مبدع حقيقي، واستاذ من اهم اساتذة السينما في العالم هكذا يمكن اختصار
مسيرة المخرج الاميركي ذي الاصول الايطالية مارتن سكورسيزي الذي استطاع ان
يذهب بعيدا بنتاجاته السينمائية التي بشرت ومنذ مرحلة مبكرة من مشواره
الفني، حيث استطاع المخرج مارتن سكورسيزي ان يبشر بميلاد مخرج سيكون له شأن
كبير في حرفته لما يتمتع به من عمق ورؤية واختيارات فنية صعبة المنال.
مارتن من مواليد 17 نوفمبر 1942 ورغم انه في بداية السبعينيات من عمره
الا انه لايزال يمتلك ذلك الخيال الخصب واللياقة العالية في الذهاب الى
الموضوعات الاكثر قربا من عقل المشاهد ووعيه ومن يشاهد تجربته السينمائية
الاخيرة مع فيلم «هوغو» الذي حصد 4 جوائز اوسكار للعام الحالي 2012.
ونعود الى البدايات الاولى حيث قدم في عام 1967 فيلم «الحلاقة
الكبيرة» وفي العام ذاته قدم «من الذي يطرق بابي».
وتأتي النقلة الاساسية ولربما الاكتشاف المجلجل مع فيلم «سائق
التاكسي» عام 1976 أي بعد عشرة اعوام من بدايته الاولى، ويومها كان في
بداية الثلاثينيات في فيلم «سائق التاكسي» يتعاون مع نجمه المفضل روبرت
دونيرو والممثلة الشابة يومها جودي فوستر، حيث حكاية سائق التاكسي
النيويوركي «ترافيس بيكل» الذي يسعى الى تنقية بلاده من الفساد الذي انتشر،
حيث يقوم بثورته الذاتية لتصفية رموز الفساد، ويومها عرض الفيلم في مهرجان
كان السينمائي، واحدث كثيرا من ردود الفعل التي ساهمت في انطلاقة لذلك
المخرج الذي تميز بنبضته الابداعية والمنطلق الى موضوعات مثيرة وقضايا ذات
بعد عالمي وعن الفيلم فاز روبرت دونيرو بأوسكار افضل ممثل رئيسي.
ولاننا امام مخرج نزق لا يركن لنجاح ولا يسترخي فانه في العام التالي
مباشرة يقدم فيلم «نيويورك» 1977.
وبعده بثلاثة اعوام يعود للتعاون مع روبرت دونيرو الذي كان هو الآخر
منطلقا وبحماسة عالية ومؤمنا بقدرات وفكر سكورسيزي ليقدما فيلم «الثور
الهائج» 1980 حيث حكاية الملاكم المعروف «لاموتا» وهو ملاكم سريع الغضب،
متمرد، يعزل نفسه عن اصدقائه وعائلته وهو على الحلبة وخارجها يعيش صراعا
مدمرا، يمتاز بالعصبية والقوة والشراسة.
وتمضي المسيرة حيث الانسان هو هاجس مارتن سكورسيزي حتى حينما يذهب الى
الرواية الاكثر جدلا «الرغبة الاخيرة للسيد المسيح» فانه يذهب الى الانسان
بداخل السيد المسيح -عليه السلام-.
مارتن سكورسيزي لا يكاد يتكرر ومن النادر ان نشاهد له عملا يشبه
الآخر، لا من حيث الفكر او التقنية التي يستمدها في تحقيق هذا الفعل
السينمائي، ولهذا فان النسبة الاكبر من اعماله باتت تدرس في المعاهد
السينمائية المتخصصة.
وتكاد تذهب النسبة الاكبر من نقاد السينما العالمية الى حالة من
الاتفاق على ان مارتن سكورسيزي يمثل حالة نادرة من المقدرة على الابداع
المتجدد، والذي يعتمد لغة سينمائية وفكرية عالية المستوى كما يعتمد هذا
المبدع على المعادلات التي تعمل الفكر وتخلق حالة من الجدل وردود الافعال.
