امام حرفة
يكاد يسيطر عليها الرجال، لهذا حينما تأتي جين كامبيون، فانها لا ترتضي
بانصاف الحلول... او انصاف الجوائز... بل هي تعبر عن ذاتها، لتقول كلمتها..
عبر نتاجات سينمائية مشربة بالابداع.. والاحتراف، وقبل كل هذا وذاك البصمة.
ولدت هذه السيدة الرائعة في نيوزيلندا في 30 ابريل 1954، وهي ثاني
امرأة في تاريخ الاوسكار، ترشح لجائزة افضل مخرجة عن فيلمها التحفة، «درس
بيانو»
والان دعونا نرحل مع السيرة الذاتية لهذه المبدعة، التي لم ترتض الا
ان تكون نموذجاً حقيقياً للمرأة المبدعة، والسينمائية الحقيقية، التي لم
تنشغل بهوامش السينما، بل ذهبت الى العمق، حيث قضايا الانسان.. والمرأة على
وجه الخصوص.
ولدت جين في ويلينفتون في نيوزيلندا، والدتها هي اوبث (ممثلة
نيوزيلندية) ووالدها ريتشارد كامبيون مخرج مسرحي واوبرالي شهير.
بعد تخرجها من جامعة فيكتوريا عام 1975، سافرت الى العاصمة البريطانية
عام 1976 حيث التحقت في مدرسة تشيلسي للفنون. وفي تلك السنوات قامت بالسفر
الى انحاء اوروبا، لتعود بعدها الى استراليا وبالذات كلية سيدني للفنون حيث
حصلت على البكالوريوس في الرسم عام 1979.
ولكنها استطاعت عام 1981، ان تضع فيلمها القصير الاول بعنوان بيل وهذا
ما جعلها تتفرغ لدراسة السينما اعتبارا من عام 1982، حيث التحقت بمدرسة
السينما والتلفزيون في استراليا لتحقق عدداً من الاعمال القصيرة.
اعلنت جين كامبيون عن موهبتها وعشقها للسينما، في العام 1980، من خلال
مدرسة - السينما والتلفزيون.
فيلمها الاول كان بيل 1982 بعدها فاز بجائزة السعفة الذهبية لافضل
فيلم قصير في مهرجان كان السينمائي عام 1986 وخلال تلك الفترة حققت مجموعة
افلام قصيرة ومنها قصة فتاة 1984 وبعد ساعات 1984.
وتأتي النقلة الاولى الاساسية مع فيلم سويتي 1989 والذي يمثل فيلمها
الروائي الاول الطويل، ومعه بدأت شهرتها العالمية تتسع.. وحصد الفيلم
كثيراً من الكتابات النقدية الايجابية المهمة.
وفي عام 1990 تأتي النقلة الثانية مع فيلم «ملاك على طاولة» عن حياة
الشاعرة النيوزيلندية جانيت فرام.
وفي عام 1993 تأتي القفزة الكبرى، والمحطة الاهم التحفة السينمائية،
درس بيانو عنه حصلت على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، كما فازت
عنه بعدة اوسكارات، وجائزة افضل مخرجة من معهد السينما الاسترالي، واوسكار
افضل سيناريو اصلي.
بالاضافة لاوسكار افضل فيلم وافضل ممثلة (هولي هنتر) وافضل ممثلة
مساعدة.
ويعتبر الفيلم بمثابة القصيدة السينمائية البالغة الحساسية والعمق، عن
حكاية سيدة تصل الى نيوزيلندا، حيث ترتبط برجل قاس يحرمها من اهم ما تعشق
حيث العزف على البيانو، في الحين ذاته تتطور علاقتها مع احد السكان
الاصليين... وتتطور بينها العلاقة الى حيث الاحساس بالاخر.
في تلك التجربة، اكدت كامبيون على السينما الشعرية، حيث الصور تتداعى
وكأنها قصيدة عذبة الملامح، للصورة حضورها، وللمشهديات السينمائية ثراؤها
وعمقها وفيض الاحاسيس التي تحملها تجعل المشاهد يحلق بعيدا، الى عوالم تلك
الشخوص والاحداث. والفيلم بطولة هارفي كيتل وهولي هنتر.
في عام 1996 قدمت فيلم «بورتريه الليدي» المقتبس عن رواية بنفس الاسم
لهنري جيمس وبحضور نجوم كبار امثال نيكول كيدمان وجون مالكوفيتش وبربارا
هيرشي.
