عالم جديد
عن الجزء الأول من "العرّاب"
بدأت علاقتي بالمخرج “فرانسس فورد كوپولا"، الذي سيغير حياتي
بطريقة غريبة، عندما رآني على المسرح وأنا أؤدي دوري بمسرحية
"هل يرتدي النمر ربطة عنق؟" التي عرضت في برودواي ولكني لم
التقه حينها، وقد كان مخرجاً واعداً عمل فلمين أو أكثر. وفي
يوما ما، وفجأة وبلا سابق انذار أرسل لي سيناريو فيلم كان قد
كتبه. قصة حب رائعة عن أستاذ جامعي شاب لديه زوجة وأطفال يقع
في علاقة غرامية مع إحدى طالباته. كان السيناريو مكتوباُ بشكل
جيد وبحس اسطوري أقرب للسريالية.
دعاني “فرانسس” للقائه لكي العب دور الأستاذ الجامعي، وبالتالي
كان عليّ أن أطير إلى سان فرانسيسكو وهو ما لم يكن من السهل
عليّ عمله؛ فأنا لا أحب الطيران وفكرت: ألا توجد طريقة أفضل
للوصول هناك؟ لم يكن بمقدوري ان اطلب من هذا الشاب أن يأتي هو
مرة أخرى الى نيويورك لنلتقي، لذلك فعلتها مجبراً وذهبت.
كانت تلك طلتي الأولى على سان فرانسيسكو، وكنت سعيداً أن أكون
هناك لتلبية دعوة شخص موهوب مثل “فرانسس”، فقد كان يبدو وكأنه
أستاذ جامعي، مثقف بلحية شعثاء وابتسامة تطل منها اسنانه ووشاح
يلتف على رقبته دائماً بطريقة فلليني. وعلى مدى عدة ليالِ
دعاني على العشاء وبرفقتنا قنينة نبيذ دائماً، لكي نناقش مشروع
الفيلم. ففكرت بأن عبقرية ما قد مسّت هذا الرجل؛ فقد كانت لديه
تلك الحماسة التي يتحلى بها شخص قيادي قادر على الإنجاز ولا
تعوزه القدرة على المجازفة.
أخذني إلى شركته "أميركان زويتروپ" الكبيرة التي كانت بحجم
ملجأ كبير فوق الأرض، محاط بالضجيج. وإذا لم تخني الذاكرة، فقد
رأيت جورج لوكاس وستيفن سپيلبرغ، مارتن سكورسيزي، وبرايان
ديپالما هناك، ولم تكن لديّ أدني فكرة مَن هم، ولكني كنت على
يقين بأنهم ليسوا ممثلين، وقد بدا عليهم وكأنهم فرقة من
الراديكاليين الشباب القادمين من الستينيات ويرغبون بإدخال
صناعة الأفلام الى السبعينيات وانتهى بهم الأمر لأن يغيروا
الثقافة السينمائية برمتها.
ولكني لم أكن معروفاً أبداً، أما مشروع ذاك الفيلم فقد عرضه
كوپولا في كل مكان ولم يكن له الحظ بأن يُنتج أبداَ.
عدت الى بيتي وظننت بأنه كان واحداَ من تلك المشاريع سيئة
الحظ. ولم اسمع من كوپولا بعدها. مرت أشهر حتى جاء يوم، في
منتصف ظهيرة ما، تلقيت مكالمة هاتفية، وكان على الخط ذلك الاسم
وذلك صوت القادم من الماضي: “فرانسس كوپولا". أول ما قاله بأنه
سيخرج فيلم "العرّاب".. ظننت بأنه كان يحلم، أعرف انه شاب جيد،
وقد قضيت اياماً برفقته في سان فرانسيسكو، إلا انه الآن على
الهاتف يخبرني بأنه سيمنحني دوراً كبيراً قد لا يأتي إلا مرة
كل مائة عام!
سبق لي أن قرأت رواية "ماريّو بوزو" التي لاقت اهتماماَ
كبيراَ، وكان من الواضح بأن أي فيلم سيقتبس عنها لا بد من انه
سيكون فيلماَ مهماَ، وعندما تكون ممثلاً مبتدئاَ فإنك لن تضع
عينيك على هذه الأشياء أو تطمح بأداء دور بهذه الجسامة، وان
تنال أي دور في مثل هذا الفيلم سيكون معجزة بالنسبة لك، فرص
كهذه لن توجد لمن هم من امثالك! شيء مثل هذا مستحيل، ولا يمكن
تصديقه!
ولكن لمَ لا يبدو ذلك صحيحاً وقابلاً للتصديق؛ فقد قضيت اياماً
مع “فرانسس”، ورأيت حجم ثقته بنفسه وآمنت به، ولكن أليس من
عادة الأستوديوهات الكبيرة بحجم "پارامونت" الاعتماد على
المخرجين العجائز ذوي السمعة الراكزة، وليس مخرجاً شاباً
وموهوباَ وطليعياَ مثل كوپولا؟
لم تتطابق هذه الحقيقة مع الانطباع الذي كنت أحمله عن هوليوود.
مهما يكن، طلب مني “فرانسس” بأن العب دور "مايكل كورليوني"..
هل تصدق! قلت في نفسي: أه.. أما الآن فقد جن جنونه! تصرفت
وكأنه لم يكن على الطرف الآخر من الهاتف. ربما مررت بلحظة
انهيار عصبي؛ فأن يتصل بك مخرج على الهاتف، ويعرض عليك أداء
دور بدون المرور عبر وكيل فني.. وعلى دور مثل هذا الدور فذلك
ما لن يحدث بنسبة واحد بالمليون!
لم أتعامل مع ما قاله حتى بافتراضه فرصة؛ فمن أنا لتسقط في
حضني مثل هذه الفرصة!
قبل أن أحمل سماعة التلفون لأجيب على “فرانسس”، كنت في حيرة من
أمري، وقد لازمتني هذه الحيرة فترة لا يستهان بها، فكنت كلما
اقلبها أجد نفسي بعيد جداَ عن "الشو بزنس". لا أدرى لماذا.
اعرف بأن التمثيل سيكون مهنتي، ولكن كلما فكرت بأنه جزء من
"الشو بزنس" كنت أحاول التملص من هذا الجانب، لأن أسلوب ونمط
حياتي يختلف جداَ ولا يتناسب مع متطلبات هذا العالم. أنا حتى
لم أكن أعيش في لوس أنجلس، كنت في نيويورك، في جزيرة مانهاتن،
وفي ذلك الوقت كنت رجل مسرح، وهنا جوائز "توني"، جوائز "أوبي"
“ستوديو الممثل" وعصابتي الخاصة من الممثلين من أمثالي!
هوليوود مدينة بعيدة، والفيلم كان عالماَ آخر يختلف تماماَ عن
المسرح. كنت اسأل صديقي تشارلي: كيف للممثلين أن يفعلوا ذلك،
أن تؤدي مشهداً في فيلم، وبمجرد قيامك بما يطلبونه حتى يقولوا
لك: اذهب وقم بذلك ثانية.. وتقوم بذلك وأنت مغطى بالأسلاك،
تواجه الكاميرا بوجهك وأنت محاط بكل هؤلاء البشر من حولك وهم
يتنفسون ويحدقون في عينيك وآه.. نسيت.. الدخان، انهم يدخنون في
الغرفة. التمثيل في الأفلام كالسير على الحبل المشدود غير بعيد
عن الأرض، فاذا ما أخطأت تستطيع بكل بساطة ان تعيد المحاولة.