وتتواصل الابداعات وايضا النقلات التي راحت تقترن باسماء عدد من
النجوم، واذا كانت المرحلة الاولى قد اقترنت باسم روبرت دونيرو فان المرحلة
الثالثة والتي بدأت في عام 2002 ومع فيلم «عصابات نيويورك» فانها اقترنت مع
النجم ليوناردو ديكابيريو امام النجم البريطاني القدير دانييل دي لويس، حيث
نيويورك القديمة عبر حكاية شاب ايرلندي «امستردام فالون» جسد الشخصية
ليوناردو ديكابيرو، الذي يسعى الى الثأر لقاتل ابيه، حيث يجد نفسه في
مواجهة مع احد زعماء العصابات (الواسبي بيل ذا بوتشر كينج) ويقدمه بتميز
رفيع دانييل دي لويس، حرب ضروس طاحنة، دارت رحاها في المرحلة الاولى بين
السكان الاصليين في نيويورك وبين المهاجرين الايرلنديين وتتواصل شراستها
بين احفاد واجيال تلك العصابات التي تحاول السيطرة على نيويورك.
فيلم يتجاوز المعارك الى العلاقات الانسانية وطبيعة العلاقات النفعية
والمصلحية التي تربط بين افراد تلك العصابات التي تشكل النسيج العام للفيلم
والذين يعرفون افلام مارتن سكورسيزي، يعلمون جيدا بانها تبقى في الذاكرة
كما الوشم، نابضة بالحياة والخلود ويمكن استعادتها في كل حين بل انها تظل
صالحة الى كل حين.
ومع «ليو» يعود مارتن ليقدم فيلم «الطيار» عام 2004 حيث السيرة
الذاتية لهيوارد هيوز، من اواخر العشرينيات وحتى مطلع الخمسينيات ومسيرة
ذلك المليونير الذي ورث عن ابيه احدى الشركات الخاصة بالاكتشافات البترولية
التي يطورها لينطلق بعدها الى اخراج وانتاج الافلام ثم تطوير الطائرات
وامتلاكه احدى اكبر شركات الطيران في الولايات المتحدة الاميركية، عبر
تحليل عميق لتلك الشخصية والظروف التي تحيط به والعلاقات الانسانية
والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحاصره وتدمره قبل ان تدمر اوهامه
وامراضه النفسية والجسدية.
ثم يقدم «المغادرون» 2006 و«جزيرة الصراع» 2010 مع ليوناردو ديكابيريو
ايضا.
وفي المحطة الاخيرة وليست الاخيرة في مسيرة هذا المبدع الكبير يقدم «هيوغو»
الذي يذهب بنا عبر تجربة ثلاثية الابعاد الى عوالم باريس في الاربعينيات
والخمسينيات من القرن الماضي، عبر حكاية طفل يحاول فك رموز الاشياء وفي
الحين ذاته فك رموزه الذاتية.
وفي كل مرة يعود بها مارتن سكورسيزي سيكون الانسان هو الرهان وفي خط
متوازي المتعة في المشهد السينمائي، وهنا وهناك يتضح التجديد ويتجدد
الابتكار وتتعمق البصمة ويتواصل الابداع.
وضمن الرصيد نشير الى مارتن سكورسيزي ترشح للاوسكار كأفضل مخرج اعوام
1980 عن «الثور الهائج» و1988 «الرغبة الأخيرة للسيد المسيح» و1990 «اشخاص
طيبين» و2002 «عصابات نيويورك» و2004 «الطيار» و2006 «المغادرون» وعنه فاز
بالاوسكار كأفضل مخرج، بينما ترشح لافضل كاتب سيناريو مقتبس مرتين عام 1990
«اشخاص طيبين» و1993 «عصر البراءة».
مارتن سكورسيزي نموذج للمبدع الذي يمارس الرفض وهو يذهب في اتجاهات
عدة عبر ابطال صارمين اقوياء شرسين يحققون ذواتهم بالعناد والرفض والتحدي
من اجل تحقيق التغيير وذواتهم، معتمدا على نجوم افذاذ يقدمهم او يعيد
تقديمهم بشكل يفجر قدراتهم، ويجعلهم ينخرطون في منهجيته الفكرية والابداعية.
مارتن سكورسيزي ابداع لا ينضب وهذه المحطة تمثل قراءة اولية لمخرج
اضاف للسينما قيمة ونكهة خاصة هي قيمة ونكهة المبدع.. مارتن سكورسيزي.
anaji_kuwait@hotmail.com
النهار الكويتية في
20/07/2012 |