كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 

المخرج شاندور بفيلمية المميزين "النداء الهامشي" و"فقدان كل شيء" (2013):

البحار الثري اليائس في متاهته!... (الشيخ والبحر بنسخة عصرية)

مهند النابلسي * / خاص بـ"سينماتك"

 
 

قصة هذا القيلم المدهش بسيطة للغاية فهي تتحدث عن ثري مجهول يتعرض قاربه للتدمير بفعل اصطدامه مع باخرة شحن في المحيط الهندي او ربما بقايا حطام ياباني ناتج عن زلزال وتسونامي 2011، وحيث يبدأ القارب بالغرق ويتعطل الراديو وسيلة الارسال الوحيدة للاتصال بالعالم وطلب النجدة ، الفيلم من بطولة الممثل المخضرم روبرت رادفورد ومن اخراج شاندور نفس المخرج الذي قدم قبل ثلاث سنوات الفيلم المميز الوحيد الذي تعرض للأزمة المالية العالمية بوول ستريت واسمه " النداء الهامشي "، وهو هنا يتحدث عن كارثة بحرية ألمت بشخص واحد ويتحدث هناك عن تداعيات الكارثة المالية الكبرى وأثرها المدمر على الأشخاص والشركات...تكمن فرادة هذا الشريط بوجود ممثل واحد وبانعدام الحوار والكلام حتى ان مادة الفيلم لم تتعدى الواحد والثلاثين صفحة فقط ، كما أن التصوير تم بشاطىء "روساريتو" بخليج المكسيك ، وبنفس الاستديو الذي تم فيه تصوير التيتانيك ، وقد اعترف رادفورد بأن اذنه تعرضت للعطب اثناء التصوير ،وقال مؤلف الموسيقى التصويرية أنه واجه تحدي التعامل مع عناصر بحرية كالريح والماء والمطر والشمس ، وكان عليه أن يدمج هذه المكونات ويخلق منها صوتا فريدا للتفاعل مع الممثل الوحيد الذي حمل اعباء الفيلم ! نال هذا الفيلم الغريب تقدير النقاد بمستوى 8 من عشرة واثبت قدرة ممثل واحد على تملك الشاشة لوحده بلا اي دعم تمثيلي من آخرين ، كما اثبت باعتقادي المتواضع ان السينما هي فن التصوير والأداء الصامت والمؤثرات بانواعها وليست ابدا فن الحوار والثرثرة والانفعال كما نشاهد عادة بالأفلام الهندية والمصرية ! يعد بعض النقاد هذا الفيلم واحدا من عشرة افضل افلام للعام 2013 ، جنبا الى جنب مع أفلام سبق وان قدمتها لقراء القدس العربي الكرام مثل جاتسبي العظيم وجرافيتي  والكابتن فيليبس ...

بعد أن يكاد يفقد مخزونه من المعلبات القليلة، تلوث مياه البحر المتسربة بقايا مياه الشرب التي يملكها ، فيقوم باستخدام التبخير "العدسي" لأشعة الشمس للحصول على قطرات ماء صالحة للشرب ...ثم نراه وقد وصل لخطوط الابحار الدولية وتقاطع وجود قاربه  بالقرب من مرور سفينتي شحن ضخمتين ، ولكنهما لن تلحظا وجوده بالرغم من استخدامه للاشارات المضيئة ، وفي اليوم الثامن على محنته البحرية ، يقوم بكتابة رسالة ووضعها بقنينة وقذفها بالبحر ليلقاها أي شخص بالصدفة ! ثم لاحقا بتلك الليلة لاحظ وجود أضواء عن بعد، ربما من سفينة اخرى ولم يستطع لفت الانتباه بعد ان نقذ مخزونه المحدود من القذائف التحذيرية سوى باضرام النار بقاربه بواسطة حرق اوراق الصحف والكتب والخرائط، ثم خرج الحريق عن السيطرة وحرق قارب النجاة ، فقفز للماء ناجيا بنفسه، ولكنه كان من الضعف وحاول السباحة بأقصى طاقته المتبقية ،  وشعر بفقدانه لأي امل بالنجاة، وخارت قواه فترك نفسه للغرق ، ثم لاحظ من تحت مياه المحيط المرعبة وجود قارب بأضواء يقترب من قاربه المحترق ، فكافح عندئذ للوصول للسطح، ولكن المخرج قطع باقي المشاهد بقصد قبل أن نلاحظ وكأن أيدي قد تدلت من قارب النجاة باتجاهه ، وربما قصد ذلك لكي يترك المشاهد المذهول والمذعور بحالة غموض ولكي يعطيه الفرصة للتكهن بمصير البطل "المجهول" !

