شهدت السينما المصرية منذ نشأتها وعبر تاريخها الطويل أجيالاً متعاقبة
ساهمت في تطورها وإرساء قواعد وأسس نهضتها. فالجيل الأول «جيل الرواد» أسس
قواعد بنيانها بعد أن استوعب ارهاصاتها الأولى، وبدأ منذ نهاية العشرينيات
واستمر حتى منتصف الأربعينيات تقريباً -، وجاء «الجيل الثاني» ليكمل هذا
البنيان ويطور من أساليبه ومعطياته، واستمر منذ منتصف الأربعينيات وحتى قرب
نهايات الستينيات، وهنا سنتناول «الجيل الثالث» من نجوم وصناع الموجة
الجديدة.
هذا الجيل الذي يمتد على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود «منذ بداية
السبعينيات وحتى نهايات التسعينيات»، وبداية هذا الجيل كانت مع نشأة «حركة
السينما الجديدة» عام 1968 وكان مؤسسوها من خريجي المعهد العالي للسينما في
الستينيات وكانوا في حالة تمرد على سينما طغى عليها الطابع التجاري، وغلبت
على أفكارها ومعالجاتها طابع التكرار والتقليدية كما طغت عليها لغة السوق،
فكانت السينما بالنسبة لأبناء هذا الجيل هي تعبير عن هموم الواقع وانعكاس
واضح لثقافة فنية وثرية وعميقة، وفجر هؤلاء السينمائيون الجدد نوعاً من
الوعي الجاد بالهوية بعد هزيمة يونيو وعبروا عن انكساراتهم وآلامهم، في
العديد من أفلام المخرجين والمؤلفين والنجوم.
في مطلع الثمانينيات كان الوجه الآخر من هذه الموجة الجديدة قد ظهر
وتبلور من خلال «تيار الواقعية الجديدة»، الذي جاء مكملاً لحركة السينما
الجديدة في السبعينيات، وطافت أفلام هذا الجيل المهرجانات السينمائية
الكبرى في العالم، وحظيت بالاحترام والتقدير، بل ونافست وحصلت على الجوائز
والتكريمات.. وسنتابع هنا الرحلة الفنية لرموز الجيل الثالث.
لم يكن أحمد زكي ممثلاً موهوباً امتلك القدرة على أداء شخصياته
وأدواره، فقط - لكنه امتلك عبقرية خاصة جداً جعلته يتقمص أدواره وشخصياته
إلى حد الجنون، بعد أن تجاوز - بالفعل - «الشعرة» التي يقال إنها الحد
الفاصل بين العبقرية والجنون، فلا يوجد على أرض الواقع - وحسب رأي النقاد
ومؤرخي السينما - وأيضاً - حسب رأي خبراء علم النفس - فنان أو ممثل تقمص
شخصياته يمثل هذه العبقرية والمقدرة الفائقة، إلى الحد الذي جعل أحمد زكي
لا يعيش حياته كإنسان، فهو طوال الوقت متقمص لشخصيته التي يجسدها ولا يكاد
يخرج منها إلا ليدخل في واحدة أخرى جديدة وإذا كان هذا سراً من أسراره
عبقريته كفنان فإنه - أيضاً - كان سراً من أسرار شقائه كإنسان، لذلك لم يكن
غريباً أن يضع النقاد هذا العبقري الموهوب على رأس عباقرة فن التمثيل - وهم
قلة قليلة - في تاريخ الفن المصري والعربي.
وضع أحمد زكي بأفلامه التي تتجاوز الـ 75 فيلماً اسمه على أهم الصفحات
في تاريخ السينما المصرية كواحد من أهم النجوم الذين مروا عبر مسيرتها
الطويلة التي امتدت لأكثر من مائة عام، جسد كل الشخصيات وعبر عن كل الأنماط
في أفلامه التي يعد معظمها من كلاسيكيات السينما المصرية ومن تحفها الفنية
الخالدة، لذلك سيبقى اسم أحمد زكي دليلاً على الإبداع الفني على مر العصور
كأحد عباقرة فن التمثيل المصري والعربي.