أما على المسرح فالحبل على ارتفاع ثلاثون قدماً عن سطح الأرض،
وإذا لم تتمكن من عمل شيء بإتقان تسقط، تتهاوى، وذلك هو الفرق؛
الأدرينالين الذي تحتاجه لتصبح ممثلاَ مسرحياَ. ذلك ما اشعر به
على أية حال. وقد تغيرت مع الأيام. ولطالما أحببت النظر في
وجوه غير الممثلين الذين يأتون بهم ليؤدوا أدواراً عن مهنهم
الحقيقية في الأفلام، وهو شائع جداً، فعندما يأتون ببوّاب
حقيقي أو قسّ حقيقي يتقن اللاتينية جيداَ، فعليهم ان يعرفوهم
عن كيفية تصوير الأفلام، لذلك تجدهم في النهاية ضائعين وسط
الدخان لا يعرفون ما يفعلون، وبالتالي يتوهون حتى في طريق
العودة الى بيوتهم!
مهما يكن، كان صديقي "مارتي بيرغمان" يعمل بالسينما، هكذا صار
مستشاري ووكيل أعمالي. ولطالما قال لي: "لن أصنع منك نجماَ،
لأنك كما انت الآن نجم" لم أرَ نفسي كذلك ابداً.. ولكنه رآني.
كان ذلك هو العمل الذي يتقنه، يقوم بالمكالمات المطلوبة، وكل
ما عليّ عمله هو أن أقرأ السيناريو وأقرّر إن كان بإمكاني عمل
هذه الشخصية أم لا. اشعر بذلك بقوة. فإذا ما رأيت إن ممثلاَ
آخر ممكن ان يؤدي هذه الشخصية بشكل أفضل مني.. أقوم برفضها.
وما زلت كذلك.
كان أول دور سينمائي لي، ولم يأتني من خلال "مارتي"، وإنما من
خلال مخرجة أداء عظيمة تدعى "ماريون دورثي" التي سبق لها وان
انتقت الممثلون لفيلم "كاوبوي منتصف الليل" وغيرها من الأفلام
المهمة، وقد عرضت عليّ دور يستغرق التمثيل فيه ليلة واحدة في
فيلم عنوانه "أنا ناتالي" وهو كوميدي عن مرحلة الوصول الى سن
البلوغ ل "پاتي دوك" وكنت العب دور شاب تلتقيه في حفلة راقصة.
كانت "پاتي" لطيفة جداً مع الكل، وألطف من ذلك معي خاصة، ولكني
كنت مصيبة. كنت متشنجاَ جداَ، فقد وصلت أول واحد الى موقع
التصوير في الصباح الباكر لأنهم أبلغوني بأن أكون هناك في وقت
مبكر، فكنت الأول عن أي شخص آخر هناك! لا أحد هناك للحديث معه،
جلست وبقيت أنتظر.. وأنتظر وبينما كنت انتظر فكرت: هكذا يصنعون
الأفلام إذن!
لم أنم في الليلة السابقة لأنهم أخبروني بأن المشهد سيًصور في
الصباح الباكر. ثم عندما البسوني ملابس الشخصية، قفلت تماماَ.
وهو ما كان ينتابني في غالب الأحيان. تطلعت من حولي وتساءلت في
داخلي: ما الذي أفعله هنا؟ وبدا لي، ومهما كان الوضع الذي وجدت
نفسي فيه، فان كل ما اريده الآن هو أن أغادر، ولكني لا أستطيع
المغادرة لكيلا أبدو فظّاَ. فبقيت رغم أني لم أكن أطيق البقاء!
قلت حواري لها وكان: "لديك جسم جميل.. هل تعرفين ذلك؟" ثم أضفت
"هل تريدين الخروج معي؟" وأنا لا أدرى لماذا قلت ذلك، وماذا
يعني وكيف سأبدو وأنا أقوله.. وظهر في الفيلم على علّاته..
وكان أول فيلم ينزل اسمي فيه!
لم أشارك في أي فيلم لما يقارب العامين، الى أن مثلت في
“The Panic in The Needle Park (1971)
الذي زرعني فيه "مارتي" والذي كتب له
السيناريو "جون غريغوري دن" المأخوذ عن قصة حقيقية عن مدمنين
اثنين: شاب وفتاة يغرمان ببعضهما في مرحلة يشح عندهما فيه
الهيرويين. وقد كان "مارتي" وكيل أعمالي ووكيل أعمال مخرج
الفيلم "جيري شاتزبيرغ" الذي كان بدوره مصوراَ فوتوغرافياَ
وكان هذا عمله السينمائي الأول. وكان كلاهما مقتنعين بأن أمثل
دور الشاب الذي يدعى "بوبي". اعتقدت بأني قادر على أداء مثل
هذه الشخصية، خاصة وأني طالما أديت مثل هذه الشخصية على
المسرح. أما شخصية الأستاذ الجامعي، التي عرضها عليّ “فرانسس”،
فيمكن أن أجرّب حظي فيها.
لم تكن "پارامونت" راغبة بأن ألعب دور "مايكل كورليون" طبعاَ،
فقد كانوا يريدون "جاك نيكلسون" "روبرت ردفورد" أو “رايان
أونيل"، ولكن في الكتاب كان وصف "بوزو" ل “مايكل" بأنه "مخنّث
آل كورليون" وكان يًفترض به أن يكون قصيرا، وسيماَ وأنيقاَ إلى
حد ما، ولا يشكل تهديداً لأحد، وهذه المواصفات لا تنطبق على أي
ممن رشحهم الستوديو، ولكن هذا لا يعني بأنه يجب أن يكون أنا..
لذلك صار لزاماَ عليّ بأن أجري تجربة أداء، وهو ما لم أفعله في
حياتي من قبل. وهذا يعني بأن عليّ أن أطير إلى "لوس أنجلس"
لعمل ذلك، وهو ما لم أكن متحمساَ للقيام به حتى وإن كان ذلك من
أجل دور في فيلم "العرّاب"!
ولكن "مارتي بيرغمان" قال لي: "ستركب تلك الطائرة اللعينة".
اشترى لي قنينة ويسكي لكي تهدئ خوفي من الطيران، ووصلت هناك!
رفضت "پارامونت" كل الممثلين الذين رشحهم "كوپولا" للفيلم، فقد
رفضوا "جيمي كان" "روبرت دوڤال" وهما من الممثلين الراسخين،
ولكي يكملونها فقد رفضوا "براندو" ايضاَ!
وكلما مشيت على أرضية الستوديو اشعر بأنهم غير راضين عن ترشيحي
أيضاَ، كما كنت أعرف باني لست الممثل الوحيد الذي وضع في عين
الاعتبار للدور، فهناك الكثير من ممثلي تلك الأيام كانوا قد
وضعوا أعينهم على دور "مايكل"، ولكن ذلك الرعب الذي وضعني على
حافة فقدان الدور كان يدفعني للأمام، وما ساعدني أيضاَ هو أن
المخرج "جيري شاتزنبرغ" أقتطع ثمان دقائق من تمثيلي في فيلم
The Panic in The Needle Park
وقدمها للستوديو، وهو ما هدأ النفوس قليلاَ، وأقنعهم بأن
يمنحوني بعض الفرصة على الأقل!
حقق كتاب "العرّاب" نجاحاَ كبيراَ، وكان الجميع يحكي عنه، وكان
من المبهج أن يتحول الى فيلم. وقبل أن يجرى لي اختبار التمثيل
فيه، أخذني "كوپولا" إلى حلاق في سان فرانسيسكو، فقد كان يريد
لمايكل أن تكون له تسريحة شعر تتطابق مع موضة الاربعينات. وما
ان سمع الحلّاق بأن التسريحة لفيلم "العرّاب" حتى تراجع الى
الوراء قليلاَ وبدأ يرتجف، وقد تبيّن لنا فيما بعد بأنه أصيب
بنوبة قلبية.
