حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنياأرشيف الموقع 

 

برومثيوس تائها

حينما يواجه الفيلم أسئلة كوننا المجهول

احمد ثامر جهاد* / خاص بـ"سينماتك"

 
 

 

" إن الكون ليس غريبا فقط وإنما هو اغرب من قدرتنا على تخيّله"  ج.ب.هالدين

خيال سينمائي: بين كوبريك وريدلي سكوت

في كتابه الموسوم (السينما الخيالية) يعتبر الناقد بيتر نيكوللز " انه منذ أعمال المخرج الفرنسي جورج ميليس أوائل القرن العشرين،فان العام 1968 قد شهد أهم نقطة تحول تاريخية بالنسبة للسينما الخيالية ،انه عام إنتاج فيلم (2001 أوديسا الفضاء) للمخرج ستانلي كوبريك.

اليوم وبعد مضى نحو 45 عاما على رائعة كوبريك،التي ما زالت تحتفظ بمكانتها بوصفها إيقونة سينمائية فريدة، في عمق أفكارها وحسها الملحمي وصناعتها المتقنة، لم تنتج سينما الخيال العلمي شيئا يوازيها، سواء في لغتها السينمائية أو إدهاشها البصري أو طابعها الفلسفي العميق. يمكن القول ان تأثير فيلم كوبريك الذي امتد طيلة العقود التي تلت سنة إنتاجه، ألقى بظلاله على العشرات من أفلام الخيال العلمي التي حاول بعضها محاكاته أو الاقتراب،بدرجة ما، من عوالمه المبهرة التي دشنت صورة مغايرة عما اعتدناه من كليشيهات مستهلكة في هذا النوع السينمائي.

هل نبدو مبالغين إذا قلنا ان أفلام الخيال العلمي أصبحت تؤخذ بجدية اكبر من قبل النقاد والسينمائيين، بفعل عبقرية كوبريك في (اوديسا الفضاء)والذي قدم للمشاهدين نوعا سينمائيا جديرا بالقراءة والتأمل .

في المقابل نجد ان فرادة فيلم كوبريك الذي فتح آفاقا جديدة لسينما الخيال العلمي،جعلت منه ذروة فنية يصعب اجتيازها، وربما يمكن عده، مع الاحتمال الضعيف لاستبعاده من الذائقة السينمائية، تحديا جماليا أمام مخرجي هذا النوع السينمائي. هل يمكن نسيانه مع أية مشاهدة لفيلم خيال علمي جديد؟ المقارنة تبدو حتمية مع انها قد تكون مجحفة بحق بعض الأفلام التي تنتج اليوم، لاسيما مع اختلاف الموضوعات والمعالجات السينمائية من فيلم إلى آخر.

المفارقة الملفتة هو ان أية مقارنة تعقد بين فيلم (اوديسا الفضاء) وأي فيلم خيال علمي جديد، غالبا ما تضيف،بشكل ما، سببا آخر للانحياز لعبقرية ستانلي كوبريك الذي لم تتوفر له حينذاك الإمكانيات التقنية التي تتوفر لمخرجي اليوم، وهم الذين سخرت لهم التطورات الحالية في مجال تكنولوجيا الحواسيب فرصا هائلة لتنفيذ الخدع السينمائية واستخدام أقوى المؤثرات البصرية للإيهام بالصورة بشكل يمكنهم من تحقيق كل ما يخطر على بالهم. لكن الأمر، على ما يبدو، لم يكن مرهونا فقط بتوظيف عنصر التقنيات السينمائية والإفادة منها على أفضل نحو، فهناك بناء فيلمي ورؤية إخراجية، كانت عند كوبريك زاخرة بطرح أسئلة كبيرة حول مصير البشرية في هذا السفر الكوني الملغز،جعلت من فيلم (اوديسا الفضاء) كتابا مفتوحا ومتجددا أمام عديد القراءات والتأويلات.