ولد أحمد زكي في 18 نوفمبر عام 1949 لأسرة ريفية فقيرة في قرية صغيرة
من إحدى قرى محافظة الشرقية بدلتا مصر، وقبل أن يكمل عامه الثاني توفي
والده ورحل عن الدنيا نتيجة إصابته بمرض «البلهارسيا» الذي كان يصيب نسبة
هائلة من الفلاحين بمعظم قرى وريف مصر، ولم تمض على وفاة الأب سوى شهور
قليلة وتزوجت أمه من رجل آخر فهي كانت شابة صغيرة وزواجها بالطبع - وبسبب
الفقر يقيها شر الحاجة وذل السؤال فأخذت أخاه الأكبر «صبري» معها إلى منزل
زوجها الجديد وتركت الابن الأصغر «أحمد» عند أخواله ليقوموا بتربيته، ولما
كانت ظروف أخواله المادية ضعيفة للغاية فقد كان على هذا الطفل الصغير أن
يتكبد المعاناة من الإهمال فهو ليس الابن الذي يلقى الترحيب، فأخواله -
بسبب ضيق حالهم - بالطبع يهتمون بأبنائهم لذلك كان الإهمال من نصيبه فتنقل
في العديد من بيوت أخواله وأعمامه بعد أن أهملته الأم تماماً، لدرجة أنه
أول مرة رأها كان عمره 6 سنوات وكان في بداية دخوله للمدرسة الابتدائية،
وقد تركت هذه الطفولة الصعبة والمعاناة والقسوة الهائلة التي عاشها وهو في
هذه السن الصغيرة تأثيراً نفسياً هائلاً على أحمد زكي استمر معه لفترة
طويلة من حياته حتى بعد أن كبر وأصبح فناناً ونجماً مشهوراً ظلت القسوة
والتجاهل اللذين عاني منهما في طفولته أشبه بجرح مؤلم لا يندمل ولا يبرأ.
وسط هذه الظروف القاسية والمعاناة الهائلة التي عاشها منذ ولادته
وصاحبت نشأته واصل أحمد زكي مراحله الدراسية «الابتدائي، الإعدادي» حتى حصل
على «دبلوم الثاني التجاري»، ولكن لابد من أن نتوقف قليلاً هنا نشير إلى
الموهبة وكيف بدأت ومتى تم اكتشافها، كان أحمد يعاني في طفولته من عدم
القدرة على الكلام، فهو دائماً صامت لا يتكلم كثيراً لأنه لا أحد يتحدث معه
في البيوت والأسر التي يتنقل فيها سواء عند أعمامه أو أخواله وعندما دخل
إلى المدرسة بدا وكأنه يتعلم الكلام لأول مرة، وفي «مدرسة الزقازيق
الثانوية الصناعية» انضم أحمد لفريق التمثيل بالمدرسة ولم تمض سوى أشهر
قليلة حتى كان هو قائد هذا الفريق ما جعل عددا كبيرا من الفنانين الذين
يشاهدونه ينصحونه بضرورة دراسة التمثيل والالتحاق بالمعهد العالي للفنون
المسرحية.
وفي أثناء دراسته في المعهد أظهر أحمد زكي موهبة كبيرة وقدرة هائلة
على الاستيعاب فهو في دراسة الفن يحبه بجنون ولدرجة العشق لذلك لم ينتظر
حتى يتخرج وينتهي من دراسته حتى يبدأ مشواره الاحترافي، بل بدأه بالفعل
أثناء دراسته بالمعهد من خلال مشاركته في بعض المسرحيات التي كان أشهرها
مسرحية «هاللو شلبي» التي قام ببطولتها سعيد صالح وعبدالمنعم مدبولي ومديحة
كامل وعبدالله فرغلي، وقام أحمد فيها بدور صغير، وبالطبع مسرحية «مدرسة
المشاغبين» حيث كان جميع أبطال المسرحية بل ومنتجيها يتعاملون معه - رغم
موهبته الهائلة - بتجاهل وتعال وتكبر شديد لدرجة أنه كان يشعر وهو يمثل على
المسرح دور «أحمد» الطالب الفقير المجتهد الذي يعاني من سخرية زملائه
المشاغبين، انه لا يمثل بل يجسد ما يحدث معه في الواقع.. وسينمائياً يرشحه
المخرج نادر جلال للمشاركة في فيلم «بدور» الذي قام ببطولته محمود ياسين
ونجلاء فتحي، وكان الفيلم من إنتاج وإخراج نادر، ثم يرشحه المخرج محمد راضي
في فيلم من إخراجه وإنتاجه وهو «أبناء الصمت» الذي قام ببطولته نور الشريف
وميرفت أمين والفيلمان كانا عام 1974 ودارت أحداثهما عن حرب أكتوبر 1973،
وفي عام 1977 كان فيلمه الثالث «العمر لحظة» من إنتاج وإخراج محمد راضي
أيضاً، ورغم أن أحمد زكي قدم في هذه الأفلام أدواراً صغيرة ولم يكن مشاركاً
في البطولة إلا أنه أظهر موهبة كبيرة وحضوراً قوياً أمام كاميرات السينما
ما جعله مرشحاً بقوة ليقوم بدور البطولة أمام سعاد حسني في الفيلم الشهير