كانت الاشاعات تتردد كثيراَ عن الخلافات الدائرة في "پارامونت
ستوديو" حول الفيلم ما بين المنتجين المنفذين، الى حد إنك تشعر
بالتوتر في الهواء في كل زاوية من زوايا الستوديو. حاولت تجنب
هذه الأجواء المتوترة، وقلت في نفسي ألا تكف عن التركيز على
الشخصية، ما الذي يجري في المشهد؟ إلى أين انت ذاهب ومن أين
جئت؟ ولماذا أنا هنا؟ قضيت أياماَ أنتظر تجربة الأداء وأنا
أرتدي ملابس مايكل العسكرية، كما في المشاهد الأولى من الفيلم،
وقد ارتسمت على وجهي ملامح كلب مخنوق بشكل دائم! ولكن عليّ ان
أقول بأن المشهد الذي قدمته في تجربة الأداء لم يكن المشهد
الأفضل الذي يمكن اختباري به. فقد كان مشهد حفل الزفاف
الافتتاحي الذي نرى فيه مايكل يجلس مع صديقته "كاي" وهو يشرح
لها من هم عائلته، وماذا يشتغلون، وبعض أعمال والده. كان مشهد
استعراضي عادي جلسنا فيه- "دايان كيتون" وأنا- حول مائدة صغيرة
نشرب كؤوس ماء- نتظاهر بأنها ملأي بالنبيذ- وأنا أحكي لها عن
تقاليد الأعراس عند "الصقليين". كان من المستحيل عليّ أن أبيّن
ما سيطرأ على شخصية مايكل من تحولات. كانت خطتي لشخصية مايكل
كمن يزرع حديقة إذ عليه أن يعطي وقتاَ كافياً لزهورها أن
تتفتح. كيف لي أن أبيّن فكرتي عن مايكل في مشهد كهذا؟ لذلك لم
أتمكن من تحويل الشخصية إلى فاعلة وحيوية لأن لا أحد يمكنه أن
يفعل ذلك!
ولكن هنالك سرّ في الموضوع، والسرّ هو أن “فرانسس” يريدني
لأداء هذا الدور، وأنا أعرف ذلك، ولا شيء يمكن أن يعادل،
بالنسبة لممثل، من ان المخرج يريدك أنت ولا أحد غيرك. ثم أنه
أعطاني هدية على هيئة "دايان كيتون"، فقد كان لديه عدة ممثلات
قمنَ بتجربة الأداء لدور "كاي"، إلا انه اختارها لأنه شعر
بأننا يمكن ان نتواصل مع بعض. ثم أن "دايان كيتون" كان لها
رصيداَ مسرحياَ ناجحاَ في بردواي، كما انها أدت دوراَ مهماَ مع
"وودي آلن" في فيلم "ضد سام". وقبل أيام من تجربة الأداء تلك،
التقيت ب “دايان" في بار كنت كثيراَ ما أرتاده، وسرعان ما
انطلقنا بالحديث مع بعض، فقد كان من السهل التحدث معها. كانت
لطيفة جداَ ولديها روح نكتة، وقالت لي بأني أيضاَ أمتلك روح
نكتة.
هكذا ضمنت بأن لي صديق، لي حليف، في هذا الفيلم، منذ البداية.
عندما تأكد لي بأني حصلت على الدور، كلمت جدتي عبر الهاتف:
"جدتي: سأمثل في فيلم العرّاب. سأقوم بدور مايكل كورليون!".
"جيد" قالت. وانتهت المكالمة. إلا انها أعادت الاتصال بي بعد
لحظات: “أسمع، سوني، جدك ولد في كورليون؟"
لم أكن أعرف ذلك. كل ما كنت أعرفه بأنه جاء من "صقلية" وقد جاء
الى أميركا دون أن يطارده أحد! هذا كل ما كنت أعرفه، أما الآن
وقد عرفت بأنه قد جاء من "كورليون"، من نفس المدينة التي أخذت
الشخصية التي ألعبها وعائلته اسمها! يا إلهي لا بد من ان شيء
فيّ يحمل شيئاَ من هناك وهذا الشيء قد ساهم باختياري لهذا
الدور المهم!
ما زال أمامي طريق طويل لأعرف من هو مايكل بالنسبة لي. قبل أن
يبدأ التصوير صرت أمشي في "مانهاتن" من شارع ٩٢ الى "القرية"
وأنا احاول أعرف كيف سألعب شخصية مايكل. كثيراَ ما كنت اخوض
ذلك الطريق لوحدي وأحيانا أمرّ على صديقي "تشارلي" في وسط
البلد، ونقطع الطريق معاَ الى أعالي المدينة.
يبدأ مايكل من كونه الشاب الذي سبق وأن رأيناه يتصاعد شيئاَ
فشيئاَ بحيث يكون هناك ولا يكون في نفس الوقت. كل ذلك ينبني
حتى يجب عليه أن يقتل "سولاتسو" و"ميكلوسكي": تاجر الكوكايين
والشرطي الفاسد، واللذان حاولا قتل والد مايكل، وهو ما ولّد
الانفجار في أعماقه. هذا هو التحوّل الجنوني في شخصية مايكل
والتي أخذت وقتها في الرواية بما يكفي لكي تنضج على نار هادئة
وكل ما عليك هو ان تنتظر وترى هذا التحول التدريجي والكبير في
الشخصية، ولكن هل سأتمكن من فعل ذلك في الفيلم؟
قبل أن نبدأ تصوير الفيلم، التقيت ب “آل ليتييري" شخص عظيم
وممثل كبير وهو الذي سيؤدي دور "سولاتسو"، قال لي: "عليك ان
تلتقي هذا الشخص، سيفيدك جداَ في معرفة ما ستفعله". توقعت
خيراَ مما يمكن أن يقدمه لي فوافقت فوراَ. وفي يوم لاحق أخذني
"آل" لضاحية في خارج المدينة. توقفنا عند بيت تقليدي كبير مما
يمكن أن تمرّ به في أي مدينة دون أن تميّزه عن أي بيت آخر دون
أن تفكر فيمن يعيش فيه. دخلنا الى البيت وعرّفني على صاحبه.
تنظر إليه فيبدو وكأنه رجل أعمال عادي ممن يعملون في "وول
ستريت" كمستثمر في بنك او ما شابه ذلك. صافحته يداَ بيد وقلت
"هلو". رحّب بنا بتواضع كبير وعرّفنا على أسرته المحبوبة.
قدمت لنا زوجته مأكولات خفيفة و"كورواسون". كان لديه ولدين
بعمري. كان من الجنون ان آتي هنا فقط بدافع الفضول للتعرف على
هذه العائلة. كل شيء ظلّ ذا طابع رسمي. ولم أسأل "آل" أبداَ
لماذا جاء بي الى هنا، ولكني تذكرت ما قاله لي عندما التقيته
أول مرة، وبأن هذه الزيارة ستفيدني جداَ في معرفة ما سأفعله!
أي ان "آل" يعرف بعض الأشخاص الحقيقيين ممن يزاولون "هذا
العمل"، وها هو يعرّفني على أحدهم، وكانت هذه فرصة عظيمة لي
للتعرف على هؤلاء الناس في الواقع، وليس كما يظهرون في
الأفلام. لم يدخل الرجل في تفاصيل عمله طبعاَ، ولا حاجة لي او
لنا بذلك، وفي الحقيقة انتهينا لأن نلعب ونشرب معاَ. بعدها
بفترة شاهدت صوراَ لي أجلس وسطهم ضاحكاَ، وقد ارتديت "تي شيرت"
رياضي وأنا ارفع كأسي في نخبهم، بينما يريني "آل" مسدساَ يحمله
بيده.
لم يكن هذا العالم غريباَ عليّ، فقد كنت طفلاَ من جنوب
"برونكس"، وأنا إيطالي، انا "صقلي" ايضاَ ولا تعبر عليّ ان كان
لك علاقة ب "الجريمة المنظمة". أي اسم ينتهي بصوت علّة
“a, e, I, o, u”
يمكن أن يكون له علاقة بذلك العالم، وبمكان ما يرتبط اسمك ب
"جون دي ماجيو" سيربط ب "آل كاپون"!