يستهل الفيلم بمشهد الابحار بمكان ما بالمحيط الهندي، ونسمع البطل المجهول الاسم (روبرت رادفورد) وهو يتحدث ويعتذر لشخص آخر كما لو كان يتحدث للمشاهد نفسه : آنا آسف حقا وأعرف ان ذلك لا يعني شيئا الآن ، ولكني آسف وأعتقد بأنك توافقني الرأي بأني قد حاولت ! وللحقيقة فقد كنت ارغب أن اكون أقوى ...الطف وأن احب ...وأن اكون محقا ...ولكني لم أكن...ثم يعترف : لقد فقد كل شيء ! (وتبدو هذه التعبيرات القليلة وكانها رسالة ندم أخيرة ، كما انها تنسجم مع كل ما سيحدث فيما بعد ، بمعنى انه سيفقد قاربه وحياته وكل شيء) !

كاريزما الأداء وبلاغة الصمت المعبر !

يبدأ الفيلم برادفورد وقد استفاق من غفوة ليتحقق من وجود ثغرة كبيرة بقاربه كنتيجة لاصطدامه مع سفينة شحن كبيرة في المحيط الهندي ، يتحدث المخرج هنا عن التيه بالمحيط بدلا من الفضاء الخارجي كما في فيلم جرافيتي ، ومع غياب شبه مطلق للحديث والحوار الانساني حيث استبدلت الأصوات البشرية بصوت الأعاصير البحرية وحركة القارب وطقطقات الأشياء وبالموسيقى التصويرية  المعبرة لأليكس ابريت التي دمجت ببراعة صوت الجيتار بالريح وأصوت الحيتان واسماك القرش الهامسة ...في ظل هذا الصمت البحري يتساءل المشاهد بفضول من اين اتى ؟ لماذا هو هنا ؟ بماذا يفكر هذا البحار التائه وما هي حركته المقبلة والمتوقعة ؟ يعود هنا الممثل الكاريزمي الشهير ليثبت جدارته في فن الأداء التمثيلي وبسن السابعة والسبعين ...يجذبك كمشاهد ويدعوك لكي تحملق وتتربص بحركاته  الباردة اليائسة ولكل ما يفعله ويقدم عليه للنجاة بنفسه، ولكن بلا جدوى ! انه فيلم غير اعتيادي يعتمد بالمطلق على التعبير الصامت والحركات المعبرة الدرامية والتي حولت مغامرته البحرية لصراع وجودي عبثي بمواجهة جبروت المحيط والطبيعة والأعاصير مع خذلان عناصر البقاء كالقارب ومستلزماته العادية والتقنية والغذاء والماء (وكأنه نسخة عصرية من فيلم " الرجل العجوز والبحر ")، وحتى الراديو وسيلة الاتصال والانقاذ الوحيدة فقد تعطل بفعل الاصطدام والمياه التي غمرته، ويحاول جاهدا استخدام البوصلة البحرية وخريطة لتحديد موقعه ومساره معتمدا على تيارات المحيط لتوصيله باتجاه المسارات البحرية ، ثم يواجه أعاصير بحرية هائجة ، يشبه الفيلم مغامرة "حياة باي" عندما يواجه الفتى اليافع اهوال المحيط الهندي وحيدا بقارب مع نمر متوحش يتربص به وبلا مؤنة وزاد...كذلك فهو يمثل تحديا سينمائيا نادرا مع عدم وجود ممثلين آخرين لا في البداية ولا في النهاية ولا في سياق القصة ، كذلك لا توجد حبكة تثير الفضول وتبعد الملل ، فنحن وحوالي الساعتين لا نشاهد الا حركاته ومعاناته وهمهماته ونسمع مرة واحدا صراخه يأسا "سحقا !" ، وربما يثبت روبرت رادفورد بهذا السن المتقدم وقبل أن يفوت الاوان أنه واحد من كبار عمالقة التمثيل بجيله المخضرم وانه استاذ بفنون التعبير السينمائي السينمائي كما مارلون براندو وآل باشينو .