«الكرنك» 1975، لكن الشركة المنتجة أصابها الفزع من هذا الترشيح لدرجة أن
منتج الفيلم قال: «من هذا الأسمر النحيف الذي ستحبه سعاد حسني!!» ولم تمض
سوى أعوام قليلة للغاية على حادثة وموقف فيلم «الكرنك» حتى يجيء الشاعر
والفنان الكبير صلاح جاهين ليرد لأحمد زكي اعتباره ويعطيه بطولة الفيلم
الرائع «شفيقة ومتولي» 1978 وأمام سعاد حسني ومع المخرج علي بدر خان وتشارك
في نفس العام في بطولة واحد من أهم أفلام السينما المصرية وهو «وراء الشمس»
مع نخبة كبيرة من نجوم السينما والمخرج والمنتج محمد راضي الذي يعد أيضاً
من المخرجين الذين آمنوا بموهبته وقدمه في بداياته في أفلامه، وفي العام
التالي 1979 كان أحمد زكي على موعد مع اللقاء الوحيد الذي جمعه بالمخرج
الكبير يوسف شاهين عندما أشركه في بطولة فيلمه الشهير «إسكندرية ليه» أمام
نجلاء فتحي وعدد هائل من نجوم السينما المصرية.
وتجيء حقبة الثمانينيات لتكون هي مرحلة التوهج والانطلاق والنجومية
الهائلة لهذا الفنان والنجم الموهوب، وهناك روايتان تتنازعان على بدء مرحلة
النجومية فهناك من ينسبها إلى المخرج حسام الدين مصطفى عندما اختاره ليجسد
شخصية «الضابط» المتخفي في شخصية «سفروت» الشاب المعوق ذهنياً من خلال فيلم
«الباطنية» 1980 التي لعبت بطولته نادية الجندي وفريد شوقي ومحمود ياسين
ومعهم أحمد زكي، وبالطبع النجاح الجماهيري الهائل لهذا الفيلم أعطي أحمد
زكي شهرة ونجومية هائلة، أما الاتجاه الآخر - وهو الاتجاه الذي أراه
حقيقياً بنسبة هائلة - فهو بطولته لفيلم «عيون لا تنام» وهو أول أفلام
الميهي مخرجاً بعد مشوار حافل بالكتابة للسينما، وكانت اللمسة السحرية
لرأفت الميهي هي التي كشفت لصناع السينما عن الموهبة الفذة لهذا الفتى
الأسمر بعدها التقط محمد خان الإشارة وقدم مع أحمد زكي أربعة من أهم أفلامه
الـ 24 التي قدمها أحمد في حقبة الثمانينيات وهي أفلام: «موعد على العشاء»
1981، «طائر على الطريق» 1981، «زوجة رجل مهم» 1988، «أحلام هند وكاميليا»
1988، وهنا نتوقف قليلاً لنشير إلى أن أحمد زكي قدم مع محمد خان وخيري
بشارة ورأفت الميهي وداود عبدالسيد وشريف عرفة وهم من مؤسسي تيار الواقعية
الجديدة في السينما مع بداية الثمانينيات أهم أفلامه. ونستعرض الآن أهم
أفلامه خلال حقبة الثمانينيات ونشير فيها إلى الشخصيات التي جسدها في هذه
الأفلام لندرك حجم التنوع الهائل في أدواره وشخصياته التي قدمها في أفلامه،
فبالإضافة إلى أفلامه مع محمد خان التي ذكرناها نجد أفلاماً أخرى مثل
فيلميه مع المخرج خيري بشارة الأول «الأقدار الدامية» 1982 وجسد شخصية ابن
أحد الأثرياء وهو فدائي ينضم للفدائيين أثناء حرب فلسطين عام 1948، والفيلم
الثاني «العوامة 70» 1982 يجسد فيه دور مخرج أفلام تسجيلية ومغامر وجريء -
«درب الهوى» 1982 وهنا شاب شريف وعفيف في حارة للبغاء، «المدمن» 1983 مع
المخرج يوسف فرانسيس ويجسد شخصية مهندس شاب يتحول إلى مدمن بعد أن فقد
عائلته، «الراقصة والطبال» 1984 هو طبال مهووس بالفن إلى حد المرض، «الليلة
الموعودة» 1984 مع المخرج يحيى العلمي، هو طالب جامعي ومهرب بضائع، وفي
الوقت نفسه هو ابن بار بأمه، «التخشيبة» 1984 وهو أول لقاء له مع المخرج
عاطف الطيب، وجسد شخصية محامي شاب مهووس بالعدالة المطلقة وباحث عنها،
«النمر الأسود» 1984 مع المخرج عاطف سالم، يجسد شخصية حرفي جاهل يسافر إلى
ألمانيا للعمل وهناك بالصبر والاجتهاد وممارسة لعبة الملاكمة التي يجيدها
يصعد إلى قمة النجاح والثروة، «سعد اليتيم» 1985 مع المخرج أشرف فهمي يجسد
شخصية شاب مثالي باحث عن الحق ويصاب بالحيرة في الثأر لأبيه من عمه الذي
قتله والذي قام بتربيته، ودارت أحداث الفيلم في عالم الفتوات وهو مأخوذ عن
ملحمة شعبية شهيرة.