معظمنا لم يجرب أبداَ العيش في عالم الجريمة او يشارك بأي
منها، مع ذلك فنحن منبهرون بناس من هذا النوع الذي تقصد بأن لا
يخضع للعيش وفقاَ للقواعد الاجتماعية التقليدية، فوجدوا
لأنفسهم طرقاَ أخرى للعيش، هذا النوع من الخارجين عن القانون
يمثلون جزءاً مما يميّز الشخصية الأميركية؛ فقد كبرنا ونحن
نقلّد "جيسي جيمس" أو "الطفل بيلي
Billy the Kid"؛
كان هؤلاء أناساَ حقيقيين حتى أصبحوا جزءا من الفولكلور، وكذلك
كل تاريخ المافيا في الولايات المتحدة.
تصوير مشاهدي في فيلم "العرّاب" بدأت مع تصوير سلسلة المشاهد
الافتتاحية في حفلة الزفاف، والتي استغرقت حوالي أسبوعاً في
"جزيرة ستاتن". هكذا، يوماَ بعد آخر، وجدت نفسي غارقاَ في
ديكورات مشهد ضخم من مشاهد أفلام هوليوود ومعداتها: العشرات من
الرافعات الشوكية، رافعات الكاميرات على الرؤوس، وميكروفونات
في كل مكان، وفوق ذلك المئات من الفنيين والمئات الكومبارس
والكل تحت إمرة شخص واحد: “فرانسس فورد كوپولا". هذه الفخامة
كانت جديدة عليّ، ولكني بدأت بالاعتياد عليها، فما همني شيء،
فقد بدأت بالتآلف معها حتى صار كل شيء سهلاَ؛ مشهد كبير وأناس
كثيرين، وأينما تريد ان تذهب اسأل؛ ان تجلس على طاولة او تذهب
إلى غرف المكياج الكبيرة، تجلس في زاوية وتتطلع للناس من حولك
وانت تلوّح برأسك أحياناَ: "هلو!" فيجيبون تحيتك بلطف، المهم
أن لا أحد كان يعرف من أنا حتى ذلك الوقت، لذلك كنت استمتع
بالتجول هنا وهناك.
كنت على ما يرام حتى بدأت بالعمل؛ لطالما شعرت بأني أتعامل
بشكل تلقائي مع الكاميرا، لطالما كنت كذلك، وقد أكد لي ذلك
الكثيرين: "انت متآلف جداَ مع الكاميرا". ولم أكن اعرف معنى
ذلك بالضبط في البداية، ربما ذلك مرتبط بنشأتي الطويلة مع
الأفلام. معظم الممثلين الجدد، عندما يقفون لأول مرّة علي خشبة
المسرح بسمعون النداء التالي: "علّي صوتك.. لا يمكنني ان
أسمعك.. أعلى!" بينما ان تكون مع الكاميرا فالأمر أكثر حميمية،
رغم أني كثيراَ ما كنت لا أعرف أين هي الكاميرا، فلم تكن لدي
الخبرة الكافية، ولكن المصورون كثيراً ما كانوا يساعدوني في
ملئ هذا النقص، وفي "العرّاب" كنت بين يدي المصور المبدع
"غوردن ويليس".
"دايان كيتون" وأنا قضينا أيامنا الأولى تلك ضاحكين فيما بيننا
أثناء تصوير ذلك المشهد الافتتاحي، ونحن نستعيد تجارب اختبار
الأداء التي ذبحونا بها والتي أخذت من هذا المشهد، لا أدري
لماذا، ولكننا كنا مجرّد شابيّن غبيين، وأخذناها بالقياس على
ذلك المشهد فقط، اعتقدنا بأننا نمثل في واحد من أسوأ الأفلام
في تاريخ السينما! وما أن كنا ننتهي من التصوير حتى ننطلق
عائدين الى "مانهاتن" لنسكر حدّ الثمالة وكأن عملنا قد انتهى
وانتهينا منه تماماَ!
وبالعودة الى هوليوود، بدأت "پارامونت" بمراجعة بعض مشاهد
الفيلم التي صورها “فرانسس”، وعادوا للتشكيك في قدرتي على أداء
هذا الدور، وانتشرت الاشاعات في موقع التصوير بأنهم سيتخلون
عني. لازمني ذلك الشعور في موقع التصوير، ولازمني ذلك الإحساس
بعدم الارتياح أينما ذهبت، ورأيته في عيون طاقم العمل وكنت
واعياَ جداَ بذلك. وكان مضمون الاشاعة بأنه سيجري طردي من
العمل أنا والمخرج معاَ، ولكن ما دام “فرانسس” ما زال صالباَ
طوله، فأنا كنت كذلك، فقد كان هو المسؤول الأول عن وجودي هنا.
شعرت بأني خارج المكان، وفي نفس الوقت شعرت بأن لا مكان لي في
هذا العالم غير أن أكون هناك!
شعوران متضاربان تماماَ ومن الغريب ان يحلّا معاَ في نفس شخص
ما في وقت واحد! لا أحد يرغب بأن يوضع في مأزق كهذا. ربما كان
من الأسهل عليّ أن أخرج من هذا الوضع المتعب ولا أعود ابداَ،
فماذا لو طردوني الآن: هل سأشعر بأني فقدت الكثير؟ ممكن، ولكن
سبق لي أن فقدت أشياء كثيرة وتعايشت مع ذلك، فلم أكن أعتقد بأن
من المهم بالنسبة لي أن أمتلك حياة مهنية واعدة، ولم يخطر ذلك
على بالي أبداَ.
قرّر “فرانسس” أخيراَ بأنه هنالك ما يجدر عمله، اتصل بي في
ليلة ما وطلب مني أن التقيه في "جنجر مان"، وهو مطعم راقٍ من
نوع "لينكولن سنتر" بفرقة موسيقية كاملة ومايسترو وخشبة مسرح
وراقصين بجنب البار. المهم انه كان مكاناَ عظيما، أتذكر بأنيني
أحببته. كان يتناول العشاء برفقة زوجته وأولاده شكلوا مجموعة
صغيرة. هكذا وجدته عندما دخلت؛ جالساَ على كرسيه خلف الطاولة.
قال لي:
"اسمع.. اريد ان أحكي معك لدقيقة."
لم يطلب مني الجلوس معهم. وقفت هكذا وأنا أتساءل في ذاتي: ما
الذي يفعله هذا الرجل، انه يقطع اللحم في طبقه وأنا أقف وكأني
لست جزءاَ من أي شيء، وكأني مجرد ممثل جاء ليستجدي شيئاَ منه.
واصلت الوقوف هناك لوحدي بينما جلس هو محاطاَ بعائلته وهو
يتجاهل حتى النظر اليّ. وفي النهاية، قال لي “فرانسس”:
"هل تعرف كم تعني لي؟ هل تعرف مدى إيماني بك؟"
يا إلهي! كنا حتى هذه اللحظة قد صورنا في "العرّاب" لمدة أسبوع
ونصف.
استطرد “فرانسس”: "انت لم تحقق شيئاَ لحد الآن."
شعرت بذلك يضرب في معدتي. كانت ضربة قاصمة. انه يعني بأن عملي
لم يرق له. ما الذي نفعله هنا إذن؟
قال لي: "لقد وضعت ما صورناه لحد الآن على شريط، فلمَ لا تلقي
نظرة عليه. شاهده فقط لأني لا أظن بأنه شغّال. انت غير صالح
لهذا العمل."
أووووووه يا رجل!
