المشاكس يوسف شاهين (7-15)
أول فرصة
هبة الله يوسف
سافر الشاب إلى أميركا ليحقق حلمه كممثل فدرس الإخراج بعدما اقتنع بأن
مكانه في السينما المصرية وراء الكاميرا، ثم كان قراره بالعودة إلى مصر رغم
تلقيه عرضاً بالتدريس في معهد باسادينا. ولكنه قرر أن يشق طريقه الاحترافي
في بلده ليحكي «للناس عن ناس يعرفهم»، كما كرر في أكثر من لقاء. عن مشوار
«الألف ميل» الذي بدأ بخطوة نواصل الإبحار في السيرة الشاهينية.
شعر شاهين بالإحباط من الوسط السينمائي، وفكر في العودة إلى أميركا لأن
أحلامه صارت مهددة تحت مطرقة الخضوع لشروط السوق، وتبعية العمل كمساعد يحمل
الأوراق ويرتب المشاهد مع النجوم في أفلام تجارية رخيصة لا يقتنع بها، ولا
تشبع خياله عن السينما التي أمضى الليالي يحلم بها في غرفته بمدينة
باسادينا الأميركية.
ولكن كيف استطاع أن يقنع الشركة المنتجة بإسناد مسؤولية إخراج فيلم روائي
إلى شاب صغير لم يكمل الرابعة والعشرين من عمره؟
المعلومات المتداولة غير مقنعة، وتتعامل باستسهال مع سيرة مخرج كبير استطاع
أن يبني مشروعه السينمائي بعصامية ودأب في تجربة نحتاج إلى التعرف إلى
تفاصيلها، لأن قصة نجاح شاهين لم تكن سهلة، هي قصة نضال سبح فيها مرة مع
التيار، ومرات عكس التيار، ولكنه في الحالتين حقّق التأثير والنجاح.
امرأه من نار
عندما نشبت حرب 1948 لم يهتم شاهين بتفاصيلها ولا كان يتابع السجالات
السياسية والإعلامية الدائرة على الساحة، ولم يخجل من الاعتراف بذلك في كل
مرة كان يتحدث فيها عن وعيه السياسي الذي جاء متأخراً خطوات عن وعيه الفني
والإنساني. فالسينما كانت شغله الشاغل، وكان في كل حديث أو سهرة أو تجمع
يركز على موضوع واحد هو البحث عن منتج للسيناريو الذي كتبه تحت عنوان مؤقت:
«حِميدة وزبيدة» على غرار تيمة «حسن ونعيمة»، وهو الفيلم الذي عرض بعد ذلك
باسم «ابن النيل»، ولكن الظروف اضطرته إلى قبول العمل كمساعد لمخرج إيطالي
متواضع المستوى يدعى «جياني فيرنوتشو» تعلم من أخطائه أكثر مما تعلم منه
(حسب تعبير شاهين).
بعد انتهاء حرب 1948 بهزيمة العرب، غنى كل فريق على ليلاه. السياسة انشغلت
بتوابع الحرب بطريقتها، والإعلام بطريقته، والسينما بطريقتها أيضاً، وكانت
ثمة حسناء اسكندرية متطلعة إلى الشهرة اسمها ليليان شقت طريقها إلى
النجومية بعدما تعرفت إلى الدونجوان الوسيم أحمد سالم، واجتذبها إلى العمل
في السينما فهجرت الفتاة الفقيرة ذات الأصول الأجنبية مدينة الاسكندرية
وجاءت إلى القاهرة لتصبح نجمة سينمائية باسم «كاميليا»، وقد ارتبط اسم
كاميليا بحرب 1948 وظروف النكبة وقيل ما قيل عن عملها بالجاسوسية وصداقتها
للملك فاروق والظروف الغامضة وراء مقتلها في حادث سقوط طائرة.
لكن ما علاقة كاميليا ببدايات يوسف شاهين في السينما؟
تقول السجلات إن أول لقاء بين شاهين وكاميليا كان في فيلم «امرأة من نار»
الذي قامت ببطولته، حينما كان المخرج مساعداً لمخرجه الإيطالي فيرنوتشو،
والذي كان طرفاً في الترتيب لفيلم آخر هو «أرواح هائمة» الذي أدت كاميليا
بطولته إزاء شاب يدعى «سليمان عزيز» (اختفى من الشاشة بعد ذلك نهائياً،
لأنه ببساطة دخل السجن بتهمة السرقة واختلاس مئة ألف جنيه أنفقها للتقرب من
كاميليا، فأنتج هذا الفيلم الذي اقتنص فيه أكبر عدد من القبلات والأحضان
منها، للدرجة التي جعلته منافساً في عدد القبلات الساخنة لفيلم عبدالحليم
حافظ ونادية لطفي «أبي فوق الشجرة»، ذلك رغم أن أحداثه تدور حول حرب 1948
إذ يعود أحد الضباط مشوَّهاً ويؤدي دوره سليمان عزيز فيما كاميليا هي
الممرضة التي تعكف على علاجه والاهتمام به بعدما تخلى عنه الجميع).