المخرج المتميز"جي سي شاندور" يقدم هنا فيلمه الثاني  بعد نجاح فيلمه الأول (مارجين كول 2011) الذي تحدث بعمق وصراحة عن بدايات الأزمة المالية العالمية التي أدت لكارثة انهيار المؤسسات المالية بوول ستريت، ويستعرض بفيلمه اللافت هذا تداعيات ذلك وخلال 24-36 ساعة متواصلة من خلال ممارسات "الذعر والسهر والمتابعة الحثيثة فمن ثم التآمر والتحالف والتوافق والاسترضاء" التي تقوم بها سرا ادارة وموظفي مؤسسة مالية استثمارية كبرى ، ويعرض ذلك باسلوب درامي فني وشيق وبسياق سلوكيات الموظفين ومدرائهم وذلك عندما يطلع موظف مطرود أحد زملائه فجأة على تفاصيل الوضع الائتماني المتردي للمؤسسة ، ومن ثم يكشف الفيلم تداعيات متلاحقة شيقة تقود لشبكة ومصفوفة الفساد ببداية الأزمة المالية والتي تمثلت " بالسرية والكتمان والشللية والخداع " !

يثبت شريط "الفقدان" قدرات التصوير السينمائي المتقدم باجواء غير عادية ويكفي للدلالة على ذلك منظر القارب التائه بعرض المحيط وقد تم تصويره ببراعة من أسفل المياه تحيط به اسماك القرش من كل جانب  ، وقد استقدم لهذا الغرض مصور سينمائي متخصص، كما انه يقدم "أكشن ومغامرات" بلا عناصر التشويق والأسلحة والقذائف والحركات البهلوانية  والأصوات والأشرار ، فقط شخص مجهول تائه بمواجهة أهوال المحيط وخطر الغرق، كما يؤكد فلسفيا على أن العزلة والفقدان هي المحصلة الأخيرة لحياتنا  البشرية !

*كاتب وباحث وناقد سينمائي

 Mmman98@hotmail.com

 

الابداع "السينمائي" في إظهار صنوف النفاق والجنون !

يبدو المخرج الأمريكي الشهير ميلوش فورمان (التشيكي الأصل) متخصصا في اظهار حالات الجنون  والادعاء والنفاق الاجتماعي (بأسلوب مدهش ونمط شبه سيريالي)، ابتداء من أحد أفلامه التشيكية  القديمة (قبل نزوحه للغرب) ويعتبر آخر أفلام فورمان في تشيكوسلوفاكيا وأول أفلامه الملونة. ويحكي الفيلم (الذي رشح للاوسكار لعام 67) قصة متطوعين في فرقة إطفاء في مدينة صغيرة ينظمون حفلتهم السنوية على شرف رئيسهم السابق:

حيث  تحاول لجنة مختارة من كوادر الحزب البيروقراطية اختيار ملكة جمال من بين فتيات بلدة تشيكية،  ويظهر في هذا الشريط الكوميدي الممتع كل مساوىء النظام الاشتراكي السائد من سخرية وتظاهر  وادعاء  وفساد  وكذب  واحتقان  جنسي  مكبوت ،  ثم  نال  الاوسكار  بعد  نزوحه  للغرب   عن  تحفته  السينمائية  "طار  فوق  عش  الواقواق " :

(راندل" الذي صدر عليه حكم بالسجن لمدة قصيرة يتظاهر بالجنون. ويتوقع أن يقضي فترة عقوبته المتبقية في حرية وراحة اكبر داخل مصحة عقلية. لكن ممرضة قاسية ومتسلطة تدير جناحه في المصحة وتخضع مرضاها بإذلالهم من خلال الانضباط المؤسسي ! ) ، وقد  صور الفيلم أوضاع و تفاعلات  ومعاناة  المرضى في  مصحة عقلية بمحاكاة مذهلة ، مما  يؤدي لانهيار الممثل "جاك  نيكلسون" (الذي نال أول اوسكار له عن دوره الرائع) والذي يدعي الجنون أولا ويتعاطف مع المرضى بل ويحرضهم ويقودهم  ضد الطغيان والقسوة  السائدة في المصحة، لينتهي الأمر بتعرضه لشحنات كهربية كبيرة تؤدي لفقدانه لعقله وجنونه، وكذلك في شريط "أماديوس" فقد أدى الشعور الطاحن  بالذنب لجنون الموسيقار ساليري (كبير حساد موزارت)  وانعزاله  في  مصحة عقلية وهو يعاني من الهلوسات وتداعيات الماضي وارهاصاته المؤلمة ، وبالرغم  من  اللقطات السريعة للمرضى النفسيين والعقليين في  المصحة الا انها كانت بالغة الدلالة والمغزى والاتقان ، وخاصة في تزامنها  مع  تداعيات وهلوسات ساليري وهذيانه العصابي !

مهند النابلسي

ناقد سينمائي

سينماتك في 23 ديسمبر 2013

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)