ذهبت الى قاعة العرض في اليوم التالي وأنا تحت التهديد بأن
أطرد من هذا الفيلم. شاهدت ما عُرض أمامي ولم أجد ما هو مميز
لي فيها. فقد كانت كلها من المشاهد الأولى التي بالحقيقة لم
أكن اريد لأحد أن يراني او يشعر بوجودي فيها، وذلك هو التأثير
الذي أردت تحقيقه بالضبط، فلا أريد لأحد أن يراني، ذلك ما
تتطلبه الشخصية. فقد كانت كل خطتي لمايكل هي أن أبيّن أن هذا
الولد غير عارف بأي شيء، وانه بلا شخصية قيادية بارزة، فكرتي
عنه بأنه قادم من فراغ، تلك هي القوة التي تتمتع بها هذه
شخصية.. بهذه المواصفات، وهذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة للعب
هذه الشخصية، وطريقة صعودها، واكتشاف قدراتها، وقابلياتها.
وعليك ان تلاحظ بأنه لم يكن ذلك ال “مايكل" حتى بعد ان يذهب
الى المستشفى لينقذ والده، إذ انه لا يصبح مايكل إلا عندما
ينظر الى "إنزو الفرّان" الذي كان عليه أن يقف عند باب
المستشفى ليتظاهر بأنه مسلّح، فيرى بأن يديّ "إنزو" ترتجفان،
بينما لا تهتز لمايكل شعرة.
حتى نهاية الفيلم، أعتقد بأني كونت من شخصية مايكل "لغزاً أو
Enigma"،
وأعتقد بأن ذلك ما أراده “فرانسس” منذ البداية، ولكن لا أحد
منا كان يعرف كيف يفسّر ذلك للآخر!
كان هنالك من يظن بأننا -"فرانسس” وأنا- قمنا بتغيير جدول
التصوير ليتم تقديم مشهد المطعم في وقت مبكر لكي نعطي للمشككين
في هوليوود جرعة ثقة بعملنا، فهل فعل ذلك عن قصد أم لا فان
“فرانسس” أنكر بأنه قام بذلك من أجلي، ولكنه يبقى في الواقع
قدّم التصوير في هذا المشهد الذي كان فيه على مايكل ان يثبت
نفسه ويقضي على "سولاتسو" و"مكلوسكي"، والذي كان يفترض بأن
يصور بعدها بأيام، ولو ان ذلك لم يحدث، وأنه لم يكشف عن قدراتي
التمثيلية التي ظهرت بعضها في ذلك المشهد، لما كان لي ما أفعله
في هذا الفيلم!
لقد صورت ذلك المشهد في تلك الليلة من نيسان، قضيت خمسة عشرة
ساعة في ذلك المطعم الصغير مع "آل ليتييري" و"ستارلنغ هايدن"
الرائع الذي مثل دور "مكلوسكي"؛ الاثنان كانا كريمين جداَ معي،
فقد كانا على دراية تامة بما أمرّ به، وان عبء العالم كله على
ظهري، وانه في اية لحظة يمكن ان يهوي الفأس على رقبتي! كنا في
تلك الغرفة المظلمة الميتة معاَ، وقد امتلأت بالدخان، لا مهرب
لنا، ولا أحد من الإنتاج يأتي ليسألنا: "هل تحتاج الى كأس
ماء؟" لا شيء من ذلك ابداً.
جلست معهما وأنا أقول: "كيف لا يخطر في بالكم بأني قد أقوم
بقتلكما فعلاً؟"
كان كل منهما مثالاً للممثل الذي يدرك ما يفعله جيداً، وقد
عاملاني وكأني على قدم المساواة معهما.
كان عليّ، كما هو مكتوب بالسيناريو، أن أستأذن منهما وأذهب الى
الحمّام لأخرج المسدس الذي تم إخفاؤه لي هناك، وأعود لأفجر
دماغيهما. بعدها كان عليّ ان أفرّ خارج المطعم لأركب سيارة
بينما هي تتحرك. لم يكن عندي ممثل بديل، او أي أحد يمكن ان
يساعدني، كان عليّ أن أقوم بكل شيء بنفسي. خرجت من المطعم،
قفزت، ولكن دون أن أتمكن من اللحاق بالسيارة، سقطت على أرض
الشارع، وها انا ذا ممدد على ظهري، ناظراً الى السماء، وقد
التوت ركبتي بشكل سيء جداً. هب طاقم التصوير نحوي وحاولوا رفعي
عن الأرض وهم يسألون أن كنت بخير؟ ان كنت أستطيع ان أمشي؟ لم
أكن أدري حينها، فكل ما كنت أفكر به هو ان هذه هي المعجزة التي
انتظرها.. يا إلهي ها انت تنقذني أخيراً، فليس عليّ أن أمثل في
هذا الفيلم بعد اليوم!
صدمني ذلك الشعور بالخلاص الذي داخلني في تلك اللحظة؛ فأن أذهب
للعمل يوميا، مع الإحساس بأني غير مرغوب بي، وأني لا استحق هذا
الدور، كانت كلها تغمرني بالشعور بالاضطهاد، وان هذه الإصابة
قد تطلق سراحي من هذا السجن وانهم سوف يطردوني ويجلبون ممثلاً
آخر، وبهذا يحافظون على الأموال التي صرفوها على هذا المشروع.
ولكن ذلك ما لم يحدث!
فقد جلبوا بديلاً وصوروه وهو يقفز على السيارة ويركب بها!
في المستشفى حقنوا ركبتي بأبر الكورتيزون لكي أتمكن من الوقوف
على قدميّ مرة أخرى بأسرع ما يمكن. عندها عرض “فرانسس” مشهد
المطعم على الستوديو وقد بان شيئاً ما هناك، وبفضل أدائي في
ذلك المشهد أبقوني في الفيلم ولم أطرد من فيلم "العرّاب"!
بعدها بذلت ما بوسعي وبما يتماشى مع ما كنت أفكر به عن كيفية
أداء الدور في الأيام التي قضيتها ماشياً على الاقدام، اثناء
فترة التحضير، وفقاً للرؤية والخطة والاتجاه الذي رسمته وآمنت
بانه الطريق المناسب للعب هذه الشخصية.
وكنت متأكداً بأن “فرانسس” شاركني ذلك الإحساس ذاته.
أخذ مني التحول في شخصية مايكل جهداً كبيراً؛ فقد كان عليّ ان
أثبت وجودي وأن أظهر مراحل بروز الشخصية في مرحلة صعودها، وهو
ما لم يتحقق بطريقة تلقائية، فقد كان عليّ أن أذهب للعمل
يوميّاً لكي أقدّم شخصية مايكل، بالتأكيد، فذلك هو العمل
المناط بي؛ لذلك كنت أصل الى موقع التصوير وأنا احمل وجهين أو
ثلاثة وجوه مختلفة، في جانب وجهي الأيمن والأيسر، وأترك مجالاً
للثالث وسطهما! كنت أسهر للصباح في بعض الليالي، وفي أخرى كنت
اشرب كثيراً، وأملأ جوفي في كل شيء حتى يتورم وجهي، وكان على
"دك سميث"، الماكير الرائع، ان يعيد وجهي الى طبيعته، ثم ما أن
انهض من كرسي الماكير حتى أجد نفسي وقد تحوّلت الى مايكل.
سبق لي وان تعرفت، برفقة كادر التمثيل، على "مارلون براندو"
بشكل عابر. وبينما كنا نتحضر للمشهد الذي أعثر فيه على "ڤيتو
كورليوني" ممدداً على فراشه في المستشفى، قال لي “فرانسس”:
"لمَ لا تتناول الغداء مع براندو؟"
فكرت بأني لابد وان أصارح “فرانسس” بأني لا أظن بأن ذلك
ضرورياً؛ ذلك الإحساس بعدم الارتياح عاودني مرة أخرى: تعني
بأني يمكن ان أتناول الغداء معه؟ ذلك أرعبني بشكل جدي، فقد كان
أعظم ممثل حيّ في أيامنا، نشأت أنا على مشاهدة ممثلين من
أمثاله، أناس مثله أكبر من الحياة: "كلارك غيبل"، "كاري غرانت"
كانوا مشاهيراً عندما كان للشهرة معنى. ولكن “فرانسس” قال:
"عليك بأن تفعل ذلك!"