ونصل إلى حقبة التسعينيات لنرى أن أحمد زكي خلال هذه الحقبة قدم ما
يزيد قليلاً على 20 فيلما سنستعرض أهمها وكذلك الشخصيات التي جسدها خلالها
ونبدأ بفيلم «كابوريا» 1990 مع خيري بشري، وجسد شخصية «حسن هدهد» ملاكم
شوارع هامشي يبحث وسط المجتمع عن فرصة ليثبت نفسه ويعيش حياة أفضل، «البيضة
والحجر» 1990 مع المخرج علي عبدالخالق هو مثقف يتحول إلى دجال ويبيع الوهم
للناس ويصبح مليونيراً، «الإمبراطور» 1990 هو متمرد صعلوك يصبح من أكبر
كبار تجار المخدرات وهو شخصية دموية بلا مشاعر، «الهروب» 1991 مع عاطف
الطيب وهو واحد من أهم تحفه السينمائية وجسد شخصية شاب صعيدي طيب يتعرض
للخديعة ويسجن فيتحول إلى مجرم وقاتل هارب تطارده الشرطة، «الراعي والنساء»
1991 مع علي بدر خان رجل غامض غريب يعيش في جزيرة منعزلة مع 3 نساء ويعيش
حيرة هائلة بين مشاعره ورغباته، «ضد الحكومة» 1992 هو المحامي الفاسد ابن
المرحلة الذي يفيق من غيبوبته ويتحول إلى بطل، ونتحول إلى بداية الألفية
الجديدة لنرى أحمد زكي لم يقدم خلالها وحتى منتصفها سوى ثلاثة أفلام فقط،
الأول «أيام السادات» مع المخرج محمد خان 2002 وجسد شخصية الزعيم الراحل من
خلال هذا الفيلم الذي حكى قصة حياته، وهنا سنشير إلى فيلمه الشهير «ناصر
56» الذي قدمه مع المخرج محمد فاضل عام 1986 لقد وصل أحمد زكي في تجسيده
لشخصية جمال عبدالناصر أيام قرارات تأميم قناة السويس إلى مرحلة عالمية في
الأداء.
أما الفيلم الثاني فكان «معالي الوزير» 2003 مع المخرج سمير سيف وجسد
خلاله شخصية وزير يأتي إلى منصبة بالصدفة فتطارده الكوابيس القاتلة، خصوصاً
بعد أن أصبح وزير فاسداً، وكان فيلمه الأخير «حليم» الذي جسد خلاله شخصية
عبدالحليم حافظ هو آخر أفلامه والذي لم يستطع أن يكمل تصويره، حيث كان مرض
«سرطان الرئة» قد اشتد عليه ورحل أثناء تصويره في 27 مارس 2005، وأكمل ابنه
الوحيد «هيثم» تصوير الفيلم وقام بدور عبد الحليم في شبابه، وبالفعل تشابهت
حياة أحمد زكي كثيراً مع حياة عبدالحليم حافظ فكلاهما من محافظة الشرقية،
وكلاهما عاش طفولته يتيماً محروماً فقيراً فتلقته الأيدي بلا حنان، وكلاهما
عاني في بدايته الفنية وكلاهما عاش يعاني من الوحدة رغم كل النجومية فلم
يتزوج أحمد زكي بعد وفاة زوجته الفنانة هالة فؤاد وأم ابنه الوحيد وكلاهما
عانى من المرض في أواخر حياته، وكلاهما أحزن وأبكى الأمة العربية كلها من
المحيط إلى الخليج على رحيله المبكر بعد أن أمتع كل منهما هذه الجماهير
بفنه وتحولا مع الزمن إلى أسطورة من أساطير الفن على مر العصور.
النهار الكويتية في
20/07/2012 |