قبل أن يخرج هذا الفيلم إلى النور كان «فيرنوتشو» نصح سليمان عزيز بعدما
تعرَّف إليه وإلى صديقه صالح عوض بتأسيس شركة إنتاج ليتمكنا من إنتاج
الفيلم. فعلاً، استأجرا مكتباً في شارع طلعت حرب قرب سينما «راديو»، وأسسا
«أفلام الفن» التي لم تقدم سوى هذا الفيلم الذي صاحبته المشاكل وأجواء
الغموض منذ البداية. وقبل البدء في تصويره أبعد «فيرنوتشو» من إخراجه وأسند
إلى واحد من «الأخوة بركات»، وهو المخرج كمال بركات شقيق كل من عبد الله
وهنري بركات الذي أعاد صياغة السيناريو الذي كتبه سامي عزيز شقيق المنتج
/الممثل/ المختلس.
شبكة علاقات
لكن القدر لا يأخذ فحسب، بل يأخذ بيد ويعطي بالأخرى. عن طريق كمال بركات
تعرف شاهين إلى حسين بك زايد (تخلط قواعد بيانات السينما العربية بين هذا
الرجل الأرستقراطي صاحب المزاج الفني وبين ممثل ظهر بعد ذلك بسنوات قليلة
بالاسم نفسه، وحقق قدراً من الشهرة في أفلام ومسرحيات فؤاد المهندس وشويكار
مثل دور «السفاح ميمي» في «سفاح النساء»، و دور رجل العصابة ذي اليد
الخطافية في فيلم «العتبة جزاز»)، إذ منح حسين بك زايد فرصة الإنتاج الأولى
لشاهين في «بابا أمين».
وزايد أرستقراطي من عائلة ثرية كان لديه درجة من الميول الفوضوية التي لا
تعترف بالقيود الاجتماعية المتزمتة، وكان يفضل سهرات الفن والثقافة، وبعدما
أعجبته حياة السينما قرر تأسيس شركة إنتاج باسم «أفلام زايد»، واستأجر
مقراً لها في شارع أبو الفدا بالزمالك. لما استقر الرأي على انتاج «بابا
أمين» لشاهين بعد رفض سيناريو «ابن النيل»، طلب توفير منتج شريك. من ثم،
لجأ شاهين إلى ألفيزي أورفانيللي كعادته فأخبره بوجود شركة إنتاج جديدة
أسسها اثنان من الشباب من عشاق السينما والراغبين في خوض التجربة، ولما
سأله شاهين عن اسمها قال: «مبازيم».
ضحك شاهين وهو يقول: «أصل الحكاية ناقصة تعقيدات وفوازير... يعني إيه
مبازيم دي؟».
فقال أورفانيللي بهدوء: «اختصار يجمع بين اسم الشريكين، فالأول اسمه «أحمد
مبارك» والثاني اسمه «عبدالعظيم الخشت». وبعد تفكير اختاروا ثلاثة حروف من
كل واحد: الميم والباء والألف من مبارك، بالإضافة إلى الحروف الثلاثة
الأخيرة من عبد العظيم.
أضاف شاهين ضاحكا: «كده يبقى المفروض اسم الشركة مباظيم».
ضحك أورفانيللي وقال له: «ما تنساش إننا خواجات و«عظيم» عندنا ننطقها
«أزيم».
لذلك أصبح اسم الشركة «مبازيم» كي تكون سهلة في النطق والترجمة، ثم لاحقاً
بدأت تنطق بالضمة على طريقة موبازيم.
في هذا اليوم ضحك شاهين من قلبه كأنه يزيح الإحباط الذي لازمه لأشهر، فقد
اتفق مع أورفانيللي على لقاء مع حلمي المهندس والذي كان يشرف على اختيار
السيناريوهات للشركة الوليدة (وهو حسين حلمي السينمائي الذي اشتهر بعد ذلك
باسم حسين حلمي المهندس نظراً إلى تخرجه في كلية الهندسة وعمله بالفن)، وفي
شارع الملكة فريدة (عبد الخالق ثروت راهناً) استبشر شاهين خيراً إذ وافق
حسين حلمي على إنتاج «بابا أمين» بعدما حاول شاهين إقناعه أولاً بانتاج
«ابن النيل». لكن السيناريو لم يلق قبولاً لأسباب بعضها يتعلق بالتوزيع
والإيرادات وبعضها يتعلق بآراء شخصية للمنتج عبد العظيم الخشت الذي كان
صعيدياً من سوهاج. لذلك لم يوافق على سيناريو يتضمن مشهد اغتصاب صعيدية ثم
الزواج منها في حالة تواطؤ على المجتمع، ما قد يثير غضب الأهل والناس في
الصعيد.