برومثيوس في الفضاء الخارجي

فيلم(برومثيوس-2012) للمخرج ريدلي سكوت احد أفلام الخيال العلمي باذخة الإنتاج التي بدا تأثير(اوديسا الفضاء) جليا عليها، لناحية الاهتمام بجماليات التصوير وشكل الصورة السينمائية،إثراء المشهد بتصاميم رقمية وديكورات وأزياء خاصة ورموز ذات بعد ميثيولوجي لها تأثيرها في مسار قصة الفيلم،فضلا عن الغموض الذي يحيط برحلة المركبة الفضائية (برومثيوس) وهي تسعى للوقوف على أسرار نشأة الحياة البشرية واحتمال وجود نظير لها في كوكب آخر.ورغم ما توفر له من تقنيات ومؤثرات بصرية متطورة لم تكن متاحة أمام سلفه كوبريك لم ينج فيلم المخرج البريطاني ريدلي سكوت الذي اعتمد على سيناريو للكاتبين (جون سبيتس ودامون لينديلوف) من التصورات النمطية التي يمكن ملاحظتها في العديد من أفلام الخيال العلمي، من قبيل انحراف الرحلة عن مسار تتبع أهدافها العلمية(مسوغها الدرامي) والوقوع في شرك مغامرات بطولية تتطلب الكثير من مشاهد الاكشن، خاصة حينما يقود فضول طاقم المركبة إلى إيقاظ الكائنات الغريبة من سباتها والدخول في صراع شرس معها لأسباب غير مقنعة، مثلما يحصل في اغلب أفلام الرعب.

في أفلام من هذا النوع، يبدو الإنسان، بشهوته للسيطرة على كل شئ وإيمانه المطلق بقدرته على التعامل مع المخاطر التي تواجهه، طائشا وغير منضبط، فيما تسمح الإرادة الصلبة لأحد المغامرين بالنجاة من فخ الموت،وربما تنقذه المصادفة وحدها ليتاح له رواية ما حدث.ولنتذكر هنا سلسلة أفلام الخيال العلمي الشهيرة(Alien) التي اخرج ريدلي سكوت أول اجزائها عام 1979 ، وكذلك الفيلمين المميزين: moon، Apollo 18 .

رحلة المركبة العملاقة (برومثيوس) إلى الفضاء الخارجي كانت بدافع الرغبة في استكناه المستقبل المجهول من خلال قراءة إشارات الماضي السحيق للحضارة الإنسانية. ثمة عملية استشراف لعوالم المستقبل المؤطرة لأحداث الفيلم الذي يبدأ من العام 2089 بناءً على اكتشاف عالما آثار هما إليزابيث شو (الممثلة نعومي رابيس) وتشارلي هولواي (الممثل لوجان مارشال جرين) خريطة مشفرة تنتمي لعصور غابرة وتظهر مسار النجوم في لوحة مرسومة على جدران احد الكهوف في اسكتلندا، وتاليا محاولة فريق الرحلة فك أسرارها. وخلال مشهد طويل سنتعرف على أهداف رحلة المركبة برومثيوس(يمولها احد الأثرياء المهووسين بالمغامرة) التي ستقوم بتتبع إشارات غامضة تنتمي لثقافات قديمة تعود في أصولها إلى حضارات سومر وبابل ومصر والمايا للتحقق من فرضية وجود حياة أخرى.

بعد ان بدت حكايته متوقعة للمشاهد، لم يكن أمام الفيلم إلا زيادة جرعات التشويق في إيقاع أحداثه التي بقيت عند حدود ماهو مطروق سابقا، وتحديدا احتمال وجود حياة أخرى خارج كوكبنا، أو ابعد من ذلك، الاعتقاد بوجود عوالم مجهولة ومتطورة(كما عودنا الخيال السينمائي) ربما تكون السبب في زرع بذرة الحياة على كوكب الأرض. ولكن إذا كنا نتاج لاؤلئك القوم الغرباء المسافرين عبر المجرة اللامتناهية واننا لسنا سوى صنيعتهم المتواضعة، لماذا يشتد عداء تلك المخلوقات تجاه الإنسان حينما تقوده مغامرته العقلية إلى الوقوف على سر وجود الحياة؟