وذلك ما فعلته.
تناولت غدائي مع "مارلون" في غرفة المستشفى الصغيرة، التي
صورنا فيها في شارع ١٤. كان يجلس على سرير المستشفى وجلست انا
على السرير المقابل. سألني بعض الأسئلة: من أين أنا؟ متى بدأت
أمثل؟ وكان يأكل "دجاج كاتشاتوري" بيديه اللتان تلطختا ب
"الصاص" الأحمر، وكذلك وجهه. وكان كل ما يمكنني التفكير به
طوال حديثنا، مهما كانت الكلمات التي ينطق بها، ومن كل عقلي
الواعي كنت مركزاً في وجهه ويديه اللتين تلطختا بالأحمر، وانا
أحسب: ما الذي سيفعله ببقايا الدجاج؟ أتمنى بأنه لن يطلب مني
ان أرميها له في سلة الزبالة! الا انه دون ان ينهض لفلف الدجاج
في كيس بطريقة ما، ونظر الي وكأنه يسألني: ما الذي تفكر فيه
الآن؟ بينما كنت صافناً أفكر فيما سيفعله بالصوص الأحمر على
يديه: هل اعطيه مناديل ورقية؟ وقبل أن أقدم على ذلك التفت
بكامل الجزء العلوي من جسمه على طرف السرير ومسح كلتا يديه به
ولطخ شراشف السرير دون تردد، وهو يواصل حديثه دون توقف، وهو ما
جعلني أفكر: هكذا يتصرف نجوم السينما اذن.. بإمكانهم عمل ما
يريدونه!
عندما انتهى غداءنا، نظر الي "مارلون" بعينيه اللطيفتين وقال:
"ايه يا ولد.. ستكون على ما يرام!" ولكي أكون مهذباً ولطيفاً
فقد شكرته والا ما الذي يمكن ان أقوله له:
هل يمكن ان تعرّف بما تعنيه ب "على ما يرام" يا مستر براندو!
لقي مايكل دعم الجميع، بمن فيهم مارلون، لم يكن أحد يعرف من
أنا تقريباً، وما عزّز ثقتي بنفسي ان هؤلاء أناس المحيطين بي
ذوو حساسية مختلفة، وسيقتربون منك كلما كان احساسك قريب منهم،
يعيشون وفق ما يحسون به، حياتهم كلها مشاعر، وكل مشاعرهم،
بمجموعها، تساندك لكي تلعب الشخصية بالشكل الذي تراه. خاصة
الممثلين الموهوبين بشكل خارق، اكتشفت بان لديهم عين داخلية
عالية، شعرت بذلك خاصة مع "جون غازيل" الذي جمعني به تاريخ
طويل، وكان من أصدقائي المقربين، و"جيمي كان" اللذان كانا أخوي
الكبيرين في السيناريو، وكيف احتلوا ادوارهم بتلقائية كبيرة
وراحا يتعاملان معي ويتفاعلان معي كما في الحياة اليومية. كانت
لديهم تلك الغريزة التلقائية التي يساعداني من خلالها لكيلا لا
يدعاني أفشل. كما كان هناك "بوب دوڤال" و"ريتشارد كاستيليانو"
وكل الباقين؛ كانوا هناك من أجلى، أحسست بكل ذلك من صميم
اعماقي، مما ساعدني في كل الحالات.
أعتقد بأن ما وجده مشاهدو "العرّاب"، وما زاد من تأثيره
المشاهدين، هو تعاطفهم مع "آل كورليون" كعائلة، رأوا أنفسهم
جزءاً من تلك العائلة، وارتبطوا معهم وكأنهم اخوة واخوات لهم،
آباء وامهات وأطفال. يا له من فيلم تجد فيه دراما "ماريّو
بوزو" وحكايته المبهجة، وسحر ترجمة "كوپولا"، وعنف حقيقي،
وداخل سياق تلك الحكاية المبهرة ما جعلها تمتد لما هو ابعد من
حدود عائلة "كورليوني" والمدينة التي يعيشون فيها، ذلك الإحساس
بالألفة هو ما حمل الفيلم الى كل بقاع العالم.
أغدق "مارلون" كرمه الكبير عليّ، ولم يبخل به على أحد وانما
نثر عطاءه على المشاهدين وعلى الفيلم كله، وهو ما جعل أداؤه
هائلاً وغير قابل للنسيان، حتى جعلنا كلنا نحلم فيما لو كان
لنا أحد نلجأ اليه مثل "دون ڤيتو"، فهنالك الكثيرون ممن تظلمهم
الحياة، فلو كان لهم عرّاب، أو احد يمكن الذهاب اليه، و"يعتني
بالموضوع" مثله، لذلك استجاب الجمهور لهذه الشخصية، فهو ليس
حلّال للمشاكل فقط، وانما لما يمتلكه هذا الشخص في الداخل،
لذلك كان عليه ان يلعب الدور باعتباره اكبر من الحياة: بحجمه
الحقيقي، بصبغ الأحذية الذي يلمّع شعره، بالقطن الذي دسّه لكي
يُهدّل حنكه، فالعرّاب لا بد وان يصبح أيقونة، وبراندو جعل منه
ايقونة بحجم "المواطن كين"، سوپرمان، يوليوس قيصر أو جورج
واشنطن!
كان على كاهل “فرانسس” الكثير من الأعباء، وهو ما اكتشفت
فداحته عندما كنا نصور مشهد تشييع "دون ڤيتو"، فقد كان مشهداً
كبيراً جرى تصويره في "لونغ آيلاند"، حيث حضر أكبر عدد من
الممثلين واستغرق تصويره حوالي يومين. كانت الشمس تجنح الى
الغروب عندما سمعت نداء (راپ.. راپ: أي الايذان بنهاية
التصوير)، أبلغوني بأن عملي انتهى لهذا اليوم، وهو ما يجعلني
فرحاً دائماً فهذا يعني بأني سأذهب الى البيت وسأستمتع بحياتي
(وهو ما يصعب ترجمته في الواقع!) وكنت في طريقي الى كابينتي
وانا أفكر بأني لم اخربط الكثير اليوم على الأقل؛ فلم يكن لدي
حوار القيه، ولا التزامات فقد كان يوماً سعيداً بالنسبة لي.
وبينما كنت عائداً سمعت شيئاً، وكأنه صوت بكاء، وهو متوقع ما
دمنا ما زلنا في المقبرة، خطوت لأري من اين يأتي مصدر الصوت،
فاذا بي أجد “فرانسس فورد كوپولا" جالساً على أحد القبور بجسده
المنتفخ وهو يرتجف من البكاء كطفل رضيع. لم يكن لأحد ان يراه
في ذلك الجانب، ولم يكن أحد معه. قلت له:
"ماذا جرى فرانسس؟ هل حدث مكروه؟"
مسح عينيه بكم قميصه، صفن للحظة ثم نظر اليّ وقال:
"لا يريدون ان يعطوني فرصة أخرى!"
"ماذا؟"
كان يريد ان يعيد التصوير اليوم ويصور أكثر، ولم يسمحوا له..