وعندما قدَّم شاهين فكرة «بابا أمين» كانت ثمة ملاحظات على السيناريو، وكان
لا بد من إضافة بعض المشاهد لتناسب الجذب الجماهيري، وكان الاتفاق على
مشاركة حسين حلمي المهندس في صياغة السيناريو من جديد مع شاهين، كذلك نقّح
الحوار الكاتب البارع علي الزرقاني، ومضت الأمور في سلام وآمال عريضة. وفي
تقديمها للفيلم قالت الشركة: «حاولنا في إنتاجنا لهذا الفيلم أن تكون في
القصة طرافة لم تطرق، وفي تنفيذها جدة لم تؤلف، فانتقيناها من بين عشرات
القصص لتكون مغايرة لمألوف الروايات المصرية، فيها تشويق ولها هدف، وعهدنا
بها إلى مخرج شاب درس الفن في مدينة هوليوود، وقد التقت أهدافه بأهدافنا في
أن نسمو بالفيلم المصري الي مرتبة الكمال، وإننا واثقون بأن الفيلم سيدعم
ثقة المؤمنين بالسينما المصرية، وأنها تستطيع أن تقف في معرض الإنتاج
العالمي قوية ثابته رأسها في السماء».
الرحلة المجهدة
كانت قصة فيلم «بابا أمين» جديدة على نمط الأفلام السائد في تلك الفترة.
تدور أحداثه حول أسرة بسيطة سعيدة يموت عائلها فجأه فتتدهور أحوالها،
خصوصاً بعدما يحتال عليها شريك الأب لنكتشف بعدها أن كل ما حدث لم يكن أكثر
من كابوس عاشه رب الأسرة، ثم يسترد أمواله ويعيد إلى العائلة سعادتها كما
كانت. ورغم أن الفيلم يعد أحد الأفلام القليلة آنذاك التي مثل فيها حسين
رياض دوراً كوميدياً كذلك رئيساً، فإنه لم يكن المرشح الأول للدور، إذ قال
شاهين إنه كان رشح الفنان الكبير نجيب الريحاني للدور، ليس لقيمته الفنية
وقدراته كممثل وإعجاب شاهين به فحسب ولكن لأمنيته في التعاون معه، خصوصاً
في أولى تجاربه الاحترافيه. ولكن مرض الريحاني ثم وفاته سريعاً، دفعا شاهين
إلى البحث عن اختيار آخر.
من جانبها، رشّحت شركة الإنتاج الفنان فؤاد شفيق (شقيق الفنان حسين رياض)،
نظراً إلى أن الدور يجنح نحو الكوميديا وهو ما اشتهر به فؤاد. إلا أن شاهين
اقترح حسين رياض ونجح في إقناع الشركة المنتجة بوجهة نظره، والفيلم هو
بداية تعاون بين شاهين والفنانة فاتن حمامة التي ظلت نجمته «الأثيرة» في
أفلامه الأولى حتى حدث بينهما خلاف نفسي وفني سيأتي وقت الحديث عن خفاياه.
كذلك شهد الفيلم أول تعاون بينه وبين الفنان فريد شوقي والفنانة هند رستم
(التي كانت آنذاك وجهاً جديداً) وسيشاركانه لاحقاً أحد أهم أفلامه «باب
الحديد».
يقول شاهين عن تعب البدايات: «يتصور الناس أن السينما صناعة سهلة كالفنون
الأخرى ككتابة قصة أو تأليف مقطوعة موسيقية حيث المعاناة تقتصر على
الإبداع، لكن السينما صناعة صعبة وفريق ضخم وتكاليف مالية ضخمة، ولهذا
السبب النجاح فيها صعب لأنه لا يعتمد على عبقرية أفراد بل هو عمل جماعي
وظروف أكبر من أي شخص بمفرده».
يضحك ويواصل: «يتصور الناس أن طريقي كان مفروشاً بالورد، وأني رجعت من
أميركا قابلت فلاناً فقال لي ياللا هات السيناريو وأخرج الفيلم. لكن
الحقيقة أنا طلعت عيني وعملت قرداً عشان أمسك أول فرصة».