وفي عام 1999 قدمت فيلم «الدخان المقدس» مع هارفي كيتل، ومعه النجمة
كيت وينسليت بعد عام واحد من تقديمها فيلم «تايتانيك».
وتعود الى الاعمال الروائية، لتقدم في عام 2003 فيلم في القطع معتمدا
على نص روائي مشبع بالرغبات والاحاسيس لسوزانامور وجسدت الدور الرئيسي
النجمة ميج ريان.
في عام 2009 قدمت فيلم «النجمة اللامعة» في مزيج بين الشعر والسيرة
الذاتية للشاعر جون كينش جسده في الفيلم بن ويشو ومعه بدور المعشوفة فاني
براون، وقد عرض الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي.
على الصعيد الشخصي، تزوجت جين في عام 1992 بمخرجها المساعد كولين
انجلارت في فيلم «بيانو» ومنه رزقت بابنتهما «اليس» التي ولدت عام 1994 وفي
ذات العام حصل الانفصال.
الاقتراب من اعمال جين كامبيون، رغم قلتها يعني الدخول الى عوالم
مقرونة بالصور والتداعيات العميقة، حيث للصورة دلالاتها، وطروحاتها
الشعرية، اذ تعتمد جين في رسم المشهديات، على الصورة ودلالاتها والصورة
وابعادها، والصورة واعماقها، والصورة ومضامينها.
لذا تظل المشهديات عندها، عامرة بالظلال والمؤثرات والانسايبية
العالية في الانتقال بين المشاهد، مع منح الصورة اكثر فترة من الاستقرار،
لتصل بكل حضورها الى ذهنية ووجدان المشاهد.
كما تمتاز ابداعات كامبيون بالدقة، فمن النادر ان تكرر ذات الموضوع،
وان ظلت المرأة هي المحور، حتى وان كان السيرة الذاتية لشاعر مثل جون كينس
الا ان حضور معشوقته ظل هو المحور.
فيلمها «ملاك على طاولة» حصد (7) جوائز من بينها جائزة «الاسد الفضي»
في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي، وذلك في عام 1990.
فوزها في عام 1993 بالسعفة الذهبية، جعلها اول امرأة في تاريخ مهرجان
كان السينمائي تفوز بهذه الجائزة، بعدها فتحت لها الابواب لتحصد الاوسكار
وتنطلق عالميا. الا انها ورغم عروض هوليوود ظلت تفضل ان تعمل بين نيوزيلندا
واستراليا حيث المناخات التي تريدها ومنهجية العمل التي تسعى اليها، بعيدا
عن هيمنة هوليوود... وشروطهم... وقوانينهم التي تحول المخرج الى جهاز يمنح
هوليوود المزيد من الملايين.. وهي تريد ان تمنح الفكر والابداع.
جميع النجمات اللواتي عملن معها ترشحن للاوسكار ومنهن هولي هنتر ترشحت
وفازت بالجائزة عن فيلم «بيانو عام 1993»، ومعها ايضا الممثلة الشابة انا
بايكت التي فازت عن نفس الفيلم بجائزة اوسكار افضل ممثلة مساعدة.
وايضا بربارا هيرشي كأفضل ممثلة مساعدة عن فيلم «بورتريهالسيدة».
جين كامبيون من تلك النوعية من المبدعين، الذين يفضلون ان يبقوا بعيدا
عن الصدارة، حينما لايكون لديهم عمل او انتاج، وبين الاعمال التي تقدمها،
من النادر ان تظهر او تسرب اي خبر، حتى حينما تكون مترئسة للجنة تحكيم، كما
حصل في عام 2005، حينما ترأست لجنة تحكيم مهرجان اسطنبول، فضلت ان تحضر
وتشارك وتسافر دون ان تدلي باي تصريح. لانها كما تقول بان خير تصريح
بالنسبة للمخرجة او المخرج هو الانتاج والابداع.. والتميز.
حينما سألت النجمة كيت وينسليت عن اجرها عن فيلم «الدخان المقدس»
والذي حققه بعد النجاحات الكبيرة لفيلم «تايتانيك» قالت ويومها كانت حاضرة
في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي:
لقد تقاضيت ربع اجري عن «تايتانيك» وتفرغت للعمل اكثر من ستة اشهر لان
العمل صدر في عدد من دول المغرب اوروبا والمملكة المتحدة، بسبب اساسي، انني
اعمل مع مخرجة كبيرة بمستوى جين كامبيون».
ويبقى ان نقول..
جين كامبيون.. مبدعه تحول السينما الى قصيدة عامرة بالمعاني والقيم.
النهار الكويتية في
06/08/2012 |