حتى هو عليه ان يستجيب لأوامر من شخص ما! وقد كان يرغب بأن
يفعل ذلك من كل جوارحه، والليلة وليس في يوم آخر! بينما في
الواقع إنك لا يمكن ان تحزر ان كان هذا الفيلم سيكون عظيماً أم
لا، اما إذا كان السيناريو جيد، وفي الحقيقة ان "ماريّو" و”
فرانسس” قد كتبا سيناريو جيد جداً، وهذا ما يمكن ان يمنح
الفيلم فرصة. وإذا ما جاء ممثل وأدى دوره مثلما فعل "مارلون"،
ولكن يبقى مصير الفيلم الحقيقي فيما سيحدث لاحقاً في غرفة
المونتاج، عندما يربط المونتير عناصر الفيلم كلها، وإذا اكتشف
المخرج الخيط الذي يربط الحكاية كلها.
في تلك المقبرة، وفي تلك اللحظة فكرت: إذا ما كان هذا الشغف
الكبير الذي لدى “فرانسس” في هذا الفيلم فان شيئاً ما هناك،
وشيئاً ما سيؤتي ثماره، عندها عرفت بأني بين يدين حانيتين.
أخذني الفيلم الى "صقلية" لأول مرة في حياتي، لم أكن مستعداً
لذلك، لم أكن مرتاحاً لذلك القرار، ولكن ما ان وصلت الى هناك
حتى شعرت بدفق عال، بطاقة كونية، بكل شيء وهو يمنحني شعوراً
خارقاً، كل شيء بما في ذلك الأشياء التي أجربها لأول مرة في
حياتي. جذوة الحياة التي زرعت فيّ انطلقت من هنا، مهما كانت،
او مهما ما صارت عليه، فإنها بشكل ما صارت بسبب هذا المكان.
"صقلية" فتحت عينيّ، صعّدت من وعيي وكأني عدت نطفة أولى.
إنك كممثل، تبحث دائماً عن هويتك وعن أشياء يمكن ان تقودك الى
جذورك، لذلك عندما عدت من رحلتي تلك وجدت نفسي انصح الجميع بأن
يذهبوا لكي يروا من أين جاءت عوائلهم، لكي يخطوا عائدين الى
جذورهم بأقصى حد يستطيعون الوصول اليه كنوع من التوصل الى جوهر
الواقع الذي جاء بهم الى العالم، والذي جعلهم يواصلون الوجود
فيه.
لم أكن أعرف أحداً في "صقلية"، وكذلك الناس هناك لا يعرفونني،
لم يكن يعرفوا أي دور أؤديه في "العرّاب"، انهم حتى لا يعرفون
بأني من "صقلية"، فقد كنت ممثلاً غير معروف طبعاً، وان تكون
غير معروف فتلك متعة. لم أتحدث لأحد، ولا اعرف ما الذي يمكن
الحديث عنه، ولكن أينما ذهبت، وجدت ان الناس لديهم فضول
لمعرفتي، وكانوا كرماء جداً رغم انهم لا يمتلكون الكثير، الا
انهم يدعوننا بكرم، ويعزمون كادر الفيلم ليندمجوا معهم في
بيوتهم. كنت اجلس هناك صامتاً، أتناول الطعام الذي يقدمونه،
وعندما حلّ الوقت لتصوير مشهد الزفاف، عندما يتزوج مايكل
"أپولينا" في مراسيم زفاف جميلة، وقفت هناك ببدلتي القطنية الى
جانب "سيمونيتا ستيفانيلي" التي مثلت دور عروستي، ومعظم
الايطاليين لا يتحدثون الإنجليزية. لم يبد المشهد بتلك
الصعوبة، لولا ان كان “فرانسس” كان هناك، يرفع قرن الثور الى
فمه ويصرخ ليوجهني قائلاً:
"آل.. اريد منك ان تقوم بثلاثة أشياء: أولا: ان تذهب الى الناس
في المشهد هناك وتحكي معهم. انها مناسبة احتفالية. ثانياً؛ أن
تذهب الى عروسك وترقص "الفالس" معها. بعد ذلك تأخذها الى
السيارة وتسوقها بعيداً"
وها انا ذا، خريج ستوديو الممثل، أردّ عليه هاتفاً:
"عليك ان تتفهم فرانسس بأني لا اعرف حقيقة التحدث بالإيطالية"
ردّ هو: "اوكي.. فقط ألّف أي شيء"
وافقت، فقد كانت الكاميرا تصور من بعيد لتصور لقطة متوسطة وليس
لقطة قريبة، ولا أحد سيخمن ما سأقوله بالضبط.
بعدها صرخ: "اذهب الآن الى هناك وأرقص الفالس."
التفت اليه وقلت: "اوكي.. ولكن فرانسس.. انا لا اعرف كيف ارقص
الفالس."
يا إلهي!
هز رأسه وهتف: "أوكي.. ارقص معها.. أرقص فقط.. وعندما تنتهي من
الرقص اتجه نحو السيارة وقودها بعيداً."
أتمنى لو إنك رأيت وجهه عندما التفت اليه هذه المرة وقلت:
"آسف فرانسس، فأنا لم أخبرك بأني لا أعرف أسوق."
يا رجل، كيف لطفل تربى في جنوب "برونكس" ان يتعلم السياقة؟ فقد
قضيت حياتي كلها وأنا استخدم القطارات! لم أكن بحاجة الى
سيارة، ولم استخرج إجازة سياقتي الأولى الا في سن الرابعة
والثلاثون!
عند تلك النقطة، انفجر “فرانسس” وبدأ يدمدم:
"ما الذي جعلني اختارك لهذا الدور.. لماذا؟ لماذا؟ فقط قل لي
ما الذي يمكنك فعله!"
"ما أدري، ولكني أعرف كيف أتلقف كرة السلة وأركض بها!"
ضحك الجميع؛ فقد شهدوا مأزق المخرج الذي يدير كل ما يتعلق
بالفيلم، كما شهدوا مأزق الممثل الذي لم يمكنه عمل أي شيء مما
طلبه المخرج منه! ولكني رقصت مع عروسي، وتحدثت مع الجمع
الإيطالي ثم ذهبت أسفل التل حيث وقفت السيارة، وسقتها لثلاثة
او أربعة اقدام وذلك ما كان!
لهذا كلنا نحب الأفلام؛ كل شيء ممكن فيها!
كان الجو حارّاً جداً في تموز، وكنا نصور مشهداً كبيراً يحتاج
الى الكثير من الكومبارس، وكان معظمنا يرتدي بدلات قطنية.
وعندما أعلن عن فترة الغداء، تجمع الكل ووقفوا في صف طويل،
وكان أحد مساعدي المخرج الايطاليين حاداً في تعامله مع مواطنيه
حتى بدا وكأنه يحكي مع مجموعة من الحمير، دون ان يأخذ بنظر
الاعتبار معاناتهم منذ الصباح الباكر؛ وهو ما اثار انزعاجي حتى
خرج رجل ستيني اشيب من منتصف الصف، فالتفت الجميع ناحيته. رفع
الرجل يده اليسرى وأشار الى ساعته التي عبرت الثانية ظهراً؛
دمدم الرجل بالإيطالية بأن موعد غداءه قد عبر، فردّ عليه مساعد
المخرج بأن عليه ان يخرس ويعود الى دوره. ولكن هذا الرجل
النحيف، بشعره الأشيب الخفيف ووسامته الواضحة، أدار لنا ظهره
باحتجاج ومضى مبتعداً. وهذا يعني بأنه تخلى عن أجره وعن عمله
من أجل أن يتغدى بحريته. يا إلهي كم أحببته. تمنيت لو كنت
مكانه. أي عزيمة، فهؤلاء الناس البسطاء لا يجنون الكثير، ولا
بد من انه كان بحاجة لكل فلس مما كان يمكن ان يقبضه، ورغم ذلك
تخلى عن كل شيء ومضى دون رجعة لكي يذهب الى مكان ما ليشتري
قطعة جبن او فاكهة: ياه.. كنت أمتلك هذه الحرية يوماً ما، لا
أريد ان اتبادل المواقع الآن مع ذلك الرجل طبعاً، ولكني فقط
انجرفت مع فسحة الخيال التي فتحها أمامي. ظللت الاحقه بنظراتي
وانا أفكر: كنت حرّا في يوم ما، وجاء هذا الرجل ليذكرني بتلك
الحرية. لقد كان بطلاً، بطلاً حقيقياً بالنسبة لي.