***

ان نمطية المعالجة السينمائية الأمريكية ليست حكرا على نوع سينمائي بعينه، وإنما هي انحيازات وتصورات ثقافية راسخة يجري إعادة إنتاج عناصرها مرة وأخرى وبما يتناسب مع قصة كل فيلم، وهناك من يدعي ان الجمهور نفسه ليس تواقا لتلقي زاد ثقافي يؤهله لمعرفة المجهول علميا،لاسيما حينما تستعيد السينما أسئلة الفلسفة، قدر شغفه بولوج مغامرة مشوقة وممتعة تشعره بالاقتراب من المجهول. وعليه فان النوع السائد من هذه الأفلام لا يمكن ان يستبعد متطلبات النجاح في شباك التذاكر. ومع ان هذا الرأي يحتمل النقاش، وان نتائجه العملية غير مؤكدة، خاصة حينما راهن البعض على الفشل التجاري الذي مني به كوبريك في أسابيع عرض فيلمه(اوديسا الفضاء)الذي كلف إنتاجه نحو 10 ملايين دولار، لكنه حقق لاحقا إقبالا جماهيريا غير متوقع وأرباحا تجاوزت في مراحل عرضه المختلفة الـ 190 مليون دولار، فضلا عن الشهرة التي تميزت بها موسيقاه( معزوفة هكذا تكلم زرادشت لريتشارد شتراوس ) والتي تحولت إلى موضة الشباب في حينها، وفي جعبة كوبريك الكثير من التفاصيل المشوقة التي خبرها من محاولاته التسلل إلى صالات العرض لمراقبة ردود أفعال الجمهور على فيلمه.

ان كوبريك لا يظهر فقط قدرة الإنسان الحديث على ركوب مغامرة البحث عن حقيقة الكون الذي ننتمي إليه، وإنما (وهو الأمر الأهم باعتقاده) معرفة حدود العقل البشري في فهم السر النهائي للوجود. انه السؤال الكبير عن تناهي قدرة الإنسان وطبيعة أوهامه ومخاوفه.

لقد ابتكر كوبريك،بعقلية تمزج بين الشطح الصوفي والمنطق العلمي، مشاهد سينمائية رمزية غير مسبوقة، لخص احدها تطور البشرية منذ فجر التاريخ (مشهد القرود) إلى عصر المسبار الفضائي عبر لقطة بليغة زاخرة الدلالة وفائقة الجمال.

فيما كان اللوح الأسود الذي حير النقاد في إيجاد تأويل مكين لرمزيته، بوصفه لازمة بصرية حاضرة في أهم مشاهد الفيلم، رمزا ذكيا قد يلمح إلى استحالة مضي الإنسان  ابعد من ذلك. رجل الفضاء فقد توازنه بعد ان تآمر عليه الروبوت(هال) ليجد نفسه في متاهة سرمدية تقوده إلى الفضاء اللامتناهي للمجرة في رحلة مهلكة لحدود المنطق العقلاني. وإذا كان اللوح الأسود مفتتحا غامضا وجذابا لمسار الفيلم الذي يؤرخ بصريا لمسيرة البشرية منذ طورها الحيواني وصولا إلى عصرها الفضائي، فانه الخيار الدال والأمثل الذي اختتم به كوبريك فيلمه في مشهد بدت الكاميرا تتحرك ببطء شديد فيه، صوب اللوح الأسود الذي ينتصب وسط غرفة مؤثثة على طراز العصر الفيكتوري، إلى أن تغيب الصورة في عتمته. لنا ان نلاحظ ان فرادة كوبريك ليست في تقنياته المبتكرة فقط والتي يعزى له شخصيا التدخل في تنفيذها عمليا، وإنما في الإثارة الفكرية المضمنة في سرد سينمائي استند على نص روائي شهير للكاتب البريطاني آرثر سي كلارك.

***

ان استدعاء الرمز الأسطوري في سينما الخيال العلمي سيجعل من العلم ذاته أسطورة معاصرة. لان محاكاته ستتم بوسائل علمية عابرة للقيود المنطقية وللسببية العلمية. وان كان فيلم المخرج ريدلي سكوت قد نجح في نصفه الأول بتقديم معالجة سينمائية متقنة وصناعة مشاهد فنية رائعة تضمنت شغفا دراميا بحقيقة سبق الحضارات القديمة معرفيا وامتلاكها نبوغا مبكرا بفهم طبيعة نظامنا الشمسي،الا انه لم يوفق في رسم أحداثه اللاحقة التي حولته إلى فيلم مغامرات على الطراز الهوليودي،لا غرابة ان نشهد فيه تحول رجال الفضاء إلى رعاة بقر أو جنود مارينز تنشرح أساريرهم لمجرد منازلة الخصم والتلذذ بقتله، وان على حساب رحلة البحث الإنساني في متاهة الفضاء الخارجي.

*ناقد سينمائي عراقي

سينماتك في 25 نوفمبر 2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2013)