عندما سألته عن صاحب الفضل في منحه أول فرصة، وهل كانت علاقته بالمصور
ألفيزي أورفانيللي مفتاح دخوله الوسط السينمائي كما يتردد دوماً حول قصة
البدايات؟ قال: «هي شبكة علاقات وأمور متداخلة في بعضها بعضاً. لا تقتصر
على شخص واحد أو موقف واحد. ناس كثيرون ساعدوني من قلبهم ولكن ما حصلش
توفيق، وناس قدموا نصيحة أو كلمة أو عزموني على تصوير فقابلت حد تاني كان
له دور أكبر، وهكذا... يعني ما ينفعش أحسبها ولا أنسبها إلى شخص واحد ولا
ليوم واحد. إنما تقدري تقولي إنه كان عندي إصرار، وعملت «عشروميت» محاولة
حتى وجدت الفرصة، وحتة من هنا، وحتة من هنا وبدأت المسيرة. وعلى فكرة أنا
فضلت لآخر فيلم في التعب ده. أنشغل بالبحث عن التمويل والتوزيع وكل
التفاصيل من أول فيلم إلى آخر فيلم، مفيش حاجة عملتها كانت سهلة، وهذه
حلاوة النجاح».
موسم الحصاد
بعد تعب وإحباط ومحاولات كثيرة، ظهر «بابا أمين» على شاشة السينما وكتب
شاهين اسمه كمخرج محترف في ليلة 20 نوفمبر 1950 عندما عرض الفيلم في أول
حفلة جماهيرية، ونجح في أن يمنح شاهين شهادة الميلاد الفني و«جواز المرور»
إلى الشاشة والشهرة. استقبلته الصحافة من دون هجوم، كذلك من دون احتفاء
كبير، وأشاد عدد من النقاد بأدواته الفنية الجديدة، وابتكاره في تكوين
الكادر، وحركة الكاميرا، وفهمه دور المونتاج والإيقاع والخدع السينمائية
التي استخدمها في الفيلم ليوحي للمشاهد بأن الأب غير مرئي رغم مشاركته في
الأحداث بعد وفاته. كذلك أشاروا إلى إدارته الجيدة والجديدة للممثلين،
وأكدوا أن الفيلم قدَّم للسينما المصرية موهبة جديدة تستحق التحية. لكن
الوجه الآخر للصورة لم يكن على المستوى نفسه، فالفيلم لم يحقق نجاحاً
تجارياً، وخسر حسين بك زايد النصيب الأكبر فاستجاب لرجاء زوجته بإغلاق
الشركة والتعامل مع السينما ونجومها كصديق ومعجب. والحال نفسها حدثت مع
الصديقين مبارك وعبد العظيم فعادا إلى العمل كافراد في شركات إنتاج أخرى.
إلا أن خلطة الفشل والنجاح لم تؤثر سلباً في شاهين، بل كانت دافعاً إلى
الاستمرار بثقة أكبر إذ وضعت قدميه على الطريق. وأثناء تصوير «بابا أمين»
كان القدر يدخر له مفاجأة أخرى أكثر سعادة نتعرف إليها في الحلقة المقبلة.
طرائف «بابا أمين»
عندما وقف شاهين داخل الاستوديو في أول يوم تصوير، نسي الكلمة التي ينطق
بها المخرج لكي يبدأ كل فرد في فريق العمل دوره، فقد نادي: كلاكيت، ونسي
كلمة «أكشن» التي يستخدمها المخرجون في مصر، ونسي أيضا الكلمة الفرنسية
«بارتيه» فصرخ في الجميع بطريقته العصبية: «دَوَّر» ودارت الكاميرا، وظل
شاهين يستخدم هذه الكلمة دون تغيير طوال مسيرته في الاستوديوهات.
وفي هذا الفيلم، حرص شاهين على الظهور في لقطة سريعة داخل الأحداث، ربما
أعجبته طريقة هيتشكوك وربما قرر أن يوثق اللحظة، وربما كان يريد أن يعوض
الممثل المقموع في داخله والذي تخلى عنه وفضل عليه الإخراج. وأيما كانت
الأسباب فقد ظهر شاهين في لقطة صامتة، وهو يخرج من الملهى الليلي متجهاً
إلى الشارع، قبل أن تتنوع لقطات ظهوره بأفلامه من كومبارس صامت إلى بطولة
مطلقة.
أجيال
تعامل يوسف شاهين مع أجيال متعددة من الممثلين، بداية من يوسف وهبي وحسين
رياض، وصولاً إلى خالد صالح، ومن ماري كويني وليلي مراد إلى منة شلبي ويسرا
اللوزي. وكان أهم ما يميزه كمخرج الاكتشاف الدائم للمواهب الجديدة، ولعل من
أبرزها الفنان العالمي عمر الشريف، وليس صحيحاً أنه لم يجتذب النجوم إلى
عالمه، إذ تعاون مع كل من فاتن حمامة ونور الشريف ويسرا ومحمود حميدة بعدما
كانوا حققوا النجومية في أفلام الآخرين قبل العمل معه.
·
كاميليا قدمت خدمات غير مقصودة لدعم مسيرة شاهين
·
أهل السينما لا يعرفون الفرق بين المنتج حسين زايد و«سفاح النساء»
·
حسين حلمي المهندس أسهم بمحبة وتعاون في بداية شاهين السينمائية |