قبل أن يتم عرض فيلم "العرّاب" الافتتاحي في نيويورك، كنت قد
شاهدته لمرّة واحدة فقط، وكان ذلك قبل أشهر عندما عرض “فرانسس”
أمامي نسخة غير نهائية، وعند نهاية ذلك العرض، أعطيت “فرانسس”
بعض الملاحظات المكتوبة حول أدائي وحول أدائي فقط، ولكنه ما أن
اطلع عليها حتى نظر اليّ شزراً. ماذا فعلت؟ لم يقل لي شيئاً،
ولكن ما الذي كان يظن بأني سأقول عن نسخة غير نهائية من فيلم؟
لم أجد من اللائق ان اعطيه ملاحظات عن الفيلم وهو مخرجه، خاصة
وانه كان، طوال السنة الماضية، كمن سقط من حافة جبل وظل
متشبثاً بجداره الصلب بأظافره، لذلك اكتفيت بمراقبة أدائي وما
يمكن ان العبه بشكل أفضل، ولم أعلّق على أي شيء آخر. كنت
حساساً جداً، فقد كان فضلاً منه ان يجعلني أشاهده، ولكني خذلته
لكثرة ما كنت قلقاً على أدائي ولم التفت الى الفيلم العظيم
الذي صنعه.
يحدث ان تفقد تركيزك.. وانت ممثل شاب، تتداخل أشياء كثيرة أخرى
في بالك، وتنسى صاحب الفضل والاتيكيت يتبدد لأن غرورك الغبي
يملأ شرايينك ويدمدم مع دقات قلبك. رأيت ذلك عند غيري، وعليّ
ان اعترف باني أتمنى بأني لم أعد كذلك.
ذهبت الى افتتاح "العرّاب" في سينما "لوي ستيت" في "تايم
سكوير".
ارتديت ربطة عنق "پابيون" كبيرة بحجم رأسي، واخذت معي صديقتي
"جل" مع جدتي وعمتي وابن عمي "مارك" الذي كان كأخ لي. كنا في
الصالة وكأننا في سفينة عملاقة تميد بنا، قناني الشمبانيا تفتح
فيتحلّق حولها جمع من النساء! كل ما اتذكره هو وقوفي أمام
الصحفيين وهم يسألوني بما لا املك إجابة له. ولم أشاهد الفيلم،
لا أحب مشاهدة عمل لي، فما أن أطفئت الأضواء حتى خرجت.
أترى؟ لدي أشياء كثيرة تعتمل في داخلي في علاقتي بالأفلام التي
أشارك فيها، فلا يمكنني ان أشاهد نفسي على الشاشة بينما آخرون
ينظرون إليّ. اخجل من ذلك كثيراً ولا أطيقه.
وبالنسبة لذلك الممثل الشاب الذي كنته آنذاك؛ كنت بحاجة للظهور
وأن أكون معروفاً، ولكني، في ذات الوقت، لم أكن راغباً بذلك.
إنها معضلة، أعرف ذلك، لذلك كنت أحاول ألا أضع نفسي في ذلك
الوضع. ومن حسن حظي بأني تغيرت، بنفس الطريقة التي لم أعد فيها
خائفاً من الطيران، بمجرّد عدم إعارة أدني اهتمام لذلك!
عندما تركت العرض الافتتاحي ل "العرّاب" وخرجت، لجأت الى بار
في شارع ٤٤، جلست في ركن مع "آل رودي" ومجموعة من العاملين في
الفيلم وقضيت طوال الليل أشرب وأشرب واشرب، حتى أني لم أعد
أتذكر أي شيء عن تلك الليلة سوى أنى التحقت بهم في حفلة ما بعد
الافتتاح في فندق "سان ريجس"، ولا أذكر شيئاً مما جرى بعد ذلك.
تعرف بأني قضيت معظم حياتي، وحتى وقت وقريب، دون أن اشاهد فيلم
"العرّاب" كاملاً؟ لا أدري لماذا؟ ربما لأني كنت فيه فاني لن
أكون مشاهد مناسب له! شاهدت طبعاً جزءاً من هنا وهناك مع مرور
الأعوام على شاشة التلفزيون، خاصّة وإنك ما ان تبدأ بمشاهدته
حتى لا يمكنك اطفاؤه. إلا انه لم يتسن لي مشاهدته كاملاً الا
في "مسرح دولبي" في هوليوود، في الذكرى الخمسين لصدوره، بشريط
مرمّم وأجهزة صوتية متطورة. التجربة كلها كانت مذهلة حقاً، ففي
كل مشهد في الفيلم هناك شيئين او ثلاثة يتزامنان في الحدوث؛ خذ
المشهد عندما يخرج "دون ڤيتو" من المستشفى بعد نجاته من محاولة
اغتياله، كان "مارلون" على سريره محاطاً بـ"روبرت دوفال"
و"جيمي كان" وبعض الرجال، عندها يسأل "مارلون" عمّا حدث
لمايكل؟ "مايكل" ابنه الأصغر وأمله المتبقي. يخبرونه بأن مايكل
قتل "سولاتسو" وهرب الى "صقلية". الزاوية التي صوّر منها هذا
المشهد عبقرية جداً لأنها أبرزت تلك النظرة، تلك الومضة في
عيني "مارلون" ووجهه، وهو يهزّ رأسه ويومئ بيده بأنه "سمع ما
يكفي".
"دك سميث" قام بعمل عظيم ومميز عندما وضع مكياج "مارلون
براندو" في ذلك المشهد؛ ففي وجهه وملامحه ترى حجم الهم الذي
ركبه، والوجع الذي هجم عليه. كان المشهد مخططاً اليه بشكل
رائع، غير غافل عن كل هذه التفاصيل التي تنفذ تحت الجلد، وقد
كان في تلك اللقطة كل شيء تريد ان تعرفه مجسّداً في لحظات
قليلة. الفيلم مليء بهذه اللحظات.
وبالعودة الى سنة ١٩٧٢، فبعد صدور الفيلم تغيرت حياتي بأسرع من
سرعة الضوء، فبعد صدوره بأسبوعين، كنت ماشياً في الشارع عندما
جاءت امرأة متوسطة العمر، انحنت على يدي وقبلتها، ثم جثت على
ركبتها وهي تناديني ب "العرّاب"! وفي يوم آخر، خرجت فيه
للماركت مع "تشارلي" لأشتري بعض القهوة، عندما توقفت أمامي
امرأة وهي تسأل غير مصدّقة:
"هل ذلك آل پاتشينو؟"
"نعم" قال تشارلي.
"حقيقة؟ هو آل پاتشينو؟"
فقال لها "تشارلي":
"لا بد من ان يكون أحد ما!"
لم يكن الفيلم قد أخذ مداه بعد، لذلك كنت أمارس حياتي اليومية
الطبيعية وكأن شيئاً لم يتغير.
وفي أحد الأيام، كنت واقفاً على الرصيف بانتظار الإشارة
المرورية ان تتغير فجاءت شابة ذات قوام ممشوق وشعر أحمر ووقفت
الى جانبي. نظرت اليها ونظرت اليّ فقلت لها:
"هاي."
فردّت قائلة: "هاي مايكل!"
يا إلهي. قلت في سرّي. لم تعد الحياة آمنة بالنسبة لي! مبدأ
عدم الكشف عن هويتي.. النور الذي يضيء حياتي.. أداة بقائي..
كلها راحت الى غير رجعة، وهي من الأشياء التي لا تشعر بقيمتها
حتى تفقدها! |